التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
١٨
-البقرة

تفسير المنار

أقول: المثل بفتحتين والمثل بالكسر، والمثيل كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى في الجملة، وهو من مثل الشيء مثولا إذا انتصب بارزا فهو ماثل، ومثل الشيء - بالتحريك - صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته، أو ما يراد بيانه من نعوته وأحواله، ويكون حقيقة ومجازا، وأبلغه: تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسية وعكسه، ومنه الأمثال المضروبة وتسمى الأمثال السائرة، وسيأتي تحقيق معناها في تفسير: { { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما } [البقرة: 26] ومنه ما يسميه البيانيون الاستعارة التمثيلية، وهو خاص بالمجاز، والتمثيل: أمثل أساليب البلاغة وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا للعقل، قال تعالى: { { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [العنكبوت: 43] وما رأيت أحدا من علماء البلاغة وفاه حقه من البيان المقنع إلا إمامهم الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة) وهاك ما كنت كتبت في تفسير هذا المثل ثم ما بعده إجمالا ثم تفصيلا، مقتبسا معانيه من دروس أستاذنا الإمام.
هذا مثل من مثلين ضربهما الله في هذه الآيات للصنف الثالث من الناس: الذين قرع القرآن أبواب قلوبهم، وكان من عناية الله تعالى في بيان حاله أن قفى على ذلك التفصيل في شر فرقة وأطوارهم بضرب المثل الذي يقصد به تجلي المعنى في أتم مجاليه، وتأثر النفوس بما أودع فيه، ناهيك بما في التنقل في الأساليب من توجيه الذهن إلى سابق القول ودعوة الفكر إلى مراجعة ما مضى منه، ولولا أن بلاء هذا الصنف عظيم، وداءه دفين، وعلاجه متعسر - لأنه متولد من الدواء الذي كان يجب أن تكون فيه الصحة ونعمة العافية - لما كان من البلاغة ولا من الحكمة أن يعنى بشأنه كل هذه العناية، كما قلنا في تزييف رأي من ذهب إلى أن الكلام في تلك الشرذمة من المنافقين في عصر التنزيل.
ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، وينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافا لما في أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
الأول: من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمرا خصوا به، أو خيرا سيق إليهم، لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في نفوسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم؛ لأن حفظ الموجود أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه شموس العرفان ونجوم الفرقان، لزعمهم: أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين، يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا.
فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول - في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة، وانطماس الآثار دونها عنده - مثل من استوقد نارا إلخ. والوجه في التمثيل: أن من يدعي الإيمان بكتاب نزل من عند ربه قد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدي بها في الشبهات، ويستضيئ بها في ظلمات الريب والمشكلات، ويبصر على ضوئها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد هجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث، وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه، فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما الفريق الثاني فقد ضرب الله له المثل في قوله:
{ { أو كصيب من السماء } [البقرة: 19] إلخ، وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل لمعان يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق في نظره الحين بعد الحين عندما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي ويبرق في عينيه نور الهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير لا يدري أين يذهب، ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد، ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه.
هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا، وفي تفسير الآيات تفصيل ما أشرنا إليه.
قال تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } العرب تستعمل لفظ " الذي " في الجمع كلفظي " ما " و " من " ومنه قوله تعالى:
{ { وخضتم كالذي خاضوا } [التوبة: 69] وإن شاع في " الذي " الإفراد؛ لأن له جمعا، وقد روعي في قوله " استوقد " لفظه، وفي قوله: { ذهب الله بنورهم } معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى آخرا. والتفنن في إرجاع الضمائر متفرعة ضرب من استعمال البلغاء يقرر المعنى في الذهن ويهبه فضل تمكن وتأكيد بما يحدث فيه من الروية والتوجه إلى الإحاطة بمعاني المختلفات.
أقول: استوقد النار: طلب وقودها بفعله أو فعل غيره، وقالوا: إنه بمعنى أوقدها ويرجع إلى الأول بأنه طلب بإضرامها وإيرائها أن تقد، يقال: وقدت النار تقد وتوقدت واتقدت واستوقدت - لازم - ومعنى الجملة في منافقي اليهود قد تقدم آنفا بالإجمال، - وسيجيء تفصيله - وأما منافقو العرب الذين قال تعالى فيهم من سورتهم:
{ { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } [المنافقون: 3] الآية. فيقال فيهم: مثلهم وصفتهم في إسلامهم أولا وكفرهم آخرا كمثل فريق من الناس أوقد نارا لينتفع بها في ليلة حالكة الظلام، ويبصر ما حوله مما عساه يضره ليتقيه أو ينفعه ليجتنيه.
{ فلما أضاءت ما حوله } يقال: ضاءت النار والشمس وأضاءت - لازم - ويقال: ضاء المكان وأضاءته النار، أي أظهرته بضوئها، قال العباس - رضي الله عنه - في النبي - صلى الله عليه وسلم -:

وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق

والمعنى المتبادر: فلما أضاءت النار ما حوله من الأمكنة والأشياء وتمكن من الانتفاع بها والاستضاءة بنورها { ذهب الله بنورهم } بإطفاء نارهم بنحو مطر شديد نزل عليها، أو عاصف من الريح جرفها وبددها، وهذا بالنسبة إلى المثل،
وأما بالنسبة إلى المضروب فيهم المثل من العرب، فالنور نور الإسلام الذي أضاء قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين
{ { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [الزمر: 22] وذهابه في الدنيا ما عرض لهم من الشك أو الجزم بالكفر حتى لم يعودوا يدركون منافعه وفضائله، وأما ذهابه بعدها فأوله الموت، فإن المنافق يرى بالموت أو قبيل خروج روحه منزلته بعدها، وبعده ظلمة القبر أي حياة البرزخ، وبعدها موقف الحساب والجزاء { { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور } [الحديد: 13 - 14] إلخ. الآية التالية [15]، وفي هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم إلخ.
وقال شيخنا في تطبيق المثل على اليهود وأمثالهم من هذه الأمة ما معناه: استوقدوا بفطرتهم السليمة نار الهداية الإلهية بتصديقهم، فلما أضاءت لهم بروقها ووضح لهم طريقها، فاجأتهم التقاليد الموروثة، وباغتتهم العادات المألوفة، وشغلهم ما يتوهمونه فيها من المنافع والفوائد، وما يتوقعونه في الإعراض عنها من المصارع والمفاسد عن الاستعانة بذلك الضوء على سلوك ذلك الصراط المستقيم، والتفرقة بين نهاره المشرق وظلمات ليلها البهيم، بل استبدلوا هذا الديجور بذلك الضياء والنور، وهذا هو معنى ذهاب نورهم، وإنما قال: { ذهب الله بنورهم } ولم يقل: ذهب نورهم، أو أذهب الله نورهم، للإشعار بأن الله تعالى كان معهم بمعونته وتوفيقه عندما استوقدوا النار فأضاءت، وذلك أنهم كانوا قائمين على سبيل فطرته التي فطر الناس عليها، معتقدين صحة شريعته التي دعا الناس إليها، وبأنه تخلى عنهم عندما نكبوا عن تلك السبيل، وعافوا ذلك المورد السلسبيل.
ولا شك أن المستوقد المسترشد تكون له حالة مع الله تعالى مرضية في التوجه إليه وقصد اتباع هداه، والاستضاءة بنوره الذي وهبه إياه، فإذا أعرض عنه وكله الله إلى نفسه وذهب بنوره، وإذا ذهب النور لا يبقى إلا الظلمة، وما كان هؤلاء في ظلمة واحدة ولكنها ظلمات بعضها فوق بعض، متعددة بتعدد أنواع التقاليد التي فتنوا بها، وبتعدد أنواع الهداية التي أعرضوا عنها، ولذلك قال: { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } شيئا. حذف مفعول يبصرون إيذانا بالعموم، أي لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يرون طريقا من طرقها لأنه صرف عنايته عنهم بتركهم سنته وإهمالهم هدايته ووكلهم إلى أنفسهم، ويا ويل من وكله الله إلى نفسه وحرمه توفيقه، نسأل الله العافية.
هذا المثل مضروب لفريق لا ترجى هدايته؛ لأنه سد على نفسه جميع أبواب الهداية فلا يثق بعقله ولا بحواسه ولا بوجدانه إذا خالفت تقاليده، وعدم الإبصار بذهاب النور غير كاف لتمثيل هذا اليأس والحرمان لجواز أن يلوح بارق أو يذر شارق أو يصيح طارق، فتكون الهداية وتنكشف الغواية، ولذلك عقبه بقوله تعالى: { صم بكم عمي } أي أنهم فقدوا منفعة السمع الذي يؤدي إلى النفس ما يلقيه المرشدون إليها من الحجج القاطعة، والدلائل الناصعة، فلا يصيخون إلى وعظ واعظ، ولا يصغون لتنبيه منبه "فما أضيع البرهان عند المقلد" بل لا يسمعون وإن أصاخوا، ولا يفقهون وإن سمعوا، فكأنهم صم لم يسمعوا وفقدوا منفعة الاسترشاد بالقول وطلب الحكمة من معاهدها، فلا يسألون بيانا، ولا يطلبون برهانا، وفقدوا خير منافع الإبصار وهو نظر الاستفادة والاعتبار، فلا يرون ما يحل بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تنقلب به أحوال الأمم فيعتبروا، { فهم لا يرجعون } عن ضلالتهم، ولا يخرجون من ظلماتهم؛ لأن من وقع في أرض فلاة في ليلة مظلمة وفقد فيها جميع حواسه لا يمكنه أن يسمع صوتا يهتدي به، ولا أن يصيح هو لينقذه من يسمعه، ولا أن يرى بارقا يؤمه ويقصده، فهو لا يرجع من تيهه بل يظل يعمه في الظلمات حتى يفترسه سبع ضار، أو يصل إلى شفا جرف هار، فينهار به في شر قراره
{ وما للظالمين من أنصار } [البقرة: 270]