التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
٨٤
وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٨٥
بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
٨٦
-هود

تفسير المنار

هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة وهي: الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم، والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } معطوف على ما تقدمه مثله، أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم في النسب شعيبا { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } اعبدوا الله وحده ولا تعبدوا معه غيره - ما لكم من إله غيره فيعبد، وهذا ما كان يدعو إليه جميع رسل الله كما تقدم. ثم انتقل إلى ما هو خاص بهم من الأحكام العملية فقال: { ولا تنقصوا المكيال والميزان } فيما تكيلون وما تزنون من المبيعات كما هي عادتكم، وكانوا تجارا مطففين
{ إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [المطففين: 2-3] أي: ينقصون، { إني أراكم بخير } أي بثروة واسعة في الرزق، يجب أن ترفع أنفسكم عن دناءة بخس حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، بما تنقصون من المبيع لهم من مكيل وموزون. وهو كفر لنعمة الله عليكم بالغنى والسعة، والواجب عليكم شكرها بالزيادة على سبيل الإحسان، فالجملة تعليل للنهي عن النقصان { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } أي: عذاب يوم محيط ما يقع فيه من العذاب بكم إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفركم بنعمه بنقص المكيال والميزان. وهذا اليوم يصدق بيوم القيامة ويوم عذاب الاستئصال.
{ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } لا ينسين القارئ ما تقدم من حكمة تكرار النداء بلقب " قومي " من الاستعطاف، وهذا أمر بالواجب بعد النهي عن ضده لتأكيده، وتنبيه لكون عدم التعمد للنقص لا يكفي لتحري الحق، بل يجب معه تحري الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص، وإن كانت الثقة به لا تحصل أو لا تتيقن إلا بزيادة قليلة، فهي قد تدخل في باب " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". وتعمدها في الكيل أو الوزن للناس سخاء فهو فضيلة مندوب، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة محظور { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } هذا أعم مما سبقه، فإن البخس يشمل النقص والعيب في كل شيء، يقال: بخسه - من باب نفع - حقه وبخسه ماله وبخسه علمه وفضله. والأشياء جمع شيء وهو أعم الألفاظ، وجمعه يشمل ما للأفراد وما للجماعات والأقوام من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بحدود الحسية ومن حقوق مادية ومعنوية، وقد فصلنا هذا وبينا العبرة فيه بتعامل أهل الشرق مع أهل الغرب في هذا العصر في تفسير سورة الأعراف: (7: 85) فتراجع في (ص 472 وما بعدها ج8 ط الهيئة).
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي: ولا تفسدوا فيها حال كونكم متعمدين للإفساد، يقال: عثي يعثى (كرضي يرضى) عثيا بكسرتين وتشديد الياء - وعثا يعثو (كغزا يغزو) عثوا بضمتين والتشديد أيضا - أفسد، وهذا نهي آخر عام يشمل غير ما تقدم، كقطع الطرق وتهديد الأمن والخروج على السلطان وقطع الشجر وقتل الحيوان، وقيده بقصد الإفساد؛ لأن بعض ما هو إفساد في الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين، كالذي يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فتح سدود الأنهار، أو إحراق بعض الأشياء بالنار، ومنه خرق الخضر للسفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر لمنع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته. والإفساد: تعطيل يشمل مصالح الدنيا، وصفات النفس وأخلاقها، وأمور الدين، وكل هذه المفاسد فاشية في هذا العصر.
{ بقية الله خير لكم } أي: ما يبقى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال، خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف ونحوه من الحرام، أو - بقية الله - الأعمال الصالحة التي يبقى أثرها الحسن في الدنيا وثوابها في الآخرة، وقال ابن عباس: هي رزق الله، ومجاهد: طاعة الله، والربيع: وصية الله، والفراء: مراقبة الله، وقتادة: حظكم من الله - إن كنتم مؤمنين - به حق الإيمان، فإن الإيمان هو الذي يطهر النفس من دناءة الطمع، ويحليها بفضيلة القناعة والكرم والسخاء - وما أنا عليكم بحفيظ - فأحفظكم من هذه المعاصي والرذائل أو أعاقبكم عليها، وإنما أنا مبلغ عليم وناصح أمين.