التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦١
ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٦٢
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
٢٦٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
-البقرة

تفسير المنار

أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد؛ ليقرر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به (ثم قال ما معناه بتصرف): قد قلنا مرارا إن أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لا سيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق؛ فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلا أفرادا من أهل الشح المطاع، وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء، ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب، فمن كان له أدنى نصيب فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإن زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه؛ لأنه فطر على ألا يعمل عملا لا يتصور لنفسه فائدة منه، وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعد عنها فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر الهامة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة فعلمهم الله -تعالى- أن ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافا كثيرة فهو مفيد لهم في دنياهم، وحثهم على أن يجعلوا الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته ليكون مفيدا لهم في آخرتهم أيضا، فذكر أولا أن الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه -تعالى- ووعد بمضاعفته أضعافا كثيرة، ثم ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله، ثم ذكر البعث وإحياء الموتى وانتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلة ولا شفاعة، وإنما تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيله، ثم ضرب المثل للمضاعفة؛ أي بعد أن قرر أمر البعث بالدلائل والأمثال إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.
قال: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } وهي ما يوصل إلى مرضاته من المصالح العامة لا سيما ما كان نفعه أعم وأثره أبقى كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة أي كمثل أبرك بذر في أخصب أرض نما أحسن نمو فجاءت غلته مضاعفة سبعمائة ضعف وذلك منتهى الخصب والنماء؛ أي أن هذا المنفق يلقى جزاءه في الدنيا مضاعفا أضعافا كثيرة، كما قال في آية سابقة. فالتمثيل للتكثير لا للحصر ولذلك قال: { والله يضاعف لمن يشاء } فيزيده على ذلك زيادة لا تقدر ولا تحصر، فذلك العدد لا مفهوم له، ولا يحد عطاؤه { عليم } بمن يستحق المضاعفة من المخلصين الذين يهديهم إخلاصهم إلى وضع النفقات في مواضعها التي يكثر نفعها وتبقى فائدتها زمنا طويلا، كالمنفقين في إعلاء شأن الحق وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار نفقاتهم النافعة في قوة ملكهم وسعة انتشار دينهم وسعادة أفراد أمتهم عاد عليهم من بركات ذلك وفوائدهم ما هو ما أنفقوا بدرجات لا يمكن حصرها. وقد قال الأستاذ الإمام -رحمه الله- في الدرس: إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق في خدمة الدين، وقال في وقت آخر: إن كلمة في سبيل الله تشتمل جميع المصالح العامة، وهو ما جرينا عليه آنفا.
أقول: ومن أراد كمال البيان في ذلك فليعتبر بما يراه في الأمم العزيزة التي ينفق أفرادها ما ينفقون في إعلاء شأنها بنشر العلوم وتأليف الجمعيات الدينية والخيرية وغير ذلك من الأعمال التي تقوم بها المصالح العامة، إذ يرى كل فرد من أفراد أدنى طبقاتها عزيزا بها محترما باحترامها مكفولا بعنايتها كأن أمته ودولته متمثلتان في شخصه، وليقابل بين هؤلاء الأفراد وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة وإعلاء شأن الملة كيف يراهم أحقر في الوجود من صعاليك غيرهم، ثم ليرجع إلى نفسه وليتأمل كيف أن نفقة كل فرد من الأفراد في المصالح العامة يصح أن تعتبر هي المسعدة للأمة كلها من حيث إن مجموع النفقات التي بها تقوم المصالح تتكون مما يبذله الأفراد، فلولا الجزئيات لم توجد الكليات، ومن حيث إن الناس يقتدي بعضهم ببعض بمقتضى الجبلة والفطرة؛ فكل من بذل شيئا في سبيل الله كان إماما وقدوة لمن يبذل بعده وإن لم يقصدوا الاقتداء به، لأن الناس يتأثر بعضهم بفعل بعض من حيث لا يشعرون. والفضل الأكبر في هذه الأمة لمن يبدأ بالإنفاق في عمل نافع لم يسبق إليه. أولئك واضعو سنن الخير والفائزون بأكبر المضاعفة لأن لهم أجورهم ومثل أجور من اقتدى بسنتهم. فقد أخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها" الحديث.
ثم قال تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } الآية: قال الأستاذ الإمام: إن هذه الآية لبيان ثواب الإنفاق في الآخرة بعد التنويه بمنفعته في الدنيا، وقد شرط لهذا الثواب ترك المن والأذى؛ فأما المن فهو أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن هو إليه يظهر به تفضله عليه، وأما الأذى فهو أعم، ومنه أن يذكر المحسن إحسانه لغير من أحسن عليه بما يكون أشد عليه مما لو ذكره له. وقال غيره: المن أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، يريد أنه أوجب بذلك عليه حقا. والأذى أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه. قالوا: وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة " لا " للدلالة على شمول النفي بإفادة أن كلا من المن والأذى كاف وحده لإحباط العمل. وعدم استحقاق الثواب على الإنفاق، وقالوا: إن العطف بثم لإظهار علو رتبة المعطوف عليه.
وقال الأستاذ الإمام: قد يشكل على بعض الناس التعبير بثم التي تفيد التراخي مع العلم بأن المن أو الأذى العاجل أضر وأجدر بأن يجعل تركه شرطا لتحصيل الأجر. وجوابه: أن من يقرن النفقة بالمن والأذى أو يتبعها أحدهما أو كليهما عاجلا لا يستحق أن يدخل في الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أو يوصف بالسخاء المحمود عند الله. وإذا كان من يمن أو يؤذي بعد الإنفاق بزمن بعيد لا يعتد الله بإنفاقه ولا يأجره عليه ولا يقيه الخوف والحزن، أفلا يكون المتعجل به أجدر بذلك؟ بلى، وإنما الكلام في السخي الذي ينفق في سبيل الله مخلصا متحريا للمصلحة والمنفعة لا باغيا جزاء ممن ينفق عليه ولا مكافأة، ولكنه قد يعرض له بعد ذلك ما يحمله على المن والأذى المحبطين للأجر، كأن يرى ممن كان أنفق عليه غمطا لحقه أو إعراضا عنه وتركا لما كان من احترامه إياه، فيثير بذلك غضبه حتى يمن أو يؤذي، ومثل هذا يقع من المخلصين فحذرهم الله -تعالى- منه.
وأنت ترى ما قاله الأستاذ الإمام هو الظاهر، وقد مثل له بالصدقة على الأفراد بما يصنع مثله في الإنفاق في المصالح. ويشهد لذلك ما قاله ابن جرير في الآية فإنه حمل الإنفاق فيها على إعانة المجاهدين، وصور المن والأذى بالانتقاد عليهم ورميهم بالتقصير في جهادهم وكونهم لم يقوموا بالواجب عليهم ثم قال: " وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله وأوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله؛ لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو وصفنا فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه؛ لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه عليه - المن والأذى إذا كانت نفقة ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه " اهـ. وهو يلتقي مع كلام الأستاذ الإمام في أن المن في الآية قد يقع متراخيا عن وقت الإنفاق ولكن تخصيصه ذلك بالإنفاق على المجاهدين مما لا دليل عليه. وقوله -تعالى-: { لهم أجرهم عند ربهم } يشعر بأن هذا الأجر عظيم. من رب قادر كريم، فقد أضافهم إليه تشريفا لهم وإعلاء لشأنهم { ولا خوف عليهم } يوم يخاف الناس وتفزعهم الأهوال { ولا هم يحزنون } يوم يحزن البخلاء الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله والمبطلون لصدقاتهم بالمن والأذى، بل هم أهل الأمن والطمأنينة والسرور الدائم والسكينة، وقد تقدم الخوف والحزن من قبل.
ثم قال تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } قالوا: أي كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره يرد به السائل من غير عطاء، وستر لما وقع منه من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على النفوس، أو ستر حال الفقير بعدم التشهير به - خير له من صدقة يتبعها أذى. وقيل: إن المراد بالمغفرة المغفرة من الله -تعالى- لمن يرد السائل ردا جميلا، وذلك خير له عند الله -تعالى- من صدقة يتبعها أذى فهو يستحق عليها العقاب من حيث يرجو الثواب، والجملة مستأنفة لتأكيد النهي عن المن والأذى في الآية السابقة.
وقال الأستاذ الإمام: القول بالمعروف يتوجه تارة إلى السائل إن كانت الصدقة عليه، وتارة يتوجه إلى المصلحة العامة، كما إذا هاجم البلد عدو وأرادوا جمع المال للاستعانة على دفعه، فمن لم يكن له مال يمكنه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث على العمل وينشط العامل، ويبعث عزيمة الباذل، والمغفرة أن تغضي عن نسبة التقصير في الإنفاق إليك، وأن تظهر في هيئة لا ينفر منها المحتاج ولا يتألم من فقره أمامك، والمعنى أن مقابلة المحتاج بكلام يسر وهيئة ترضي خير من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة، ولا فرق في المحتاج بين أن يكون فردا أو جماعة، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه وإظهار استهجانه وبيان التقصير فيه أو تشكيك الناس في فائدة لا توازي هذه المساعدة. إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب له المساعدة والإغضاء عن التقصير الذي ربما يكون من العاملين فيه، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك خير من شيء من المال ترضخ به مع القول السوء وفعل الأذى، ومعنى هذه الخيرية أنه أنفع وأكثر فائدة لا أنه يقوم مقام البذل ويغني عنه، فمن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغضاء لهم، ولا شك أن السلم والولاء، خير من العداوة والبغضاء، وأن أضمن شيء لمصلحة الأمة وأقوى معزز لها هو أن يكون كل واحد من أفرادها في عين الآخر وقلبه في مقام المعين له وإن لم يعنه بالفعل.
وأقول: إن هذه الآية مقررة لقاعدة: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " التي هي من أعظم قواعد الشريعة، ومبينة أن الخير لا يكون طريقا ووسيلة إلى الشر، ومرشدة إلى وجوب العناية بجعل العمل الصالح خاليا من الشوائب التي تفسده وتذهب بفائدته كلها أو بعضها، وإلى أنه ينبغي لمن عجز عن إحسان عمل من أعمال البر وجعله خالصا نقيا أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى غايته حتى لا يحرم من فائدته بالمرة، كمن شق عليه أن يتصدق لا يمن ولا يؤذي فحث على الصدقة أو جبر الفقير بقول المعروف. ومن البديهي أن أعمال البر والخير لا يغني بعضها عن بعض، فكيف يغني ترك الشرك واتقاء المفاسد عن عمل الخير والقيام بالمصالح.
{ والله غني } بذاته وبما له ملك السماوات والأرض عن صدقة عباده فلا يأمر الأغنياء بالبذل في سبيله لحاجة به، وإنما يريد أن يطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية ليكونوا أعزاء بعضهم لبعض أولياء، والمن والأذى ينافيان ذلك فهو غني عن قبول صدقة يتبعها أذى لأنه لا يقبل إلا الطيبات. { حليم } لا يعجل بعقوبة من يمن ويؤذي. قال الأستاذ الإمام: يطلق الحلم ويراد به هذا اللازم من لوازمه؛ أي الإمهال وعدم المعاجلة بالمؤاخذة، وقد يراد به لازم آخر هذا الإغضاء والعفو وليس بمراد هنا لأنه لو أريد لكان تحريضا على الأذى ولكل مقال مقام يعينه، فالأول يطلق في مقابل العجول الطائش، والثاني في مقابل الغضوب المنتقم. وفي الاسمين الكريمين تنفيس لكرب الفقراء وتعزية لهم وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني المغني، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم أن يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم وعدم معاجلتهم بالعقاب على كفرهم بنعمته عليهم بالمال، فإنه يوشك أن يسلبها منهم في يوم من الأيام.
ثم إنه لما كانت النفوس مولعة بذكر ما يصدر عنها من الإحسان للتمدح والفخر وكان ذلك مطية الرياء، وطريق المن والإيذاء، لا سيما إذا آنس المصدق تقصيرا في شكره على صدقته أو احتقارا لها، فإنه لا يكاد يملك حينئذ نفسه ويكفها عن المن أو الأذى كما تقدم عن الأستاذ الإمام، كان من الهدى القويم ومقتضى البلاغة أن يؤتى في النهي عن المن والأذى والرياء بعبارات مختلفة لأجل التأثير في التنفير عن ذلك، والحمل على تركه ولذلك قال:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } أقول: بين - سبحانه وتعالى - في الآيتين السابقتين أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر على الإنفاق في سبيله، وأن العدول عن الصدقة التي يتبعها إلى قول وعمل آخر يكرم به الفقير، أو تؤيد به المصلحة العامة خير من نفس تلك الصدقة في الغاية التي شرعت لها. ثم أقبل -تعالى- على خطاب المؤمنين ونهاهم نهيا صريحا أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى، وفي ذلك من المبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين ما يقتضيه ولوع الناس بهما. قال الأستاذ -رحمه الله تعالى-: واستدلت المعتزلة بالآية على إحباط الكبائر للأعمال الصالحة حتى كأنها لم تعمل، وأجيب عن الآية بأن المراد بها تبطلوا ثواب صدقاتكم وبغير ذلك من التكلف الذي لا يحتاج إليه؛ لأن الكلام في إحباط المن والأذى للفائدة المقصودة من الصدقة وهي تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة على الأفراد، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتهم إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة، فإذا أتبعت الصدقة بالمن والأذى كان ذلك هدما لما بنته وإبطالا لما عملته، وكل عمل لا يؤدي إلى الغاية المقصودة منه فقد حبط وبطل كأنه لم يكن، فكيف إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها؟ كذلك تكون صلاة المرائي باطلة؛ لأن الغرض منها لم يحصل وهو توجه القلب إلى الله -تعالى- واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه، وقلب المرائي إنما يتوجه إلى من يرائيه، هذا هو معنى إبطال المن والأذى للصدقة، والذي يزعمه المعتزلة هو أن ارتكاب أي كبيرة من الكبائر يبطل جميع الأعمال الصالحة السابقة ويوجب الخلود في النار، فاستدلالهم بالآية على هذا إنما يدل على أنهم لم يفهموا هدى الله -تعالى- في كتابه، ولم يعرفوا فطرة البشر التي جاء الدين لتأديبها، وقد رأيت كلام من أيد مذهبه بهدم مذهبهم، هكذا يتجاذب القرآن أهل المذاهب كل يجذبه إلى مذهبه الذي رضيه لنفسه، فتراهم عندما يشاغب بعضهم بعضا يتعلقون بالكلمة المفردة إذا كانت تحتمل ما قالوا ويجعلونها حجة للمذهب ويؤولون ما عداها ولو بالتمحل، وأهل الخلاف ليسوا من أهل القرآن فلا يعول على قولهم في بيان معانيه.
ثم شبه -تعالى- أصحاب المن والأذى بالمرائي أو إبطال عملهم للصدقة بإبطال ريائه لها فقال: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس } أي لأجل ريائهم أو مرائيا لهم؛ أي لأجل أن يروه فيحمدوه لا ابتغاء مرضاة الله -تعالى- بتحري ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين، وترقية شأن الملة بالقيام بمصالح الأمة، فهو إنما يحاول إرضاء الناس { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } فيتقرب إليه -تعالى- بالإنفاق خشية عقابه، ورجاء ثوابه في ذلك اليوم { فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا } أي إن صفته وحاله في عدم انتفاعه بما ينفق كالحجر الأملس إذا كان عليه شيء من التراب ثم أصابه مطر غزير عظيم القطر أزال عنه ما أصابه حتى عاد أملس ليس عليه شيء من ذلك التراب، ووجه الشبه بين المان والمؤذي بصدقته وبين المرائي بنفقته أن كلا منهما غش نفسه فألبسها ثوب زور يوهم رائيه ما لا حقيقة له كمن يلبس لبوس العلماء أو الجند وليس منهم، فلا يلبث أن يظهر أمره ويفتضح سره، فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل، كذلك تكشف الحوادث وما يبتلى به المؤمنون والمنافقون حقيقة هؤلاء وتفضح سرائرهم، فهم { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم ونفقاتهم ولا يجنون ثمراتها في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فلأن المن والأذى مما ينافي غاية الصدقة - كما تقدم - ومن فعلهما كان أبغض إلى الناس من البخيل الممسك، والرياء لا يخفى على الناس فهو كما قال الشاعر:

ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عار

فلا تكاد تجد منانا ولا مرائيا غير مذموم ممقوت، وأما في الآخرة فلأن المن والأذى كالرياء في منافاة الإخلاص، ولا ثواب في الآخرة إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرون بها سنن الله -تعالى- في تزكية نفوسهم وإصلاح حال الناس { والله لا يهدي القوم الكافرين } أي مضت سنته بأن الإيمان هو الذي يهدي قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها، والاحتراس من الإتيان بما يذهب بفائدتها بعد وجودها، فكان الكافر بمقتضى هذه السنة محروما من هذه الهداية التي تجمع لصاحبها بين صلاح القلب والعمل وسعادة الدنيا والآخرة.
بعد هذا ضرب الله المثل للمخلصين في الإنفاق لأجل المقابلة بينهم وبين أولئك المرائين والمؤذين، وعقبه بمثل آخر يتبين به حال الفريقين فقال: