التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
١٠
-البقرة

تفسير المنار

قدمنا أن الكلام من أول السورة في القرآن وأقسام الناس بإزائه، وذكرنا منهم ثلاث فرق - فرقتان لهما فيه هدى: إحداهما: المتقون وبين حالهم بقوله: { { الذين يؤمنون بالغيب } [البقرة: 3] إلخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيين، والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحق ليهتدوا به كما تقدم. الثانية: هي المذكورة في قوله تعالى: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } [البقرة: 4] إلخ، وهم كل من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق.
وبينا أنه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن: الأولى منهما: هي المشروح حالها في قوله تعالى:
{ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] إلخ. وهي كما قدمنا تنقسم إلى قسمين: جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحق ولا يذعنون.
وهذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة، وهي فرقة من الناس توجد في كل آن وفي كل عصر، وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، ولذلك قال تعالى في بيان حالهم: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } [البقرة: 8] ولم يقل عنهم إنهم يقولون مع ذلك: " وآمنا بك يا محمد " وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر - الذين لم يلبثوا أن انقرضوا - كل هذه العناية، ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس. نعم: إن الآيات على عمومها تتناول من كان منهم في عصر التأويل تناولا أوليا، وتصف حالهم وصفا مطابقا، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كل طائفة تدعي أنها على دين، ولم يحك عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة - مع أن منهم الذين يدعون ذلك - لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ذلك، فهو إنما يعرف من قبل الأنبياء، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الإعجاز.
قد يقال: كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر كمنافقي اليهود، فلم كذبهم ونفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا مؤكدا بدخول الباء في خبر " ما " فقال: { وما هم بمؤمنين } أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين ألبتة، وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق للفظهم والمقيد بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ والجواب: أن اعتقادهم التقليدي الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصل ما في صدورهم ومحص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوجد أن ما كان لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنما مبعثه رئاء الناس وحب السمعة، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور، كالإفساد والكذب والغش والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنة، وهذه الأعمال تدل على أنهم لا يؤمنون بالله كما يحب ويرضى أن يؤمن به، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه، ويعلم أن الله سبحانه مطلع على سره وإعلانه؛ لأنه مهيمن على السرائر، وعالم بما في الضمائر، فيرضيه بظاهره وباطنه. بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنهم يرضون الله تعالى بذلك، ولذلك قال فيهم:
{ يخادعون الله والذين آمنوا } أقول: الخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه له لتنزله عما هو بصدده، من قولهم: خدع الضب إذا توارى في جحره، وضب خادع، إذا أوهم الصائد إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر، وأصله: الإخفاء. هذا ما حرره البيضاوي، وقد جعله الراغب أعم، فلم يعتبر فيما يخفيه الخادع أن يكون مكروها، وهذا المعنى لا يمتنع إسناده إلى الله تعالى وإلى المؤمنين، وهو ما تدل عليه صيغة المشاركة { يخادعون } وقالوا: إنه محال على الله وغير لائق بالمؤمنين بل يستقبح؛ لأنه عمل المنافقين، وقد جاء في سورة النساء
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [النساء: 142] ولما كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالا فسروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنه خداع في الصورة لا في الحقيقة، وذلك أنه شرع أن يعاملوا معاملة المؤمنين ولكنهم لا يجزون جزاءهم في الآخرة، بل يكونون في الدرك الأسفل من النار، فمعاملتهم الظاهرة غير جزائهم المغيب عنهم في الآخرة، كما أن عملهم الظاهر غير كفرهم الخفي في أنفسهم، فالجزاء من جنس العمل، ولكن عملهم خداع، ومقابلة حق صورته صورة الخداع، ولكنه لا غش فيه؛ لأن النصوص صريحة في كفر المنافقين. والتحقيق: أن فعل المشاركة هنا خاص بالفاعل المسند إليه فعله وهم المنافقون، وصيغة " فاعل " لا تطرد فيها المشاركة بالفعل كعاقبت اللص، وقد تكون مقدرة أو باعتبار الشأن أو القصد، ومن التكلف قول بعضهم: إنه عبر عن مخادعتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - بمخادعة الله تعالى.
وقال شيخنا: العمل الظاهر الذي لا يصدقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر يسمى في اللغة: مداجاة، ومداراة، ومخادعة، فإن كان يقصد به المخادعة فظاهر، وإلا فيكفي لصحة الإطلاق أن العمل عمل المخادع لا عمل الطائع الخاضع، وهذا مراد القرآن من مخادعة هؤلاء الذين هم من أهل الكتاب المؤمنين بالله إيمانا ناقصا، لم يقدروا الله فيه حق قدره، ويستحيل أن يقصد المؤمن بالله تعالى مخادعته، ولكنهم لجهلهم بالله ظنوا به ما يسوغ وصفهم بما ذكر عنهم.
قال تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم } أقول: وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { وما يخادعون إلا أنفسهم } وهو دليل على ما قلنا آنفا في صيغة " فاعل " والمشاركة هنا للإشارة إلى أنهم هم الخادعون المخدوعون، وقراءة الجمهور { يخدعون } نص في أن مخادعتهم لله والمؤمنين لا تأثير لها فيهما، فهي بالنسبة إليهما صورية، وفي الحقيقة: أن القوم يخدعون أنفسهم؛ لأن ضرر عملهم خاص بهم، وعاقبته وبال عليهم وحدهم. وقال الأستاذ في الدرس فيها ما مثاله:
إذا رجع الإنسان إلى نفسه، وأصغى لمناجاة سره يجد عندما يهم بعمل شيء أن في قلبه طريقين، وفي نفسه خصمين مختصمين، أحدهما: يأمره بالعمل وسلوك الطريق الأعوج، وآخر: ينهاه عن العوج ويأمره بالاستقامة على المنهج، ولا يترجح عنده باعث الشر، ولا يجيب داعي السوء، إلا إذا خدع نفسه بعد المشاورة والمذاكرة المطلوبة فيها، وصرفها عن الحق وزين لها الباطل، وهذه الشئون النفسية في غاية الخفاء، تكون المنازعة ثم المخادعة ثم الترجيح ويمر ذلك كله كلمح البصر، وربما لا يلتفت إليه الإنسان بفكره، ولذلك قال: { وما يشعرون } فإن الشعور هو إدراك ما خفي.
أقول: قال الراغب بعد ذكر الشعر - بفتح الشين وسكون العين وفتحها - من مفرداته وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشعر، ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري. وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام ا هـ.
أقول: ويناسب هذا الشعار - بالكسر - للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان، والمعروف في كتب اللغة أن شعر به - كنصر وكرم - يشعر شعرا - بالكسر والفتح - وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه، والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة. وأطلق بعض المفسرين: أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس، والتحقيق: أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي، فلا تقول: شعرت بحلاوة العسل، وبصوت الصاعقة، وبألم كية النار، وإنما تقول: أشعر بحرارة ما في بدني، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء إذا كانت قليلة، وبهينمة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى، أي إدراك ما فيه دقة وخفاء.
فمعنى نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم الله تعالى: أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه ولا يراقبون الله فيه، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده لم يترب على خشيته ومراقبته، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عمل المخادع له وما يشعر بذلك، وأما مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة، لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداواتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء. وقد فصل شيخنا سر مخادعتهم وفلسفتها ببيان علمي جلي، فقال ما معناه:
هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره من أمل في الغفران، أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب، وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء، المغشاة بصور من العقائد الملونة مما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم لا يشعرون؛ لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون.
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات، بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الإرادة، باعثة لها على العمل، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها [على النحو الذي ذكرناه فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال، وهي ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات كالكرم والشجاعة ونحوهما فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها] وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال، وربما يغفل الإنسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره وبين وجوده وتحققه في نفسه.
ومن العلوم ما يلاحظ الإنسان أنه عنده، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها؛ لأنه لم يشربه القلب ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها [وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول، كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الإسلامي مثلا، وكعلم مزايا الفضيلة ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق، والنظار في كتب الأواخر والأوائل، لتعزيز مادة العلم، وتوسيع مجال القول، وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال، لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه وتسميته علما؛ لأنه يدخل في تعريفه العام: " صورة من الشيء حاضرة عند النفس " وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي] فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر.
فهؤلاء - الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى - عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال، يدعونه بألسنتهم، وتكذبهم في دعواهم أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول:
{ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } [البقرة: 3] فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له، ومن هنا يعلم ما الإيمان الذي يعتد به القرآن، وهو يظهر لمن يقرأ ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرؤه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنهم، واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها.
فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان [فكل مؤمن بالله واليوم الآخر ومع ذلك يصدر في عمله عن شهواته، ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال، لا يعلو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب].
{ في قلوبهم مرض } عهد عند العرب التعبير عن العقول بالقلوب، والمرض هو ما يطرأ على العقول فيضعف تعلقها وإدراكها، والشك والوهم من أعراض هذا المرض، فهو ظلمة تعرض للعقل فتقف بشعاعه أن ينفذ إلى ما وراء التكاليف والأحكام من الأسرار والحكم. وهذا النفوذ: هو الفقه في الدين الذي يسوق النفس إلى الأخذ به ظاهرا وباطنا، وقد عبر القرآن عن فقد أمثال هؤلاء لهذا بقوله:
{ { لهم قلوب لا يفقهون بها } [الأعراف: 179] وربما كان التعبير عن العقول بالقلوب في مثل هذا المقام؛ لأن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال [يظهر لك ذلك بما تجده من اضطراب قلبك عند اشتداد الخوف أو اشتداد الفرح، فإنك تحس بزيادة ضرباته وشدة نبضاته] فصورة الاعتقاد إذا تناولها العقل من طريق التقليد والتسليم فجعلها في زاوية من زوايا الدماغ، ولم يكن لها سلطان على القلب ولا تأثير في الوجدان، واعتقاد لا يصحبه هذا السلطان ولا يصدر عنه هذا التأثير، لا يعتد الله تعالى به ولا يستفيد الإنسان منه - كما تقدم آنفا - فمن لم يطرق الإيمان قلبه بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منه في الوجدان، بحيث يكون هو المصرف له في أعماله، لا ينفعه إيمانه إلا إذا تمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلبه الوجدان الصالح، فأهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد تلحقهم أعمالهم الصالحة بأهل اليقين في الانتفاع بإيمانهم، وهذا الفريق الذي تحكي عنه الآيات وتصفه بالكذب والخداع، قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلب إلا بهما، فمن فقدهما مرض ولا يلبث مرضه أن يقتله.
قال الأستاذ الإمام ما معناه: ولضعف العقل أسباب: منها: ما هو فطري كما هو حال أهل البله والعته، وهو الذي لا يكلف صاحبه ولا يلام. ومنها: ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من الأوهام والخيالات، ويرين على قلوبهم ما يكسبونه من السيئات، وما يكونون عليه من التقاليد والعادات، ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب وإزالة هذه السحب، للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان ونجوم الفرقان وشموس الإيمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله:
{ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [الزخرف: 23] حتى يجيء اليوم الذي يقولون فيه: { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } [الأحزاب: 67].
وأقول: إن المرض في أصل اللغة: خروج البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه فيختل به بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الآلام لها، ويطلق مجازا على اختلال مزاج النفس، وما يخل بكمالها من نفاق وجهل، وارتياب وشك، وغير ذلك من فساد الاعتقاد الحق، واضطراب حكم العقل وفساد الخلق، والمرض هنا من النوع الثاني كما تقدم آنفا، وخصه شيخنا بمنافقي اليهود، فقال ما معناه: كان في قلوبهم مرض قبل مجيء النذير وبيان الرشد من الغي عندما كانوا في فترة حظهم من الكتب قراءة ألفاظها، ومن الأعمال إقامة صورها. { فزادهم الله مرضا } بعد ما جاءهم البرهان المنير ببعثة البشير النذير، ووجدوا منه زعزعة في أنفسهم، ولكن أخذتهم العزة بالإثم فأبوا الإيمان، ونبوا عن القرآن { وزاد تمسكهم بما كانوا عليه واشتد حرصهم عليه } فكان شعاع النور الذي جاء به الرسول عمى في أعينهم، ومرضا على مرضهم. { ولهم عذاب أليم } أي عذاب مؤلم فوق هذه الأمراض، و " أليم " صيغة فعيل من ألم يألم فهو أليم، وصف به العذاب نفسه. { بما كانوا يكذبون } { في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فإنهم لم يصدقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم }.
أقول: وأما مرض منافقي المدينة من العرب فهو الشك في نبوته - صلى الله عليه وسلم - كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وعن الأول: أنه النفاق، وعن بعض تلاميذه: الرياء، وحسبك في زيادة مرضهم قوله تعالى:
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } إلى قوله { { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [التوبة: 124 - 125].
أقول: قرأ عاصم وحمزة والكسائي { يكذبون } بالتخفيف أي بسبب كذبهم، وقرأ الباقون { يكذبون } بالتشديد، أي ولهم عذاب أليم بسبب تكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحكمة في القراءتين: إثبات جمعهم للرذيلتين، أي الكذب في دعوى الإيمان وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثانية سبب الأولى، وهم إنما كانوا يكذبونه في أنفسهم، وفيما بينهم إذا خلوا إلى شياطينهم، والعذاب عقوبة عليهما معا، أي على التكذيب وهو الكفر، وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق، وهؤلاء في باطنهم شر من الذين كفروا عنادا من رؤساء قريش، فإنهم لم يكونوا يكذبونه - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانوا يجحدون جحود استكبار، قال تعالى: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [6: 33].
قال شيخنا: والقراءة الأولى هي المشهورة والعذاب فيها مقرون بالكذب لا بالتكذيب. وقد يقال: لم جعل العذاب جزاء الكذب دون الكفر؟ والجواب: أن الكفر داخل في هذا الكذب، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه، وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أن الكفر من مشتملاته وينتهي إليه في غاياته، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير، وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة؛ لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه، ونعوذ بالله تعالى من عمله ومنه. ا هـ. بالمعنى، وقد علمت أن السؤال لا يرد إلا على قراءة التشديد.