التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
-البقرة

تفسير المنار

ذكر المفسّر وغيره أن القصاص على القتل كان محتما عند اليهود، وأن الدية كانت محتمة عند النصارى، وأن القرآن جاء وسطا يفرض القصاص إذا أصر عليه أولياء المقتول، ويجيز الدية إذا عفوا، وقد أقرهم الأستاذ الإمام على قولهم: إن القتل قصاصا كان حتما عند اليهود: كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية، وأنكر عليهم قولهم: إن الدية كانت حتما عند النصارى; فإنه ليس في كتبهم شيء يحتم عليهم ذلك، إلا أن يقال إن ذلك مأخوذ من وصايا التساهل والعفو وجزاء الإساءة بالإحسان في الإنجيل، ولكن أخذ الدية ضرب من ضروب الجزاء ينافي هذه الوصايا.
وإذا نظرنا في أعمال الأولين والآخرين وشرائعهم في القتل نجد القرآن وسطا حقيقيا لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فقد كانت العرب تتحكم في ذلك على قدر قوة القبائل وضعفها، فرب حر كان يقتل من قبيلة فلا ترضى قبيلته بأخذ القاتل به، بل تطلب به رئيسها، وأحيانا كانوا يطلبون بالواحد عشرة وبالأنثى ذكرا، وبالعبد حرا، فإن أجيبوا وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا إفراط وظلم عظيم تقتضيه طبيعة البداوة الخشنة، وفرض التوراة قتل القاتل إصلاح في هذا الظلم، ولكن يوجد في الناس ولا سيما أهل القوانين في زماننا هذا من ينكر المعاقبة بالقتل ويقولون إنه من القسوة وحب الانتقام في البشر، ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بأن ثبتت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إن المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن يوضعوا في مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجوا فيها إلى أن يبرءوا.
وإذا دققنا النظر في أقوال هؤلاء نرى أنهم يريدون أن يشرعوا أحكاما خاصة بقوم تعلموا وتربوا على الطرق الحديثة وسيسوا بالنظام والحكم حتى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل ولا أن يسفكوا لأجله دماء بريئة، وحتى يؤمن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القاتلين وبيوت المقتولين، ووجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة - لا أحكاما عامة لجميع البشر، في البدو والحضر، ومع هذا نرى كثيرا من الناس حتى المنتسبين إلى الإسلام يغترون بآرائهم ويرونها شبهة على الإسلام، وأما النافذ البصيرة العارف بمصالح الأمم الذي يزن الأمور العامة بميزان المصلحة العامة لا بميزان الوجدان الشخصي الخاص بنفسه أو ببلده فإنه يرى أن القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربي الأمم والشعوب والقبائل كلها، وأن تركه بالمرة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأن الخوف من الحبس والأشغال الشاقة إذا أمكن أن يكون مانعا من الإقدام على الانتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والانغماس في النعيم كبعض بلاد أوربا فإنه لا يكون كذلك في كل البلاد وكل الشعوب، بل إن من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبب إليه الجرائم أو يسهلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيرا من بيته، وإن في مصر من الأشقياء من يسمي السجن نزلا أو فندقا، وسمعت أنا غير واحد في سورية يقول: إذا فعل فلان كذا فإنني أقتله وأقيم في القلعة عشر سنين; وذلك أن القاتل هناك يحكم عليه غالبا بالسجن خمس عشرة سنة في قلعة طرابلس الشام، ويعفو السلطان في عيد جلوسه عمن تم له ثلثا المدة المحكوم بها عليه في السجن، واشتهر عن بعض المجرمين في مصر أنهم يسمون بعض السجون العصرية { { لوكاندة كولس } بالإضافة إلى كولس باشا مدير السجون الذي أنشئت في عهده. ويقول بعضهم: أسرق كذا أو أضرب فلانا وأشتو في لوكاندة كولس فإن الشتاء فيها أرحم وأنعم من الشتاء في بيتنا أو في الشوارع، ولا يبعد على المجرم من هؤلاء أن يقتل لأن عقاب القتل في هذه السجون - وإن ثبت عليه - أهون من عيشته الشقية، فما القول في أهل البوادي أصحاب الثارات التي لا تموت؟ - فقتل القاتل هو الذي يربي الناس في كل زمان ومكان، ويمنعهم من القتل { قال شيخنا }: وقد بالغ في الاعتراف بذلك معدل القانون المصري حيث أجاز الحكم بالإعدام إذا وجدت القرائن القاطعة على ثبوت التهمة بعد أن كان لا يجيزه إلا بالاعتراف أو شهادة شهود الرؤية.
وقد تقع في كل بلاد صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثال هذه الصور توجب ألا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الأصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة في شعب أو قبيل أو بلد إلى أن صار أولياء المقتول منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم الإنسان. قال تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } القصاص في أصل اللغة: يفيد المساواة، فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل; لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيؤخذ به، فالغرض من الآية شرعية القصاص بالعدل والمساواة وإبطال ذلك الامتياز الذي للأقوياء على الضعفاء; ولذلك قال: { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أي: إن هذا القصاص لا هوادة فيه ولا جور، فإذا قتل حر حرا يقتل هو به لا غيره من سادات القبيلة، ولا أكثر من واحد، وإذا قتل عبد عبدا يقتل هو به لا سيده، ولا أحد الأحرار من قبيلته، وكذلك المرأة إذا قتلت تقتل هي، ولا يقتل واحد فداء عنها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية في ذلك كله، فالقصاص على القاتل نفسه أيا كان، لا على أحد من قبيلته، فما كانت عليه العرب في الثأر يبين هذا المعنى من الآية، ولكن مفهوم اللفظ بحد ذاته وسياق مقابلة الأصناف بالأصناف يفهم أنه لا يقتل فريق بفريق آخر، وهو غير مراد على إطلاقه; فقد جرى العمل من زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن على قتل الرجل بالمرأة، واختلفوا في قتل الحر بالعبد، فذهب أبو حنيفة وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا لم يكن سيده، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل به مطلقا، والاختلاف في قتل الرجل بالمرأة أضعف، ولهذه الخلافات زعم بعضهم أن في الآية نسخا.
وإنما منشأ الخلاف أدلة أخرى من السنة وغيرها، والاعتبار بمفهوم المخالفة في الآية وعدمه، والقرآن فوق كل خلاف. فمنطوق الآية لا مجال للخلاف فيه، وهو أن الحر يقتل بالحر إلخ، وأما كون الحر يقتل بالعبد والرجل بالمرأة فهذا يؤخذ من لفظ القصاص ولا يعارضه مفهوم التفصيل، فإن بعض أهل الأصول لا يعتبر المفهوم المخالف للمنطوق، وبعضهم يعتبره بشرط لا يتحقق هنا لما ذكروه في سبب النزول منطبقا على ما ذكرناه عن العرب.
قال البيضاوي في تفسير الآية: كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنزلت، وأمرهم أن يتبارءوا. ولا تدل على ألا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى، كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ا هـ. والبيضاوي من الشافعية القائلين بمفهوم المخالفة، وما ذكره في سبب النزول أخرجه ابن أبي حاتم.
ويدخل في عموم الآية الكافر، وبه قال الكوفيون والثوري، وقال الجمهور: لا يقتل به المسلم، لما ورد في ذلك من الحديث الصحيح المبين لإجمال الآية، واستثنى من عمومها السيد يقتل عبده، قالوا: لا يقتل به ولكن يعزر، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن النخعي. قال الأستاذ الإمام: وللحاكم أن يقرر هذا التعزير بشدة تمنع الاعتداء والاستهانة بالدم، ولا يخفى أن التعزير قد يكون بالقتل، فإذا عهد في قوم من القسوة ما يقتلون به عبيدهم فللإمام أن يقتل السيد بعبده تعزيرا لا حدا إذا رأى المصلحة العامة في ذلك، واستثنوا أيضا الوالدين فقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وعلله الأستاذ الإمام بأن الحدود توضع حيث تتحرك النفوس للجناية لتكون رادعة عن الاستمرار فيها، وقد مضت السنة الإلهية في الفطرة بأن قلوب الأصول مجبولة من طينة الشفقة والحنو على الفروع; حتى ليبذلون أموالهم وأرواحهم في سبيلهم، وكثيرا ما يقسو الولد على والده، وقلما يقسو والد على ولده إلا لسبب قوي كعقوق شديد أو فساد في أخلاق الولد جنى على أصل الفطرة كالإفراط في حب الذات، ولكن هذه القسوة لا تفضي إلى القتل إلا لأمر يكاد يكون فوق الطبيعة، كعارض جنون من الوالد، أو إيذاء لا يطاق من الولد - ولما كان هذا شاذا نادرا جعل كالعدم فلم يلاحظ في وضع الحد; لأن الأحكام تناط بالمظنة لا بالشواذ التي يندر أن تقع، ومع هذا يعزر من يقتل ولده بما يراه الحاكم لائقا بحاله ومربيا لأمثاله.
وأقول: إن أعظم أسباب هذا الشذوذ في الوالدين طغيان الحكم الاستبدادي وجنون العشق; فكثيرا ما قتل الملوك أولادهم، وكانت سنة سلاطين آل عثمان أن تسلم القوابل أبناء أسرتهم كلهم للقتل عقب الولادة إلا من يسمى ولي العهد الوارث للسلطنة، ويلي ذلك قتل الوالدين حتى الأمهات بثوران جنون العشق.
وقد اضطرب العلماء في تعيين المخاطب بهذا القصاص إذ لا يصح أن يكون القاتل ولا المقتول ولا ولي الدم ولا عصبة القاتل ولا سائر الناس الأجانب، ولا يظهر أيضا أن المخاطب بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } الحكام خاصة. قال الأستاذ الإمام بعد ما أورد هذا المعنى عن بعضهم: وهذه مشاغبة وتشكيك كمشاغبات الرازي وشكوكه والخطاب مفهوم بالبداهة، والآية جارية على أسلوب القرآن في مخاطبة جماعة المؤمنين في الشئون العامة والمصالح; لاعتبار الأمة متكافلة ومطالبة بتنفيذ الشريعة وحفظها، وبالخضوع لأحكامها كما تقدم بيانه في مخاطبة اليهود بإسناد ما كان من آبائهم إليهم، إذ قلنا إن الأمة في هدي القرآن كالشخص الواحد يخاطب البعض منها بالكل والكل بالبعض، كما يقال للشخص جنيت وجنت يدك، وأخطأت وأخطأ سمعك أو رأيك، ففي هذا الخطاب بالقصاص يدخل القاتل; لأنه مأمور بالخضوع لحكم الله، ويدخل الحاكم; لأنه مأمور بالتنفيذ، ويدخل سائر المسلمين; لأنهم مأمورون بمساعدة الشرع وتأييده. ومراقبة من يختارونه للحكم به وتنفيذه. ا هـ. وأزيد عليه إفادة الآية وأمثالها أن سلطة الحكم في الإسلام للأمة في جملتها، كل يقوم بقسطه من الاجتهاد في التشريع بالشورى، والتنفيذ للأحكام، والخضوع لها بشروطها.
بعد أن بين الله تعالى وجوب القصاص وهو أصل العدل ذكر أمر العفو وهو مقتضى التراحم والفضل، فقال: { فمن عفي له من أخيه شيء } إلخ. أي: فمن عفا له أخوه في الدين من أولياء الدم عن شيء من حقهم في القصاص - ولو واحدا منهم إن تعددوا - وجب اتباعه وسقط القصاص كما يأتي، وإنما يعفو من له حق طلب القصاص، وقد جعل الله هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من عونه ورفده، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، لما تستفزهم إليه نعرة القرابة وطبيعة المصلحة; فإذا لم يجب طلبهم، ولم يقتص الحاكم لهم فإنهم ربما يحتالون للانتقام، ويفشو بينهم وبين القاتل وقومه التشاحن والخصام، وإذا جاء العفو من جانبهم أمن المحذور والفتنة، ولا سيما إذا كان من أسباب العفو استعطاف القاتل وقومه لهم، واستعتابهم إياهم بإثارة عاطفة الأخوة الدينية، وأريحية المروءة والإنسانية، ففي مثل هذه الحالة يوجب الله تعالى حجب الدم، وليس للحكومة أن تمتنع من العفو إذا رضوا به، ولا أن تستقل بالعفو إذا طلبوا القصاص فتحفظ قلوبهم، وتخرج أضغانهم، وتحملهم على محاولة الانتقام بأيديهم - إذا قدروا - فيزيد البلاء، ويكثر الاعتداء، أو يعيش الناس في تباغض وعداء، وفوضى تستباح فيها الدماء. وعبارة الآية تشعر بأن الله تعالى يحب من عباده العفو; ولذلك فرض اتباع العفو وإن لم يكن تاما متفقا عليه من جميع أولياء الدم كالآباء والأبناء والإخوة، فإن عفا بعضهم يرجح جانبه على الآخرين كما يدل عليه تنكير شيء في قوله: { فمن عفي له من أخيه شيء } فقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن "شيء" هنا نائب عن المصدر، أي: عفي له شيء من العفو بأن ناله بعضه ممن لهم المطالبة به، ويؤيد هذا ويؤكده التعبير عن العافي بلفظ الأخ الذي يحرك عاطفة الرحمة والحنان، وهو كما قال المفسرون: يؤذن بأن القتل لا يقتضي الارتداد عن الإسلام وقطع أخوة الإيمان إلا إذا استحله فاعله.
ومن مباحث اللفظ هنا أن بعض المفسرين أشكل عليهم استعمال عفي متعدية باللام، وزعموا أنها بمعنى ترك. قال البيضاوي تبعا للكشاف: وهو ضعيف إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه، وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب قال الله تعالى:
{ { عفا الله عنك } [التوبة: 143] وقال: { { عفا الله عنها } [المائدة: 101] فإذا عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني ولي الدم.
ولما كان العفو عن القصاص يتضمن الرضى بأخذ الدية قال تعالى: { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أي: من ناله شيء من هذا العفو فالواجب في شأنه أو قضيته تنفيذ العفو وثبوت الدية، وعبر عن الأول باتباع العفو بالمعروف، وهو واجب على الإمام الحاكم وعلى العافي وغيره من الأولياء، وإن لم يعفوا فعليهم ألا يرهقوا القاتل من أمره عسرا، بل يطلبون منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وعبر عن الثاني بالأداء إليه بإحسان، وهو واجب على القاتل بألا يمطل ولا ينقص ولا يسيء في صفة الأداء. ويجوز العفو عن الدية أيضا كما في قوله تعالى في سورة النساء:
{ { ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } [النساء: 92] هذا هو الظاهر في الآية، فلا حاجة إلى ذكر ما قالوه من احتمال غيره.
ويؤكد رغبة الشارع في العفو امتنانه علينا بإجازته ووعيده لمن اعتدى، أما الامتنان به فقوله: { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } وأي تخفيف ورخصة أفضل من حجب الدم بتجويز العفو والاكتفاء عنه بقدر معلوم من المال؟ فهذه رحمة منه سبحانه بهذه الأمة إذ رغبها في التراحم والتعاطف والعفو والإحسان، وأما الوعيد على الاعتداء بعده فقوله: { فمن اعتدى بعد ذلك } أي: بعد العفو عن الدم والرضى بالدية بأن انتقم من القاتل { فله عذاب أليم } قيل معناه: إنه يتحتم قتل المولى العافي أو غيره إذا قتل القاتل بعد العفو ولا يجوز العفو عنه; بل يقتله الحاكم وإن عفا عنه ولي المقتول، وبه قال جماعة من المفسرين كعكرمة والسدي، وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يفعل فيه ما يراه. والجمهور على أن حكمه حكم القاتل ابتداء، وعليه مالك والشافعي. والمراد بالعذاب الأليم: عذاب الآخرة. قال الأستاذ الإمام: وهو الصحيح، وفي الحديث المرفوع عند أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم ما يؤيده.
ثم قال تعالى: { ولكم في القصاص حياة } وهو تعليل لشرعية القصاص وبيان لحكمته، وقدم عليه تعليل العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده عناية به، وإيذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه. وبيان الأسباب والحكم لوضع الأحكام العملية، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية، بهذه يعرف الحق من الباطل، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه، وأدعى إلى الرغبة في العمل به - وقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى، وعبارة لا تحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن التي تعجز في التحدي فرسان البيان، ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمنا لضده وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص، وعرف القصاص ونكر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره، ولا يجهل سره.
ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها، وهي قولهم: القتل أنفى للقتل. وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، ويفصح به اللسان; لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع. وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل.. وأجمعوا على أن كلمة "القتل أنفى للقتل" أبلغها، وأين هي من كلمة الله العليا، وحكمته المثلى؟
قال الإمام الرازي: وبيان التفاوت من وجوه: أحدها أن قوله: { ولكم في القصاص حياة } أخصر من الكل; لأن قوله: (ولكم) لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، وإذا تأملت علمت أن قوله: { في القصاص حياة } أشد اختصارا من قولهم: القتل أنفى للقتل; أي لأن حروفه أقل. وثانيها أن قولهم: القتل أنفى للقتل، ظاهره يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال. وقوله: { في القصاص حياة } ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة. وثالثها أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل وليس في الآية تكرير. ورابعها أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل، والآية تفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما، فهي أجمع للفوائد. وخامسها أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعا; من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى. وسادسها أن القتل ظلما قتل مع أنه لا يكون نافيا للقتل، بل هو سبب لزيادة القتل، وإنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا; فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب. انتهى باختصار وتصرف يسيرين.
وذكر السيد الألوسي هذه الوجوه باختصار أدق وزاد عليها نحوها فقال: الأول قلة الحروف فإن الملفوظ هنا - أي في الآية - عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا. الثاني الاطراد; إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل، فإن القتل ظلما أدعى للقتل. الثالث ما في تنوين (حياة) من النوعية أو التعظيم. الرابع صنعة الطباق بين القصاص والحياة، فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها. الخامس النص على ما هو المطلوب بالذات أعني "الحياة" فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته. السادس الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات. السابع الخلو عن التكرار مع التقارب; فإنه لا يخلو عن استبشاع ولا يعد من رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا. الثامن عذوبة اللفظ وسلاسته، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة; إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام. التاسع عدم الاحتياج إلى الحيثية - أي التعليل - وقولهم يحتاج إليها. العاشر تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك، وقولهم لا يشمله. الحادي عشر خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا. الثاني عشر اشتماله على ما يصلح للقتل وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وإنه لما يليق بهم. الثالث عشر خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال - إلى غير ذلك، فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته. ا هـ.
وأقول: إن الآية على كونها أبلغ، وكلمتها أوجز، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم، وهو المساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض. وأما أمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي فهو يصدق باعتداء قبيلة على قبيلة، والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على أخذ الثأر، فيكون المعنى: إن قتلنا لعدونا إحياء لنا، وتقليل أو نفي لقتله إيانا، وأين هذا الظلم من ذلك العدل؟ فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها; لأن من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه، وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطن النفوس على قبول حكم المساواة إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم، هذا وإن دول الإفرنج تجري على سنة عرب الجاهلية في جعل القتل لأعدائها وخصومها أنفى لقتلهم إياها، وذلك شأنهم مع الضعفاء كالشعوب التي ابتليت باستيلائهم عليها باسم الاستعمار أو غيره من الأسماء، فأين هي من عدل الإسلام، ومساواته بين جميع الأنام؟.
قال تعالى بعد هذا البيان المتضمن للحكمة والبرهان: { يا أولي الألباب } فخص بالنداء أصحاب العقول الكاملة، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها، وهو مرتبتان: القصاص وهو العدل، والعفو وهو الفضل، كأنه يقول: إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان. ولا رحمة ولا حنان. وقوله: { لعلكم تتقون } جعله الجلال تعليلا لشرع القصاص وقدر له (شرع) أي: لما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم، لعلكم تتقون الاعتداء، وتكفون عن سفك الدماء. وقال الأستاذ الإمام: إن هذا لا بأس به والشرعية مفهومة من الآية، وإيجاز القرآن يقتضي عدم التصريح بها لأجل التعليل كما صرح به في الآية التي قبلها { كتب عليكم } ويمكن أن يستغنى عن تقدير (شرع) ويتعلق الرجاء بالظرف في قوله: { ولكم في القصاص حياة } أي: ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء، وسائر ضروب الاعتداء، إذ العاقل حريص على الحياة ولوع بالأخذ بوسائلها، والاحتراس من غوائلها.