التفاسير

< >
عرض

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١١٠
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١١١
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

تفسير المنار

بعد ما أمر الله - تعالى - بالاعتصام بحبله وذكر بنعمته على المؤمنين بتأليف القلوب وأخوة الإسلام، وبعد ما نهى عن التفرق في الأهواء والاختلاف في الدين، وتوعد على ذلك بالعذاب العظيم - بين فضل المعتصمين بحبله، المتآخين في دينه، المتحابين فيه، ووصفهم بهذا الوصف الشريف كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله فعلم منه أن خيرية الأمة وفضلها على غيرها تكون بهذه الأمور: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله - تعالى -.
في قوله - تعالى -: كنتم ثلاثة أوجه: (الوجه الأول) أنها تامة فالمعنى وجدتم خير أمة كأنه قال: أنتم خير أمة في الوجود الآن؛ لأن جميع الأمم غلب عليها الفساد فلا يعرف فيها المعروف ولا ينكر فيها المنكر، وليست على الإيمان الصحيح الذي يزع أهله عن الشر ويصرفهم إلى الخير وأنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره في العمل. (الوجه الثاني) أنها ناقصة والمعنى حينئذ كنتم في الأمم السابقة.
كما في كتبها المبشرة بكم خير أمة إلخ. وقال أبو مسلم: إن هذا القول يقال لمن ابيضت وجوههم، والمعنى: كنتم فيما سبق من أيام حياتكم خير أمة شأنكم كذا وكذا؛ وبذلك كان لكم هذا الجزاء الحسن، فالكلام عنده تتمة للآيات السابقة فكما ذكر فيها ما يقال لمن اسودت وجوههم ذكر أيضا ما يقال لمن ابيضت وجوههم، وقيل على هذا - أي كونها ناقصة - غير ذلك. (الوجه الثالث) أن " كان " هنا بمعنى صار أي صرتم خير أمة وهذا أضعف الأقوال.
إذا فسرت كلمة كنتم بغير ما قاله أبو مسلم كانت الجملة شهادة من الله - تعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنها خير أمة أخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث، ومن اتبعهم فيها كان له حكمهم لا محالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الدعوى وجعل الدين جنسية لهم، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالاعتصام بحبل الله مع اتقاء التفرق والخلاف في الدين.
قال الأستاذ الإمام ما معناه: هذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولا، وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين كانوا معه - عليهم الرضوان -، فهم الذين كانوا أعداء فألف الله بين قلوبهم فكانوا بنعمته إخوانا، وهم الذين اعتصموا بحبل الله ولم يتفرقوا في الدين فيذهبوا فيه مذاهب تتعصب لكل مذهب شيعة منهم، وهم الذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يخاف في ذلك ضعيف قويا، ولا يهاب صغير كبيرا، وهم المؤمنون بالله ذلك الإيمان الذي استولى على عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، وملك أزمة أهوائهم حتى كان هو المسير لهم في عامة أحوالهم - ذلك الإيمان الذي بين - سبحانه - خواصه وصفاته في آيات كثيرة، وظهرت فوائده وآثاره في تغيير هيئة الأرض على أيديهم - ذلك الإيمان الذي قال - تعالى - في أهله:
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } [الحجرات: 15] وقال فيهم: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } [الأنفال: 2] إلى قوله: { أولئك هم المؤمنون حقا } [الأنفال: 4] وقال فيهم { { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } ] [المؤمنون: 1 - 2] إلى آخر الآيات التي تحقق معناها ومعنى أمثالها في أولئك الأصحاب الذين كانوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أقول: هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الجملة إلا أن كلمة " وأصحابه الذين كانوا معه " هي من لفظه يريد أن هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل لم تكن لكل من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي كالأعرابي الذي يسلم ويرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة، وكأنه أخذ ذلك من قوله - تعالى -:
{ محمد رسول الله والذين معه } [الفتح: 29] فهم الذين تصدق عليهم تلك الصفات الجليلة، وأفضلها وأعلاها الجهاد والهجرة إلى المدينة بالنسبة إلى غير أهلها والإيواء والنصر من أهلها؛ لذلك قال - تعالى - في آخر سورة الأنفال: { { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } [الأنفال: 74 - 75] ولم يهاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق؛ لأن الهجرة كانت في زمن الضعف وإنما يكون النفاق في زمن القوة، ومنافقو المدينة لم ينصروه - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانوا يخذلون ويثبطون الصادقين من المؤمنين ويغرون الأعداء بهم، قال - تعالى - فيهم: { { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } [التوبة: 47 - 48]. وروي عن ابن عباس أن المراد بالآية المهاجرون الأولون، وعن عمر أنها في خاصة الصحابة ومن صنع مثل صنيعهم.
فإن قيل: إن بعض أولئك الصحابة الصادقين من المهاجرين والأنصار قد تفرقوا واختلفوا في الفتنة التي أثارها معاوية على علي أمير المؤمنين فهل خرجت الأمة بذلك عن كونها خير أمة أخرجت للناس؟ فالجواب من ثلاثة وجوه:
(أحدها) أن ذلك الخلاف والتفرق لم يكن في الدين وإنما كان في أمر دنيوي لم يتغير به اعتقاد أهل الفريقين، ولم يحدث به مذهب جديد في الإسلام، فالدين نفسه لم يطرأ عليه شيء من ذلك الخلاف.
(ثانيها) أن معاوية الذي أثار ذلك التفرق لم يكن من المهاجرين الأولين؛ فإنه أسلم عام فتح مكة الذي انقطعت به الهجرة، أو أظهر إسلامه في ذلك العام كما قال الواقدي: إنه أسلم عام الحديبية، وأنه كان في عمرة القضاء مسلما. قال الحافظ في الإصابة بعد نقل قول الواقدي: وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج: " فعلناها وهذا يومئذ كافر ": يعني معاوية. وسواء صح قول الواقدي أو لا فمعاوية لم يهاجر، ونقل ابن سعد عنه أنه كان يقول: لقد أسلمت قبل عمرة القضاء ولكني كنت أخاف أن أخرج إلى المدينة لأن أمي كانت تقول: إن خرجت قطعنا عنك القوت، وما كان مع معاوية من المهاجرين الأولين إلا قليل اعتقدوا أنه يطالب بحق لا يلبث أن يناله - وهو القصاص من قاتلي عثمان - ثم يدخل فيما دخل فيه الناس من مبايعة علي.
(ثالثها) قد عرف المطلعون على التاريخ أن الصحابة لم يفرطوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجدوا، وإنما ضعف ذلك بعد انقراض أكثرهم، وهذان الركنان هما بعد الإيمان أعظم أركان خيرية الأمة، فما عرض من التفرق الدنيوي والخلاف بعد قتل عثمان لم يلبث أن زال بعد قتل علي؛ لأن التفرق والخلاف لا يدوم في أمة تقيم هذين الركنين ولو بغير نظام، ولو كان لهما نظام في الصدر الأول لما وقع كل ذلك الذي وقع. ألم يهد لك كيف كان الناس يغلظون لمعاوية في إنكار ما ينكرونه عليه حتى غير الصحابة منهم؟
الحق أقول: إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة خرجت للناس حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تركتهما رغبة عنهما أو تهاونا بأمر الله - تعالى - بإقامتهما، بل مكرهة باستبداد الملوك والأمراء من بني أمية ومن سار على طريقهم ممن بعدهم، وقد كان أول أمير منهم أظهر هذه الفتنة جهرا عبد الملك بن مروان إذ قال على المنبر: " من قال لي اتق الله ضربت عنقه " فقد كانت شجرة بني مروان الخبيثة هي التي سنت في هذه الأمة سنة الاستبداد.
فما زال يعظم ويتفاقم حتى سلب الأمة أفضل مزاياها في دينها ودنياها بعد الإيمان.
وقد بين (الفخر الرازي) في تفسيره نحو ما تقدم من كون وصف الأمة هنا بالأمر والنهي والإيمان علة لكونها خير أمة أخرجت للناس فقال:
" واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقدم: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم. وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فهاهنا حكم - تعالى - بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات؛ أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات " ثم أورد سؤالا وذكر الجواب عنه فقال:
" من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات كانت حاصلة في سائر الأمم؟ والجواب: قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال؛ لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل.
وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فكان الجهاد في الدين محملا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات.
ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم. وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر.
ثم قال القفال: (فائدة) القتال على الدين لا ينكره منصف؛ وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره [المرء] على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم " اهـ. ما أورده (الرازي) عن (القفال) وأقره.
أقول: إن هذا القول الباطل مبني على قواعد غير ثابتة (منها) توهم القفال والرزاي أن الأمم السابقة لم يكن عندها جهاد ديني قوي ولا إكراه على الدين، وذلك لقلة اطلاعهما على الأديان والتاريخ، والصواب أن أهل الكتاب كانوا أشد من المسلمين في حروبهم الدينية وورد عنهم في الإكراه على الدين ما لم يرد مثله عن المسلمين.
(ومنها) أن الإكراه على الدين منفي من الإسلام بنص القرآن، ولم يحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من العرب ولا من غيرهم لأجل الإكراه على الإسلام وإنما حارب دفاعا، وكيف يحاول الإكراه والله - تعالى - يقول له:
{ { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [يونس: 99] ومن أراد التفصيل في ذلك فليرجع إلى تفسير آيات القتال في البقرة وآية { { لا إكراه في الدين } [البقرة: 256].
(ومنها) أن هذا القول يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن الدعوة إلى الإسلام والإلزام به، والآية السابقة { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } تقتضي أن يكون الأمر والنهي غير تلك الدعوة وغير الإلزام بقبوله بها وهو عمل لا إرشاد وتعليم.
[ومنها] أن فريضتي الأمر والنهي غير فريضة تغيير المنكر الذي ورد في الحديث وقد تقدم بيان ذلك. [ومنها] أن هذا القول مخالف لقوله - تعالى - في سورة الحج في وصف المؤمنين بعد الإذن لهم بقتال المعتدين عليهم:
{ { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } [الحج: 41] فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم بعد التمكن في الأرض؛ وذلك لا يكون بالجهاد بل بعده.
فيا للعجب من هؤلاء العلماء يأخذون المسألة التقليدية قضية مسلمة ثم يحكمونها في كتاب الله - تعالى -، ويجعلونها قاعدة لتفسيره وإن كانت مخالفة لآياته الصريحة، ثم هم يأتون بما يدل على أن أعظم ما يمتاز به الإسلام هو اتباع الدليل ونزع قلائد التقليد، وهم مصرون على تقلد هذه القلائد. ألم تتأمل ما قاله (القفال) في فائدته وأنه لا يعني بأكثر الناس الذين يحبون أديانهم بحسب الإلف والعادة إلا غير المسلمين، يعني أن المسلمين وحدهم هم الذين يتمسكون بالدلائل فلا يقبلون في دينهم شيئا بغير دليل وبهذا كان لهم الحق عنده بإكراه غيرهم على ما هم عليه ليكون مثلهم في الخيرية. وأين المسلمون من هذه المزية اليوم وفي زمن (القفال) أيضا؟!
ثم إن السؤال الذي أورده (الرازي) وارتضى في جوابه ما قاله (القفال) مبني على أن قوله - تعالى -: خير أمة أخرجت للناس معناه خير أمة ظهرت لهم منذ وجدوا، وهو أحد الأقوال التي أوردها في معنى العبارة قال: والثاني أن قوله: للناس من تمام قوله: كنتم والتقدير: كنتم للناس خير أمة، ومنهم من قال: أخرجت صلة، والتقدير: كنتم خير أمة للناس اهـ. وهذا الأخير أضعف الأقوال.
والأستاذ الإمام لم يتعرض لهذا السؤال، والظاهر عندي أن تعليل الخيرية بما ذكر هنا ليس لأنه كل السبب في كون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بل لأن ما كانت به خير أمة لا يحفظ ولا يدوم إلا بإقامة هذه الأصول الثلاثة؛ ولذلك اشترط على هذه الأمة أن يكون من غرضها في الدفاع عن نفسها وحفظ وجودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأنها لولا ذلك لا تكون مستحقة للبقاء في الأرض، وأكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير في كتاب من الكتب السابقة، ولم تقم به أمة من الأمم على هذا الوجه، فقول الرازي: " إن هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم " غير صحيح على إطلاقه.
وقد أورد (الرازي) هنا سؤالا آخر وأجاب عنه فقال: " لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد أن يكون مقدما على كل الطاعات؟ والجواب: أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه - تعالى - فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير؛ فلهذا السبب قدم الله - تعالى - ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان " اهـ. بما فيه من تكرار.
وقال الأستاذ الإمام: أما تقديم ذكر الأمر والنهي على الإيمان فالحكمة فيه أن هذه الصفة (الأمر والنهي) محمودة في عرف جميع الناس: مؤمنهم وكافرهم، يعترفون لصاحبها بالفضل ولما كان الكلام في خيرية هذه الأمة على جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم قدم الوصف المتفق على حسنه عند المؤمنين والكافرين، وهناك حكمة أخرى وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الإيمان وحفاظه (كما تقدم بيانه) فكان تقديمه في الذكر موافقا لمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
أقول: كل ذلك حسن، والمتبادر عندي أن تقديم الأمر والنهي للتعريض بأهل الكتاب الذين كانوا يدعون الإيمان ولا يقدرون على ادعاء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، وادعاء ما تكذبه المشاهدة يفضح صاحبه، فقدم ذكر الأمر والنهي لأنهم لا مجال لهم في دعوى مشاركة المؤمنين فيه، وأخر ذكر الإيمان الذي يدعونه ليرتب عليه بيان أنه إيمان غير صحيح؛ لأنه لم يأت بثمر الإيمان الصحيح؛ ولذلك قال:
ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم أي لو آمنوا الإيمان الصحيح الذي يستولي على النفوس ويملك أزمة الأهواء فيكون مصدرا لأحاسن الأعمال كما تؤمنون أنتم لكان خيرا لهم مما يدعون من الإيمان التقليدي الذي لا يزع عن الشرور، ولا يرفع صاحبه إلى معالي الأمور، وبهذا التفسير يندفع سؤال ثالث للرازي وهو: لم اكتفي بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة؟ فإذا كان الكلام تعريضا بأن القوم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا فأي حاجة إلى ذكر الإيمان بغيره، على أنه لو ذكر غير ذلك لكان المناسب أن يذكر الإيمان برسوله وهو محل خلاف بين الفريقين، أو الإيمان بالرسل كافة وأهل الكتاب اشتهروا بذلك، وجواب الرازي تكلف ظاهر. ثم صرح بعد التعريض بأنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم ولم يقل لو آمنوا بالله بل أطلق ليدل على أن إيمانهم بكل ما يؤمنون به غير صحيح؛ لأنه لم يأت بثمرات الإيمان الصحيح كما قلنا آنفا.
وجعل الأستاذ الإمام هذه الجملة متعلقة بمجموع الكلام السابق فقال: إنه بعد ما نهانا - سبحانه - عن التفرق والاختلاف كما تفرق أهل الكتاب بعد ما جاءهم البينات، وأمرنا بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذكر أننا خير أمة أخرجت للناس بهذا أو بالإيمان الحقيقي الذي يقترن بالإذعان النفسي والاتباع العملي - ناسب أن يذكر أن أهل الكتاب المختلفين ليسوا مؤمنين هذا الإيمان الخالص الذي يحبه الله - تعالى - ويرضاه، وهو الذي يكون الأمر بالمعروف ثمرة من ثماره، والنهي عن المنكر أثرا من آثاره، فعلمنا أن المراد بهذا الإيمان شيء أخص من الإيمان العرفي الذي يدعيه كل أحد له دين وكتاب بل هو ما عرفناه آنفا وقبل ذلك.
والكلام يشعر بأنه لا يوجد فيهم مؤمن هذا الإيمان الإذعاني الذي يصحبه الإخلاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنه لا يمكن أن تعرى منه أمة لها دين سماوي، والواقع أنه كان في أهل الكتاب مؤمنون مخلصون؛ ولذلك قال - تعالى -: { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } فعلم أن الحكم الأول على الأمة إنما هو حكم على أكثر أفرادها فهم الذين فسقوا عن حقيقة الدين ولم يبق عندهم منه إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة، فالكلام استئناف بياني لا استطراد كما قيل.
هذا ما يؤخذ من كلام الأستاذ الإمام. وجمهور المفسرين على أن المعنى: ولو آمن أهل الكتاب بما آمنتم به كما آمنتم لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ولكن آمن بعضهم فمنهم المؤمنون كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود والنجاشي ورهطه من النصارى وأكثرهم فاسقون عن دينهم أي خارجون منه، أو فاسقون في دينهم غير عدول فيه فلا حصلوا الإسلام وهو أكمل الأديان ولا تمسكوا بما عندهم، أو أكثرهم متمردون في الكفر. هكذا اختلف تعبيرهم فيؤخذ منه أنه لم يكن في أهل الكتاب أحد متمسك بدينه مخلصا فيه، عاملا بأوامره ونواهيه، وهذا غير معقول ولا موافق لما عرف من طبيعة البشر من ميل أناس منهم إلى الغلو في الدين واعتدال أناس آخرين وميل غير هؤلاء وأولئك إلى الفسوق والعصيان.
فما من أهل دين إلا وفيهم الفرق الثلاث، وإنما يكثر الاستمساك بالدين في أوائل ظهوره، ويكثر الفسق بعد طول الأمد عليه. قال - تعالى -:
{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 16] فماعدا هذا الكثير هم المستمسكون بدينهم.
والقرآن لم يحكم على أمة بالضلال والفسق بنص عام يستغرق جميع الأفراد، بل يعبر تارة بالكثير وتارة بالأكثر، وإذا أطلق أداة العموم يستثني بمثل قوله في بني إسرائيل:
{ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } [البقرة: 83] وقوله فيهم: { فلا يؤمنون إلا قليلا } [النساء: 155] أو يحكم على البعض ابتداء كما تقدم في قوله: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } [البقرة: 75] الآية. وقال - تعالى - فيهم: { { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [الأعراف: 159] وقال فيهم وفي النصارى: { { منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } [المائدة: 66] وسيأتي تفسيرها، فقد أثبت لبعضهم الإيمان والاقتصاد أي الاعتدال في الدين والهداية بالحق والعدل.
وقال:
{ { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } [النساء: 162] فجعل أهل العلم الذين يفهمون الدلائل والبراهين، وأهل الإيمان المخلصين الذين يتحرون الحق هم الذين يقبلون دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوة استعدادهم.
ولكن المفسر المتشبع بأحوال أمته الذي لم يختبر غيرها ولم يكن عارفا بطبائع الملل وحقائق الاجتماع البشري لا يكاد يتصور أن الإيمان والإخلاص والتقوى توجد عند غير أهل ملته، فهو يطبق الآيات على اختباره واعتقاده.
وقد تذكرت الآن ما قالته تلك المرأة الإفرنجية للأستاذ الإمام في مدينة جنيف عاصمة سويسرا، وكانت امرأة عالمة تقية راقبت سير الأستاذ الإمام في مصيفه هناك لغرابة زيه ودينه، ثم قالت له بعد ذلك: إنني لم أكن أظن ولا يخطر في بالي قبل معرفتك أن القداسة والتقوى في غير المسيحية.
وجملة القول: أن القرآن يبين حقائق ما عليه الأمم في عقائدها وأخلاقها وأعمالها، يزن ذلك بالقسطاس المستقيم، والدقة التي نراها في تحريه الحقيقة لم نعهدها في كتاب عالم ولا مؤرخ، فإذا نحن جمعنا ما حكم به على أهل الكتاب وغيرهم وعرضناه على علمائهم وفلاسفتهم ومؤرخيهم فإنهم يذعنون بأنه لباب الحقيقة، بل هم يصرحون بأنه لولا غلبة الضلال والفسق والكفر عليهم في عصر ظهور الإسلام لما انتشر ذلك الانتشار السريع.
ولكن وجد فينا من طمس هذه المزية وجعلوا كل ما ينكره القرآن من فساد الأمم من قبيل هجو غير المسلمين، وكل ما يحمده هو خاص بالمسلمين، حتى كأنه شعر لا يقصد منه إلا مدح أناس وذم آخرين، وبهذا ينفرون غير المسلمين من الإسلام، ويحولون بين المسلمين وبين العبرة والاتعاظ وفهم الحقائق. ولهذا البحث بقية تأتي في تفسير ليسوا سواء إلخ، واستدل بعض المفسرين بالآية على حجية الإجماع المعروف في الأصول فحملها مالا تحمل.
ثم قال - تعالى - في أولئك الفاسقين من أهل الكتاب: { لن يضروكم إلا أذى } أي إنهم يقدرون على إيقاع الضرر بكم ولكن يؤذونكم بنحو الكلام القبيح كالخوض في النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو إلا ضررا خفيفا ليس له كبير تأثير { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } تولية الأدبار: كناية عن الانهزام لأن المنهزم يحول ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره في هربه منه، فيكون دبره أي قفاه إلى جهة وجه من انهزم هو منه. ثم لا ينصرون عليكم بعد ذلك، أو { ثم إنهم لا ينصرون } عليكم قط ما داموا على فسقهم ودمتم على خيريتكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. وعلى هذا تكون الجملة إخبارية مستقلة لا تدخل في جواب الشرط ولذلك وردت بنون الرفع. وفي هذه الآية ثلاث بشارات من الإخبار بالغيب، وكلها تحققت وصدق الله وعده.
وقد أورد " الرازي " على الوعد بأنهم لا ينصرون: أنه يصدق في اليهود دون النصارى أي إن اليهود هم الذين لم ينصروا على المسلمين بعد ما كان من انكسارهم في الحجاز، وأما النصارى فقد كانت الحرب بينهم وبين المسلمين بعد الصدر الأول سجالا ثم صاروا هم المنصورين، وأجاب (الرازي) عن ذلك: بأن الآية خاصة باليهود، نعم وما قلناه يصلح جوابا مطلقا، ويؤيده تقييده - تعالى - نصر المؤمنين بنصرهم إياه
{ { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } [محمد: 7] وبالقيام بما أمر به ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ورد في سورة الحج وذكرناه في تفسير الآية السابقة. ومثله وصف المؤمنين المجاهدين في سورة التوبة بقوله: { { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله } [التوبة: 112] وقد شرحنا هذا المعنى غير مرة وسنفصله - إن شاء الله - في مقدمة التفسير تفصيلا.
ثم قال جل شأنه: { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } ثقفوا: وجدوا. والذلة بكسر الذال: ضرب مخصوص من الذل لأنها من الصيغ التي تدل على الهيئة، قيل: المراد بها هنا الجزية، وقيل: ما يحدثه في النفس من فقد السلطة وهذا هو الصحيح، وقد فرق (الراغب) بين الذل بضم الذال والذل بكسرها فقال في الأول: إنه ما كان عن قهر، وفي الثاني: ما كان بعد تصعب وشماس، ومنه تذليل الدواب. وضرب الذلة عليهم أي على اليهود عبارة عن إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها، أو عن إحاطتها بهم كإحاطة الخيمة المضروبة بمن فيها، وتقدم بيان ذلك كله للأستاذ الإمام في تفسير
{ { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } [البقرة: 61] الآية فليراجع؛ فإن ما هنا لا يغني عنه.
والحبل: يطلق على العهد؛ لأن الناس يرتبطون بالعهود كما يقع الارتباط الحسي بالحبال، وذلك قول أبي الهيثم للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتته الأنصار في العقبة: " أيها الرجل إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس " ويسمى السبب في اللغة حبلا والحبل سببا. قيل: إن المعنى " إلا بعهد " أو سبب يأمنون به في بلاد الإسلام كما قال ابن جرير، وقيل: السبب من الله الإسلام، والسبب من الناس العهد أو التأمين. واختار (الرازي) أن الحبل من الله هو الجزية، أي الذمة التي تحصل بقبولهم دفع الجزية. والحبل من الناس هو ما فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد.
وقال الأستاذ الإمام: أي إن حالهم معكم أن يكونوا أذلاء مهضومي الحقوق رغم أنوفهم إلا بحبل من الله وهو ما قررته شريعته لهم إذا دخلوا في حكمكم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم إيذائهم وهضم شيء من حقوقهم، وحبل من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة من احتياجكم إليهم واحتياجهم إليكم في بعض الأمور؛ أي فهذا القدر المستثنى من عموم الذلة لم يأتهم من أنفسهم وإنما جاءهم من غيرهم، فهم لا عزة لهم في أنفسهم لأن السلطان والملك قد فقدا منهم.
وأنت ترى أن هذا الذي قاله الأستاذ الإمام أظهر وأشد انطباقا على الواقع، فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يفعلون، وقضية علي مع اليهودي عند عمر مشهورة، وفيها أن عليا أنكر على عمر مخاطبته أمام خصمه اليهودي بالكنية وفيها تعظيم ينافي المساواة بينهما.
وقد تقدم أيضا تفسير وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة في آية البقرة المشار إليها آنفا. باءوا بالغضب: كانوا أحقاء به من البواء وهو المساواة، يقال باء فلان بدم فلان أو بفلان إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له، أو أقاموا فيه ولبثوا من المباءة أي حلوا مبوأ أو بيئة من الغضب. وقد فسر بعضهم المسكنة بالفقر، وإن تعجب فعجب قول البيضاوي: إن اليهود في الغالب أهل فقر ومسكنة! وليست المسكنة هي الفقر وإنما هي سكون عن ضعف أو حاجة.
قال الأستاذ الإمام هنا: إن المسكنة حالة للشخص منشؤها استصغاره لنفسه حتى لا يدعي له حقا، والذلة حالة تعتري الشخص من سلب غيره لحقه وهو يتمناه، فمنشؤها وسببها غيره لا نفسه كالمسكنة، وكأن البيضاوي أخذ عبارته من قول الكشاف في سورة البقرة: " فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف الجزية عليهم " وهذا الوصف أكثر انطباقا عليهم في أكثر البلاد في ذلك العصر.
ونقل الرازي أن الأكثرين فسروا المسكنة بالجزية؛ لأنها هي التي بقيت مضروبة عليهم، أخذوا هذا من ذكرها بعد الاستثناء، أي أن الذلة ضربت عليهم لا ترتفع عنهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، فاستثنى من الذلة ثم ذكر المسكنة ولم يستثن فاقتضى ذلك بقاءها عليهم. وإذا كان المراد من الجزية كونهم تابعين لغيرهم يؤدون إليه ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين فهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم في كل بقاع الأرض، وأما الذل فقد كان ارتفع عنهم في بلاد المسلمين بحبل من الله، وهو ما تقدم من وجوب معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم، والتزام حمايتهم والذود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين الظالمين، وبحبل من الناس بما تقدم بيانه، ثم ارتفع عنهم فيما عدا روسيا من بلاد أوربا بحبل من الناس، وهي قوانينهم التي تساوي بين رعايهم في بلادهم، على أن لهم أعداء في أوربا وقد يبخلون عليهم في ألمانيا بلقب الألماني ويعبرون عنهم بلقب اليهودي.
وهل ترتفع عنهم المسكنة فيكون لهم ملك وسلطان في يوم من الأيام؟ الجواب عن هذا يحتاج فيه إلى بسط، فأما من الجهة الدينية فهم يقولون بأنهم مبشرون بذلك بظهور مسيح " مسيا " فيهم ومعناه ذو الملك والشريعة، والنصارى يقولون: إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - والمراد بالملك الذي يجيء به: الملك الروحاني المعنوي.
وفي إنجيل برنابا عن المسيح: أن ذلك الموعود به هو محمد - صلى الله عليه وسلم - أي فهو الذي جاء بالنبوة التي استتبعت الملك. ومحل هذا البحث تفسير قوله - تعالى - فيهم:
{ { عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا } [الإسراء: 8] فإنه ذكر هذا بعد ذكر إفسادهم في الأرض مرتين وتسليط الأمم عليهم، وأما من الجهة الاجتماعية فيبحث فيه عن تفرقهم في الأرض على قلتهم، وعن انصرافهم عن فنون الحرب وأعمالهم، وضعفهم في الأعمال الزراعية لعنايتهم بجمع المال من أقرب الموارد وأكثرها نماء وأقلها عناء كالربا. ولا محل هنا لتفصيل ذلك وبيان علاقته بالملك.
ثم علل - تعالى - هذا الجزاء وبين سببه فقال:
{ { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق } [البقرة: 61] وتقدم مثله في البقرة: أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وخلافتهم بالغضب الإلهي، بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم. وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ عليهم وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن الخطأ.
ثم بين سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال: { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي جرأهم على ذلك سبق المعاصي والاستمرار على الاعتداء فتدرجوا من الصغائر إلى الكبائر إلى أكبر الموبقات وهو الكفر وقتل الأنبياء المرشدين والهداة الصالحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فصار هذا العصيان والاعتداء خلقا للأمة وطبعا لها يتوارثه الأبناء عن الآباء بلا نكير؛ ولهذا نسب إلى متأخريهم عمل متقدميهم، والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيهم وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون زمن، وتقدم بيان ذلك غير مرة.
ومن مباحث اللفظ في الآية: إعراب قوله - تعالى -: { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } قال الزمخشري: هو في محل النصب على الحال بتقدير " إلا معتصمين أو متمسكين أو متلبسين بحبل من الله وحبل من الناس وهو استثناء من أعم الأحوال " والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس.