التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
٧٧
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
٧٨
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
٧٩
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
٨٠
-هود

تفسير المنار

هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
{ ولما جاءت رسلنا لوطا } بعد ذهابهم من عند إبراهيم { سيء بهم وضاق بهم ذرعا } أي: وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم وضاق بهم ذرعه أي عجز عن احتمال ضيافتهم، فذرع الإنسان منتهى طاقته التي يحملها بمشقة ; ذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم، وروي أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه { وقال هذا يوم عصيب } شديد الأذى، مرهوب الشذى، مشتق من العصب بفتح فسكون، أي الشد فهو بمعنى معصوب، ويجوز أن يكون بمعنى عاصب، والعصب بالتحريك أطناب المفاصل، ومنه العصابة التي يشد بها الرأس.
{ وجاءه قومه يهرعون إليه } أي جاءوه يهرولون متهيجة أعصابهم، كأن سائقا يسوقهم، قال في المصباح المنير: هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع، أي حمل على العجل به اهـ. وقال الكسائي والفراء وغيرهما: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب، أو حمى اهـ. وينبغي أن يزاد عليه أو شهوة شديدة، وقال مجاهد: هو مشي بين الهرولة والعدو: { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة، وشرها أفظع الفاحشة وأنكرها في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل يتسابقون إليها ويتبارون فيها، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة:
{ أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر } [العنكبوت: 29] فماذا فعل لوط ولم واجههم وعارضهم؟ { قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } فتزوجوهن، قيل: أراد بناته من صلبه، وأنه سمح بتزويجهم بهن بعد امتناع لصرفهم عن أضيافه، وقيل: أراد بنات قومه في جملتهن ; لأن النبي في قومه كالوالد في عشيرته، قاله ابن عباس - رضي الله عنه - ومجاهد وسعيد بن جبير، ويدخل فيه نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج، يعني أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط ; فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد، وصيغة التفضيل هنا للمبالغة في الطهر فلا مفهوم لها، وهذا كثير في اللغة، ويقول النحويون فيه: إن أفعل التفضيل على غير بابه، والظاهر أنه يأمرهم في هذه الحال الذي هاجت فيه شهوتهم واشتد شبقهم أن يأتوا نساءهم، كما ورد في الإرشاد النبوي لمن رأى امرأة أعجبته أن يأتي امرأته في تلك الحالة التي هاجته فيها رؤيتها.
وزعم بعض المفسرين أنه - عليه السلام - عرض على هؤلاء الفساق المجرمين بناته أن يستمتعوا بهن كما يشاءون، ومثل هذا في سفر التكوين (19: 8) وفيه أنهما اثنتان، ولا يعقل أن يقع هذا الأمر من أي رجل صالح فضلا عن نبي مرسل، ولا يصح في مثله أن يعبر عنه بأنه أطهر لهم، فغسل الدم بالبول ليس من الطهارة في شيء، وإن كان يعتقد أنهم لا يجيبونه إلى هذا الفعل، بل الذنب في هذه الحال أكبر ; لأنه أمر بالمنكر، وخروج عن الحكم الشرعي إيثارا للتجمل الشخصي، وهو لا يتعارض مع قوله لهم بعده { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } فإن الزنا ليس من التقوى بل هو هدم لها، وإنما معنى هذا الأمر والنهي: فأجمعوا بما أمرتكم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة، وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالي وامتهاني بفضيحتي في ضيفي، فإن فضيحة الضيف فضيحة للمضيف وإهانة له. ولفظ الضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع: { أليس منكم رجل رشيد } ذو رشد يعقل هذا فيرشدكم إليه؟
{ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } فإنهن محرمات علينا في دينك، أو يعنون أن الحق عندهم نكاح الذكور مستشهدين بعلمه به تهكما، أو الحق هنا الحاجة والأرب، والمعنى: لقد علمت من قبل أنه ليس لنا في بناتك من حاجة أو رغبة في تزوجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده، أو لقد علمت الذي لنا في نسائنا اللواتي تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن، فلا معنى لعرضك إياهن علينا لصرفنا عما نريده { وإنك لتعلم ما نريد } من الاستمتاع بالذكران، وأننا لا نؤثر عليه شيئا. أي: تعرف ذلك حق المعرفة لا ترتاب فيه، فلم تحاول صدنا عنه؟ فعلم أنهم مصرون على إرادتهم فماذا فعل؟.
{ قال لو أن لي بكم قوة } أي: قال لوط لأضيافه حينئذ: لو أن لي بكم قوة تقاتل معي هؤلاء القوم وتدفع لقاتلتهم، أو أتمنى لو أن لي بكم قوة ألقاهم بها، أو قال هذا لقومه، والمعنى كما قال في الكشاف: لو قويت عليكم بنفسي { أو آوي إلى ركن شديد } من أصحاب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين (كزعماء العرب) تمنى ذلك لأنه لم يكن منهم فيعتز بهم، وإن سماهم قومه بمعنى أهل جواره ووطنه الجديد، وإنما هو غريب جاء مع عمه من أور الكلدانيين في العراق.
ويرجح الأول جواب الملائكة له وقد رأوا شدة كربه وما آلت إليه حاله وهو: