التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
١٠٠
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٠١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٢
وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
-آل عمران

تفسير المنار

قال الأستاذ الإمام: إن صح ما ورد في سبب نزول هذه الآيات فالمراد بالكفر في قوله - تعالى -: { ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } هو العداوة والبغضاء التي كان الكفر سببها، كما أن المراد بالإيمان على هذا هو الألفة والمحبة التي هي ثمرة يانعة من ثمرات الإيمان.
وإذا لم ننظر إلى ما ورد من السبب فالمعنى: وضعوها لأنفسهم، فإذا أطعتموهم وسلكتم مسالكهم فإنكم تكفرون بعد إيمانكم.
أقول: ويجوز أن يراد بالكفر على الوجه الأول: حقيقته، كأنه يقول: إنكم إذا أصغيتم إلى ما يلقيه هؤلاء اليهود من مثيرات الفتن واستجبتم لما يدعونكم إليه فكنتم طائعين لهم فإنهم لا يقنعون منكم بالعود إلى ما كنتم عليه من العداوة والبغضاء، بل يتجاوزون إلى ما وراء ذلك، وهو أن يردوكم إلى الكفر.
ويؤيد هذا قوله - تعالى -:
{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم } [البقرة: 109] الآية. وقوله في هذه السورة: { { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } [آل عمران: 69] ولا يمنع الإنسان من إتيان ما يود إلا عجزه.
وإذا كان هذا جائزا - وهو الظاهر على الوجه الأول - فهو متعين على الوجه الثاني.
أما اتصال الآية بما قبلها على هذا فظاهر جلي، فإنه بعد ما وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله - وهو الإسلام، آثر إقامة الحجج عليهم وإزالة شبهاتهم - ناسب أن يخاطب المؤمنين مبينا لهم أن من كان هذا شأنهم في الكفر، وهذا شأن ما دعوا إليه في ظهور حقيقته، لا ينبغي أن يطاعوا ولا أن يسمع لهم قول، فإنهم دعاة الفتنة ورواد الكفر؛ ولذلك قال: { وكيف تكفرون } بطاعتهم واتباع أهوائهم { وأنتم تتلى عليكم آيات الله } وهي روح الهداية وحفاظ الإيمان { وفيكم رسوله } يبين لكم ما أنزل إليكم، ولكم في سنته وإخلاصه خير أسوة تغذي إيمانكم وتنير برهانكم.
فهل يليق بمن أوتوا هذه الآيات، ووجد فيهم الرسول الحكيم الرءوف الرحيم أن يبتغوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا، حتى استحوذ عليهم الشيطان، وغلب عليهم البغي والعدوان، وعرفوا بالكذب والبهتان؟ فالاستفهام في الآية للإنكار والاستبعاد ومن يعتصم بالله وبكتابه يكون الاعتصام إذن هو حبله الممدود. ورسوله هو الوسيلة إليه وهو ورده المورود { فقد هدي إلى صراط مستقيم } لا يضل فيه السالك، ولا يخشى عليه من المهالك، فلا تروج عنده الشبهات، ولا تروق في عينه الترهات، وقد جاء جواب الشرط بصيغة الماضي المحقق للإشعار بأن من يلتجئ إليه - تعالى - ويعتصم بحبله فقد تحققت هدايته وثبتت استقامته.
{ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } أي واجب تقواه وما يحق منها، كما في الكشاف، قال: مثله قوله - تعالى -:
{ { فاتقوا الله ما استطعتم } [التغابن: 16] أي بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا. اهـ.
هذا ما فسر به العبارتين في الآيتين بحسب ذوقه السليم وفهمه الدقيق، ثم نقل بعض ما ورد فيهما، وما قاله هو المتبادر، ومعنى العبارتين عليه واحد. ومن الناس من فهم أن الآيتين متعارضتان، حتى زعموا أن الثانية نسخت الأولى، ورووا ذلك عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا. فقد أخرج ابن جرير وغيره عنه: أن معنى اتقوا الله حق تقاته " أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر " وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنها لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا " في صلاة الليل " حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تخفيفا عليهم: { فاتقوا الله ما استطعتم } فنسخت الآية الأولى، كذا في روح المعاني. وروى ابن جرير النسخ عن قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. وروي عدم نسخها عن ابن عباس وطاوس وأن ابن عباس فسرها بأن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. أي فهي بمعنى الآيات التي تقرر هذه الأمور الثلاثة وهي مما لم يقل أحد بنسخها.
أقول: وإذا كانت الرواية بالنسخ ضعيفة بحسب الصناعة، فهي في اعتقادي موضوعة ممن لم يفهم الآية. ولو كان معناها ما رووا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - لكانت من تكليف مالا يطاق وهو ممنوع، وبه أخذ الأستاذ الإمام في منع النسخ.
أما قوله - تعالى -: ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فمعناه على المختار عند الأستاذ الإمام: استمروا على الإسلام، وحافظوا على أعماله حتى الموت. فالمراد بالإسلام على هذا الدين إيمانه وعمله، ووجه الاختيار أنه جاء في مقابلة قوله: { يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وبعد الأمر بالتقوى حق التقوى. وقيل إن المراد به الإخلاص، وقيل الإيمان دون العمل؛ لأنه هو الذي يستمر إلى الموت. أقول: وهذا النهي مبني على قاعدة أن المرء يموت غالبا على ما عاش عليه، فإذا عاش على اليقين حق التقوى والاحتراس مما ينافي الإسلام مات على ذلك بفضل الله الذي كانت تلك القاعدة من سننه في خلقه.
ثم بين لنا - عز وجل - ما به يتحقق ذلك الأمر والنهي، فقال: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا حبل الله: هو القرآن، كما ورد في الحديث الصحيح عنابن مسعود، وروى ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
" "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" " علم عليه في الجامع الصغير بالحسن. وروى الديلمي من حديث زيد بن أرقم: " "حبل الله هو القرآن " وقيل: هو الطاعة والجماعة وروي عن ابن مسعود، وقيل: إنه الإسلام، وروي عن ابن عباس، وقالوا: إن العبارة استعارة تمثيلية، شبهت فيها حالة المسلمين في اهتدائهم بكتاب الله أو في اجتماعهم وتعاضدهم وتكاتفهم بحالة استمساك المتدلي من مكان عال بحبل متين يأمن معه من السقوط.
وصور الأستاذ الإمام التمثيل بما أظهر من هذا، قال ما معناه: الأشبه أن تكون العبارة تمثيلا، كأن الدين في سلطانه على النفوس واستيلائه على الإرادات وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط، كأن الآخذين به قوم على نشز من الأرض يخشى عليهم السقوط منه. فأخذوا بحبل موثق جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط.
وأقول: إن المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه، ومن اعتصم به كان آخذا بالإسلام. ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع، وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام، فهو يوجب علينا أن نجعل أن اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، عليه نجتمع، وبه نتحد، لا بجنسيات نتبعها، ولا بمذاهب نبتدعها، ولا بمواضعات نضعها، ولا بسياسات نخترعها، ثم نهانا عن التفرق والانفصام بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في التفرق من زوال الوحدة التي هي معقد العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات المواثبين وكيد الكائدين، فهذا الأمر والنهي في معنى الأمر والنهي في قوله - تعالى -:
{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [الأنعام: 153] فحبل الله هو صراطه وسبيله.
وما أشرنا إليه هنا من بيان أنواع التفرق هو السبل التي نهي عن اتباعها في تلك الآية، وهي قد نزلت قبل هذه التي نفسرها؛ لأنها في سورة الأنعام وهي مكية، وسورة آل عمران مدنية، فكأنه قال: ولا تفرقوا باتباع السبل غير سبيل الله الذي هو كتابه.
فمن تلك السبل المفرقة: إحداث المذاهب والشيع في الدين كما قال:
{ { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } [الأنعام: 159] ومنها عصبية الجنسية الجاهلية وهي التي نزلت الآية التي نفسرها وما معها فيها، لما كان بين الأوس والخزرج ما كان كما تقدم، وورد في النهي عنها أحاديث كثيرة صحاح وحسان كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه" رواه البخاري من حديث ابن عباس، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس منا من دعا إلى عصبية رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم.
وقد اعتصم في هذا العصر أهل أوربا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب في الجاهلية، فسرى سم ذلك إلى كثير من متفرنجة المسلمين، فحاول بعضهم أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية لتعذر الجنسية النسبية، ويوجد في مصر من يدعو إلى هذه العصبية الجاهلية مخادعين للناس بأنهم بذلك ينهضون بالوطن ويعلون شأنه، وليس الأمر كذلك فإن حياة الوطن وارتقاءه باتحاد كل المقيمين فيه على إحيائه، لا في تفرقهم ووقوع العداوة والبغضاء بينهم ولا سيما المتحدين منهم في اللغة والدين أو أحدهما، فإن هذا من مقدمات الخراب والدمار، لا من وسائل التقدم والعمران، فالإسلام يأمر باتحاد اتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها - وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم - ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس، لتتحقق بذلك الأخوة في الله؛ ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [آل عمران: 103] يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وبها كان يؤثر بعضهم بعضا بالشيء على نفسه وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء.
بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير، وفي تفاصيله الغريبة للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة.
ومنها أن الحروب تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام، وألف الله بين قلوبهم برسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا، وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر وأدهى وأمر، وذلك قوله - عز وجل -: { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [آل عمران: 103] أي كنتم كذلك بوثنيتكم وشرككم بالله - تعالى - وما يتبعه من الخرافات والمفاسد التي أطفأت نور الفطرة، وهبطت بالأرواح إلى درك سافل حتى كانت كأنها على طرف حفرة يوشك أن تنهار بها في النار، فشفا الحفرة أو البئر: طرفها، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.
قال الراغب: منه أشفى على الهلاك، أي حصل على شفاه. وليس بين المشرك وبين الهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر، فما أعظم منة الله - تعالى - على المؤمنين الصادقين ولا سيما الأولين الذين خوطبوا بهذه الآية أولا: أن أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه وشقائه، وألف بينهم حتى صاروا بهذه الألفة أسعد الناس، ثم صاروا سادات الأرض، وأنقذهم بذلك من النار فكانوا به سعداء الدارين والفائزين بالحسنيين. أفليس أول واجب من شكر هذه النعمة التي لا تفضلها نعمة أن يعرضوا عن وساوس ودسائس أولئك المغرورين بسلفهم من الأنبياء وهم ليسوا على شيء من هدايتهم؟ بلى، فقد وضح الحق وبطل الإفك.
قال الأستاذ الإمام: انظر آية الله، قوم متخالفون بين العداوات والإحن، يتربص كل واحد بالآخر الهلكة على يده، فيأتي الله بهذه الهداية فيجمعهم ويزيل كل ما في نفوسهم من التنافر ويجعلهم إخوانا ترجع أهواؤهم كلها إلى شيء واحد لا يختلفون فيه، وهو حكم الله؛ ولذلك قال: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } [آل عمران: 103] أي ليعدكم ويؤهلكم بها للاهتداء الدائم المستمر فلا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.
ثم قال: التفرق والاختلاف قسمان: قسم لا يمكن أن يسلم منه البشر، فالنهي عنه من قبيل تكليف ما لا يستطاع، وليس بمراد في الآيات، وقسم يمكن الاحتراس منه وهو المراد بها.
أما الأول: فهو الخلاف في الفهم والرأي، ولا مفر منه لأنه مما فطر عليه البشر، كما قال - تعالى -:
{ { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } [هود: 118، 119] فاستواء الناس في العقول والأفهام مما لا سبيل إليه ولا مطمع فيه، إذ هو من قبيل الحب والبغض، فالإخوة الأشقاء في البيت الواحد تختلف أفهامهم في الشيء كما يختلف حبهم له وميلهم إليه.
وأما الثاني: - وهو ما جاءت الأديان لمحوه - فهو تحكيم الأهواء في الدين والأحكام، وهو أشد الأشياء ضررا في البشر؛ لأنه يطمس أعلام الهداية التي يلجأ إليها في إزالة المضار التي في النوع الأول من الخلاف.
أما كون القسم الأول غير ضار فهو ما يعرفه كل أحد من نفسه، ذكر ذلك الأستاذ الإمام وضرب له المثل بنفسه، فقال ما مثاله: إن بيني وبين بعض أصحابي الصادقين في محبتي وإرادة الخير لي خلافا في إلقاء هذا الدرس هنا.
فأنا أعتقد أن إلقاء درس التفسير في الأزهر عمل واجب علي وخير لي، ولا أشك في هذا كما أنني لا أشك في هذا الضوء الذي أمامي، ويوجد من أصحابي من يعتقد أن ترك هذا الدرس خير لي من قراءته، ويحاجوني في ذلك قائلين: إن تأخري لأجل الدرس إلى الليل ضار بصحتي وإنه مثير لحسد الحاسدين لي، ودافع لهم إلى الكيد والإيذاء، وأن الدرس نفسه عقيم؛ لأن أكثر الذين يسمعونه لا يفقهون ما أقول ولا يفهمون، ومن فهم لا يرجى أن يعمل به لغلبة فساد الأخلاق، هذه حجة بعض أصحابي في مخالفة رأيي واعتقادي يصرحون لي بها، ومع ذلك ألقاهم ويلقونني لم ينقص ذلك من مودتنا شيئا، فضلا عن أن يكون مثارا للعداوة والبغضاء بيننا، فأنا أعذرهم في رأيهم مع اعتقادي بإخلاصهم، وهم يعذرونني كذلك، ولنفرض أن الخلاف بيننا في مسألة دينية كأن أعتقد أنا أن فعل كذا حرام وهم يعتقدون حله، أكان يكون بيننا تفرق لأجله؟ كلا لا ريب عندي، إنه لا فرق بين الخلافين وإننا نبقى على هذا الخلاف أصدقاء.
ثم قال ما مثاله مبسوطا: كذلك كان الخلاف بين علماء السلف وأئمة الفقهاء.
فمالك قد نشأ في المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من حسن الحال وسلامة القلوب، فقال: إن عمل أهل المدينة أصل من أصولي؛ لأنهم على حسن حالهم وقرب عهدهم بالنبي وأصحابه لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة عملا. وأما أبو حنيفة فنشأ في العراق وأهلها - كما اشتهر عنهم - أهل شقاق ونفاق، فهو معذور إذ لم يحتج بعملهم ولا بعمل غيرهم قياسا عليهم، ولو اجتمعا لعذر كل منهما الآخر؛ لأنه بذل جهده في استبانة الحق مع الإخلاص لله - تعالى -، وإرادة الخير والطاعة.
وقد نقل عن الأئمة أن كل واحد كان يعذر الآخرين فيما خالفوه فيه، ولكن تنكب هذه الطريقة طوائف جاءت بعدهم تقلدهم فيما نقل من مذاهبهم لا في سيرتهم، حتى صار الهوى هو الحاكم في الدين، وصار المسلمون شيعا، يتعصب كل فريق إلى رأي من مسائل الخلاف، ويعادي الآخر إذا خالفه فيه، وكان من جراء ذلك ما هو مدون في التاريخ، وما ذلك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلوب هؤلاء المتعصبين، وإلا فبالله كيف يصدق أن يكون الإمام الشافعي مثلا مصيبا في كل ما خالف به غيره؟ وإذا كان الصواب في بعض المسائل الاجتهادية مع غيره؟ فكيف يعقل أن يمر أكثر من ألف سنة على فقهاء مذهبه ولا يظهر لهم شيء من ذلك فيرجعوا عن قوله إلى ما ظهر لهم أنه الصواب من مذهب غيره كأبي حنيفة أو مالك؟ وهذا ما يقال في أتباع كل مذهب.
هذا النوع من الخلاف هو الذي ذلت به الأمم بعد عزها، وهوت بعد رفعتها وضعفت بعد قوتها، هو الافتراق في الدين وذهاب أهله مذاهب تجعلهم شيعا تتحكم فيهم الأهواء كما حصل من الفرق الإسلامية، لا يكاد أحدهم يعلم أن الآخر خالفه في رأي إلا ويبادر إلى الرد عليه بالتأليف وبذل الجهد في تضليله وتفنيد مذهبه، ويقابله الآخر بمثل ذلك، لا يحاول أحد منهم محادثة الآخر والاطلاع على دلائله ووزنها بميزان الإنصاف والعدل، فالواجب أولا: محاولة الفهم والإفهام في البحث والمذاكرة - أي ولو كتابة - وثانيا: ألا يكون الخلاف مفرقا بين المختلفين في الدين. قال: فما دام المسلم لا يخل بنصوص كتاب الله ولا باحترام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو على إسلامه لا يكفر ولا يخرج من جماعة المسلمين، فإذا تحكم الهوى فلعن بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث.
ثم قال: ومثل الاختلاف في الدين الاختلاف في المعاملة، لا يجوز أن يكون مفرقا بين المؤمنين، بل يرجعون في النزاع إلى حكم الله وأهل الذكر منهم؛ يعني أولي الأمر، وهم أهل العلم والرأي في مصالح الأمة. فإذا امتثلنا أمر الله ونهيه فاتقينا الخلاف الذي لنا عنه مندوحة، وحكمنا كتاب الله ومن أمر الله بالرجوع إليهم في مسائل النزاع فيما نتنازع فيه أمنا من غائلة الخلاف، وكنا من المهتدين.
ويدخل في كلمة المعاملة التي ذكرها الأستاذ الإمام كل ما يتعلق بالمصالح العامة من المسائل السياسية والمدنية، فالمرجع فيها كلها إلى هدي الكتاب العزيز وسنة الرسول ورأي أولي الأمر، وقد وسعنا القول في مسائل الخلاف من قبل، وذكرنا وجه الخروج منه، فارجع إلى ذلك في تفسير
{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [البقرة: 253] الآية.