التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٢١
إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٢٢
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢٣
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ
١٢٤
بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ
١٢٥
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١٢٦
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
١٢٧
لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
١٢٨
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢٩
-آل عمران

تفسير المنار

إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها ما يعين القارئ على فهمها ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول:
غزوة أحد
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا - صلى الله عليه وسلم - فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خير الناس، ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة. يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صورا من النخل، ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما، ونذر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج في طلبهم، فلم يدركهم؛ لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق. وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا!!.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه - في أمر المسلمين - الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي كان جاء بها من الشام في أخذ الثأر، فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير - كما في السيرة الحلبية - خمسين ألف دينار ربحت مثلها، فبذلوا الربح في هذه الحرب، فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها وأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة، فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وألا يفروا؛ فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار، وكان مع أبي سفيان - وهو القائد - زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد قلما يخطئ، فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له: " ويها أبا دسمة اشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " على شفير الوادي مقابل المدينة، وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة. فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار - كما في السيرة الحلبية - وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بأن يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل فلبس لأمته بعد صلاة الجمعة، وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له: استكرهناك ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد فقال:
"ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" أي لما في فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن بقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر (وهم 300) وقال: أطاعهم وعصاني - وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له - فما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قوم أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله - تعالى -.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال - تعالى - في مثل ذلك يوم تبوك:
{ { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } [التوبة: 47] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام، وتعزز رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك - وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح - رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه - رضي الله عنه - وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين بل جرى عليها؛ لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله، وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى - كما هو ظاهر - فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولا بها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل؟
وسأل قوم من الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى، وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه حتى مر بهم في حرة بني حارثة وقال لهم: " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - قرب - لا يمر بنا عليهم "؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي - وكان رجلا منافقا ضرير البصر - فلما سمع حس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: والله لو أني أعلم لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب: الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية. وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه بل رحمه وعذره، ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء بل قلما تراعيه أمة من الأمم.
ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف، ولذلك قال بعض الأنصار - وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين؛ أي لبس درعا فوق درع، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال: " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك " ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض - صلى الله عليه وسلم - الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم سبعة عشر، وأجاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل: لسنهم، وقيل: لبنيتهم وطاقتهم ولعله الصواب؛ فإنه كان قد رد سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له: يا رسول الله إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه، وروي أنهما تصارعا أمامه. ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق وهم أبناء خمس عشرة، إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول:

ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتار إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يقول عند سماع نشيد النساء: اللهم بك أحول وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل" .
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه، وكان يسمى الراهب فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفاسق. ولما برز نادى قومه وتعرف إليهم، قالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، وقاتل قتالا شديدا، وقد كان الظفر للمسلمين في المبارزة ثم في الملاحمة، وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري الذي أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيفه، وحمزة أسد الله وأسد رسوله وعلي بن أبي طالب، والنضر بن أنس، وسعد بن الربيع وغيرهم بلاء عظيما حتى انهزم المشركون وولوا مدبرين. وروي أن حمزة قتل 31 مشركا.
قال ابن هشام: حدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله وأعطاه وتركني، والله لأنظرن ماذا يصنع، فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها، فخرج وهو يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول

قال ابن إسحاق فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. إلى آخر ما قال. ومما كان منه أنه وصل إلى هند امرأة أبي سفيان قائد المشركين فوضع السيف على مفرق رأسها ولم يقتلها. قال: رأيت إنسانا يحمش حمشا شديدا فصمدت له فلما حملت عليه ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقتل به امرأة. ومن فوائد مسألة إعطاء السيف أبا دجانة: أن من سياسته - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يحابي قومه ولا ذي القربى على غيرهم من المهاجرين ولا المهاجرين على الأنصار، ولولا ذلك لما انتزعت من قلوبهم عصبية الجنسية الجاهلية.
لما انهزم المشركون وولوا إلى نسائهم مدبرين ورأى الرماة من المسلمين هزيمتهم ترك الرماة مركزهم الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه وألا يدعوه سواء كان الظفر للمسلمين أو عليهم " وإن رأوا الطير تتخطف العسكر " لئلا يكر عليهم المشركون ويأتوهم من ورائهم، وهو ما يعبر عنه في الاصطلاح العسكري بخط الرجعة. وقالوا: يا قوم الغنيمة الغنيمة، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرجعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلوا الثغر، فلما رأى فرسان المشركين الثغر قد خلا من الرماة كروا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين وأبلوا فيهم، حتى خلصوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه الشريف وكسروا رباعيته اليمنى من ثناياه السفلى وهشموا البيضة التي على رأسه ودثوه بالحجارة حتى سقط لشقه ووقع في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة ابن عبيد الله.
وكان الذي تولى أذاه عبد الله بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، وقتل مصعب بن عمير بين يديه فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح، عض عليهما حتى سقطت ثنياه من شدة غوصهما في وجهه، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، وطمع فيه المشركون فأدركوه يريدون منه ما الله عاصم إياه منه بقوله:
{ والله يعصمك من الناس } [المائدة: 67] وحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترس عليه أبو دجانة بنفسه فكان يقع النبل على ظهره وهو لا يتحرك حتى كثر فيه، ودافع عنه أيضا بعض النساء اللواتي شهدن القتال.
قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خاله أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي - فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت: من أصابك بهذا؟ فقالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربني هذه الضربة ولكن ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان، وأعطت امرأة ابنها السيف فلم يطق حمله فشدته على ساعده بنسعة وأتت به فقالت: يا رسول الله هذا ابني يقاتل عنك. فقال " أي بني!! احمل هاهنا " فجرح: فأتى النبي فقال له: " لعلك جزعت؟ " قال: لا يا رسول الله.
قالوا: وصرخ صارخ بأعلى صوته: إن محمدا قد قتل. قال الزبير فيما ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق من وصفه لهزيمة المشركين: والله لقد رأيتني أنظر خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل فأتينا من خلفنا وصرخ صارخ: " ألا إن محمدا قد قتل " فانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم، ووقع ذلك في نفوس كثير من المسلمين فانهزموا وكسرت قلوبهم، ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين فيهم عمر وطلحة قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، فقاتل حتى قتل، ووجد به سبعون ضربة، وجرح عبد الرحمن بن عوف نحو عشرين جراحة.
وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو المسلمين، وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار بيده أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم، وأنزل الله النعاس على المسلمين أمنة ورحمة فكانوا يقاتلون ولا يشعرون بألم ولا خوف، وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين - الحديث، وفيه أن السبعة قتلوا دونه إذ كان ينبري للدفاع عنه واحد بعد واحد ولم يخرج القرشيان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أنصفنا أصحابنا وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت، قال أبو بكر: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أول من فاء إليه، فرأيت بين يديه رجلا يقاتل فقلت: كن طلحة فداك أبي وأمي " مرتين " فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وهو يشتد كأنه طير فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال - صلى الله عليه وسلم - دونكم أخاكم فقد أوجب أي وجبت له الجنة. وقد زلزل كل أحد ساعتئذ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يتحرك من مكانه.
وأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن خلف وهو مقنع بالحديد على جواد له يقال له العود، كان يعلفه في مكة ويقول: أقتل عليه محمدا. وكان قد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - خبره فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله فلما اقترب منه استقبله مصعب بن عمير فقتل مصعبا، وجعل يقول: أين هذا الذي يزعم أنه نبي؟ فليبرز لي فإنه إن كان نبيا قتلني، فتناول رسول - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فكر الخبيث منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، ومات من ذلك الجرح بـ " سرف " مرجعه إلى مكة - كذا في سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية - وذكر الأول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الحربة منه انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير ثم طعنه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا. وفي زاد المعاد أنه مات برابغ.
أقول: ولم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته أحدا سواه؛ لأنه على كونه كان أشجع الناس وأثبتهم في مواقف القتال كان أرحمهم وأرأفهم، ولذلك كان يكتفي بالتدبير والتثبيت والدفاع عن نفسه، ولعله لو رأى مندوحة عن قتل أبي لما قتله. وقد كان به ذلك اليوم من ألم الجراح أن عجز عن الصعود إلى صخرة أراد أن يعلوها فوضع له طلحة ظهره فقام عليه فنهض به حتى صعدها، وحانت الصلاة فصلى بالناس جالسا تحت لواء الأنصار.
وقتل في ذلك اليوم حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه -، قتله وحشي الحبشي الراصد له، وقد عرفه وهو خائض المعمعة كالجمل الأورق يقط الرقاب ويجندل الأبطال لا يقف في وجهه أحد، فرماه بحربته عن بعد على طريقة الحبشة وكان قد أتقنها ولو قرب منه لما نال إلا حتفه، وقد شق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل عمه؛ إذ كان - على قربه - من السابقين إلى الإيمان به والمانعين له، وكان أشد أهله بأسا وأعظمهم شجاعة، بل لو قلنا إنه كان أشجع المسلمين أو العرب في ذلك العهد لم نكن مبالغين، فقد روي أن عمر بن الخطاب لما أقبل على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم إسلامه خافه المسلمون إلا حمزة فإنه وطن نفسه على قتله بلا مبالاة، وخلف حمزة في بأسه وشجاعته علي - كرم الله وجهه -.
وقد انتهت الحرب بصرف الله المشركين عما كانوا يريدون من استئصال المسلمين؛ فإن المسلمين كانوا أولاهم الغالبين بحسن تدبير الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصبر والثبات وتمحض القصد إلى الدفاع عن دين الله وأهله، فلما أخرجهم الظفر عن التزام طاعة رسولهم وقائدهم، ودب إلى قلوب فريق منهم الطمع في الغنيمة فشلوا وتنازعوا في الأمر كما سيأتي في تفسير قوله: ولقد صدقكم الله وعده وزادهم فشلا إشاعة قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى فر كثيرون إلى المدينة منهم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد، ولكنهم استحيوا من دخولها فرجعوا بعد ثلاث. واختلط الأمر على كثير ممن ثبت، ولما جاءهم خالد بالفرسان من ورائهم صار يضرب بعضهم بعضا على غير هدى، فمنهم الذين استبسلوا وأرادوا أن يموتوا على ما مات عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - يفدونه بأنفسهم ويتلقون السهام والسيوف دونه حتى كان يعز عليهم أن يروه ناظرا إلى جهة المشركين لئلا يصيبه سهم، فكان أبو طلحة الذي تقدم ذكر نضاله عنه يقول له: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تنظر يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. ولما علم سائر المسلمين ببقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفخت فيهم روح جديدة من القوة فاجتمع أمرهم حتى يئس المشركون منهم وصرفهم الله عنهم - كما صرح به القرآن العزيز فيما يأتي - فهذا ما كان من حرب الثلاثة الآلاف من المشركين للسبعمائة من المسلمين.
ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك. فقال: قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم قال: اعل هبل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. قال: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فأجابه عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وانصرف الفريقان.
أقول: إن المؤمنين لم ينكسروا في هذه الغزوة ولم ينتصروا بل نال العدو منهم ونالوا منه، وإنما كبرت عليهم لأنهم حرموا النصر وقتل منهم سبعون وكانوا يرجون أن يهزموا المشركين ويردوهم مدحورين - وسيأتي في الآيات بيان الأسباب والحكم فيما كان - وقال ابن القيم في زاد المعاد، قال ابن عباس: " ما نصر رسول الله في موطن نصره يوم أحد " فأنكر عليه ذلك فقال: بيني وبين من أنكر كتاب الله أن الله يقول:
{ { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } [آل عمران: 152] وسيأتي.
والتمسوا القتلى فرأوا أن المشركين قد مثلوا بهم، وكان التمثيل بحمزة - رضي الله عنه - شر تمثيل، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ليمثلن بهم عندما يظفره الله بهم، فنهاه الله عن ذلك فكفر عن يمينه، وكان ينهى عن التمثيل بالقتلى فلم يفعله المسلمون.
وخرج نساء من المدينة لمساعدة الجرحى، وكانت فاطمة - عليها السلام - هي التي داوت جرح والدها - صلوات الله وسلامه عليه -، فإنه بعد أن مص الدم منه والد أبي سعيد الخدري حتى أنقاه تولته هي، ففي الصحيحين عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يسكب الماء وبم دووي، كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن (الترس) فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم.
ولما انكفأ المشركون راجعين ظن المسلمون أنهم يريدون المدينة؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفس محمد بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها فرآهم علي قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة. ولما عزموا على الرجوع أشرف أبو سفيان على المسلمين وناداهم موعدكم الموسم ببدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قولوا نعم قد فعلنا.
ولما كان المشركون في الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكتهم وحدهم وتركتموهم وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادى الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف وقالوا: " سمعا وطاعة " وذلك من خوارق قوة الإيمان وآياته الكبرى، فإن هؤلاء المستجيبين كان قد برح بهم التعب والجراح تبريحا. فسار بهم حتى بلغوا حمراء الأسد وأقبل معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ قال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فلا تفعل فإني لك ناصح. فرجعوا على أعقابهم إلى مكة. ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال: هل لك أن تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغ النبي والمؤمنين قوله قالوا: " حسبنا الله ونعم الوكيل ".
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدفن الرجلين والثلاثة من شهداء أحد في قبر واحد. وربما كان يلفون بثوب واحد لقلة الثياب، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم - كما في صحيح البخاري - وإن زعم بعض أهل السير أنه صلى عليهم.
ولما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجوع إلى المدينة ركب فرسه وأمر المسلمين أن يصطفوا خلفه وعامتهم جرحى، واصطف خلفهم النساء وهن أربع عشرة امرأة كن بأصل أحد، فقال: استووا حتى أثني على ربي، فاستووا فقال: اللهم لك الحمد لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب - إله الحق أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وغيرهم، ولكن قال الذهبي: إنه على نظافة إسناده منكر، وأخشى أن يكون موضوعا. ولما رجعوا قال المنافقون فيمن قتل: لو كانوا أطاعونا ولم يخرجوا لما قتلوا.
إذا تمهد هذا فلنشرع في تفسير الآيات، ونقول أولا: إن وجه اتصالها بما قبلها هو أنه - تعالى - نهاهم في تلك عن اتخاذ بطانة من الأعداء المعروفين بالعداوة لهم، وأعلمهم ببعضهم إياهم وإن خادعهم أفراد منهم بدعوى الإيمان، وأنهم إن يصبروا ويتقوا ما يجب اتقاؤه لا يضرهم كيدهم شيئا، وبعد هذا البيان ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد وما كان فيها من كيد المنافقين إذ قالوا ما قالوا أولا وآخرا، وإذ خرجوا ثم انشقوا ورجعوا ليخذلوا المؤمنين ويوقعوا الفشل فيهم، ومن كيد المشركين وتألبهم الذي لم يكن له من دافع إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم وإلا التقوى، ومنها - بل أهمها - طاعة الرسول فيما أمر به هؤلاء الرماة، وذكرهم أيضا بوقعة بدر إذ نصرهم على قلتهم بصبرهم وتقواهم.
قال - تعالى -: { وإذ غدوت من أهلك } أي واذكر بعد هذا يا محمد إذ خرجت من بيت أهلك غدوة، وذلك سحر يوم السبت سابع شوال من سنة ثلاث للهجرة تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال أي توطنهم وتنزلهم أماكن ومواضع في الشعب من أحد لأجل القتال فيها، فمنها موضع للرماة وموضع للفرسان وموضع لسائر المؤمنين، فالمقاعد: جمع مقعد وهو في الأصل مكان القعود كالمجلس لمكان الجلوس والمقام لمكان القيام، ثم استعملت هذه الألفاظ كلها بمعنى المكان توسعا. وقيل: تبوئة المقاعد تسويتها وتهيئتها { والله سميع عليم } لم يخف عنه شيء مما قيل في مشاورتك لمن معك في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أحد أو انتظارهم في المدينة، فهو قد سمع أقوال المشيرين وعلم نية كل قائل، وأن منهم المخلص في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومنهم غير المخلص في قوله - وإن كان صوابا - كعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين، ويصح أن يكون الوصفان الكريمان متعلقا للظرف في الآية التالية - كما نبينه في تفسيرها.
وذهب ابن جرير إلى أن الخطاب في هذه الآية للنبي، والمراد به أصحابه، يضرب لهم مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة
{ { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } [آل عمران: 120] بتذكيرهم بما كان يوم أحد من وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر والتقوى، وذنب الجماعة أو الأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما، وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم، وهذا الرأي يتفق مع ما ذكرناه في وجه الاتصال بين الآيات.
{ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه والله سميع عليم حين همت طائفتان منكم أن تفشلا. والهم: حديث النفس وتوجهها إلى الشيء، والفشل ضعف مع جبن. وقيل: إن هذا بدل من قوله: { وإذ غدوت } وقيل: متعلق بـ تبوئ أي كان - صلى الله عليه وسلم - يتخذ المعسكر للمؤمنين وينزل كل طائفة منهم منزلا في وقت همت فيه طائفتان منهم بالفشل افتتانا بكيد المنافقين الذين رجعوا من العسكر. والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار - كما تقدم في القصة - { والله وليهما } أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أمثالهم، لا على حولهم وقوتهم، ولا على أعوانهم وأنصارهم، وإنما يبذلون حولهم وقوتهم ويأخذون أهبتهم وعدتهم إقامة لسنن الله - تعالى - في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات، وهو الفاعل المسخر للسبب والمسبب والموفق بينهما، فينصر الفئة القليلة على الكثيرة إن شاء كما نصر المؤمنين يوم بدر؛ ولذلك قال:
{ ولقد نصركم الله ببدر } وهو ماء أو بئر بين مكة والمدينة كان لرجل اسمه بدر فسمي باسمه ثم أطلق اللفظ على المكان الذي هو فيه. وقد كانت فيه أول غزوة قاتل فيها النبي المشركين في 17 رمضان من السنة الثانية من الهجرة فنصره الله عليهم نصرا مؤزرا { وأنتم أذلة } [آل عمران: 123] أي نصركم في حالة ذلة كنتم فيها على قلتكم - كما يفيده لفظ أذلة، إذ هو جمع قلة - وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. والمراد بكونهم أذلة أنهم لا منعة لهم إذ كانوا قليلي العدة من السلاح والظهر (أي ما يركب) والزاد. ولا غضاضة في الذل إلا إذا كان عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا مستذلين من الكافرين وإنما كانت قوتهم في أوائل تكونها { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } فإن التقوى هي التي تعدكم للقيام في مقام الشكر على النعم التي يسديكم إياها، فمن لم يرض نفسه بالتقوى غلب عليه اتباع الهوى فلا يرجى له أن يكون شاكرا يصرف النعمة إلى ما وهبت لأجله من الحكم والمنافع.
{ إذ تقول للمؤمنين } قيل: إن هذا متعلق بقوله: { ولقد نصركم الله ببدر } وقيل: إنه خاص بوقعة أحد التي ورد فيها هذا السياق كقوله: { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } متعلق بـ (تبوئ) أو بـ (سميع) أو بدل من (إذ) الأولى والتقدير: تبوئهم مقاعد للقتال في الوقت الذي هم فيه بعضهم بالفشل مع أن الله نصركم ببدر - على قلة وذلة، وفي الوقت الذي كنت تقول فيه للمؤمنين: { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } وهذا هو المختار. والتقدير على الأول: إن الله نصركم ببدر في ذلك الوقت الذي كنت تقول فيه لهم: { ألن يكفيكم } إلخ. أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين؛ فشق ذلك عليهم فأنزل الله: ألن يكفيكم إلخ. فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين. ورواه ابن جرير عن الشعبي وعن غيره، وذكر الخلاف في حصول هذا الإمداد بالفعل وأن بعضهم يقول: إنه لم يحصل، وبعضهم قال: إنه حصل يوم بدر، ونقل عن بعضهم أن الوعد بالإمداد - وإن لم يحصل ببدر - عام في كل الحروب، وأنهم أمدوا في حرب قريظة والنضير والأحزاب، ولم يمدوا يوم أحد لأنهم لم يصبروا ولم يتقوا. وروي عن الضحاك أن هذا كان موعدا من الله يوم أحد عرضه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف. وروي نحوه عن ابن زيد قال:
" قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ينظرون المشركين: أليس الله يمدنا كما أمدنا يوم بدر؟ فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين وإنما أمدكم يوم بدر بألف" . قال: فجاءت الزيادة { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } الفور: في الأصل فوران القدر ونحوها، ثم استعير الفور للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج من صاحبها على شيء، فمعنى ويأتوكم من فورهم من ساعتهم هذه بدون إبطاء و مسومين من التسويم، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو المشددة، والباقون بفتحها. وقد ورد سومه الأمر بمعنى كلفه إياه، وسوم فلانا: خلاه، وسومه في ماله: حكمه وصرفه، وسوم الخيل: أرسلها، وكل هذه المعاني ظاهرة على قراءة فتح الواو من (مسومين) فيصح أن يكون المعنى: إن هؤلاء الملائكة يكونون مكلفين من الله تثبيت قلوب المؤمنين، أو محكمين ومصرفين فيما يفعلونه في النفوس من إلهام النصر بتثبيت القلوب والربط عليها. أو مرسلين من عنده - تعالى -.
وأما قراءة كسر الواو (مسومين) فهي من قولهم سوم على القوم إذا أغار ففتك بهم ولو بالإعانة المعنوية على ذلك. وقال بعض المفسرين: إنه من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء أي علامته، أي معلمين أنفسهم أو خيلهم وهو كما ترى - لولا الرواية - لم يخطر على بال أحد منهم ويمكن أن يقال: مسومين للمؤمنين بما يظهر عليهم من سيما تثبيتهم إياهم.
قال ابن جرير بعد ذكر الخلاف في هذا الإمداد ما نصه: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به فنسلم لأحد الفريقين قوله، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله:
{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } [الأنفال: 9] أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل منهم " اهـ.
أقول: ما معنى هذا الإمداد بالملائكة فهو من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم أو عدتهم وقوتهم ولو النفسية وهذا هو الظاهر وهاك بيانه.
الامداد: من المد. والمد في الأصل: عبارة عن بسط الشيء كمد اليد والحبل، أو عن الزيادة في مادته كمد النهر بنهر أو سيل آخر. قال - تعالى -:
{ { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات } [المؤمنون: 55 - 56] فالإمداد يكون بالمال وهو ما يتمول وينتفع به، ويكون بالأشخاص. والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحة التي تثبتها وتقوي عزيمتها، ولذلك قال - عز وجل -: { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } قال ابن جرير: يعني - تعالى ذكره - وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم به من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم يبشركم بها { ولتطمئن قلوبكم به } يقول: وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم فتسكن إليه ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم وقلة عددكم { وما النصر إلا من عند الله } يعني وما ظفركم إن ظفرتكم بعدوكم إلا بعون الله لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة اهـ. وأقول: الظاهر أن يكون التقدير وما جعل الله ذلك القول الذي قاله لكم الرسول وهو { ألن يكفيكم } إلخ إلا بشرى يفرح بها روعكم وتنبسط بها أسارير وجوهكم وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدوكم واستعدادهم. أي إن قول الرسول له هذا التأثير في تقوية القلوب وتثبيت النفوس. وإنما أرجعنا ضمير (جعله) إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا إلى وعد الله - عز وجل - لأن الآيتين السابقتين ليستا وعدا من الله بالإمداد بالملائكة، وإنما هما إخبار عما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخبر - تعالى - في تينك الآيتين أن رسوله قال لأصحابه ذلك القول، وبين في هذه الآية فائدة ذلك القول ومنفعته مع بيان الحقيقة، وهي أن النصر بيد الله العزيز، أي القوي الذي لا يمتنع عليه شيء الحكيم الذي يدير الأمر على خير سنن، ويقيمه بأحسن سنن، فيهدي لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء، ويصرف عنهما من يشاء. فإن حصل الإمداد بالملائكة فعلا فما يكون إلا جزءا من أجزاء سبب النصر أو فردا من أفراده، ومنه إلقاء الرعب والخوف في قلوب الأعداء، ومنه سائر الأسباب المعروفة من الصبر والثبات وحسن التدبير ومعرفة المواقع وغير ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها عن العدو، وعسكر في أحسن موضع وهو الشعب (الوادي)، وجعل ظهر عسكره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم، فلما اختل بعض هذه التدبيرات لم ينتصروا. وذكر بعض أهل السير أن الملائكة قاتلت يوم أحد، وهو ما نفاه ابن جرير وقد ذكرنا عبارته، بل روي عن ابن عباس أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفيما عداه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون. وأنكر أبو بكر الأصم قتال الملائكة وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط؛ فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ وبتقدير حضوره أي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك، وأنه خلاف قوله: { ويقللكم في أعينهم } [الأنفال: 44] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ألبتة، وعلى الثاني كان يلزم جز الرءوس وتمزق البطون وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات، فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف. وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل، وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخيول؟ اهـ. ذكر ذلك الرازي والنيسابوري، فالرازي أورد هذا عن الأصم وذكر حججه مفصلة كعادته بقوله: الحجة الأولى - الحجة الثانية إلخ، ولخصه النيسابوري عنه بما ذكرناه. واعترض الرازي عليه بأن مثل هذا إنما يصدر من غير المؤمنين، وكان يجب أن يرد عليه بما يدفع هذه الحجج أو يبين لها مخرجا.
ليس في القرآن الكريم نص ناطق بأن الملائكة قاتلت بالفعل فيحتج به الرازي على أبي بكر الأصم، وإنما جاء ذكر الملائكة في سياق الكلام عن غزوة بدر في سورة الأنفال على أنها وعد من الله - تعالى - بإمداد المؤمنين بألف من الملائكة، وفسر هذا الإمداد بقوله - عز وجل -:
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [الأنفال: 12] قال ابن جرير في معنى التثبيت (ج 9 ص 197) " يقول قووا عزمهم وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم " فأنت ترى أنه جزم بأن عمل الملائكة في ذلك اليوم إنما كان موضوعه القلوب بتقوية عزيمتها، وتصحيح نيتها، وذكر قول من قال: إن ذلك كان بمعونتهم في القتال بصيغة تدل على ضعفه " قيل " وجعل قوله - تعالى -: { { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [الأنفال: 12] إلخ من تتمة خطاب الله للمؤمنين وهو الظاهر. وبعض المفسرين يجعله بيانا لما تثبت به الملائكة النفوس، أي إنها تلقي فيها اعتقاد إلقاء الله الرعب في قلوب المشركين إلخ.
وبهذا يندفع ما قاله الأصم ولا يبقى محل لحججه فإنه لا ينكر أن الملائكة أرواح يمكن أن يكون لها اتصال ما بأرواح بعض البشر وتأثير فيها بالإلهام أو تقوية العزائم، ويؤيده قوله - تعالى -: وما جعله الله إلا بشرى كما قال مثل ذلك في هذه السورة.
هذا ما كان يوم بدر، وسيأتي بسطه في تفسير سورة الأنفال - إن أحيانا الله تعالى - وأما يوم أحد فالمحققون على أنه لم يحصل إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك، وإنما أخبر الله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط فلم يحصل الإمداد - كما تقدم - ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة. وبقي أن يقال: ما الحكمة وما السبب في إمداد الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم وحرمانهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب؟.
والجواب عن ذلك يعلم من اختلاف حال المؤمنين في ذينك اليومين فنذكره هنا مجملا مع بيان فلسفته الروحانية، وندع التفصيل فيه إلى تفسير الآيات هنا وفي سورة الأنفال، فإن ما هنا تفصيل لما في وقعة أحد من الحكم، وما في سورة الأنفال تفصيل لما كان في وقعة بدر من ذلك.
كان المؤمنون يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله - تعالى - وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال:
{ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45] فبذلوا كل قواهم وامتثلوا أمر ربهم، ولم يكن في نفوسهم استشراف إلى شيء ما غير نصر الله وإقامة دينه والذود عن نبيه لا في أول القتال ولا في أثنائه، فكانت أرواحهم بهذا الإيمان وهذا الصفاء قد علت وارتقت حتى استعدت لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوى بنوع ما من الاتصال بها.
وأما يوم أحد فقد كان بعضهم في أول الأمر على مقربة من الافتتان بما كان من المنافقين، ولذلك همت طائفتان منهم أن تفشلا، ثم إنهم لما تثبتوا وباشروا القتال انتصروا وهزموا المشركين الذين هم أكثر منهم، فكان بعد ذلك أن خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول، وطمعوا في الغنيمة وفشلوا وتنازعوا في الأمر فضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى أهلية الاستمداد من أرواح الملائكة فلم يكن لهم منهم مدد؛ لأن الإمداد لا يكون إلا على حسب الاستعداد.
هذا هو السبب لما حصل بحسب ما يظهر لنا، وأما حكمته فهي تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله:
{ وليمحص الله } [آل عمران: 141] إلخ. وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله - تعالى - في الأسباب والمسببات كما سيأتي في قوله: { { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137] وبيان أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يكون مثبطا للهمم ولا داعية إلى الانقلاب على الأعقاب، وأنه ليس له من أمر العباد شيء، وأن كل ما يصيبهم من المصائب فهو نتيجة عملهم إذ هو عقوبة طبيعية لهم، وغير ذلك مما بينه الله - تعالى - في قوله: { { أولما أصابتكم مصيبة } [آل عمران: 165] إلخ، وقوله: { وما محمد إلا رسول } [آل عمران: 144] إلخ وغيرهما فلا نتعجله قبل الكلام في تفسير الآيات الناطقة به وما هي ببعيد.
ومن نكت البلاغة المؤيدة لما ذكرنا من اختلاف الحالين في الوقعتين: أنه - تعالى - قال هنا: { ولتطمئن قلوبكم به } وقال في سورة الأنفال:
{ ولتطمئن به قلوبكم } [الأنفال: 10] والفرق بينهما أن المؤمنين لم يكن لهم يوم بدر ما تطمئن به قلوبهم غير وعد الله وبشارته لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك كان من دعائه يومئذ: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا" قال عمر راوي هذا الحديث: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك. وأنزل الله يومئذ: { { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم } [الأنفال: 9] الآية. رواه أحمد ومسلم وغيرهما. فكان بهذا الوعد اطمئنان قلوبهم لا بسواه؛ فلذلك قدم (به) على (قلوبكم) وأما في يوم أحد فلم تكن الحال كذلك - كما علم مما تقدم آنفا - فلم تعد البشارة أن تكون مما يطمئن به القلب فقال: ولتطمئن قلوبكم به من غير قصر. ثم قال - تعالى -:
{ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين } ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا متعلق بقوله: ولقد نصركم الله ببدر وبعض آخر إلى أنه من الكلام في وقعة أحد المقصودة بالذات، فإن ذكر النصر ببدر إنما جاء استطرادا؛ ولذلك أنكروا أن يكون ذكر الملائكة الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف متعلقا به - وهذا هو المختار عندنا؛ أي إنه فعل ما فعل ليقطع طرفا، أو وما النصر إلا من عنده ليقطع طرفا. ومعنى قطع الطرف منهم إهلاك طائفة منهم، يقال: " قطع دابر القوم " إذا هلكوا، وقد نطق به التنزيل، وعبر عن الطائفة بالطرف لأنهم الأقرب إلى المسلمين من الوسط، أو أراد بهم الأشراف منهم - كذا قيل - والمتبادر الأول لا لأنه من باب
{ قاتلوا الذين يلونكم } [التوبة: 123] كما قيل، بل لأن الطرف هو أول ما يوصل إليه من الجيش، وقد أهلك الله من المشركين يوم أحد طائفة في أول الحرب.
روى ابن جرير عن السدي أنه قال: ذكر الله قتلى المشركين - يعني بأحد - وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال: { ليقطع طرفا من الذين كفروا } إلخ. ونقول: قد ذكر غير واحد من أهل السير أن قتلى المشركين يوم أحد كانوا ثمانية عشر رجلا، ورد عليهم آخرون بأن حمزة وحده قتل نحوا من ثلاثين، وصرح بعضهم بأن سبب غلط من قال ذلك القول هو ما روي أن بعض المسلمين أراد عد قتلى المشركين فعد ثمانية عشر، وصرح بعضهم بأن سبب ذلك أن المشركين أخذوا قتلاهم أو دفنوهم لئلا يمثل بهم المسلمون بعد المعركة كما مثلوا هم بالمسلمين عندما أصابوا الغرة منهم، وهذا هو المعقول. وانتظر أيها القارئ قوله - تعالى -:
{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } [التوبة: 165] الآية.
وأما قوله: { أو يكبتهم } فقد فسروه بأقوال: منها أن معناه يخزيهم، ومنها أن معناه يصرعهم لوجوههم وفي الأساس: كبت الله عدوه: أكبه وأهلكه، ولكن صاحب الأساس فسر الكلمة في الكشاف بقوله: " ليخزيهم، ويغيظهم بالهزيمة ". وقال الراغب: الكبت: الرد بعنف وتذليل. وقال البيضاوي: " أو يخزيهم. والكبت شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب " وكل هذه المعاني وردت في كتب اللغة، وصرح البيضاوي بأن (أو) هنا للتنويع لا للترديد، والمعنى: أنه يقطع طرفا وطائفة ويكبت طائفة أخرى، أي ويتوب على طائفة ويعذب طائفة كما في الآية الآتية.
{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } جملة { ليس لك من الأمر شيء } معترضة بين هذا التقسيم، وما بعدها معطوف على ما قبلها. ولما كانت هذه الآية مما نزل في وقعة أحد كما روي في الصحيح تعين أن تكون التي قبلها كذلك وإلا كانت غير مفهومة إلا بتكلف ينزه القرآن عن مثله على كونه لا حاجة إليه.
أما كونها نزلت في شأن وقعة أحد فيدل عليه ما ورد في سبب نزولها. روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عمر قال:
"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل ابن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتيب عليهم" . وروى البخاري عن أبي هريرة نحوهن، وروى أحمد ومسلم من حديث أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء }" الآية، ذكر ذلك كله السيوطي في لباب النقول ولم يعز الأول إلى الترمذي والنسائي اكتفاء بمن هو أصح منهما رواية، وقد روى ذلك ابن جرير من عدة طرق، وما روي غير ذلك لا يعتد به. ولا تنافي بين حديث ابن عمرو وحديث أنس لأن الجمع بينهما ظاهر، وهو أنه قال ما قال فيهم حين أدموه، ثم لعن رؤساءهم فنزلت الآية عقب ذلك كله.
وأما المعنى فقد قال ابن جرير: يعني بذلك - تعالى - ذكره: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء. فقوله: { أو يتوب عليهم } منصوب عطفا على قوله: { أو يكبتهم } وقد يحتمل أن يكون تأويله ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم، فيكون نصب يتوب بمعنى " أو " التي هي في معنى " حتى " والقول الأول أولى بالصواب؛ لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفار، وعقابهم بعد ذلك. وتأويل: { ليس لك من الأمر شيء } ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري وتنتهي فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري. أقضي فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي، انتهى قول ابن جرير وقد أورد بعده ما عنده من الروايات في الآية.
وأقول: لو لم يكن لما جرى في غزوة أحد حكمة إلا نزول هذه الآية لكفى، فكيف وقد جمع إليها ما سيأتي من الحكم الدينية والاجتماعية والحربية؟!
كان المؤمنون السابقون إلى الإسلام على ثقة من وعد الله - تعالى - بنصر نبيه وإظهار دينه لم يزلزل إيمانهم بذلك ضعفهم وقلتهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، وكانت وقعة بدر أول تباشير هذا النصر، فلما رأوا أن الله - تعالى - نصرهم على قلتهم وضعفهم بعد ما كان من دعاء الرسول وتضرعه واستغاثته ربه زادهم ذلك إيمانا بأنهم هم المنصورون، ولكن وقع في نفوس الكثيرين - إن لم نقل في نفوس الجميع - أن نصرهم سيكون بالآيات والعناية الخاصة من غير التزام للسنن الإلهية في الاجتماع البشري، وأن وجود الرسول فيهم ودعاءه على أعدائهم هما أفعل في التنكيل بالكفار من التزام الأسباب الظاهرة التي أهمها طاعة القائد والتزام النظام العسكري وغير ذلك، ولكن الإسلام دين الفطرة لا الخوارق.
كانت عاقبة ذلك أن قصروا في هذه الأسباب يوم أحد حتى ظهر عليهم العدو وجرح الرسول نفسه - وإن لم يقصر هو - ولم ينهزم - صلى الله عليه وسلم -، كما هي السنة الاجتماعية التي بينها - تعالى - قبل ذلك في سورة الأنفال بقوله:
{ { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [الأنفال: 25] - وإن تبرم الرسول من الكافرين ودعا على رؤسائهم - فكان ذلك فرصة لإعلام المؤمنين بحقيقة من حقائق دين الفطرة، وهي أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد ولا من أمر الكون شيء، وإنما هو معلم وأسوة حسنة فيما يعلمه، والأمر كله له كما صرح به في الآية (154) يدبره بمقتضى سننه كما نص على ذلك في الآية (137) وكلا الآيتين من هذا السياق.
هذا البيان الإلهي في هذه الواقعة يتمكن في النفوس ما لا يتمكن لو لم يكن مقرونا بواقعة مشهورة لا مجال معها لتأويله ولا لتخصيصه أو تقييده، فهو من أقوى دعائم التوحيد في القرآن، ودلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤسس ملك، وزعيم سياسة يديرها بالرأي لما قال مثل هذا القول في مثل هذا الموطن، فأي نصيب من هذا الدين للذين يجعلون أمر العباد وتدبير شئون الكون لطائفة من أصحاب القبور أو الأحياء الذين يلقبون بالمشايخ والأولياء فيزعمون أنهم ينصرون ويخذلون، ويسعدون ويشقون، ويميتون ويحيون، ويغنون ويفقرون، ويمرضون ويشفون، ويفعلون كل ما يشاءون؟ هل يعد هؤلاء من أهل الإسلام وأتباع القرآن الذي يخاطب خاتم النبيين والمرسلين - حين لعن رؤساء المشركين الذين حاربوه حتى خضبوا بالدم محياه وكسروا إحدى ثناياه - بقوله: { ليس لك من الأمر شيء } وقوله: { قل إن الأمر كله لله }؟ هذا تعليم القرآن الحكيم وهذا هديه القويم.
فهل كان أهل بخارى مهتدين به عندما كانوا يقولون وقد علموا بعزم روسيا على الاستيلاء على بلادهم: إن " شاه نقشبند " هو حامي هذه البلاد فلن يستطيعها أحد؟ هل كان أهل فاس مهتدين به عندما لجئوا إلى قبر وليهم " إدريس " يستغيثونه ويستفتحون به على الفرنسيس؟ هل كان المسلمون على شيء من هدى هذا الدين عندما كانوا يستنصرون بقراءة البخاري أو يستغيثون بالأولياء في بلاد كثيرة؟ أيزعمون أن تلك النزغات الوثنية تعد من الدعاء المشروع؟ ألم يعتبروا بهذه الآية وما رواه أهل الصحيح في سببها وهو دعاء النبي على رؤساء المشركين حين فعلوا ما فعلوا؟ ألم يتعلموا من ذلك أن الاستعداد بالفعل مقدم على الدعاء بالقول؟ ألم يروا أن سلفهم كانوا ينصرون أيام لم يكونوا دائما يقولون: " اللهم نكس أعلامهم، اللهم زلزل أقدامهم، اللهم يتم أطفالهم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين " وأنهم بعد اللهج بهذه الكلمات غير منصورين في جهة من الجهات؟ فالعمل العمل، الاستعداد الاستعداد، الأهبة الأهبة
{ { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } [الأنفال: 60] ولا قوة إلا بالعلم والمال، ولا مال إلا بالعدل، ولا عدل مع حكم الاستبداد، ثم بعد كمال الاستعداد يكون الذكر والاستمداد { { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا } [الأنفال: 45 - 46] هذا هدى الإسلام وقد تمثل لهم صدقه في النبي وصالحي المؤمنين، { أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } [المؤمنون: 68]؟؟.
ثم أكد - تعالى - هذه الحقيقة وأيدها بقوله: { ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم } فمن كان له ملك السماوات والأرض كان حقيقا بأن يكون له الأمر كله في السماوات والأرض، ولا يمكن أن يكون لأحد من أهلهما شركة معه ولا رأي ولا وساطة تأثير في تدبيرهما وإن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا إلا من سخره - تعالى - للقيام بشيء فإنه يكون خاضعا لذلك التسخير لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع، وفي ذلك تأديب من الله - تعالى - لرسوله وإعلام بأن ذلك اللعن والدعاء على المشركين مما لم يكن ينبغي له؛ ولذلك قال ابن جرير في تفسير الآية: " يعني بذلك - تعالى ذكره - ليس لك يا محمد من الأمر شيء ولله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم يحكم فيهم بما شاء، ويقضي فيهم ما أحب، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه غفور الغفور: الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح و رحيم بهم في تركه عقوبتهم - عاجلا - على عظيم ما يأتون من المآثم اهـ.
ولا تنس أن مشيئته المغفرة أو التعذيب جارية على سنن حكيمة مطردة كما تقدم غير مرة - راجع ص 223 من الجزء الثالث [طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب].