التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢١
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٢
-يوسف

تفسير المنار

هاتان الآيتان تمهيد للقصة في وجهة نظر مشتريه فيه، وتمكين الله له وتعليمه وغلبه على أمره وإيتائه حكما وعلما وشهادته بإحسانه.
{ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه } لم يبين القرآن اسم الذي اشتراه من السيارة في مصر ولا منصبه ولا اسم امرأته؛ لأن القرآن ليس كتاب حوادث وتاريخ، وإنما قصصه حكم ومواعظ وعبر وتهذيب، ولكن وصفه النسوة فيما يأتي بلقب العزيز - وهو اللقب الذي صار لقب يوسف بعد أن تولى إدارة الملك في مصر - فالظاهر أنه لقب أكبر وزراء الملك. وللمفسرين أقوال في اسمه واسم ملك مصر ليس للقرآن شأن فيها. وفي سفر التكوين أنه كان رئيس الشرط وحامية الملك وناظر السجون، وأن اسمه فوطيفار، ووصف فيه بالخصي، ولكن الخصيان لا يكون لهم أزواج. فقيل في تصحيحه: لعله لقب لا يقصد به هذا المعنى. وقد تفرس هذا الوزير الكبير في يوسف أصدق الفراسة إذ وصى امرأته بإكرام مثواه، والمثوى: مصدر واسم مكان من ثوى بالمكان يثوي (كرمى يرمي) ثواء أي أقام، فتضمنت هذه الوصية إكرامه وحسن معاملته في كل ما يختص بإقامته، بحيث يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم، وعلل ذلك بما يدل على أمله ورجائه فيه وهو: { عسى أن ينفعنا } بالقيام ببعض شئوننا الخاصة أو شئون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنباهة { أو نتخذه ولدا } فيكون قرة عين لنا ووارثا لمجدنا ومالنا، إذا تم رشده وصدقت فراستي في نجابته، وفهم من هذا الرجاء أن العزيز لم يكن له ولد وما كان يرجو أن يكون له، وروي أنه كان عقيما. وكان رجاؤه هذا كرجاء امرأة فرعون موسى فيه من بعده، وكانت صالحة ملهمة، وأما العزيز فكان ذكيا صادق الفراسة فاستدل من كمال خلق يوسف وخلقه، وذكائه وحسن خلاله، على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته، خير متمم لحسن استعداده الفطري، إذ لا يفسد أخلاق الأذكياء إلا البيئة الفاسدة وسوء القدوة، وما كان إلا صادق الفراسة { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } أي وعلى هذا النحو من التدبير والتسخير جعلنا ليوسف مكانة عالية في أرض مصر، كان هذا العطف عليه والرجاء فيه من هذا العزيز مبدأها؛ ليقع له في بيته ثم في السجن ما يقع من التجارب، والاتصال بساقي الملك فيكون وسيلة للوصول إليه { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } كتعبير الرؤيا ومعرفة حقائق الأمور ما ينتهي به إلى الغاية من هذا التمكين، وقوله للملك:
{ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } [يوسف: 55] وقول الملك له: { إنك اليوم لدينا مكين أمين } [يوسف: 54]، { والله غالب على أمره } أي على كل أمر يريده ويقدره، فلا يغلب على شيء منه بل يقع كما أراد، فكل ما وقع ليوسف من إخوته ومن مسترقيه وبائعيه، ومن توصية الذي اشتراه لامرأته بإكرام مثواه مما وقع له مع هذه المرأة وفي السجن، قد كان من أسباب ما أراده - تعالى - له من تمكينه في الأرض، وإن كان ظاهره على خلاف ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: والله غالب على أمر يوسف، فهو يدبره ويلهمه الخير ولا يكله إلى تدبير نفسه واتباع هواه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه - تعالى - غالب على أمره بل يأخذون بظواهر الأمور، كما استدل إخوة يوسف بإبعاده على أن يخلو لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعد بعده عنهم قوما صالحين، ويقال الأكثر في هذا المقام يعقوب - عليه السلام - فقد كان يعلم أن الله غالب على أمره، وأقواله صريحة في الدلالة على علمه ما تقدم منها وما تأخر في هذه القصة، ولكن علمه كلي إجمالي لا يحيط بتفصيل الجزئيات المخبوءة في مطاوي الأقدار كما قلنا من قبل.
بدئت هذه القصة ببيان إيتاء الله الحكم والعلم ليوسف عند استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد، وأن هذا العطاء جزاء منه - سبحانه - له على إحسانه في سيرته منذ سن التمييز لم يكن مسيئا في شيء قط، وختمت بشهادته - تعالى - بما كان من اقتناع العزيز ببراءته من الخطيئة والتياث امرأته بها وحدها. قال عز وجل:
{ ولما بلغ أشده } أي رشده وكمال قوته وشدته باستكمال نموه البدني والعقل { آتيناه حكما وعلما } أي وهبناه حكما إلهاميا وعقليا بما يعرض له أو عليه من النوازل والمشكلات مقرونا بالحق والصواب، وعلما لدنيا وفكريا بحقائق ما يعنيه من الأمور، وهذه السن في عرف الأطباء تتم في خمس وعشرين سنة، ولأهل اللغة ورواة التفسير فيها أقوال: فعن عكرمة أنها خمس وعشرون سنة، وعن ابن عباس أنها ثلاث وثلاثون سنة، ولعله أخذه من قوله - تعالى - في كمال البنية الإنسانية:
{ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } [الأحقاف: 15] فجعلها درجتين: بلوغ الأشد، وبلوغ الأربعين وهي سن الاستواء. كما قال في موسى: { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين } [القصص: 14] فالأول مبدأ استكمال النمو العضلي والعصبي والثاني مستواه، وبه يتم الاستعداد للنبوة ووحي الرسالة.
وقد ثبت عن علماء النفس والاجتماع أن الإنسان يظهر استعداده العقلي والعلمي بالتدريج، حتى إذا بلغ خمسا وثلاثين سنة لا يظهر فيه شيء جديد من العلم الكسبي غير ما يظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن، وإنما يكمل ما كان ظهر منه إذا هو ظل مزاولا له ومشتغلا بتكميله، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى:
{ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون } [يونس: 16] وفصلناه في كتاب ((الوحي المحمدي)) وقد ظهر حكم يوسف وعلمه بعد بلوغ أشده في مصر كما يأتي تفصيله في مواضعه
{ وكذلك نجزي المحسنين } أي وكذلك شأننا وسنتنا في جزاء المتحلين بصفة الإحسان، الثابتين عليه بالأعمال، الذين لم يدنسوا فطرتهم ولم يدسوا أنفسهم بالإساءة في أعمالهم، نؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، والعلم الذي يزينه، ويظهره القول الفصل، فيكون لكل محسن حظه من الحكم الصحيح والعلم النافع بقدر إحسانه، وبما يكون له من حسن التأثير في صفاء عقله، وجودة فهمه وفقهه، غير ما يستفيده بالكسب من غيره، لا يؤتى مثله المسيئون باتباع أهوائهم وطاعة شهواتهم. ((وقال ابن جرير الطبري: وهذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن فالمراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول له - عز وجل -: كما فعلت هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي..... فكذلك أفعل بك فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض)) إلخ. وأقول: لا شك أن هذه السنة في جزاء المحسنين عامة، ولكل محسن منها بقدر إحسانه. وإذن يكون حظ محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من حظ يوسف وغيره من الأنبياء - عليهم السلام -.