التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٢١
-البقرة

تفسير المنار

الآيات في سرد الأحكام كما تقدم فلا حاجة لربط كل آية بما قبلها، والربط ظاهر على القول بأن المراد بالمخالطة في الآية السابقة نكاح اليتامى. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عناق أن يتزوجها وهي مشركة وكانت ذات حظ من جمال فنزلت. يعني { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ذكر ذلك السيوطي في أسباب النزول، ثم قال وقوله تعالى: { ولأمة مؤمنة } الآية. أخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره وقال: لأعتقنها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناس وقالوا: ينكح أمة! فأنزل الله هذه الآية، وأخرجه ابن جرير عن السدي منقطعاً.
وظاهره أن قوله تعالى: { ولأمة مؤمنة } إلى { أعجبتكم } آية مستقلة نزلت في حادثة غير الحادثة التي أنزل فيها قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وهذا الظاهر من صنيعه خفي في نفسه بل هو باطل ألبتة، ولا شك أن الآية واحدة، نزلت مرة واحدة عند حاجة الناس إلى بيان أحكامها، ولا مانع أن يكون ذلك بعد حدوث ما روي عن أبي مرثد وعن عبد الله بن رواحة.
وفي روح المعاني ما نصه: روى الواحدي وغيره، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا من غنى يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك. فقالت: نعم، فقال: إذا رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنته في ذلك ثم تزوجتك، فقالت له: أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال: يا رسول الله أيحل لي أن أتزوجها؟ وفي رواية: إنها تعجبني فنزلت وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية، وإنما هو سبب في نزول آية النور
{ { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } [النور: 3] وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما هي يا عبد الله؟ قال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال: يا عبد الله هي مؤمنة، قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا: نكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم، فأنزل الله { ولا تنكحوا } الآية.
انتهى سياق الألوسي وهو أحسن من سياق السيوطي الذي قدمناه; لأنه مفصل وذاك مختصر اختصارا أوهم أن الذي نزل في عبد الله بن رواحة هو قوله تعالى: { ولأمة } إلخ. على أن السيوطي قال في مقدمة كتابه في أسباب النزول: إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ولا يريدون به إلا تفسيرها; أي: إن معناها يتناول ذلك، وإذا ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها. والألوسي يقول: إن السيوطي تعقب الواحدي في السبب الأول، وليس في كتابه هذا شيء من هذا التعقب، على أنه حوى كتاب الواحدي وزيادات، وأما آية
{ { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } [النور: 3] فقد ذكر لها السيوطي سببين، أحدهما: أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح رواه النسائي. والثاني: أن رجلا يقال له مزيد أراد أن يتزوج امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق، رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - وفي حديثه عنهما مقال - وقد روى الأول غير من ذكر، وقوله هنا مزيد مصحف والصواب مرثد. ونكاح البغايا كان فاشيا، والمشهورات منهن في الجاهلية كثيرات، وقد نزلت الآية في الجميع.
وجملة القول أن ما روي في الآية التي نفسرها الآن متفق على أن المراد بالمشركات فيها غير الكتابيات من نساء العرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركين والمشركات عام يشمل أهل الكتاب; لأن بعض ما هم عليه شرك، وقد قال تعالى بعد ذكر بعض عقائدهم:
{ { سبحانه عما يشركون } [التوبة: 31] واستدلوا على شركهم أيضا بقوله تعالى: { { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48] ولو لم يكونوا مشركين لجاز أن يغفر الله لهم، وذهب الأكثرون إلى أن المراد بالمشركات مشركات العرب اللاتي لا كتاب لهن; لأن هذا هو عرف القرآن في لقب المشرك، قال تعالى: { { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [البقرة: 105] الآية، وقال تعالى: { { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } [البينة: 1] والعطف يقتضي المغايرة، وهذا القول هو الذي يتفق مع قوله تعالى في بيان من يحل من النساء: { { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [المائدة: 5] وهي في سورة المائدة، وقد نزلت بعد سورة البقرة; ولذلك ذهب من قال بأن لفظ المشركات شامل للكتابيات إلا أن آية المائدة نسخت آية البقرة، وقال بعضهم ومنهم الجلال: إنها خصصتها بغير الكتابيات، والمقصود واحد. وزعم بعض المفسرين أن آية البقرة هي الناسخة لآية المائدة، وهذا لا وجه له مع الاتفاق على أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا. وذهب بعض آخر إلى التأويل بأن آية المائدة مقيدة بما إذا أسلمن، وهذا ليس بشيء; إذ لا دليل على القيد المحذوف; ولأن المشركات إذا أسلمن يحل نكاحهن أيضا بالإجماع، وجرى عليه العمل في عصر التنزيل قبل نزول الآية فما فائدة ذكره؟.
وقد اختلف في المجوس فقيل: يدخلون في المشركين لأنهم لا كتاب لهم، وقيل: بل كان لهم كتاب، وبعض الفقهاء يقول: لهم شبهة كتاب، وقد يشعر بأنهم أهل كتاب قوله تعالى في سورة الحج:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } [الحج: 17] فالعطف يقتضي المغايرة. وقد فرق الفقهاء بين المشركين والمجوس في الجزية ولا حاجة للبحث في ذلك هنا.
أما ما استدل به الآخرون على شرك أهل الكتاب من قوله تعالى:
{ { سبحانه عما يشركون } [التوبة: 31] وقوله: { { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 48] الآية فقد أجابوهم عن الأول بأن قوله: { يشركون } لا يقتضي أن من حكى عنهم ذلك الفعل يشتق لهم منه وصفا يكون عنوانا لهم فيدخلوا في صنف من يسميهم القرآن بالمشركين " والذين أشركوا "; فإن الأوصاف كثيرا ما يراد بها عند أهل التخاطب صنف مخصوص لا يدخل فيه كل من يتلبس بالفعل الذي اشتق منه الوصف. مثال ذلك لفظ (العلماء) يطلق الآن عند المسلمين على صنف من الناس لا يدخل فيه كل من يتعلم علما أو علوما، ولو تعلم ما يتعلمون وفاقهم فيه ما لم يكن على زيهم ومشاركا لهم في مجموع المزايا التي كانوا بها صنفا مستقلا، ويطلق هذا اللفظ عند قوم آخرين على صنف آخر، وأجابوا عن الثاني بأنه مسوق لبيان فظاعة الشرك والتغليظ فيه وكونه غاية البعد عن الله تعالى، بحيث قضى بألا تتعلق مشيئته بغفرانه، على أنه لو شاء أن يغفر كل ذنب سواه لفعل; إذ لا مرد لمشيئته، فلا يدخل هذا فيما نحن فيه; إذ لا يدل على أن كل من ليس مشركا يغفر الله له، فيقال: إن نفي الشرك عن أهل الكتاب يستلزم مغفرة الله تعالى لهم مع قيام الأدلة على أنه لا يغفر لمن تبلغه دعوة الحق الذي جاء به الإسلام فيجحدها عنادا واستكباراً.
{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } هذا معطوف ما قبله من الأمر بالإصلاح والنهي عن الإفساد، ومعناه لا تتزوجوا النساء المشركات ما دمن على شركهن { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } أي: والله إن أمة - أي: مملوكة - مؤمنة بالله ورسوله خير من مشركة حرة ولو أعجبتكم المشركة بجمالها وبغيره، وأصل الأمة أموة بالتحريك، يقال أمت الجارية: صارت أمة، وأميتها - بالتشديد - جعلتها أمة، وتأمت صارت أمة { ولا تنكحوا المشركين } أي: لا تزوجوهم المؤمنات { حتى يؤمنوا } فيصيروا أكفاء لهن { ولعبد مؤمن خير من مشرك } أي: ولمملوك مؤمن خير من مشرك حر { ولو أعجبكم } المشرك بنسبه أو قوته أو ماله. وجملة القول أن هؤلاء الذين أشركوا وهم الذين بينكم وبينهم غاية الخلاف والتباين في الاعتقاد لا يجوز لكم أن تتصلوا بهم برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوج منهم، وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا، وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا - ورضيه الأستاذ الإمام -: إنه على أصل المنع وأيده بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال: إن الأصل الإباحة في الجميع فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظا لأمر الشرك ويحل الكتابيات تألفا لأهل الكتاب; ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم; لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن ما هو عليه من الدين القويم يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والعدل بين المسلمين وغير المسلمين، وسعة الصدر في معاملة المخالفين، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر منه مثل هذه الفائدة; لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق ما أعطاهن الإسلام - وأهل الكتاب وسائر الملل كذلك - فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين، وإذا قامت بعد ذلك أدلة من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة فلها حكمها لا عملا بالأصل أو نص الكتاب، بل عملا بهذه الأدلة، والتعبير بتنكحوا وتنكحوا - بفتح التاء وضمها - يشعر بأن الرجال هم الذين يزوجون أنفسهم ويزوجون النساء اللواتي يتولون أمرهن، وأن المرأة لا تزوج نفسها بالاستقلال بل لا بد من الولي; إذ الزواج تجديد قرابة ومودة رحمية بين أسرتين، وعشيرتين لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بتولي أولياء المرأة له مع اشتراط رضاها وإذنها به صراحة في الثيب وسكوتا إقراريا في البكر التي يغلب عليها الحياء.
وقد فسّر الجمهور الأمة والعبد في الآية بالرقيق; أي: إن الأمة المملوكة المؤمنة خير من الحرة المشركة ولو أعجبكم جمالها، وكذلك القن المؤمن خير من الحر المشرك وإن كان معجبا، وتعلم منه خيرية الحر المؤمن والحرة المؤمنة بالأولى، وقال آخرون: إن المراد أمة الله وعبد الله; أي: إن المؤمنة والمؤمن كل منهما عبد الله يطيعه ويخشاه، ولذلك كان خيرا ممن يشرك به، فكان في التعبير بالأمة والعبد إشعار بعلة الخيرية، بيان ذلك: أنه ليس المراد بالزوجية قضاء الشهوة الحسية فقط، وإنما المراد بها تعاقد الزوجين على المشاركة في شئون الحياة والاتحاد في كل شيء، وإنما يكون ذلك بكون المرأة محل ثقة الرجل يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، عالما أن حرصها على ذلك كحرصه; لأن حظها منه كحظه، وما كان الجمال الذي يروق الطرف ليحقق في المرأة هذا الوصف، ولكن قد يمنعه التباين في الاعتقاد، الذي يتعذر معه الركون والاتحاد، والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة، ويوجب عليها الأمانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة إلى طبيعتها، وما تربت عليه في عشيرتها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها، وأماني الشياطين وأحلامها، فقد تخون زوجها، وتفسد عقيدة ولدها، فإن ظل الرجل على إعجابه بجمالها، كان ذلك عونا لها على التوغل في ضلالها وإضلالها، وإن نبا طرفه عن حسن الصورة، وغلب على قلبه استقباح تلك السريرة فقد ينغص عليه التمتع بالجمال ما هو عليه من سوء الحال.
وأمّا الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة; فإنها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالأنبياء وبالحياة الأخرى وما فيها من الجزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر، والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومزاياها في التوحيد، والتعبد والتهذيب، والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الإيمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء به، وكونه قد جاء بمثل ما جاء به النبيون وزيادة اقتضتها حال الزمان في ترقيه، واستعداده لأكثر مما هو فيه، أو المعاندة والجحود في الظاهر، مع الاعتقاد في الباطن، وهذا قليل والكثير هو الأول، ويوشك أن يظهر للمرأة من معاشرة الرجل حقية دينه وحسن شريعته، والوقوف على سيرة من جاء بها وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات فيكمل إيمانها، ويصح إسلامها، وتؤتى أجرها مرتين إن كانت من المحسنات في الحالين، ومثل هذه الحكمة لا تظهر في تزويج الكتابي بالمؤمنة، فإنه بما له من السلطان عليها، وبما يغلب عليها من الجهل والضعف في بيان ما تعلم لا يسهل عليها أن تقنعه بحقية ما هي عليه، بل يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه، وهذا المعنى يفهم من تعليل النهي عن مناكحة المشركين في قوله عزّ وجلّ:
{ أولئك يدعون إلى النار } أشار بأولئك إلى المذكورين من المشركين والمشركات; أي: من شأنهم الدعوة إلى أسباب دخول النار بأقوالهم وأفعالهم، وصلة الزواج أقوى مساعد على تأثير الدعوة; لأن من شأنها أن يتسامح معها في شئون كثيرة، وكل تساهل وتسامح مع المشرك أو المشركة محظور محذور الشر بما يخشى منه أن يسري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب الشبه والتضليل التي جرى عليها المشركون، كقولهم فيمن يتخذونهم وسطاء بينهم وبين الخالق:
{ { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18] وقولهم: { { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر: 3] فهذه الشبهة هي التي فتن بها أكثر البشر، ولم يسلم منها أهل شريعة سماوية خالطوا المشركين وعاشروهم، فقد دخلوا في الشرك من حيث لا يشعرون; لأنهم لم يتخذوا معبودات المشركين أنفسها شفعاء ووسطاء، بل اتخذوا أنبياءهم ورؤساءهم، وظنوا أن هذا تعظيم لهم لا ينافي التوحيد الذي أمروا به وجعل أصل دينهم، وأساس ارتقاء أرواحهم وعقولهم، وقد اغتروا بظواهر الألفاظ، وجعلوا تسمية الشيء بغير اسمه إخراجا له عن حقيقته، فهم قد عبدوا غير الله ولكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه لفظا آخر كالاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله إلها وربا، ومنهم من لم يسمه بذلك، بل سموه شفيعا ووسيلة، وتوهموا أن اتخاذه إلها أو ربا هو تسميته بذلك، أو اعتقادا أنه هو الخالق والرازق والمحيي والمميت استقلالا، ولو رجعوا إلى عقائد الذين اتبعوا سننهم من المشركين لوجدوهم كما قال تعالى: { { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18] مع قوله: { { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } [الزخرف: 87] فإذا كانت مساكنة المشركين ومعاشرتهم - مع الكراهة والنفور - قد أفسدت جميع الأديان السماوية الأولى، فما بالك بتأثير اتخاذهم أزواجا، وهو يدعو إلى كمال السكون إليهم والمودة لهم والرحمة بهم؟ ألا يكون ذلك دعوة إلى النار، وسببا للشقاء والبوار.
هذه دعوة الزوج المشرك بطبيعة دينه { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } بما اشتمل عليه دينه الذي أرسل به رسله من التوحيد الخالص الذي ينقذ العقول من أوهام الوثنية ومنها إعطاء بعض المخلوقين شعبا من خصائص الألوهية، وبإفراد الله سبحانه بالعبادة والسلطة الغيبية، وهذا هو السبب الأول في دخول الجنة واستحقاق المغفرة منه تعالى للمؤمن الموحد إذا ألم بمعصية أو كسب خطيئة; لأن خطيئته لا تحيط بروحه ولا ترين على قلبه فتجعله شريرا; لأن الله غالب على أمره
{ { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [الأعراف: 201] فحاصل معنى { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } هو أن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي الموصلة إلى الجنة والمغفرة بإذن الله وإرادته وهدايته وتوفيقه، فهي مناقضة لدعوة المشركين وهي ما هم عليه من الشرك الموصل إلى النار بسوء اختيار أصحابه له، ففيه المقابلة بين المشركين والمؤمنين وهي أنهما على غاية التباين، وفيه أن ما عليه المشركون هو من سوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وأن ما عليه المؤمنون لم يكن بوضعهم وعملهم، وإنما هو الدين الذي هو وضع الله بلغه عنه رسله بإذنه، وهدى إليه خلقه.
وذكر الأستاذ الإمام وجها آخر في هذا؛ وهو أن المراد باسم الجلالة (الله) هو ما يعتقده فيه - سبحانه - المؤمنون به من كونه واحدا أحدا صمدا لا كفء له ولا مساعد ولا وزير، ولا واسطة بينه وبين خلقه يحمله على نفعهم أو ضرهم، وإنما هو فاعل بإرادته القديمة على حسب علمه القديم، ولا تأثير للحوادث فيهما ولا في غيرهما من صفاته تعالى; فهذا الاعتقاد بالله هو الأصل الذي يدعوهم إلى الجنة; لأنه ينبوع الأعمال الحسنة النافعة، ومصدر الأخلاق الفاضلة التي يستحق صاحبها الجنة على ما يحسن فيه، والمغفرة على ما أساء فيه ومنعه إيمانه من الإصرار عليه والاسترسال فيه حتى يحيط به، وإنما كان أصلا في ذلك; لأنه متى صح إيمانه صحت عزيمته في اتباع الشريعة والاهتداء بالدين القويم، وهذا التعبير مأنوس به في اللغة، يعبر بالشيء عن المصرف له والغالب على أمره، على حد الحديث القدسي
"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" إلخ، وذلك أن اعتقاده يملك شعوره ومشاعره فيكون أصل كل عمل نفسي وبدني فيه.
وقد يقال: إن هذه العلة في تحريم مناكحة المشركين متحققة في نكاح الكتابيات، فالكتابية تدعو بسيرتها وعملها وقولها إلى ما هي عليه من العقيدة الفاسدة، وما يتبعها من الأعمال التي لم تكن من أصل دينها الصحيح المتفق مع الإسلام، فهي إن وافقت زوجها المسلم فيما هو إيمان صحيح كالإيمان بالله والإيمان بالأنبياء وباليوم الآخر في الجملة، فهي تخالفه بما تصف به الله أو تتخذ له من الأبناء والأنداد، وذلك من الدعوة إلى النار، وقد تغلب المرأة على أمر زوجها أو ولدها فتقوده إلى دعوتها، ولهذا ذهب بعض الشيعة إلى تحريم نكاح الكتابية.
ونقول في الجواب: لو اتحدت العلة لما صرح الكتاب بجواز الزواج بالكتابية المحصنة، ولما اتفق سلف الأمة وخلفها على ذلك ما عدا هذه الشرذمة من الشيعة، وكيف يستوي الفريقان - أهل الكتاب والمشركون - وقد فرق الكتاب والسنة بينهما في كثير من المزايا والأحكام، ولم يجمع القرآن بين المشركين والمؤمنين في حكم كما جمع بين المؤمنين وأهل الكتاب في مثل قوله في سورة البقرة:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 62] وقوله في سورة آل عمران: { { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } [آل عمران: 64] الآية، وقوله في البقرة ومثله في آل عمران: { { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [البقرة: 136] وقوله فيها: { { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون } [البقرة: 139] وقوله في: { { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } [العنكبوت: 46] وأمثال هذه الآيات كثير جدا، وهي تصرح بأن إله المسلمين وأهل الكتاب واحد، وربهم واحد، والذي أنزل عليهم هو شيء واحد; أي: في جوهره، والمراد منه وهو الإيمان بالله وتوحيده والبعث والعمل الصالح، ولكنها في أواخرها تبين محل الدعوة والفرق، وهو أننا مسلمون مخلصون وأنه طرأ عليهم الانحراف فاتخذوا من أنفسهم أربابا يحلون ويحرمون، ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله، وأنهم غير مخلصين ولا مسلمين في أعمالهم; وهذا شيء لا ينكره أهل العلم الحقيقي والتاريخ منهم، بل يقولون: لولا الانحراف والشرائع التي زادوها وسموها بالطقوس وبأسماء أخرى لما ضعفت أخلاقهم، ومرضت قلوبهم وانحلت جامعتهم، حتى كان من أمر الإسلام فيهم ما كان. وقد طرأ شيء من ذلك على من اتبعوا سننهم منا شبرا بشبر وذراعا بذراع، مع أن أصل الدين عندنا قد حفظ بعناية لم يكن لهم مثلها، وصرنا في حاجة إلى من يدعونا إلى إقامة الأصل كما دعاهم داعي الإسلام، لا فرق في ذلك إلا أن الأصل الذي يجب أن يدعى إليه الجميع موجود محفوظ كما هو لا ينقص الجميع إلا إقامته والعمل به، وهو القرآن الذي اتخذه المسلمون في عصرنا آلة لهو وسلعة تجارة، ولكنهم لا يدعون إلى إقامته والعمل به، بل منهم من يصرح بتحريم العمل به ويسمي ذلك اجتهادا، والاجتهاد عندهم ممنوع، فقد منعوا القرآن بشبهة سخيفة وهي منع العلم الاستدلالي، ومنعه منع لحقيقة الإسلام وانصراف عن ينبوعه، وتفضيل أخذ عقائد الإسلام من كتب الكلام المبتدعة على أخذها من كتاب الله المعصوم، وتفضيل أخذ أحكامه حتى التعبدية من كتب الفقهاء على أخذها منه ومن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبقى ما في الكتاب والسنة من الآداب والفضائل، والحكم والمواعظ، والسياسة العليا وسنن الاجتماع المثلى مما لا يوجد في كتبهم، وقد استغنوا عنها بالتبع لاستغنائهم عن غيرها كأنه لم يبق لهم أدنى حاجة في علوم القرآن ومعارفه والعياذ بالله من الخذلان.
فإذا كان الفرق بيننا وبين أهل الكتاب يشبه الفرق بين الموحدين المخلصين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعة الذين انحرفوا عن هذين الثقلين اللذين تركهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، وأخبرنا أننا لا نضل ما تمسكنا بهما - كما في حديث الموطأ - فكيف يكون أهل الكتاب كالمشركين في حكم الله تعالى؟
والجملة أن ما عليه الكتابية من الباطل هو مخالف لأصل دينها، وقد عرض لها ولقومها بشبهة ضعيفة يسهل على المؤمن العالم بالحق أن يكشف لها عن وجه الحق في شبهتها ويرجعها إلى الصواب، ويعسر عليها هي أن تنتصر بالشبهة على الحجة وتزيل السنة الأولى بما عرض من الشبهة، وأما ما نراه من التباين بين المسلمين وأهل الكتاب الآن فسببه سياسة الملوك والرؤساء، ولو أقمنا الكتاب وأقاموه لتقاربنا ورجعنا جميعا إلى الأصل الذي أرشدنا إليه القرآن العزيز. ولا يخفى أن هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة، فتفسد عليه تقاليده ولا عوض له عنها، فينبغي أن يعرف هذا.
هذا ما كتبته عند طبع التفسير للمرة الأولى، وقد حدث بعد ذلك أن فتن كثير من الشبان المصريين بنساء الإفرنج فتزوجوا بهن فأفسدن عليهم أمورهم الدينية والوطنية، واضطر بعضهم إلى الطلاق، وغرم كثيرا من المال، ومنهم رجل غني قتلته امرأته الفرنسية وجاءت تطالب بميراثها منه، وقليل منهم من اهتدت به زوجته وأسلمت، وقد سرت العدوى إلى المسلمات، فمن الغنيات منهن من تزوجن بمن عشقن من رجال الإفرنج بدون مبالاة بالدين الذي لا تعرف منه غير اللقب الوراثي، وقد عظمت الفتنة، وقى الله البلاد شرها، ولن يكون إلا بتجديد التربية الإسلامية وإصلاح الحكومة.
ثم قال تعالى: { ويبين آياته للناس } أي: يوضح الدلائل على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا ويبين لهم حكمته وفائدته بما يظهر لهم به أن المصلحة والسعادة فيما شرعه لهم { لعلهم يتذكرون } يتعظون فيستقيمون; فإن الحكم إذا لم تعرف فائدته للعامل لا يلبث أن يمل العمل به فيتركه وينساه، وإذا عرف علته ودليله وانطباقه على مصلحته ومصلحة من يعيش معهم فأجدر به أن يحفظه ويقيمه على وجهه ويستقيم عليه، لا يكتفى بالعمل بصورته وإن لم تؤد إلى المراد منه. ومن هنا قال الفقهاء: إن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، وإن ما يشارك المنصوص في العلة يعطى حكمه، وليتنا عملنا بهذه القواعد ولم نرجع إلى التمسك بالظواهر من غير عقل، ويا ليتها ظواهر الكتاب والسنة، إن هي إلا ظواهر أقوال أقوام من المؤلفين، منهم المعروف تاريخه ومنهم المجهول أمره، وإلى الله المشتكى، فاللهم ذكرنا ما نسينا، واهدنا إلى الاعتبار بكتابك والعمل به; لنكون من المفلحين.