التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
-البقرة

تفسير المنار

قوله عز وجل: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } متصل بما قبله واقع موقع الاستدراك والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى وعمل البر والخير وهو خير الزاد، ثم من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضا بأن غير المتقي لا لب له ولا عقل، وهو أن أيام الحج لا يباح فيها غير أعمال البر والخير، فيحرم فيها ما كانت عليه العرب في الجاهلية من التجارة والكسب في الموسم، كما يحرم الرفث والفسوق والجدال الذي هو من لوازم التجارة غالبا، والترفه بزينة اللباس المخيط والحلق، والإفضاء إلى النساء، فأزال هذا الوهم من الفهم وعلمنا أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور; لأنه لا ينافي الإخلاص له في العبادة، وإنما الذي ينافي الإخلاص هو أن يكون القصد إلى التجارة، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحج، هذا ما عليه الجماهير. وحمل أبو مسلم ذلك على ما بعد الحج ومنع الكسب في أيامه، ويرد عليه نزول الآية في سياق أحكام الحج، ونفي الجناح الذي لا معنى له في غير الحج وما ورد في أسباب نزولها، أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم; فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فنزلت. وقرأ ابن عباس الآية بزيادة في موسم الحج. وأعتقد أنه قاله تفسيرا. وأخرج أحمد وابن أبي جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري - أي الرواحل للحجاج - فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية - وذكرها - فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أنتم حجاج" وفي رواية أن ابن عمر قال لهم: ألستم تلبون؟ ألستم تطوفون بين الصفا والمروة؟ ألستم ألستم؟ ثم ذكر ما تقدم.
وقال الأستاذ الإمام: كان بعض المشركين وبعض المسلمين في أول الإسلام يتأثمون في أيام الحج من كل عمل حتى كانوا يقفلون حوانيتهم، فعلمهم الله تعالى أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص، وقال: إن قوله تعالى: { من ربكم } يشعر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضل من الله تعالى نوع من أنواع العبادة، ويروى أن سيدنا عمر قال في هذا المقام لسائل: وهل كنا نعيش إلا بالتجارة؟
أقول: لكن قال بعض العلماء: إن نفي الجناح يقتضي أن هذه الإباحة رخصة، وأن الأولى تركها في أيام الحج، وهذا لا ينافي ما قاله إذا أريد بأيام الحج الأيام التي تؤدى فيها المناسك بالفعل لا كل أيام شوال وذي القعدة وذي الحجة أو عشره الأول، وذلك أن لكل وقت عبادة لا تزاحمها فيه عبادة أخرى كالتلبية للحجاج والتكبير في أيام العيد والتشريق والتلبية عند الإحرام بالحج كتكبيرة الإحرام في الصلاة وهو ذكر الحج الخاص الذي يكرر في أثنائه إلى انتهاء الوقوف بعرفة أو إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يستحب التكبير، وللعلماء خلاف في التحديد.
والمراد من الآية أن الكسب مباح في أيام الحج إذا لم يكن هو المقصود بالذات، وأنه مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الرب تعالى يكون فيه نوع عبادة، وأن التفرغ للمناسك في أيام أدائها أفضل، والتنزه عن جميع حظوظ الدنيا في تلك البقاع الطاهرة أكمل. ثم قال تعالى:
{ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الإفاضة من المكان: الدفع منه، مستعار من إفاضة الماء، وأصله أفضتم أنفسكم، ويقال أيضا: أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات معروفة وهي موقف الحاج في النسك يجتمع فيها كل عام ألوف كثيرة من الناس، وقد جاء هذا الاسم بصيغة الجمع. وقيل: إنه جمع وضع لمفرد كأذرعات وهو مرتجل، وذكروا وجوها للتسمية أحسنها أنه يتعرف فيه الناس إلى ربهم بالعبادة، أو أنه يشعر بتعارف الناس فيه، وعرفة اسم لليوم يقف فيه الحجاج بعرفات، وهو تاسع ذي الحجة، وأطلق أيضا على المكان في كلامهم، ولعرفات أربعة حدود: حد إلى جادة طريق المشرق، والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة، والرابع وادي عرنة - بضم ففتح - وليست عرنة ولا نمرة - بفتح فكسر - من عرفات.
والوقوف بعرفات أعظم أركان الحج وكلها موقف. والمشعر الحرام: جبل المزدلفة يقف عليه الإمام ويسمى قزح - بضم ففتح - وسمي مشعرا; لأنه معلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته، وقيل: هو المزدلفة كلها من مأزمي عرفات إلى وادي محسر - بكسر السين المهملة المشددة - وليس هو من مزدلفة ولا من منى بل هو مسيل ماء بينهما في الأصل، وقد استوت أرضه الآن أو هو من منى.
والمعنى: أنه يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام فيها بالدعاء والتكبير والتهليل والتلبية، وقيل بصلاة العشاءين جمعا، وليس هو المتبادر بل قالوه لينطبق على قولهم: الأمر للوجوب، مع قولهم: إن الذكر هناك غير واجب. وأقول: الظاهر أنه واجب للآية وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيان المناسك مع قوله:
"خذوا عني مناسككم" أو "لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لا أحج بعد حجتي هذه" هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه وهو كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فكل ما التزمه صلى الله عليه وسلم في صلاته ونسكه فهو واجب مبين لما أجمل في كتاب الله، وأما المسنون من أعماله ما لم يلتزمه وما صحت فيه الرخصة عنه كقوله: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف ومنى كلها منحر" وفي حديثه عنده أيضا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصوا (أي: ناقته المجدوعة وهذا اسمها وهو بالفتح والقصر ويمد) حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس - الحديث - وهو دليل على أن المشعر الحرام هو قزح وأن الذكر غير صلاة العشاءين جمعا، والمبيت بمزدلفة "وتسمى جمعاً" من جملة المناسك. قال الأستاذ الإمام: أمر بالذكر عند المشعر الحرام للاهتمام به; لأنهم ربما تركوه بعد المبيت، ولم يذكر المبيت; لأنه كان معروفا لا يخشى التهاون فيه، والقرآن لم يبين كل المناسك بل المهم، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - الباقي بالعمل.
ثم قال: { واذكروه كما هداكم } أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إذ أنجاكم من الشرك واتخاذ الوسطاء كما كنتم في الجاهلية تذكرونه مع ملاحظة غيره بينكم وبينه لا يفرغ قلبكم له. وكانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فالكاف للتشبيه لا للتعليل كما قيل { وإن كنتم من قبله لمن الضالين } أي: وإنكم كنتم من قبله من زمرة الضالين عن الحق في عقائدكم وأعمالكم الراسخين في الضلال. قال الأستاذ الإمام: أي من قبل الله الذي آمنتم به إيمانا صحيحا بهداية الإسلام دون الخيال الذي كنتم تدعونه إلها، وتجعلون له وسطاء شركاء يقربون إليه ويشفعون عنده فإن ذلك الخيال لا حقيقة له، وبهذا التقرير يستغنى عن تقدير المضاف، ولا بأس بجعل ضمير "قبله" للهدى كما قال الجلال وغيره لسبق فعله، ويمكن أن يراد به القرآن كما قال بعضهم اكتفاء بدلالة المقام كقوله تعالى:
{ { إنا أنزلناه } [يوسف: 2].
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } جعل المفسر (الجلال) كغيره الخطاب هنا لقريش خاصة، إذ ورد في حديث عائشة عند الشيخين: أن قريشا ومن دان دينهم - وهم الحمس - كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات، فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، أي إبطالا لما كانت عليه قريش، فالمراد بهذه الإفاضة: الدفع من عرفات كالأولى قال: و ثمّ للترتيب في الذكر. وأنكر الأستاذ الإمام هذا; لأن الأسلوب ينافيه، وذلك أن الخطاب في الآيات كلها عام. قال: وهم يذكرون هذا كثيرا ولا يذكرون له نكتة تزيل التفاوت من النظم، ويمكن أن يقال هنا إنه بعد أن ذكر كذا وكذا من أحكام الحج قال هذا كأن المعنى هكذا: بعد ما تبين لكم ما تقدم كله من أعمال الحج وليس فيها امتياز أحد على أحد، ولا قبيل على قبيل، وعلمتم أن المساواة وترك التفاخر من مقاصد هذه العبادة، بقي شيء آخر وهو أن تلك العادة المميزة لا وجه لها، فعليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد.
والمتبادر أن المراد بالإفاضة هنا الدفع من مزدلفة; لأنه ذكر الدفع من عرفات في خطاب المؤمنين كافة، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف، فعلم أنهم سواء في الوقوف بعرفات وفي الإفاضة منها إلى مزدلفة، وبعد أن أمرهم بما يتوقع أن يغفلوا عنه فيها عند المشعر الحرام منها ذكر الإفاضة منها. وقوله: { ثم } يفيد أن الإفاضة من مزدلفة يجب أن تكون مرتبة على الإفاضة من عرفات ومتأخرة عنها، ففيه تأكيد إبطال تلك العادة.
وقوله: { من حيث أفاض الناس } يشعر بأنه لا معنى للامتياز في الموقف ترفعا عن الناس إذ كانوا بعد ذلك يتساوون في الإفاضة، فإن غير قريش من العرب كانوا يفيضون من المزدلفة أيضا، فالآية تتضمن إبطال ما كانت عليه قريش مع كون المراد بالإفاضة فيها الدفع من مزدلفة، ولعل هذا هو المراد من الأثر وأنه روي بالمعنى، والظاهر أن المراد بالناس الجنس، وقيل: إبراهيم وإسماعيل ومن كان على دينهما.
وقوله: { واستغفروا الله } يراد به الاستغفار مما أحدثوا بعد إبراهيم من تغيير المناسك وإدخال الشرك وأعماله فيها، وإلا فهو استغفار من الضلال الذي ذكرهم به في الآية قبلها، ومن عامة الذنوب في الحج وغيره، وهذا هو الذي يوجه إلى من بعد أولئك الذين أسلموا في الصدر الأول بعد أن كانوا مشركين { إن الله غفور رحيم } أي: واسع المغفرة والرحمة لمن استغفره تائبا منيبا.