التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٧٠
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
١٧٤
إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
١٧٥
-آل عمران

تفسير المنار

بين - سبحانه وتعالى - حال المنافقين في قعودهم عن القتال في سبيل الله والدفاع عن الحقيقة وتثبيطهم إخوانهم قبل القتال وبعده، وقولهم فيمن قتلوا إنهم لو أطاعوهم ما قتلوا وبين أفنهم وفساد رأيهم في التوقي من الموت بعدم القتال والدفاع وهو في الحقيقة من أسباب الهلاك لا من أسباب السلامة، وبعد هذا كله أراد أن يبين حال من يقتل في سبيل الله، وأنه لا يكون بحيث يظن أولئك السفهاء في موتهم فقال - عز وجل -:
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عباس (رضي الله عنه) قال:
"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا" - وفي لفظ - "قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله - تعالى - ما معناه: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هذه الآيات" . وأخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: " لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا جابر! مالي أراك منكسرا؟ فقلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى. قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال: يا عبدي تمن على أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب - تعالى -: قد سبق مني أنهم لا يرجعون. قال: أي ربي فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية" قالوا: ولا تنافي بين الروايتين لجواز وقوع الأمرين ونزول الآية فيهما معا. وأقول: إن الآية متصلة بما قبلها متممة له، فإذا صح الخبران فهما من جملة وقائع غزوة أحد التي نزل فيها هذا السياق كله، والمعنى: لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه فيؤثرون الدنيا على الآخرة لو أطاعونا ما قتلوا أن من قتلوا في سبيل الله أموات قد فقدوا الحياة وصاروا عدما. وقرأ ابن عامر قتلوا بضم القاف وتشديد التاء للمبالغة بل هم { أحياء عند ربهم يرزقون } في عالم غير هذا العالم هو خير منه للشهداء وغيرهم من الصالحين، ولكرامته وشرفه أضافه الرب - تعالى - إليه فهذه العندية عندية شرف وكرامة لا مكان ومسافة. وقيل عندية علم وحكم، وإذا كان الأمر كذلك فليس يضير أولئك الذين قتلوا في سبيل الله قتلهم، وليس ما صاروا إليه دون ما كانوا فيه فلو فرضنا أن الخروج إلى القتال سبب مطرد للقتل لا يتخلف كما يوهم كلام المنافقين لما صح أن يكون مثبطا للمؤمن عن الجهاد عند وجوبه بمثل مهاجمة المشركين للمؤمنين في أحد، أو بفتنة المسلمين عن دينهم ومنعهم من الدعوة إليه وإقامة شعائره، وهو ما كان عليه جميع مشركي العرب في زمن البعثة، فكيف والخروج إلى القتال هو سبب للسلامة في الغالب؛ لأن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع غيرها فيها، فإذا هاجمها الأعداء ظفروا بها ونالوا ما يريدون منها.
وقد ذكرنا الخلاف في هذه الحياة في تفسير قوله - تعالى -:
{ { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } [البقرة: 154] وأن المختار فيها أنها حياة غيبية لا نبحث عن حقيقتها ولا نزيد فيها على ما جاء به خبر الوحي شيئا فلا نقول كما قال بعض متكلمي المعتزلة إن المراد بقوله بل أحياء أنهم سيكونون في أحياء الآخرة، فإن ظاهر الآية أنهم أحياء مذ قتلوا، ولا تخصيص في قولهم للشهداء ولا يتفق مع ما يأتي، ولا بقول من قال: إنهم أحياء بحسن الذكر وطيب الثناء كما يقال " من خلف مثلك ما مات " وقال الشاعر:

يقولون: إن المرء يحيا بنسله وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلو

ولا بقول من قال: إنهم أحياء بأجسادهم كحياتنا الدنيا يأكلون ويشربون وينكحون في قبورهم كسائر أهل الدنيا، ولا بقول من يقول إن أجسادهم ترفع إلى السماء، قال الإمام الرازي في القائلين بأنها حياة جسدية ما نصه: " والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إنه - تعالى - يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السماوات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات إليها، ومنهم من قال: يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها، ومن الناس من طعن فيه وقال: إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع فإما أن يقال: إن الله يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب إليها. أو يقال: إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله ويؤلفها ويرد الحياة إليها ويوصل الثواب إليها، وكل ذلك مستبعد ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل منه القيح والصديد، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة " اهـ. قال الأستاذ الإمام: وتطرف جماعة فزعموا أن حياة الشهداء كحياتنا هذه في الدنيا يأكلون أكلنا ويشربون شربنا ويتمتعون تمتعنا، وهو قول لا يصدر عن عاقل، لأن من الشهداء من يحرق بالنار ومن تأكله السباع أو الأسماك. وقال بعضهم: المراد أن أجسادهم لا تبلى ولم يزد على ذلك، ولكن هذا لم يثبت، على أن الجسد لا ثمرة له إذا خرجت منه الروح.
وجملة القول أن بعضهم يقول: إن هذه الحياة مجازية، وبعضهم يقول: إنها حقيقية ومن هؤلاء من يقول: إنها دنيوية، ومنهم من يقول: إنها أخروية ولكن لها ميزة خاصة، ومنهم من يقول: إنها واسطة بين الحياتين. وقد تقدم أن المختار عندنا هو عدم البحث في كيفية هذه الحياة وذكرنا في آية البقرة بحث ما ورد من كون أرواحهم تكون في حواصل طير خضر فراجعه (ج2ص 32ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب)
{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } أي مسرورين بما أعطاهم الله من فضله أي زيادة على ذلك الرزق الذي استحقوه بعملهم، فالفضل ما كان في غير مقابلة عمل، كما قال:
{ { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } [فاطر: 30]. { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة، وأصل الاستفعال طلب الفعل، فالمستبشرون بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة كذا قالوا، والعبارة للرازي ويصح أن يكون معنى الطلب فيه على حاله، والذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا في الدنيا قال الأستاذ الإمام: إنما قال " من خلفهم " للدلالة على أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم، فهو قيد فيه الخبر والحث والترغيب والمدح والبشارة وهو من البلاغة بالمكان الذي لا يطاول، والمعنى على الأول: ويطلبون البشرى بالذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم أي يتوقعون أن يبشروا في وقت قريب بقدومهم عليهم مقتولين في سبيل الله كما قتلوا، مستحقين من الرزق والفضل الإلهي مثل ما أوتوا، والمعنى على الثاني: أنهم يسرون بذلك عند حصوله.
هذا ما روي في وجه الاستبشار عن ابن جريج وقتادة وروي عن السدي أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيسر ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه عليهم في الدنيا. واختار أبو مسلم والزجاج أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم: هم إخوانهم الذين لا يحصلون فضيلة الشهادة فلا ينالون مثل درجتهم، وأن استبشارهم بهم يكون عند دخولهم الجنة بعد القيامة قبلهم فيرون منازلهم فيها ويعلمون أنهم من أهلها وإن فاتتهم درجة الشهادة، ولا سيما إذا كان المراد بالذين من خلفهم من جاهد مثلهم ولم يقتل:
{ { بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } [النساء: 95 - 96] والآية الآتية تؤيد كون المراد بمن خلفهم بقية المجاهدين الذين لم يقتلوا.
وقوله: { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل اشتمال من الذين لم يلحقوا بهم أي يستبشرون بهم من حيث إنه لا خوف عليهم، فالخوف والحزن على هذا منفيان عن الذين لم يلحقوا بهم. أو الباء للسببية والمعنى بسبب أنه لا خوف عليهم إلخ. وحينئذ يحتمل أن يكونا منفيين عنهم أنفسهم، أي إن الفرح والاستبشار يكونان شاملين لهم بحالهم وبحال من خلفهم من إخوانهم بسبب انتفاء الخوف والحزن عنهم وهم حيث هم. كما يحتمل أن يكون المراد نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم أيضا، والمختار عندي أن المراد بنفي الخوف والحزن نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم ممن قاتل معهم ولم يقتل، وأن الآية الآتية مفسرة لذلك. والخوف: تألم من مكروه يتوقع، والحزن: تألم من مكروه وقع، وتقدم تفسير هذا التركيب في الجزء الأول راجع تفسير
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [البقرة: 62] وقد قيل إن المراد بالخوف والحزن: ما يكون في الدنيا، وقيل: بل المراد ما يكون في الآخرة. ويجوز أن يكون المعنى أنه لا خوف عليهم في الدنيا من استئصال المشركين لهم أو ظفرهم بهم ثانية ولا هم يحزنون في المستقبل البعيد عندما يقدمون على ربهم في الآخرة، فاعرض هذا على الآيات الآتية إلى قوله { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }.
{ يستبشرون بنعمة من الله } ضمير يستبشرون إما للشهداء وإما للذين لم يلحقوا بهم، فإن كان للشهداء فهو عما يتجدد لهم من نعمة وفضل، أو المراد بقوله بنعمة ما ذكره في الآية السابقة من كونهم أحياء عنده يرزقون وفضل هو عين ما ذكره في الآية السابقة من كونهم فرحين بما آتاهم الله من فضله وإن كان للذين لم يلحقوا بهم فالمعنى أنهم يستبشرون بمثل ما فرح به الشهداء وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين وقرأ الكسائي " وإن " بكسر الهمزة على أنه تذييل، أو معترض لتأييد معنى ما قبله، والمؤمنون هنا عام أريد به خصوص الذين وصفهم بقوله: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } وهم إخوان أولئك الشهداء الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فدعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع أبي سفيان في حمراء الأسد فاستجابوا لله وله من بعد ما أصابهم القرح في أحد حتى أنهك قواهم وتقدم بيان ذلك مفصلا في أول السياق (راجع غزوة حمراء الأسد ص 88 ج 4 ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب) وقيل: هو على عمومه، وقيل: إن المراد به الشهداء والجملة على هذين القولين ابتدائية ومدحية.
وقال الأستاذ الإمام: ذكر في الآية السابقة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ثم ذكر هنا أنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل. فالذي آتاهم من فضله مجمل تفصيله ما بعده وهو قسمان: فضل عليهم في إخوانهم الذين وراءهم، وفضل عليهم في أنفسهم وهو نعمة الله عليهم، وفضله الخاص بهم في دار الكرامة، وقد أبهمه فلم يعينه للدلالة على عظمه وعلى كونه غيبا لا يكتنه كنهه في هذه الدار، ثم اختتم الكلام بفضله على إخوانهم كما افتتحه به، وترك العطف لتنزيل الاستبشار الثاني منزلة الاستبشار الأول حتى كأنه هو اهـ. ليس عندي في ذلك عنه غير هذا.
وقوله: { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } جملة ابتدائية على الوجه الأول، وخبرية على الوجهين الآخرين مما تقدم. وقد يقال: إن أولئك الذين استجابوا لله ولرسوله في تلك الحالة هم خيار المؤمنين، وكلهم من المحسنين المتقين، فما معنى قوله " منهم "؟ وأجابوا عن ذلك بأن " من " هنا للتبيين لا للتبعيض، وأن الوصف بالإحسان والتقوى للمدح والتعليل لا للتقييد، واختار الأستاذ الإمام قول من قال إن " من " للتبعيض وقال هي في محلها؛ لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج معه - صلى الله عليه وسلم - إلى " حمراء الأسد " أي وهم من الذين لا يضيع الله أجرهم، ولكنهم لا يستحقون الأجر العظيم الذي استحقه الذين خرجوا معه وهم مثقلون بالجراح ومرهقون من الإعياء إلى استئناف قتال أضعافهم من الأقوياء.
أقول: فالضمير في قوله " منهم " راجع على هذا القول للمؤمنين لا للذين استجابوا، وهو لا يظهر إلا إذا جعلنا قوله: الذين استجابوا منصوبا على المدح، والجملة المدحية معترضة - قال الأستاذ: وثم وجه آخر وهو أنه وجد في نفوس بعض المؤمنين بعد أحد شيء من الضعف، فهذه الآيات كلها تأديب لهم، ولما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - للخروج لبوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم عند الخروج بالفعل موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، فأراد من الذين أحسنوا واتقوا: الذين خرجوا بالفعل وهم بعض الذين استجابوا. والإحسان: أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة. والتقوى أن يتقي الإساءة والتقصير فيه. أقول: وهذا الوجه أظهر الوجوه وأحسنها.
ومما أشار إليه الأستاذ ما رواه ابن إسحاق أنه
"لما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطلب العدو وألا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس كلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال يا رسول الله إن أبى كان خلفني على أخوات لي سبع وقال: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي فتخلف على أخواتك. فتخلف عليهن، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ". فليعتبر المسلمون بهذه الآيات التي وردت في أولئك الأبرار الأخيار الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وكيف جاء وعدهم بالأجر مقرونا بوصف الإحسان والتقوى، وأنى يعتبر المغرورون المسيئون الذين هم عن صلاتهم ساهون والذين هم للزكاة مانعون، والذين يبخلون بأنفسهم فلا يبذلونها في سبيل الحق ولا يتعبون، والذين يقولون الكذب وهم يعملون، والذين يتولون المبطلين وينصرون، ويشاقون أهل الحق ويخذلون، ويحسبون أنهم على شيء! ألا إنهم هم الكاذبون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون.
{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } الذين قال لهم الناس: هم الذين استجابوا لله وللرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد للقاء المشركين إذ عاد بهم أبو سفيان لاستئصالهم وكانوا سبعين رجلا كما تقدم، ولكن روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة أن الآية
"نزلت في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك بيننا وبينك إن شاء الله (كما تقدم) فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران وقيل بلغ عسفان فألقى الله - تعالى - الرعب في قلبه فبدا له الجوع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو. فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم! فوالله لا يفلت منكم أحد. فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلقوا أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة (وكان معه - كما قال ابن القيم - ألفا رجل) فسماه أهل مكة جيش السويق، وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق" . قال بعضهم: ووافى المسلمون سوق بدر وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. وقال في ذلك عبد الله بن رواحة أو كعب بن مالك:

وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا

لأبت ذميما وافتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وابنه
وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم
وأمركم الشيء الذي كان غاويا وإني وإن عنفتموني لقائل
فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره
شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

فعلى هذه الرواية يكون المراد بالناس الذين قالوا للمؤمنين إن الناس قد جمعوا لكم: نعيم بن مسعود ومن وافقه فأذاع قوله، وعن الشافعي أنهم أربعة، وروي أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا. وعزاه الرازي إلى ابن عباس ومحمد بن إسحاق، وذكر قولا ثالثا عن السدي أن الناس الذين قالوا هم المنافقون، وأما الناس الذين جمعوا الجموع لقتال المسلمين فهم أبو سفيان وأعوانه قولا واحدا. قال الأستاذ الإمام: يجوز أن يكون نعيم بن مسعود قال ذلك وأن يكون قاله ركب عبد القيس وتحدث به المنافقون؛ فإن الأمر الكبير من شأنه أن يتحدث به الناس ويذهبون فيه مع أهوائهم. وقال أيضا: إن السبعين الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر الصغرى أو (بدر الموعد) هم الذين خرجوا معه إلى حمراء الأسد، فتصدق الآية على القصتين وتكون الآيات متأخرة النزول عما قبلها. وذكر ابن القيم في زاد المعاد والحلبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بدر الموعد في ألف وخمسمائة، ويجمع بينه وبين القول الأول بأن يكون خرج أولا بالسبعين ثم تبعه الباقون.
فزادهم إيمانا أي فزادهم قول الناس لهم إيمانا بالله وثقة به من حيث خشوه ولم يخشوا الناس الذين خوفوا منهم بأنهم جمعوا لهم الجموع واعتمدوا على نصره ومعونته وإن قل عددهم وضعف جلدهم، فإنه هو العزيز القوي وذلك من شأن المؤمنين كما جاء في الآية الثانية من الآيتين التاليتين، وكان من قوة إيمانهم وزيادته أن أقدموا - وهم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح - على محاربة الجيش الكبير، فالزيادة كانت في الإذعان النفسي، والشعور القلبي، وتبعها الزيادة في العمل، بعد ذلك القول الدال على ما انطوت عليه النفس من اليقين بوعد الله ووعيده، والشعور بعزته وسلطانه، ولولا ذلك لم يكن لهم حول ولا قوة على تلك الاستجابة والإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان، فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها.
قالوا: إن التصديق لا يعتد به ويكون إيمانا صحيحا إلا إذا وصل إلى درجة اليقين، فإذا نزل عن مرتبة اليقين كان ظنا أو شكا. وليس الظن إيمانا يعتد به، والشك كفر صريح ونقول: إن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ولا يعد إيمانا صحيحا هو ما لوحظ فيه جواز وقوع الطرف المخالف، أي ما لوحظ فيه طرفان متقابلان. أحدهما: أن هذا لأمر ثابت وثانيهما: أنه يحتمل احتمالا ضعيفا ألا يكون ثابتا، فإن جزم الذهن بأنه ثابت فلم يتصور الطرف المخالف - وهو عدم الثبوت - كان جزمه هذا إيمانا وإن لم يكن ناشئا عن برهان مؤلف من المقدمات اليقينية في عرف علماء المنطق على طريقتهم أو غير طريقتهم، ولا ملاحظا فيه استحالة الطرف المخالف. وأكثر المؤمنين بالله ورسله والمؤمنين بالجبت والطاغوت في هذه المرتبة من الإيمان ويصح أن يطلق على أهلها لفظ " الموقنين ".
ولو كان الإيمان لا يصح إلا ببرهان منطقي على إثبات قضاياه واستحالة ضدها لما تصور أن يرتد أحد عن الإسلام بعد دخوله فيه، لأن اليقين بهذا المعنى لا يمكن الرجوع عنه وإن أمكن مكابرته ومجاحدته باللسان؛ ولذلك قال الأستاذ الإمام: " الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس " يعني بذلك اليقين المنطقي الذي تنتهي مقدماته إلى البديهيات. ولكن الردة ثابتة نقلا ووقوعا. قال - تعالى -:
{ من كفر بالله من بعد إيمانه } [النحل: 106] وقال - تعالى -: { { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } [النساء: 137].
هذا وإن لليقين مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا وحصرها بعضهم في ثلاث: علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين. فالارتقاء من درجة إلى أخرى زيادة في نفس اليقين. ويروى عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أنه قال: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " وهذا القول مبني على أن اليقين يقبل الزيادة في نفسه، ومن أيقن بأن فلانا طبيب ماهر لأنه رآه نجح في معالجة بعض المرضى يضعف يقينه إذا رآه خاب في معالجة آخرين، ويزداد إذا رآه ينجح آونة بعد أخرى - ولا سيما - في معالجة الأمراض الباطنية التي يعسر تشخيصها.
ثم إن فائدة الإيمان إنما تكون بإذعان النفس الذي يحرك فيها الخوف والرجاء وغيرهما من وجدانات الدين التي يترتب عليها ترك المنكر المنهي عنه وفعل المعروف المأمور به، ولولا ذلك لم يكن للدين فائدة في إصلاح حال البشر. وهل يقول عاقل إن الإذعان والخوف والرجاء من الأمور التي لا تقبل الزيادة والنقصان؟ أما إنه لو كان إذعان جميع المؤمنين في درجة واحدة لتساووا في الأعمال ولكنهم متفاوتون فيها تفاوتا عظيما كما هو ثابت بالمشاهدة، فثبت أنهم متفاوتون في منشئها من النفس وهو الإذعان الذي يقوى ويضعف بالتبع للإيمان، وهذا عين قبول الزيادة والنقصان.
ومن هنا نفهم معنى إدخال السلف الصالح الأعمال في مفهوم الإيمان، فإن كل اعتقاد له أثر في النفس يتبعه عمل من الأعمال، فهي سلسلة مؤلفة من ثلاث حلقات يحرك بعضها بعضا، والإمام الغزالي يعبر عنها بالعلم والحال والعمل، فيقول: إن العلم بأن كذا يرضي الله - تعالى - أو كذا يسخطه مثلا يحدث في النفس حالا يترتب عليها فعل ما يرضيه ويقتضي مثوبته، وترك ما يسخطه ويقتضي عقوبته. ويقول: إن ترتب بعضها على بعض واجب. وعبارته: إن العلم يوجب الحال والحال يوجب العمل. فارجع إليه في كتاب التوبة وغيره من كتب المجلد الرابع من الإحياء.
وأما زيادة الإيمان بزيادة متعلقاته وهي المسائل التي يؤمن بها المؤمن التي يعبر عنها بشعب الإيمان فهي ظاهرة لا تحتاج في بيانها إلى شرح طويل؛ فإن هذه المسائل لا يمكن أن تتلقى إلا بالتدريج فكلما تلقى المؤمن مسألة منها ازداد إيمانا. وليس هذا خاصا بالكافر الذي يدخل في الإسلام، فإن الناشئ بين المؤمنين مثله في ذلك. وليست المسائل التي تزيد الإنسان معرفتها إيمانا محصورة في النصوص التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن القرآن هدانا إلى التفكير والنظر في ملكوت السماوات والأرض لنزداد إيمانا ونعتبر ونستفيد، وذلك يفتح لنا أبوابا من العلم بالله وسننه لا نهاية لها. فكل ما نهتدي إليه في بحثنا ونظرنا من أسرار الكائنات وسنن الله - تعالى - في المخلوقات فإنا نزداد به علما بالله وإيمانا بقدرته وحكمته البالغة، وقد قال - سبحانه - لأقوى الناس إيمانا وأوسعهم علما به وبسنته:
{ وقل رب زدني علما } [طه: 114].
وكذلك آيات القرآن تزيد من يتلقاها إيمانا كلما تلقى شيئا منها، وقد يتدبرها المؤمن بعد العلم بها بأيام أو سنين، فيفهم منها ما لم يكن يفهم فيزداد إيمانا. قال - تعالى -:
{ { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [التوبة: 124 - 125] وقال علي (رضي الله عنه) حين سئل هل خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟: لا إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن.
وليس هذا النوع من زيادة الإيمان هو المراد من الآية التي نحن بصدر تفسيرها، وإنما المراد به النوع الأول وهو الزيادة في أصل اليقين والإذعان المؤثر في الوجدان، فهي من قبيل قوله - تعالى -:
{ { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } [الأحزاب: 22].
{ وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } أي وقالوا معبرين عن إيمانهم حسبنا الله أي هو كافينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا لنا، وحسبنا بمعنى محسبنا، فهو من أحسبه إذا كفاه كما قالوا: ونعم الوكيل الذي توكل إليه الأمور هو، فإنه لا يعجزه أن ينصرنا عليهم على قلتنا وكثرتهم، أو يلقي الرعب في قلوبهم، ويكفينا شر بغيهم وكيدهم - وقد كان الأمر كذلك - فإن الله - تعالى - ألقى الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرتهم فولوا مدبرين، وأعز الله بذلك رسوله والمؤمنين.
{ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } أي فعادوا بعد خروجهم على لقاء الذين جمعوا لهم ومناجزتهم القتال متمتعين أو مصحوبين بنعمة من الله وهي السلامة كما روي عن ابن عباس، أو العافية كما روي عن مجاهد والسدي، أو ما هو أعم من ذلك. وأما الفضل فقد فسروه بالربح في التجارة، روى البيهقي عن ابن عباس " أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل " والظاهر أن هذا الموسم هو موسم بدر الصغرى وقد تقدم آنفا خبر الخروج إليها وأنهم اتجروا فيها وربحوا، وليس في ألفاظ الآية ما يدل على أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى أو بدر الموعد إلا هذه الكلمة بهذا التفسير لأن غزوة حمراء الأسد المتصلة بغزوة أحد قد قيل لهم فيها: إن الناس قد جمعوا لكم فزادهم ذلك إيمانا فخرجوا إلى لقائهم، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل معنوي لم يمسسهم سوء ولا أذى، وفسر السوء بالقتل والجراح واتبعوا رضوان الله أي أعظم ما يرضيه وتستحق به كرامته - وارجع إلى تفسير
{ { أفمن اتبع رضوان الله } [آل عمران: 162] إن كنت نسيته فما هو ببعيد { والله ذو فضل عظيم } فإن كان أكرمهم بذلك في الدنيا، فقد يعطيهم ما هو أعظم وأكرم في العقبى.
ومن مباحث البلاغة في الآية الإيجاز في قوله " فانقلبوا " فإنه يدل على أنهم خرجوا للقاء العدو، وأنهم لم يلقوا كيدا فلم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم، ومثل هذا الحذف الذي يدل عليه المذكور بمجرد ذكره كثير في القرآن، كقوله - تعالى -:
{ { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [الشعراء: 63] أي فضربه فانفلق. وقوله - تعالى - بعد ذكر مناجاة موسى - عليه السلام - له في أرض مدين وإرساله - تعالى - إياه إلى فرعون وجعل أخيه وزيرا له وأمرهما بأن يبلغا فرعون رسالته { { قال فمن ربكما يا موسى } [طه: 49] أي قال فرعون لما بلغاه الرسالة: إذا كان الأمر كما تقولان فمن ربكما يا موسى؟ فقد فهم من هذا الجواب أن موسى وهارون - عليهما السلام - صدعا بأمر ربهما وذهبا إلى فرعون فبلغاه ما أمرهما الله - تعالى - بتبليغه إياه.
{ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } قيل: إن المراد بالشيطان هنا شيطان الإنس الذي غش المسلمين وخوفهم ليخذلهم، واختلف في تعيينه فقيل هو أبو سفيان، فإنه أراد بعد أحد أن يكر ليستأصل المسلمين، وأرسل إليهم يخوفهم في بدر الثانية أو الصغرى. وقيل هو نعيم بن مسعود الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين عن الخروج إلى بدر الموعد (وقد أسلم نعيم يوم الأحزاب) وقيل هو وفد عبد القيس على الخلاف الذي تقدم ذكره في سبب النزول، وقيل بل المراد به شيطان الجن الذي يوسوس في صدور الناس على حد:
{ { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } [البقرة: 268] والمعنى على الأول: ليس ذلك الذي قال لكم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو من أوعز إليه بأن يقول ذلك أو من وسوس به إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وهم مشركو مكة يوهمكم أنهم جمع كثير أولو بأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم وتجبنوا عن مدافعتهم. والمعنى على الثاني: أن الشيطان يخوف أولياءه ولا سلطان له على أولياء الله المؤمنين فهو عاجز عن تخويفهم. وفي التفسير الكبير للرازي أنه يخوف أولياءه المنافقين فيسول لهم القعود عن قتال المشركين، ويزين لهم خذلان المسلمين. وإذا صح هذا من جهة المعنى فإن الإشارة فيه ليست جلية كجلائها في الوجه الأول ولا الثاني أيضا، ولا يظهر عليه قوله: { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } لأن المنافقين لم يكونوا بحيث يخاف المؤمنون منهم فينهون عن ذلك. أي لا تحفلوا بقولهم: فاخشوهم فتخافوهم بل خافوني أنا لأنكم أوليائي وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخين في الإيمان قائمين بحقوقه.
قال الأستاذ الإمام: في الآية التنبيه إلى الموازنة بين أولياء الشيطان من مشركي مكة وغيرهم. وبين ولي المؤمنين القادر على كل شيء كأنه يقول: عليكم أن توازنوا بين قوتي وقوتهم، ونصرتي ونصرتهم، فأنا الذي وعدتكم النصر، وأنا وليكم ونصيركم ما أطعتموني، وأطعتم رسولي، وفي هذا المقام شبهة تعرض لبعضهم، يقولون: إن تكليف عدم الخوف من تكليف ما لا يستطاع، ولا يدخل في الوسع، فإن الإنسان إذا علم أن العدد الكثير ذا العدد العظيمة يريد أن يواثبه وينزل به العذاب بأن رآه، أو سمع باستعداده من الثقات، فإنه لا يستطيع ألا يخافه، فكان الظاهر أن يؤمروا بإكراه النفس على المقاومة، والمدافعة مع الخوف لا أن ينهوا عن الخوف. والجواب: أن هذه الشبهة حجة الجبناء فهي لا تطوف إلا في خيال الجبان؛ فإن أعمال النفس من الخوف، والحزن، والفرح يتراءى أنها اضطرارية، وأن آثارها كائنة لا محالة مهما حدث سببها، والحقيقة أن ذلك اختياري من وجهين: (أحدهما) أن هذه الأمور تأتي بالعادة والمزاولة، ولذلك تختلف الشعوب والأجيال، فمن اعتاد الإحجام عند الحاجة إلى الدفاع يصير جبانا، والعادات خاضعة للاختيار بالتربية والتمرين، ففي استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف، ويعود نفسه الاستهانة بها، (وثانيهما) أن هذه الأمور إذا حدثت بأسبابها فالإنسان مختار في الإسلاس لها، والاسترسال معها حتى يتمكن أثرها في النفس، وتتجسم صورتها في الخيال، ومختار في ضد ذلك، وهو مغالبتها، والتعمل في صرفها وشغل النفس بما يضادها، ويذهب بأثرها، أو يتبدل به أثرا آخر مناقضا له، فهذا الأمر الاختياري هو مناط التكليف، كأنه يقول: إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله على كل شيء، وكونه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله وأن الحق يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق، وتذكروا قوله:
{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } [البقرة: 249] ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم، فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم اهـ. بتصرف منه، إن مقولة: " كأنه يقول " من عندي لأنني لم أكتب ما قاله -رحمه الله - فيه، وإنما تركت له بياضا لأكتبه في وقت الفراغ، ثم نسيته، ومراده أن الوجه الأول إنما يتعلق به الاختيار في التربية التدريجية، والثاني يتعلق به الاختيار فورا في كل وقت. وقد قلت في هذا المعنى شعرا في الحزن من مرثية نظمتها في أيام التحصيل وهو:

أطبيعة، ذا الحزن ليس يشذ عن ناموسه فرد من الأفراد
أم ذاك مما أوجبته شرائع الأ (م) ديان من هدى لنا ورشاد
أم ذلك العقل السليم قضى على كل الشعوب بهذه الأصفاد
كلا، فليس لأمر ضربة لازب لكنه ضرب من المعتاد
فاخلع سرابيل العوائد إن تكن ليست بنهج العقل ذات سداد
وتقلد الحزم الشريف كصارم كيما تنافح جيشها بجهاد

قال الأستاذ الإمام: إن قوله - تعالى - { إن كنتم مؤمنين } يفيد وجوب توثيق الإيمان بالله في القلب قبل كل شيء؛ لأن تلك الخواطر، والهواجس التي تحدث الخوف من أولياء الشيطان لا يمحوها من لوح القلب إلا الإيمان الصحيح الثابت، وفي قوله: { إن كنتم } إشارة إلى أن إيمان من يرجح الخوف من أولياء الشيطان على الخوف من الله - تعالى - مشكوك فيه. أقول: فليزن كل مؤمن نفسه بهذه الآية ويقارن بين عمله، وعمل الصحابة الكرام وبين إيمانه، وإيمانهم، لكيلا يكون من المغرورين.
من تدبر هذه الآية حق التدبر علم أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا، فالشجاعة وصف ثابت للمؤمنين، إذا شاركهم فيه غيرهم فإنه لا يدرك فيه مداهم، ولا يبلغ شأوهم. ومن بحث عن علل الأشياء يرى أن علة الجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة، وكل من الخوف والحرص مما يتسع له قلب المؤمن كقلب غيره. قال - تعالى - في سياق الكلام على اليهود:
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } [البقرة: 96] ولا يزال العالم كله يشهد أن الجيش الإسلامي أشجع جيوش الملل كلها، هذا مع ما مني به المسلمون من ضعف الإيمان، والجهل بالإسلام " هذا وما، فكيف لو ".