التفاسير

< >
عرض

وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٠٤
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٥
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
١٠٦
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١٠٧
-آل عمران

تفسير المنار

قال الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى - ما مثاله: إن الله - تعالى - قد وضع لنا بفضله ورحمته قاعدة نرجع إليها عند تفرق الأهواء واختلاف الآراء، وهي الاعتصام بحبله؛ ولذلك نهانا عن التفرق بعد الأمر بالاعتصام، الذي قلنا في تفسيره: إنه تمثيل لجمع أهوائهم وضبط إرادتهم. ومن القواعد المسلمة: أنه لا تقوم لقوم قائمة إلا إذا كان لهم جامعة تضمهم ووحدة تجمعهم وتربط بعضهم ببعض، فيكونون بذلك أمة حية كأنها جسد واحد، كما ورد في حديث: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه أحمد ومسلم من حديث النعمان بن بشير. وحديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" رواه الشيخان والترمذي، والنسائي من حديث أبي موسى.
فإذا كانت الجامعة الموحدة للأمة هي مصدر حياتها - سواء أكانت مؤمنة أم كافرة - فلا شك أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم لأنهم يعتقدون أن لهم إلها واحدا يرجعون في جميع شئونهم إلى حكمه الذي يعلو جميع الأهواء، ويحول دون التفرق والخلاف، بل هذا هو ينبوع الحياة الاجتماعية لما دون الأمم من الجمعيات حتى البيوت (العائلات) ولما كان لكل جامعة وكل وحدة حفاظ يحفظها أرشدنا - سبحانه وتعالى - إلى ما نحفظ به جامعتنا التي هي مناط وحدتنا - وأعني بها الاعتصام بحبله - فقال: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران: 104]. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ الجامعة وسياج الوحدة.
وقد اختلفت المفسرون في قوله - تعالى -: منكم هل معناه: بعضكم، أم " من " بيانية؟ ذهب مفسرنا (الجلال) إلى الأول؛ لأن ذلك فرض كفاية، وسبقه إليه الكشاف وغيره. وقال بعضهم بالثاني، قالوا: والمعنى: ولتكونوا أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
قال الأستاذ الإمام: والظاهر أن الكلام على حد " ليكن لي منك صديق " فالأمر عام، ويدل على العموم قوله - تعالى -:
{ { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [العصر: 1 - 3] فإن التواصي هو الأمر والنهي، وقوله - عز وجل -: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } [المائدة: 78 - 79] وما قص الله علينا شيئا من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به.
وقد أشار المفسر (الجلال) إلى الاعتراض الذي يرد على القول بالعموم وهو أنه يشترط فيمن يأمر وينهى أن يكون عالما بالمعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه، وفي الناس جاهلون لا يعرفون الأحكام، ولكن هذا الكلام لا ينطبق على ما يجب أن يكون عليه المسلم من العلم، فإن المفروض الذي ينبغي أن يحمل عليه خطاب التنزيل هو أن المسلم لا يجهل ما يجب عليه، وهو مأمور بالعلم والتفرقة بين المعروف والمنكر، على أن المعروف عند إطلاقه يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة، والمنكر ضده وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة، ولا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على الدر، ولا فتح القدير ولا المبسوط، وإنما المرشد إليه - مع سلامة الفطرة - كتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحدا جهله، ولا يكون المسلم مسلما إلا به، فالذين منعوا عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جوزوا أن يكون المسلم جاهلا لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين المعروف والمنكر، وهو لا يجوز دينا.
ثم إن هذه الدعوة إلى الخير والأمر والنهي لها مراتب، فالمرتبة الأولى: هي دعوة هذه الأمة سائر الأمم إلى الخير وأن يشاركوهم فيما هم عليه من النور والهدى، وهو الذي يتجه به قول المفسر: إن المراد بالخير: الإسلام. وقد فسرنا الإسلام من قبل بأنه دين الله على لسان جميع الأنبياء لجميع الأمم، وهو الإخلاص لله - تعالى - والرجوع عن الهوى إلى حكمه، وهذا مطلوب منا بحكم جعلنا أمة وسطا وشهداء على الناس - كما تقدم في سورة البقرة - وخير أمة أخرجت للناس - كما سيأتي بعد آيات مقيدا بكوننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر - وبحكم قوله - تعالى - في وصف المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال:
{ { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } [الحج: 41] فالواجب دعوة الناس إلى الإسلام أولا.
فإن أجابوا فالواجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، قال: وأما كون هذا حفاظا للوحدة ومانعا من الفرقة فهو أن الأمة إذا اجتمعت على هذا المقصد العالي الشريف وهو أن تكون مسيطرة على الأمم كلها ومربية لها ومهذبة لنفوسها فلا شك أن جميع الأهواء الشخصية تتلاشى من بينهم، فإذا عرض الحسد والبغي لأحد من أفرادهم تذكروا وظيفتهم العالية الشريفة التي لا تتم إلا بالتعاون والاجتماع، فأزالت الذكرى ما عرض، وشفت النفوس قبل تمكن المرض.
والمرتبة الثانية في الدعوة والأمر والنهي: هي دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر، والعموم فيها ظاهر أيضا.
وله طريقان، أحدهما: الدعوة العامة الكلية - قال: كهذا الدرس - ببيان طرق الخير وتطبيق ذلك على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس التي يأخذ كل سامع منها بحسب حاله. وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام وحكمة الدين وفقهه، وهم المشار إليهم بقوله - تعالى -:
{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } [التوبة: 122] ومن مزايا هؤلاء: تطبيق أحكام الله - تعالى - على مصالح العباد في كل زمان ومكان، فهم يأخذون من الأمر العام بالدعوة والأمر والنهي على مقدار علمهم.
والطريق الثاني: الدعوة الجزئية الخاصة، وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض، ويستوي فيه العالم والجاهل، وهو ما يكون بين المتعارفين من الدلالة على الخير والحث عليه عند عروضه، والنهي عن الشر والتحذير منه، وكل ذلك من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وكل واحد يأخذ من الفريضة العامة بقدره.
أقول: أما كون هذه المرتبة حفاظا للوحدة وسياجا دون الفرقة فهو ظاهر على الطريق الأول، فلو كان أهل البصيرة والفقه الحقيقي في الدين يعممون دعوتهم وإرشادهم في الأمة ويواصلونها لكانوا موارد لحياتها ومعاقد لرابطة وحدتها، وكذلك على الطريق الثاني، فإن أفراد الأمة إذا قام كل واحد منهم بنصيحة الآخر - دعوة وأمرا ونهيا - امتنع فشو الشر والمنكر فيهم، واستقر أمر الخير والمعروف بينهم.
فكيف تجد الفرقة منفذا إليهم؟ أم كيف يستقر الخلاف في الدين بينهم؟ وناهيك إذا قام - كل على طريقه المستقيم - العلماء الحكماء في مساجدهم ومعابدهم، وجميع الأفراد في منازلهم ومساكنهم ومعاهدهم.
وقد يقال: إننا نرى التصدي لنصيحة الأفراد وأمرهم ونهيهم مجلبة للخلاف والفرقة، لا داعية إلى الوفاق والوحدة، وقد أورد الأستاذ الإمام هذه الشبهة وأجاب عنها، فقال ما مثاله: كيف يكون التآمر والتناهي حافظا للوحدة ونحن نرى الأمر بالعكس؟ نرى التناصح سبب التخاصم والتدابر حتى صار من أعسر الأمور بين الإخوان والأصحاب أن يقول أحدهما للآخر: إنك فعلت كذا وهو منكر فارجع عنه، أو إنك قادر على كذا من المعروف فائته، وذكر عن نفسه -رحمه الله - أنه صار يجد من الصعب جدا - حتى مع من يعده صنيعة له أو ولدا أو أخا - أن ينصحه في الأمر أكثر من مرة خشية أن ينفر وبحمله ذلك على قطع ما بينهما من الرابطة. قال: فكأن النصح لهم من الكليات التي لا يوجد لها إلا فرد واحد، وذكر أنه لهذا النفور من النصح يسلك مع أصحابه والمتصلين به مسلك الكناية والتعريض في الغالب.
وأجاب عن ذلك بأن هذا لا يعد حجة على الله ولا شبهة على دينه؛ لأنه منتهى ما تصل إليه الأمم من الفساد والبعد عن الخير، واستحقاق الغضب الإلهي. وتكاد الأمة التي يفشو هذا فيها أن تكون من الأمم التي تودع منها، وإنما الكلام في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المسلمين الذين كانوا يشعرون بنعمة الله عليهم بالتأليف بين قلوبهم وإنقاذهم من النار بعد أن كانوا قد أشفوا عليها، ومع من يشاركونهم في شعورهم ذاك ويتبعون سنتهم في الاهتداء بما أنزل الله؛ كما وقع بين الأوس والخزرج في الرواية التي سبق ذكرها.
فأمثال هؤلاء هم الذين يصدق عليهم قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"المؤمن مرآة المؤمن" رواه الطبراني في الأوسط والضياء من حديث أنس، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود عن أبي هريرة بزيادة و "المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه" .
قال الأستاذ الإمام: إن ما نحن فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى في زمن طويل بعدما عظم التساهل في ترك التناصح، وبطل رد ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله - أي إلى كتاب الله وسنة رسوله - وخوت القلوب من احترام الدين حتى لم يعد له سلطان على الإرادة، بل صار كل شخص أسير هواه. ومتى أمسى الناس هكذا - لا دين ولا مروءة ولا أدب - فأي فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر؟
عند هذا سأل سائل عن قوله - تعالى -:
{ { ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } [المائدة: 105] فأجاب: إن هذا بعد القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إن الإنسان لا يضره ضلال غيره إذا هو أمره ونهاه؛ فإنه لا يكون مهتديا مع تركه لهذه الفريضة. ثم قال: من العجب أن بعض الناس اشترطوا لهذه الفريضة شرطا لم يأذن به الله ولم ينزله في كتابه، وهو أنه لا يأمر ولا ينهى إلا من كان مؤتمرا ومنهيا، فالمختار عنده ما حققه الإمام الغزالي من عدم اشتراط ذلك، على أن الإمامين يقولان بوجوب كون الواعظ المتصدي للإرشاد والدعوة العامة مهتديا عاملا بعلمه متصفا بما يدعو إليه.
وقد قال الأستاذ الإمام بمنع أولئك الجاهلين الفاسقين الذين ينصبون أنفسهم للوعظ والإرشاد من تسلق هذه الدرجة، وليس ذلك لأنه يشترط في فرضية الأمر والنهي الائتمار والانتهاء، بل لأن المرشد العام محل لقدوة العوام، فإذا كان ضالا يكون كالخمر والميسر إثمه أكبر من نفعه، فهو يمنع منها لدرء المفسدة، ولا يمنع من كل أمر ونهي.
فحاصل رأيه: أن يمنع من منصب الإرشاد الذي قال إنه خاص بالعارفين بأسرار الشريعة وفقهاء النفوس فيها. ومن كان كذلك لا يكون إلا عاملا بعلمه مهتديا بما يهدي إليه؛ لأن العلم الصحيح يوجب العمل، كما قررناه مرارا، وقلنا إنه رأيه ورأي الغزالي، ولا يمنعه من كل نصيحة وأي أمر ونهي بل يأمره بذلك وإن لبسه العار الذي أشار إليه الشاعر بقوله:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وليس مراد الشاعر نهي المتخلق بالخلق السيء أن يأمر بمثله، بل مراده أنه يجب عليه الجمع بين النهي والانتهاء. ومما قاله الغزالي في الإحياء: إنه يجب على من يزني بامرأة أن يأمرها بستر بدنها، أو قال وجهها، وإلا كان مرتكبا لمعصية زائدة عن معصية الزنا ولوازمه، وهي معصية ترك النهي عن المنكر، وكان يقول: يجب على مدير الكأس أن ينهى الجلاس.
وأقول: إن هذه الشبهة التي سئل عنها الأستاذ الإمام قديمة عرضت للناس في الصدر الأول. فقد روى ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وغيرهم من أصحاب المسانيد، والترمذي - وصححه - وأبو يعلى والكجي من أصحاب السنن، وابن حبان والدارقطني في الأفراد، والبيهقي في الشعب وغيرهم، كلهم من طريق قيس بن حازم قال:
" قام أبو بكر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } [المائدة: 105] وإنكم تضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" .
ولابن مردويه عن ابن عباس قال: قعد أبو بكر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم سمي خليفة رسول الله فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مد يده فوضعها على المجلس الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس عليه من منبره، ثم قال: سمعت الحبيب وهو جالس في هذا المجلس يتأول هذه الآية.... ثم فسرها، فكان تفسيره لنا أن قال: نعم ليس من قوم يعمل فيهم بمنكر ويفسد فيهم بقبيح فلم يغيروه ولم ينكروه إلا حق على الله أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال: ألا أكون سمعته من الحبيب صمتا ".
قال الأستاذ الإمام: ويشترط بعضهم للوجوب شرطا آخر، وهو الأمن على النفس، وكان ينبغي أن يقولوا: على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا ينفر الناس أو لا يحملهم على إيذائه، فإن الله يبين أنه لا نجاة للناس إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ولم يشترط في ذلك شرطا، أي فيجب أن نأخذ النصوص على إطلاقها، وأن نقوم بها بقدر الاستطاعة أو الطاقة ونتقي مع ذلك ما يحف بها من المهالك.
أقول: وقد جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان محفوفا بالمكاره والمخاوف، وكم قتل في سبيل ذلك منهم من نبي وصديق فكانوا أفضل الشهداء.
وفي حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله - تعالى - فقتله على ذلك" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن في سنده حفيد العطار لا يدرى من هو، ورواه الديلمي والضياء المقدسي.
وروى الطبراني نحوه عن ابن عباس بسند ضعيف، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" رواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري، وأحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة، وأحمد والنسائي والبيهقي في الشعب أيضا عن طارق بن شهاب. ذكر ذلك في الجامع الصغير، ووضع بجانبه علامة الصحيح.
أقول: ورواه أبو داود في سننه عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ
"أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر" وقد ورد من تصدي علماء السلف لنصيحة الملوك والأمراء الظالمين وإيذاء هؤلاء لهم وسفكهم دماء بعضهم ما يرد شرط أولئك المشترطين للأمن عليهم ويضرب به وجوههم، ولا ينافي هذا كون التوقي من الهلكة واجبا لذاته في هذه الحالة، كما يجب في حال الجهاد بالسيف، فلا نترك الدعوة إلى الخير ولا الجهاد دونه خوفا على أنفسنا وحرصا على الحياة الدنيا، ولا نفرط بأنفسنا في أثناء دعوتنا وجهادنا فيما لا تتوقف الدعوة ولا حمايتها عليه.
وقد يكون أكثر ما يصيب الداعي إلى الخير من الأذى ناشئا عن طريقة الدعوة وكيفية سوقها إلى المدعو ولا سيما إذا كان مسلما وكانت الدعوة مؤيدة بالكتاب والسنة
{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [النحل: 125].
قال الأستاذ الإمام: إن الله - تعالى - أمر الناس بالتواصي بالحق والدعوة إلى الخير، وأمرهم أن يعدوا لذلك عدته ويعرفوا سبله وهي مبسوطة في السنة، كقصة
"ذلك الرجل الذي كان ينادي في الطريق: أريد أن أزني، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وضرب على كتفه وقال: أتفعل هذا بأمك؟ قال: لا. قال: أتفعله بأختك؟ قال: لا، وخجل الرجل وانصرف" . وكقصة الأعرابي الذي عاهد الرسول على ترك الكذب. فهذه هي الحكمة وبها تجب القدوة { { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31] وإنا لن نكون متبعين له حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر على سنته وطريقته، أي في اللطف وتحري الإقناع.
أقول: أما قصة الرجل الذي يريد الزنا فهي كما روى ابن جرير من حديث أبي أمامة
" أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فهم من كان قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتناولوه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، ثم قال له: أتحب أن تفعل هذا بأختك؟ قال: لا، قال: فبابنتك؟ قال: لا، فلم يزل يقول فبكذا فبكذا كل ذلك يقول: لا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فاكره ما كره الله وأحب لأخيك ما تحب لنفسك" كذا في كنز العمال، وذكره الغزالي في باب آداب المحتسب من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء، قال: وقد روى أبو أمامة " "أن غلاما شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قربوه، أدن. فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ وزاد ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداءك " وقالا جميعا في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر: "فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه" - يعني من الزنا - قال الشارح: قال العراقي: رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح.
أقول: أما سياق الأستاذ الإمام فلا أذكر أني رأيته فارجع إليه، وهو قد قصد المعنى دون نص الحديث. وكذلك حديث الأعرابي الذي عاهد على ترك الكذب لا أتذكر مخرجه، وإنما أتذكر أنه أسلم على شرط أن يدع له النبي واحدة من ثلاث اعتادها: الكذب، والخمر، والزنا - فعاهده على ترك الكذب فكان وسيلة إلى ترك الخمر والزنا.
وفي هذا المقام - مقام أمن المتصدي للدعوة والأمر والنهي على نفسه وماله كما قيل - يأتي بحث تغيير المنكر بالفعل، وهو مرتبة غير مرتبة التناصح لا بد فيها من قدرة خاصة. ولذلك قالوا: إنها من خصائص الحكام، فيشترط فيها إذنهم، وفي قول آخر: لا يشترط.
والأصل في ذلك حديث
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي سعيد الخدري، وأنت ترى أن الخطاب فيه للأمة، وقد يقال: إنه إذن منه - صلى الله عليه وسلم - وهو حاكم المسلمين في زمنه فهو تشريع وتنفيذ.
وقال الأستاذ الإمام في الدرس: هنا يخلطون بين النهي عن المنكر وتغيير المنكر الذي جاء في حديث من رأى منكم منكرا فليغيره وهذا شيء آخر غير النهي ألبتة، فإن النهي عن الشيء إنما يكون قبل فعله وإلا كان رفعا للواقع أو تحصيلا للحاصل، فإذا رأيت شخصا يغش السمن - مثلا - وجب عليك تغيير ذلك ومنعه منه بالفعل إن استطعت، فالقدرة والاستطاعة هنا مشروطة بالنص.
فإن لم تقدر على ذلك وجب عليك التغيير باللسان وهو غير خاص بنهي الغاش ووعظه بل يدخل فيه رفع أمره إلى الحاكم الذي يمنعه بقدرة فوق قدرتك. أما التغيير بالقلب فهو عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضى بفعله، وللنهي طرق كثيرة وأساليب متعددة ولكل مقام مقال.
قال: نعم إن دعوة الأمة غيرها من الأمم إلى الخير الذي هي عليه لا يطالب بها كل فرد بالفعل إذ لا يستطيع كل فرد ذلك، وإنما يجب على كل فرد أن يجعل ذلك نصب عينيه حتى إذا عن له بأن لقي أحدا من أفراد تلك الأمم دعاه، لا أنه ينقطع لذلك ويسافر لأجله، وإنما يقوم بهذا طائفة يعدون له عدته، وسائر الأفراد يقومون به عند الاستطاعة، فهو يشبه فريضة الحج، هي فرض عين ولكن على المستطيع، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد من فريضة الحج، ولم يشترط فيها الاستطاعة لأنها مستطاعة دائما. عند هذا قال قائل: إن من الناس من لا يستطيع ذلك قطعا، فرد عليه قوله وضرب له مثلا طائفة الشيعة فإنهم لما كانت الدعوة ملتزمة عندهم صاروا كلهم دعاة عندما يعن لهم من يدعونه، وذكر أنه لما كان في بيروت احتاج إلى ظئر لإرضاع بنت له فجيء بظئر شيعية من المتأولة فكانت في الدار تدعو النساء إلى مذهبها. وقال: إن رعاة الإبل من الصحابة والتابعين كانوا يدعون كل أحد إلى الإسلام حتى الملوك والأمراء، فهذا يدل على أن الأمة إذا أرادت الدعوة لا يقف في سبيلها شيء، وقد تقدم قوله: إن الجهل ليس بعذر للمسلم لأنه يجب أن يكون عالما.
ثم قال ما حاصله: جملة القول أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض حتم على كل مسلم كما تدل عليه الآية في ظاهرها المتبادر، وغيرها من الآيات كقوله - تعالى -:
{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } [المائدة: 79] وكذلك عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -. وكون هذا حفاظا للأمة وحرزا ظاهر؛ فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض على ارتكاب المنكرات خرجوا عن معنى الأمة وكانوا أفذاذا متفرقين لا جامعة لهم؛ ولهذا ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمداهن مثل راكب في سفينة يطوف على جماعة معه بماء وكل ينفر مما معه فقال لهم: إني في حاجة إليه وذهب ينقر في السفينة فإن أخذوا على يده نجوا ونجا معهم وإلا هلك وهلكوا جميعا. ففشو المنكرات مهلكة للأمة { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [الأنفال: 25] فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع كالكذب والخيانة والحسد والغش، فهذا ليس من فروض الكفاية التي يتواكل فيها الناس كصلاة الجنازة إذ لا يجب على كل من علم أن هنا ميتا أن ينتظر غسله ليصلي عليه بل يكفي أن يعلم أنه يوجد من يصلي عليه، ولكنه إذا رأى منكرا وجب عليه أن ينهى عنه ولا ينتظر غيره لأنه تغيير على رأيه. أقول: ويظهر تذييل الآية بقوله - تعالى -: { وأولئك هم المفلحون } على هذا الوجه ما لا يظهر على الوجه الآتي فهو يقول: إن القائمين بما ذكر هم الفائزون بما أعده الله من السعادة لأهل الحق دون سواهم، ولا يصح أن يكون خاصا بالقائمين بفرض الكفاية، وفسره الأستاذ الإمام بالفلاح في الدنيا، فالأمة التي تترك ذلك تكون من الخاسرين لا المفلحين.
قال الأستاذ الإمام: بقي علينا بيان معنى الآية على القول بأن " من " للتبعيض وتقدير الكلام: ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين كافة، فهم المكلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، فهاهنا فريضتان إحداهما على جميع المسلمين والثانية على الأمة التي يختارونها للدعوة، ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة، وليس معناه الجماعة - كما قيل - وإلا لما اختير هذا اللفظ، والصواب أن الأمة أخص من الجماعة، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص.
والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب، وقد كان المسلمون في الصدر الأول لا سيما زمن أبي بكر وعمر على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، حتى كان الصعلوك من رعاة الإبل يأمر مثل عمر بن الخطاب - وهو أمير المؤمنين - وينهاه فيما يرى أنه الصواب.
ولا بدع فالخلفاء على نزاهتهم وفضلهم ليسوا بمعصومين، وقد صرح عمر بخطئه ورجع عن رأيه غير مرة.
قال: ومن العبر في هذا المقام: تنفيذ بلال الحبشي العتيق لأمر عمر بمحاسبة خالد بن الوليد سيد بني مخزوم بعد تبليغه عزله عن قيادة الجيش بالشام. وذكر مجمل القصة، وهي أن عمر كتب عندما ولي الخلافة إلى أبي عبيدة وهو في جيش على الشام يوليه إمارة الجيش العامة ويعزل خالدا عنها، وكان الجيش على حصار دمشق أو في اليرموك (روايتان) فكتم أبو عبيدة الأمر وكبر عليه أن يظهره قبل أن يتم لهم النصر، ولما أبطأ على عمر الجواب كتب إلى أبي عبيدة ثانية يأمره فيه بأن يقرأه على ملأ من المسلمين، وفيه الإذن بأن يعتقل خالد بعمامته ويحاسب على ما كان منه في إمارته، فهابه أبو عبيدة لشرفه وشجاعته وبلائه في الحرب وحب الجيش له، ولكنه لما قرأ الكتاب قام بلال الحبشي من فقراء الموالي (العتقاء) وحل عمامة خالد واعتقله بها وسأله عما أمر به عمر، فخضع وأجاب. فانظروا ما فعل هدي الإسلام بهؤلاء الكرام، يقوم مولى من الفقراء إلى السيد القرشي العظيم والقائد الكبير فيعقله بعمامته على أعين الملأ الذين كان أميرهم وقائدهم ويحاسبه فيجيبه عن كل ما سأله.
وروي أنه بعد أن أطاع وأجاب داعي الخليفة أعاد إليه بلال قلنسوته وعممه بيده قائلا: نسمع ونطيع ونفخم موالينا (جمع مولى وهو هنا بمعنى السيد)، وروي أيضا أن عمر استحضر خالدا إلى المدينة واعتذر له بعد العتاب بأنه لم يعزله ويأمر فيه بما أمر لريبة وإنما رأى أن الناس افتتنوا به وخاف عليه أن يفتتن بهم، وقيل إنه قال له: خفت أن يعبدك أهل الشام.
قال الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى - ما مثاله مع شيء من التفصيل: إذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مكلفا الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية، فهم مكلفون بمقتضى هذا الوجه الثاني أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه وتقدر على تنفيذه إن لم يوجد ذلك بطبعه كما كان في زمن الصحابة، فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب على كل مكلف أن يشترك فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا، فإنه يتيسر لأهل كل قرية أن يجتمعوا ويختاروا منهم من يرونه أهلا لهذا العمل-
وعبارة الأستاذ: ويختاروا واحدا منهم أو أكثر، كأنه يريد بالواحد أن ينضم إلى من يختار من سائر القرى والبلاد لأجل الضرب في الأرض للدعوة إلى الإسلام في غير بلاده، أو لإقامة بعض الفرائض والشعائر، أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين، وإلا فالواجب على أهل القرية أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليهم لفظ " الأمة " ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة ليتولوا إقامة هذه الفريضة فيها، كما يجب ذلك في كل مجتمع إسلامي سواء كان في الحواضر أو البوادي، فإن معنى الأمة يدخل فيه معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم - حتى في إقامة هذه الفريضة عند تشعب الأعمال فيها - كأنهم شخص واحد كما هو ظاهر وصرح به الأستاذ في هذا المقام.
قال: وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي هي من شأن الحكام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره، وتقرير الأحكام وأمور العامة الشخصية، ويشترط فيها العلم بذلك، ولذلك جعلت أمة، وفي معنى الأمة القوة والاتحاد، وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة والاتحاد، فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب من الأفراد، ولا تعتذر بالضعف يوما ما، فتترك ما عهد إليها وهو ما لو ترك لتسرب الفساد إلى مجموع المسلمين.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول ولا سيما على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - على هذه الطريقة، فقد كانت خاصة الصحابة الذين عاشروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقوا عنه متواصلين متكاتفين، يشعر كل منهم بما يشعر به الآخر من الحاجة إلى نشر الإسلام وحفظه، ومقاومة كل ما يمس شيئا من عقائده وآدابه وأحكامه ومصالح أهله، وكان سائر المسلمين تبعا لهم، ولا نتكلم هنا فيما طرأ على الإسلام فأزال تلك الوحدة ولكننا نذكر ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، أي القائمة بالواجبات التي هي قوام الوحدة وحفاظها، فإن أعمالها لا تتم إلا بأمور كثيرة.
أقول: وذكر أمورا مجملة على سبيل المثال نفصلها ونزيد عليها فنقول:
1- العلم التام بما يدعون إليه - ذكر الأستاذ ذلك ولم يبينه هنا، وقال في موضع آخر: إن أول ما يجب على هؤلاء الدعاة العلم بالقرآن، والعلم بالسنة وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -، وسلف الأمة الصالح، وبالقدر الكافي من الأحكام، فهذا شيء من البيان وهو في نفسه يحتاج إلى بيان وتفصيل، أهمه أن العلم بالقرآن إنما ينظر فيه قبل كل شيء إلى كونه هدى وعبرة وموعظة على نحو تفسيرنا هذا، وكذلك السنة وما صح من أقوال الرسول وسيرته وينظر في هذا أيضا إلى الفرق بين ما تواتر عملا وما صح سندا وما ليس كذلك.
2- العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شئونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم، أو ما يعبر عنه في عرف العصر بحالهم الاجتماعية، وقد روي أن من أسباب ارتضاء الصحابة بخلافة أبي بكر كونه أنسب العرب، وليس معنى كونه أعلم بالأنساب أنه كان عنده كتاب " بحر الأنساب " يراجع فيه، وإنما معناه أنه كان أعلمهم بأحوال قبائل العرب وبطونها، وتاريخ كل قبيلة وسابق أيامها، وأخلاقها كالشجاعة والجبن والأمانة والخيانة، ومكانها من الضعف والقوة والغنى والفقر، وما كان إقدامه - مع لينه وسهولة خلقه التي يعرفها له كل أحد حتى الإفرنج - على حرب أهل الردة إلا لهذا العلم الذي كان به على بصيرة، فلم يهب ولم يخف، وقد خاف عمر وأحجم على شدته المعروفة على الكافرين والمنافقين؛ أي خاف أن تضعف بمحاربتهم شوكة الإسلام... حتى قال أبو بكر: " والله لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه " فهذه قوة العلم لا قوة الجهل، وأقول: إن العلم الخاص بحال من توجه إليهم الدعوة من هذه الوجوه لا بد أن يكون فرعا للعلم بهذه العلوم في نفسها، وسأبين ذلك.
3- مناشئ علم التاريخ العام ليعرفوا الفساد في العقائد والأخلاق والعادات، فيبنون الدعوة على أصل صحيح، ويعرفون كيف تنهض الحجة ويبلغ الكلام غايته من التأثير، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال؛ ولهذا كان القرآن مملوءا بعبر التاريخ.
4- علم تقويم البلدان ليعد الدعاة لكل بلاد منها عدتها إذا أرادوا السفر إليها، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم أهل زمانهم بالتاريخ وما يسمى الآن بتقويم البلدان وبالجغرافيا؛ ولذلك أقدموا على الفتوح ومحاربة الأمم فانتصروا عليهم بالعلم لا بالجهل، فلو كانوا يجهلون مسالك بلادهم وطرقها ومواقع المياه وما يصلح موقعا للقتال فيها لهلكوا، وكان الجهل أول أسباب هلاكهم، ومن قرأ ما حفظ من خطبهم وكتبهم التي كانوا يتراسلون بها، ومحاوراتهم في تدبير الأعمال يظهر له ذلك بأجلى بيان.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله: ومن الناس من ينفر من التاريخ وتقويم البلدان الذي هو فرع من فروعه، وما أضر هؤلاء إلا بأنفسهم وأمتهم!! فقد قطعوا الصلة بينهم وبين القدوة الصالحة من سلفهم حتى صار أكثر المسلمين لا يعرفون مبدأ الإسلام ولا كيفية نشأته ولا كيف انتسبوا إليه، فالتاريخ يعرف الإنسان بنفسه من حيث هو متدين إن كان له دين، أو من حيث هو إنسان إن كان من بني الإنسان، وما أضر بالفقه شيء كالجهل بالتاريخ؛ لأننا لو حفظنا تاريخ الناس - ومنه عاداتهم وعرفهم ومصالحهم في البلاد التي كان فيها المجتهدون الواضعون لهذا الفقه - لكنا نعرف من أسباب خلافهم ومدارك أقوالهم مالا نعرفه اليوم، فما كان ذلك الخلاف جزافا ولا عبثا. ألم تر أن الشافعي وضع بعد مجيئه إلى مصر مذهبا جديدا غير المذهب القديم الذي كان عليه أيام لم يكن خبيرا بغير الحجاز والعراق.
وكذلك كان ما خالف به أبو يوسف أستاذه أبا حنيفة مما يرجع الكثير منه إلى ما اختبره من حال الناس في مصالحهم ومنافعهم وعرفهم، فبالله كيف ينتسب امرؤ إلى إمام ويشتغل بعلم مذهبه وهو لا يعرف تاريخه وتاريخ عصره!! وجملة القول: أن الجاهل بالتاريخ لا يصلح أن يكون فردا من الأمة الداعية إلى الإسلام الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر في الأمور العامة على الوجه الذي يرجى قبوله.
5- علم النفس وهو يساوي علم التاريخ في المكانة والفائدة، أي العلم الباحث عن قوى النفس وتصرفها في علومها وتأثير علومها في أعمالها الإرادية. مثال ذلك أن الأصل أن يكون العمل تابعا للعلم ولكن كثيرا من الناس يعتقدون أن عمل كذا ضار ويأتونه، وعمل كذا نافع ويتركونه (والمحرم شرعا كله ضار والحلال كله نافع) فما هو السبب في ذلك؟ وهل يحسن دعوة هؤلاء إلى الخير وإقناعهم بترك الشر من لا يعرف لماذا تركوا الخير واقترفوا الشر؟ فهذه المعرفة هي من علم النفس الذي يؤخذ منه أن من العلم ما يكون صفة للنفس حاكمة على إرادتها مصرفة لها في أعمالها، ومنه ما هو صورة تعرض للذهن لا أثر لها في الإرادة فلا تبعث على العمل وإنما يكون مظهره القول أحيانا.
وقد كان الصحابة - عليهم الرضوان - على حظ عظيم من هذا العلم، فإنهم كانوا بسلامة فطرتهم وذكاء قريحتهم وبما هداهم القرآن بآياته والرسول ببيانه وسيرته على بصيرة من هذا العلم - وإن لم يتدارسوه بطريقة صناعية - فقد كان علمهم به كعلم الواضعين له من الحكماء أو أرسخ، كما يدل عليه ما يؤثر عنهم من الحكم، وما نجحوا به في الدعوة، وظهروا في مواطن الحجة، وعبارة الأستاذ الإمام في هذه المسألة: ولا تظنوا أن الصحابة لم يكن عندهم شيء من هذا العلم إذ لم يكونوا يدرسونه في الكتب ويتلقونه عن المعلمين، فإنكم إذا قرأتم التاريخ وعرفتم كيف كانوا يتجالدون في الحرب، ويتجادلون في مواقع الخطب، بمجرد الفطرة التي بعدنا عنها أمكنكم أن تعرفوا مكانهم منه، نعم إن الإنسان في كل زمن يحتاج إلى نوع من طرق التعليم غير ما كان في الزمن الذي قبله، فالحقيقة الواحدة قد تختلف طرق العلم بها باختلاف الزمان والمكان والأحوال.
6- علم الأخلاق وهو العلم الذي يبحث فيه عن الفضائل وكيفية تربية المرء عليها، وعن الرذائل وطرق توقيه منها وهو ضروري، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين يغني بشهرته واستفاضته عن إطالة الكلام فيه، وقد خطر ببالي الآن كلمة عمر - رضي الله عنه - في الحياة الزوجية فأحببت أن أوردها، وهي قوله للمرأة التي صرحت لزوجها بأنها لا تحبه: " إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما يبنى على المحبة، وإنما الناس يتعاشرون بالحسب والإسلام " فهذه الكلمة الجليلة لا تخرج بالبداهة هكذا إلا من فم حكيم قد انطوى في نفسه علم الأخلاق وعلم الاجتماع أيضا، ووقف مع ذلك على أحوال الناس واختبرهم أتم الاختبار.
7- علم الاجتماع. ولم يذكره الأستاذ الإمام تفصيلا ولا إجمالا، ولعل سبب ذلك عدم وجود كتب فيه بالعربية يرغب طلاب الأزهر فيها إلا ما في مقدمة ابن خلدون، وهو العلم الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها وتدليها وترقيها؛ على أن هذا العلم مستمد من علم التاريخ وعلم الأخلاق، فمن كان له حظ عظيم منهما فإنه قد يستغني به عن هذا العلم في بناء الدعوة والإرشاد على قواعد الحكمة والسداد، وإن كانت دراسته مزيد كمال فيه وفي فوائده العظيمة.
وقد ذكرته للترغيب فيه وحث أهل الاستعداد منا على التصنيف فيه والاستعانة بما صنفه الغربيون على ذلك ليتمكن كل مريد له من تناوله؛ إذ ليس كل مطلع على التاريخ وعلم الأخلاق أهلا لاستنباط قواعد علم الاجتماع منهما وإنما يكون ذلك للأقلين من العقلاء وهم لا يستغنون عن الوقوف على ما اهتدى إليه من كتبوا في ذلك من قبلهم. وقد جاء في القرآن كثير من قواعد هذا العلم فغفل أكثر المفسرين عنه ولم يهتد إلى فقه بعضه إلا قليل منهم؛ إذ لم يكن هذا العلم مدونا في عهدهم فينبههم إلى ذلك، وقد تقدم في تفسيرنا هذا بيان كثير من تلك القواعد، وسنعقد له فصلا حافلا في مقدمة التفسير التي نبين فيها فقه القرآن في جملته إن شاء الله - تعالى -.
8- علم السياسة وقد ذكره الأستاذ الإمام هنا مجملا وليس مراده به السياسة الشرعية التي كتب فيها ابن تيمية وغيره، وإن كانت مما لا يستغنى عنها ولكنها داخلة في علم الكتاب والسنة والأحكام، وإنما المراد به العلم بحال دول العصر وما بينهما من الحقوق والمعاهدات وما لها من طرق الاستعمار. فالأمة التي تؤلف للدعوة في بلاد غير بلاد المسلمين المستقلة لا يتيسر لها ذلك إذا لم تكن عارفة بسياسة حكومة تلك البلاد، وهذا شيء غير ما تقدم من اشتراط معرفة حال من توجه إليهم الدعوة، والسياسة بهذا المعنى لم تكن في عصر الصحابة.
9- العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها، وقد ورد في صحيح البخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بعض الصحابة بتعلم اللغة العبرانية لأجل اليهود الذين كانوا مجاورين له على أنهم كانوا قد استعربوا، فما كانت معرفة لغتهم الأصلية إلا مزيد كمال في الفهم عنهم ومعرفة حقيقة شأنهم. ولا يقال: إن الأمة التي تؤلف للدعوة إلى الإسلام يمكنها أن تستغني عن تعلم لغات الأمم بالمترجمين من غير المسلمين، فإنها إن ظفرت بالمترجم الأجنبي الأمين لا يتيسر لها أن تفهمه من حقيقة الدين عند الترجمة ما يفهمه العالم المسلم، وإنما يلجأ إلى مثل ذلك عند الضرورة. أما إذا أمكن تأليف جمعية للدعوة فالواجب أن يكون فيها من المسلمين العارفين باللغات من يكفيها الحاجة إلى ترجمة الأجنبي كما تفعل جمعيات الدعوة إلى النصرانية فإن أفرادا منها يتعلمون لغات جميع الأمم.
ولم يبين الأستاذ الإمام هذا في الدرس؛ لأنه لم يتصد إلى بيان كل ما يتوقف عليه العمل في تعميمه وكماله، وإنما ذكر ما ذكره على سبيل المثال لتنبيه الأذهان والترغيب فيما يتيسر لأهل الأزهر في هذا الزمان، ولو شرح في هذا المقام فوائد تعلم اللغات الأجنبية وتوقف ما يجب من الدعوة إلى الإسلام عليها لقام أعداء الإصلاح وخاذلو الدين القاعدون له كل مرصد يصيحون في الجرائد والمحافل بأن الشيخ المفتي يريد أن يهدم الدين في الأزهر بحث طلابه على تعلم اللغات الأجنبية كما فعلوا مثل ذلك عند حثه إياهم على تعلم التاريخ وتقويم البلدان وبعض الفنون الرياضية، وإن صياحهم في مسألة اللغات يكون أوضح شبهة عند الجمهور الجاهل، وليس هذا البحث بأجنبي عن التفسير، بل هو أولى من مباحث الرازي في علوم اليونان وتوسع غيره في الإسرائيليات أو اللغويات؛ لأن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن وطرق الاهتداء به في هذا الزمان، ولن نكون مهتدين به حتى تكون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر من الطرق التي يرجى نفعها وذلك يتوقف على ما ذكرناه. فوجب علينا أن نبين خطأ من يصد عنه.
10- العلم بالفنون والعلوم المتداولة في الأمم التي توجه إليها الدعوة ولو بقدر ما يفهم به الدعاة ما يورد على الدين من شبهات تلك العلوم، والجواب عنها بما يليق بمعارف المخاطبين بالدعوة.
11- معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها ليتيسر للدعاة بيان ما فيها من الباطل، فإن من لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه، وقد كنت كتبت في سنة المنار الثالثة مقالة في الدعوة وطريقها وآدابها جعلت فيه هذا الشرط وما قبله واحدا، فقلت فيه (ص 484 م 3).
ثالثها - أي الشروط - الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية، والعلوم والفنون الدنيوية، ما يتعلق منها بالدعوة ويصلح أن يكون شبهة، ومن جهل هذا القدر كان عاجزا عن إزالة الشبهات، وحل عقد المشكلات، ومن فاته هذا الشرط وما قبله - وهو العلم بالأخلاق والعادات - لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام، كما كان شأن سادة الدعاة - عليهم الصلاة والسلام -، ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية أن ما كان من جهلهم بالعلوم الكونية ومعاداتهم لها، وتحكيمهم الدين فيها مؤذن باضمحلالها، ومفض إلى زوالها، فأخذوا بزمامها، وقادوها بخطامها، وقربوا بين عالمي الملك والملكوت، وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت، وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين، وإعلاء كلمته بين العالمين. وديننا هو الذي ربط بين العالمين، ولكننا نقطع الروابط، وجمع بين العلمين ولكننا نهدم الجوامع، ولهذا جهلنا وتعلموا، وسكتنا وتكلموا، وتأخرنا وتقدموا، ونقصنا وزادوا، واستعبدنا وسادوا ". اهـ.
كل هذا من الشروط العلمية، وللدعوة شروط أخرى تتعلق بتربية الدعاة على الأخلاق والآداب التي تشترط في الدعاة إلى الحق سنشرحها في تفسير
{ { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [النحل: 125] إن أمهل الزمان. وإن لنا أن نأخذ مما استدل به الفقهاء على وجوب تعلم فنون العربية والحديث والفقه والأصول لأجل فهم الدين دليلا على وجوب تعلم طرق الدعوة وما تحتاج إليه في هذا الزمان بطريقة صناعية، فإذا كانت الدعوة في الصدر الأول قد تيسرت بغير تعليم صناعي ولا تأليف جمعية معينة كما كان فهم الدين متيسرا بغير تعلم صناعي ففي هذا الزمان يتوقف فهم الدين على التعليم الصناعي، وتتوقف الدعوة إليه والأمر بما جاء به من المعروف وما حظره من المنكر على تعليم خاص وتأليف جمعيات خاصة تقوم بهذا العمل، ولا ينتشر الدين ولا يحفظ على وجهه إلا بهذا كما تقدم التنويه به، فالمراد بالأمة التي تقيمها الأمة لذلك ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالجمعية.
قال الأستاذ الإمام: ومن أعمال هذه الأمة الأخذ على أيدي الظالمين، فإن الظلم أقبح المنكر، والظالم لا يكون إلا قويا ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة؛ لأن الأمة لا تخالف ولا تغلب كما تقدم، فهي التي تقوم عوج الحكومة، والمعروف أن الحكومة الإسلامية مبنية على أصل الشورى، وهذا صحيح والآية أدل دليل عليه ودلالتها أقوى من قوله - تعالى -:
{ { وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38] لأن هذا وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر ما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه محمود عند الله - تعالى -، وأقوى من دلالة قوله: { وشاورهم في الأمر } [آل عمران: 159] فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبه عليه ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم. وقد ورد في الحديث " "لا بد أن يأطروهم على الحق أطرا" .
هكذا نقل بعض الطلاب هذا الحديث عن الأستاذ الإمام وفسره عنه بأن معناه يفنوهم أي الظالمين ويبيدوهم وهو كما في كنز العمال معزو إلى أبي داود من حديث ابن مسعود: " "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده.
فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم "
وعنه عند أحمد والترمذي: " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي فنهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا" " وقد أورد الفقرة الأخيرة من الرواية الأولى في لسان العرب بضمير المفرد وقال: قال أبو عمرو وغيره قوله: " تأطروه على الحق " تعطفوه عليه. اهـ.
أقول: ومعنى الآية على هذا الوجه أنه يجب أن تكون قوة المسلمين تابعة لهذه الأمة التي تقوم بفريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي بمعنى مجالس النواب في الحكومات الجمهورية والملكية المقيدة، فكأن الآية بيان لكون أمر المسلمين شورى بينهم، وما ذكره في معنى
{ { وأمرهم شورى } [الشورى: 38]ومعنى { { وشاورهم في الأمر } [آل عمران: 159] لعله يريد به أنه يمكن أن يقال فيهما كذا، وإلا فكل من النصين دال على وجوب كون حكومة المسلمين شورى، ومجيء النص الأول في الذكر بصيغة الخبر يؤكد كونه فرضا حتما، كما عهد نظير ذلك في الأساليب البليغة ومر معنا كثير منها راجع تفسير { { يتربصن بأنفسهن } [البقرة: 228] الآية، والنص الثاني صريح في الوجوب والضامن له الأمة المخاطبة بالتكاليف في أكثر النصوص. وإنما الآية التي نفسرها تفصيل لكيفية الضمان كما يأتي مبينا عنه -رحمه الله تعالى -.
قال: ومما يناط بهذه الأمة - وهو أصل كل معروف - النظر في تعليم الجاهلين، فإذا علمت أن في مكان ما طائفة من المسلمين جاهلين بما يجب اتخذت الوسائل لتعليمهم، ومن هنا يعلم فساد ما يقوله كثير من الفقهاء من أنه لا يجب عليهم أن يتصدوا لتعليم الناس ما لم يسعوا إليهم ويسألوهم، ولا يجهل أحد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تصدى لتعليم الناس ولم يقعد في بيته منتظرا سؤال الناس ليفيدهم، وكذلك فعل الصحابة عليهم الرضوان اهتداء بهديه.
قال: ثم إن كون القائمين بالأمر والنهي أمة يستلزم أن يكون لها رياسة تدبرها؛ لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلا معتلا، فكل كون لا رياسة فيه فاسد، فالرأس هو مركز تدبير البدن وتصريف الأعضاء في أعمالها، وكذلك يكون رئيس هذه الأمة مصدر النظام وتوزيع الأعمال على العاملين، فمنهم من يوجهون إلى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ومنهم من يوجهون إلى إرشاد المسلمين في بلادهم، ومقام الرياسة يختار بالمشاورة لكل عمل ولكل بلاد من يكونون أكفاء للقيام بالواجب فيها؛ لتكون أعمالهم مؤدية إلى مقصد الأمة العام، فإن من معنى الأمة أن يكون للأفراد الذين تتكون منهم وحدة في القصد من أعمالهم وسيرهم فإذا اختلفت المقاصد فسد العمل باختلاف الآراء وتنكيث القوى؛ ولذلك جاء بعد هذه الآية النهي عن التفرق والاختلاف.
قال: ثم إن كون الأمة الخاصة منتخبة من الأمة العامة يقتضي أن تكون للعامة رقابة وسيطرة على الخاصة تحاسبها على تفريطها ولا تعيد انتخاب من يقصر في عمله لمثله. فالأمة الصغرى المنتخبة (بفتح الخاء) تكون مسيطرة على أفراد الأمة الكبرى المنتخبة (بكسر الخاء) وهذه تكون مسيطرة على الأمة الصغرى، وبهذا يكون المسلمون في تكافل وتضامن.
بعد أن أمر الله - سبحانه وتعالى - بأن تكون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين أن أولئك هم المفلحون دون سواهم - لأنهم هم الذين يقيمون الدين ويحفظون سياجه، وبهم تتحقق الوحدة المقصودة منه - نهانا عن التفرق والاختلاف الذي يذهب بتلك الوحدة ويتعذر معه القيام بتلك الدعوة الصالحة فقال عز من قائل: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [آل عمران: 105] وهم أهل الكتاب، تفرقوا في الدين وكانوا شيعا كل شيعة تذهب مذهبا يخالف مذهب الأخرى، وصار كل ينصر مذهبه ويدعو إليه ويخطئ ما سواه حتى تعادوا واقتتلوا على ذلك، راجع تفسير آية
{ { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } [البقرة: 253] في الجزء الثالث من التفسير، ولو كانوا أمة أو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر معتصمين بحبل واحد متوجهين إلى غاية واحدة لما تفرقوا في المقاصد، ولو لم يتفرقوا لما اختلفوا في الدين وتعددت فيهم المذاهب في أصوله وفروعه حتى قتل بعضهم بعضا، فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم.
فهذه الآية متممة لقوله - تعالى -: واعتصموا بحبل الله وما بعدها، فالاعتصام بحبل الله هو الأصل وبه يكون الاجتماع والاتحاد الذي يجعل الأمة كالشخص الواحد، والدعوة إلى الخير هي التي تغذو هذه الوحدة وتمدها وتنميها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم به أمة قوية هو الذي يحفظها ويؤيدها ويشد أزرها.
قال الأستاذ الإمام: إن هذه الآية كالدليل على أنه يجب أن تكون وجهة الأمة الداعية الآمرة الناهية واحدة؛ لأن الذين سبقوهم ما أفلحوا لعدم وحدتهم، كأنه يقول: لا يمكن أن تتكون فيكم أمة للدعوة والأمر والنهي إلا إذا اجتمعت على مقصد واحد، فالترتيب في الآيات طبيعي، إذ من البديهي أن المتفقين في المقصد لا يختلفون اختلافا ضارا ينافيه، وإنما يقع الاختلاف بعد التفرق في المقاصد والتباين في الأهواء بذهاب كل إلى تأييد مقصده وإرضاء هواه فيه، والاختلاف في الرأي لأجل تأييد المقصد المتفق عليه لا يضر بل ينفع، وهو طبيعي لا مندوحة عنه.
أقول: وقد أورد الإمام الرازي لاتصال هذه الآية بما قبلها قولين أقربهما ثانيهما، وإن كان الأول منهما صحيحا في نفسه فقال: " في النظم وجهان:
(الأول) أنه - تعالى - ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة، ثم إنه - تعالى - أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله، ثم ختم ذلك بأن حذر من مثل فعل أهل الكتاب وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص، فقال: ولا تكونوا أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات كالذين تفرقوا واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة. فعلى هذا الوجه تكون من تتمة جملة الآيات.
و (الثاني) وهو أنه - تعالى - لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتعالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم - تعالى - من الفرقة والاختلاف؛ لكيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف. وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط " اهـ. وما قاله صحيح، ولكن الوجه في تفسيرها واتصالها بما قبله هو ما جرينا عليه آنفا.
وعلم مما بينا أن الاختلاف المنهي عنه هو ما كان ناشئا عن التفرق لا كل اختلاف وإن كان في وسائل تأييد المقصد مع حسن النية الذي لا يدوم معه خلاف، وإذا دام في مسألة فإنه لا يضر؛ لأنه لا يترتب عليه اختلاف في العمل، إذ المتفقون المخلصون يرجع بعضهم إلى قول من ظهر على لسانه البرهان منهم وإلا عملوا برأي الأكثرين فيما لا يظهر للأقلين برهانه.
قال الأستاذ الإمام: ولا نخوض في أقوال المئولين المتحككين بالألفاظ على الطريقة التي يعبرون عنها بالتحقيق والتدقيق كحمل بعضهم التفرق على ما يكون في العقائد، والاختلاف على ما يكون في الأحكام، وادعاء بعضهم أنها بمعنى واحد، فالآية ظاهرة المعنى. أقول: ومن الأقوال التي أوردها الرازي أنهم تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة، ثم اختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة مذهبه. وهذا واقع ولكنه تفسير الاختلاف في المذاهب وما ينشأ عنه وكله أثر للتفرق. ومنها أنهم تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل.
قال الأستاذ الرازي بعد إيراد هذا القول: " وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة " اهـ.
أقول: وتبع الرازي في قوله هذا في العلماء نظام الدين الحسن النيسابوري في تفسيره (كعادته) فقال بعد ذكر تفرق الأحبار واختلافهم: " ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة، فنسأل الله العصمة والسداد " اهـ. وسبقهما حجة الإسلام الغزالي إلى بيان سوء حال العلماء في الاختلاف ما عدا الأفراد الذين ينكرون التقليد ويقولون بوجوب الاعتصام بحبل الله - وهو كتابه - وعدم التفرق والاختلاف، ولكن صوت هؤلاء الأفراد لا يسمع بين جلبة جمهور العلماء ولا سيما أصحاب المناصب والحظوة عند الأمراء والملوك الذين يدعمون سلطتهم بجمهور العلماء الذين يتبعهم العامة.
ومن العجيب أن هؤلاء العلماء الأفراد الذين تنبهوا في القرون الوسطى إلى سوء حال علماء الإسلام الذين يلقبهم الغزالي بعلماء السوء لم يحاولوا معالجة هذا الداء واصطلام أرومته، وهو تفرق المذاهب والتعصب لها بالدواء الذي وصفه الله - تعالى - في كتابه، وهو تأليف أمة تدعو إلى الاعتصام وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بل اكتفى بعضهم بالشكوى من ذلك وإنكاره في الكتب التي يؤلفها كالإمام الرازي، أو باللسان لبعض تلاميذه كما نقل الرازي عن أكبر شيوخه في تفسير قوله - تعالى -:
{ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا } [التوبة: 31] فإنه بعد تفسير اتخاذهم أربابا بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون كما ورد في الحديث المرفوع قال ما نصه:
قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين - رضي الله عنه -: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله - تعالى - في بعض مسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب! يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها! ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا " اهـ.
أقول: إن الرازي -رحمه الله تعالى - كان يقرر هذه الحقيقة عندما يفسر آياتها وينساها في مواضع أخرى، فيتعصب للأشعرية في أصول العقائد وللشافعية في فروع الفقه، لا سيما فيما يخالفون فيه الحنفية. وهذا هو أصول الداء الذي يشكو من بعض أعراضه عند الكلام في مسائل الخلاف مع الغفلة عن سببها. أما الإمام الغزالي فقد تجرد عن التعصب للمذاهب كلها في نهايته، ووصف الدواء في بعض كتبه كالقسطاس المستقيم (راجع ذلك في ص 11 من الجزء الثالث طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب) ولكنه لم يوفق إلى تأليف أمة تدعو إليه وتقوم به.
وإذا كان الرازي وشيخه يقولان في علماء القرن السابع، والغزالي يقول في علماء القرن الخامس ما قالوا فماذا نقول في أكثر علماء زماننا وهم يعترفون بما نعرفه من كونهم لا يشقون لأولئك غبارا؟ ألسنا الآن أحوج إلى الإصلاح منا إليه في تلك العصور التي اعترف هؤلاء الأئمة بأن الظلمات فيها غشيت النور، حتى ضل بالاختلاف الجمهور؟ بلى، وهو ما نعاني فيه ما نعاني وإلى الله ترجع الأمور.
وقوله - تعالى -: من بعد ما جاءهم البينات يفيد أن الإنسان لا يؤاخذ على ترك الحق أو اتباع الباطل إلا إذا بين له ذلك حتى يتبين، أو صار بحيث تبين له لو نظر فيه، والجهل ليس بعذر بعد البيان، كما هو المقرر عند العقلاء والحكام في كل مكان.
قال - تعالى - في المتفرقين المختلفين بعد مجيء البينات:{ وأولئك لهم عذاب عظيم } [آل عمران: 105] فهذا الوعيد يقابل الوعد الكريم في الآية التي قبل هذه الآية بقوله - تعالى - في الداعين إلى الخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: { وأولئك هم المفلحون } [آل عمران: 104] فالفلاح في ذلك الوعد يشمل الفوز بخيري الدنيا والآخرة، والعذاب في هذا الوعيد يشمل خسران الدنيا والآخرة.
قال الأستاذ الإمام ما معناه: أما عذاب الدنيا فهو أن المتفرقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحكموا في دينهم آراءهم يكون بأسهم بينهم شديدا، فيشقى بعضهم ببعض ثم يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء فتذيقهم الخزي والنكال، وتسلبهم عزة الاستقلال، وأما عذاب الآخرة فقد بين الله في كتابه أنه أشد من عذاب الدنيا وأبقى.
وفي هذا المقام أورد الأستاذ الإمام هذا السؤال: هل قام المسلمون بذلك الأمر ولتكن منكم أمة وانتهوا عن هذا النهي { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } [آل عمران: 105] وجعل ذلك مجالا لتفكر طلاب العلم، وأما جوابه هو فكما نقلنا لك عن الإمام الرازي وعن شيخه، والأمر ظاهر في نفسه وفي الوعيد المذكورين آنفا، وإذا كان لا يزال في علماء الرسوم منا من يقول ويعتقد أن المسلمين في فلاح وفوز فقد علم سائر المسلمين من جميع الطبقات في أكثر البلاد أنهم قد فقدوا عزهم واستقلالهم، وأنهم معذبون بما فقدوا وبما يتوقعون أن يفقدوا مما بقي لهم، وأن أذكياء شعوبهم يسأل بعضهم بعضا على بعد الدار وقربه عن طريق علاج الداء، قبل الإبداء، والتماس الشفاء قبل الإشفاء، والعلاج بين أيديهم فمتى يبصرون! والطبيب يناديهم فأنى يسمعون؟ عسى أن يكون ذلك قريبا.
ذلك العذاب العظيم يكون للمتفرقين المختلفين. { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } [آل عمران: 106] قيل: إن بياض الوجوه وسوادها هنا من باب الحقيقة، وأن ذلك يكون يوم القيامة خاصة، واحتج صاحب هذا القول بمثل قوله - تعالى -:
{ { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [الزمر: 60] وقيل - وهو الراجح - إنه من باب الكناية.
قال الراغب في مادة (بيض) من مفرداته بعد ذكر الآية " ولما كان البياض أفضل الألوان عندهم كما قيل: البياض أفضل والسواد أهول، والحمرة أجمل والصفرة أشكل: عبر عن الفضل والكرم بالبياض حتى قيل لمن لم يتدنس بمعاب هو أبيض الوجه، وقوله - تعالى -: يوم تبيض وجوه فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عبارة عن الغم وعلى ذلك
{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا } [النحل: 58] وعلى نحو الابيضاض قوله - تعالى -: { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة } [عبس: 38 - 39] اهـ.
وقال في مادة (سود): " السواد: اللون المضاد للبياض. يقال اسود واسواد. قال: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عبارة عن المساءة ونحوه
{ { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم } [النحل: 58] وحمل بعضهم الابيضاض والاسوداد على المحسوس، والأول أولى؛ لأن ذلك حاصل لهم سودا كانوا في الدنيا أو بيضا، وعلى ذلك قوله في البياض: { وجوه يومئذ ناضرة } [القيامة: 22] وقوله في السواد: { { ووجوه يومئذ باسرة } [75: 24] { { ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة } [عبس: 40 - 41] وقال: { وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } [يونس: 27] وعلى هذا النحو ما روي " "أن المؤمنين يحشرون غرا محجلين من آثار الوضوء" " اهـ.
وأورد الرازي في تأييد هذا الاستعمال الشائع شعرا لبعضهم في الشيب:

يا بياض القرون سودت وجهي عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي وسواد لوجهك الملعون

أقول: ولا يزال هذا الاستعمال شائعا عند كل ناطق بالضاد ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه (فتعجبوا لسواد وجه الكاذب) هذا هو الراجح في تفسير الآية وفاقا للراغب ولأبي مسلم، والمختار عند الأستاذ الإمام؛ إذ حمل العذاب في الآية على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا. ويدل على ما يكون في الآخرة الآيات التي ذكرناها آنفا في بحث استعمال السواد والبياض في المعاني؛ إذ فيها التصريح بذكر ذلك اليوم، وأما ما يكون في الدنيا فقد قال الأستاذ الإمام في بيانه ما مثاله:
أما المتفقون الذين جمعوا عزائمهم وإرادتهم على العمل بما فيه مصلحة أمتهم وملتهم، واعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة التي فيها عزتهم وشرفهم، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ووليا له فأولئك تبيض وجوههم - أي تنبسط وتتلألأ بهجة وسرورا - عند ظهور أثر الاتفاق والاعتصام ونتائجهما، وهي السلطة والعزة والشرف وارتفاع المكانة وسعة السلطان. وهذا الأثر ظاهر في الأمم المتفقة المتحدة التي يتألم مجموعها إذا أهين واحد منها في قطر من أقطار الأرض بعيد أو قريب، وتجيش جميعها مطالبة بنصره والانتقام له؛ لأنه ظلم وأهين ولا يصح عندها أن يكون منها ثم يظلم أو يهان وتكون هي راضية ناعمة البال، أولئك الأقوام ترى على وجوههم لألاء العزة وتألق البشر بالشرف والرفعة وهو ما يعبر عنه ببياض الوجه، وأما المختلفون لافتراقهم في المقاصد، وتباينهم في المذاهب والمشارب، الذين لا يتناصرون ولا يتعاضدون ولا يهتم أفرادهم بالمصلحة العامة التي فيها شرف الملة وعزة الأمة فهم الذين تسود وجوههم بالذلة والكآبة يوم تظهر عاقبة تفرقهم واختلافهم بقهر الأجنبي لهم ونزعه السلطة من أيديهم، والتاريخ شاهد على صدق هذا الجزاء في الماضين، والمشاهدة أصدق وأقوى حجة في الحاضرين.
{ فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم: { أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } قال الأستاذ الإمام: يقال لهم هذا القول في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع لها ذلك مثل هذا القول، تغليظا عليها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين، وأما في الآخرة فيوبخهم الله بمثل هذا السؤال.
وأقول: يجوز أن يكون المراد بيان الشأن لا الحكاية عن قول لساني وقع بالفعل، والمعنى أن شأنهم حينئذ أن يقال فيهم أو لهم ذلك القول، بل هذا هو المتعين عندي، والكلام في الأمم لا في الأفراد، والكفر في عرف القرآن ليس خاصا بما يعده الفقهاء والمتكلمون كفرا كما بيناه غير مرة - راجع تفسير
{ { والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] في أوائل الجزء الثالث. فمن عرفه أن المتفرقين في الدين يعدون من الكفار والمشركين كما قال: { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } [الروم: 31 - 32] وقال - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } [الأنعام: 159] فمن تذكر هذا لا يتوقف في فهم الآية التي نفسرها، ولا يجيز لنفسه صرفها عن ظاهرها لأجل مطابقة عرف الفقهاء الذين ترجع مسائل الكفر بعد الإيمان عندهم إلى جحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة وفي معناه كل ما اعتقد المكلف أنه من الدين ثم كذبه.
ولكن القرآن يعد الخروج من مقاصد الدين الحقيقية بالعمل من الكفر، وقد فهم السلف الصالح من الكتاب والسنة أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل وله شعب كثيرة من أعظمها تحري العدل واجتناب الظلم (مثلا) فمن استرسل في الظلم حتى صار صفة له كان كافرا كما قال - تعالى -:
{ { والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] فإذا كان الظالمون كافرين في عرفه فكيف لا يكون المتفرقون المختلفون كافرين، والاعتصام بالوحدة وترك التفرق والاختلاف من أعظم شعبه، بل ذلك هو أساسه الذي لا يثبت بناؤه إلا عليه؛ ولذلك وردت هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها عقب قوله: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } فإن ما قررته من وجوب الاعتصام والنهي عن التفرق أولا وآخرا، وإناطة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمة قوية متحدة هو بيان السبيل التي يجب علينا سلوكها لنموت مسلمين.
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } المراد برحمة الله - تعالى - هنا أثرها من نعمته وإحسانه، ولا شك أن من ابيضت وجوههم بما تقدم شرحه يكونون خالدين في النعمة بالدنيا ما داموا على تلك الحال والأعمال التي بها ابيضت وجوههم؛ لأن الله - تعالى - لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم فيترتب عليه التغير في الأعمال. وترتيب الخلود هنا على قوله: { ابيضت وجوههم } يؤذن بأن ابيضاض الوجوه وما كان سببا فيه علة له، والمعلوم يدوم بدوام علته، وأما أمر الخلود في الآخرة فهو أظهر.