التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
١٨٧
لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨٨
وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٨٩
-آل عمران

تفسير المنار

وجه الاتصال بين الآية الأولى من هذه الآيات وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها كانت في أهل الكتاب - وقد تقدم أنه - تعالى - ذكر أحوال النصارى منهم وحاجهم في أول السورة - ثم ذكر بعض أحوال اليهود قبل قصة أحد، ثم عاد إلى بيان بعض شئونهم بعدها، فكان منه ما في هذه الآية وهو كتمان ما أمروا ببيانه، واستبدال منفعة حقيرة به لم يفصل بينه وبين ما قبله إلا بآيتين قد عرفت حكمة وضعهما في موضعهما. وقال الرازي: اعلم أن في كيفية النظم وجهين: (الأول) أنه - تعالى - لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأجاب عنها أتبعه بهذه الآية؛ وذلك لأنه - تعالى - أوجب عليهم في التوراة والإنجيل - على أمة موسى، وعيسى عليهما السلام - أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل على صحة دينه، وصدق نبوته، ورسالته، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل: كيف يليق بكم إيراد الطعن في نبوته، ودينه مع أن كتبكم ناطقة، ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صحة نبوته، ودينه، (الثاني) أنه - تعالى - لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد - صلى الله عليه وسلم - احتمال الأذى من أهل الكتاب، وكان من جملة إيذائهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة، والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها، ويذكرون لها تأويلات فاسدة، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر اهـ. وقد علمت ما هو المراد بالأذى في تفسير الآية السابقة.
وقال الأستاذ الإمام: وجه الاتصال بين هذه الآية، وما قبلها هو أن ما ذكر في الآية السابقة من البلاء الذي يصاب به المؤمنون إنما يصابون به لأخذهم بالحق ودعوتهم إليه، ومحافظتهم في الشدائد عليه، فناسب بعد ذكر ذلك البلاء الذي أخبر الله به المؤمنين، ووطن عليه نفوسهم - ليثبتوا ويصبروا - أن يذكر لهم مثل الذين خلوا من قبلهم، إذ أخذ عليهم الميثاق ببيان الحق فكان من أمرهم ما استحقوا به الوعيد المذكور في الآية، فهو يذكر المؤمنين بذلك، كأنه يقول لهم: إنكم إذا كتمتم ما أنزل عليكم يكون وعيدكم كوعيدهم قال - تعالى -:
{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } أي اذكروا إذ أخذ الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم، قال الأستاذ الإمام: ولا نقول في التوراة لأن القرآن لم يقل بذلك، ولا بعدمه، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه، ونزيد عليه بغير علم { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } أي أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين، وفيه معنى التكثير، والتدريج، كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين، فيقال له: الله لتفعلن كذا، فقرءوا بتاء الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية ابن عياش بالمثناة التحتية { ليبيننه للناس ولا يكتمونه } لأنهم غائبون. وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية 81 من هذه السورة ((راجع ص287 من جزء التفسير الثالث ط الهيئة العامة للكتاب).
روي عن سعيد بن جبير، والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن الحسن، وقتادة: أنه الكتاب الذي أوتوه وهو الظاهر المتبادر، ويدخل فيه البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الأستاذ الإمام: وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي، ولا يئولوه، ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ومقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع في فهمه لبس، ولا اضطراب. وههنا أمران: العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان، وعدم العلم به بالمرة، وهو نتيجة الكتمان، وقد يقال: إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولا، ثم يأمر بالبيان؛ لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب فلماذا عكس؟ والجواب عن هذا أن القرآن قدم أهم الأمرين؛ لأن المخالفة في الأول وهو الكتمان تقتضي الجهل البسيط وهو الجهل بالدين، وفي الثاني تقتضي الجهل المركب وهو اعتقاد ما ليس بدين دينا، والجهل البسيط أهون لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوما فيهتدي به ويعرف الدين، وأما الجهل المركب - وهو فهمه على غير وجهه - فيعسر زواله بالمرة فيكون صاحبه ضالا مع وجود أعلام الهداية أمامه.
قال: والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا، وفي أنفسنا، فإن كتابنا - وهو القرآن العزيز - لم يوجد كتاب في الدنيا حفظ كما حفظ، ونقل، ونشر كما نشر، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم، وهم يتلونه في كل مكان؛ حتى إنك تسمعه في الشارع، والأسواق، ومجتمعات الأفراح، والأحزان، وفي كل حال من الأحوال، ولكنهم تركوا تبيينه للناس فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئا؛ فإنهم فقدوا هدايته حتى إنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويعترفون بأن الغش قد عم وطم، ويعترفون بارتفاع الأمانة، وشيوع الخيانة إلخ.. إلخ، وكل هذا من نتائج ترك التبيين.
قال: ولهذه التعمية، وهذا الاضطراب في فهم الكتاب أسباب أهمها ما كان من الخلاف بين العلماء من قبل - لاسيما في القرن الثالث - فقد انقسمت الأمة إلى شيع وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع، وصار كل فريق ينصر مذهبه ويحتج له بالكتاب يأخذ ما وافقه منه ويئول ما خالفه، واتبعهم الناس على ذلك، ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن، وتأييد ما يذهبون إليه به، وتأويل ما عداه (أقول: بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك، ولا يرون فيه للقرآن فائدة تتعلق بمعناه، بل كل فائدة عندهم أنه يتبرك به، ويتعبد بألفاظه، ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح)، حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخلافات، فإنها أهون من هجر القرآن بتاتا، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين دينا، وحتى إن العلماء يرونالمنكرات فلا ينكرونها بل كثيرا ما يقعون فيها، أو يتأولون لفاعليها، ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه.
وأقول: إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب - وهم المفسرون - لم يكن تبيينهم كاملا كما ينبغي، وكان جمال الدين يقول: " إن القرآن لا يزال بكرا "، وإن لي كلمة ما زلت أقولها، وهي أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم، وما كان ذلك لبلادة، وإنما جاء من أمور أهمها: الافتتان بالروايات الكثيرة، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام، والأصول، والفقه، وغير ذلك، ومحاولة نصر المذاهب، وتأييدها.
ثم أقول: إن البيان، أو التبيين على نوعين: أحدهما تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه، وثانيهما تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم، وهدايتهم بما أنزل إليهم من ربهم، وكل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه، ولا يشترط فيه ما اشترطه بعض الفقهاء من الاستفتاء، والسؤال إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس، وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك، والقرآن حجة عليهم، وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله - تعالى - في هذه السورة:
{ { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران: 104] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء; فإن الأمر وإن كان هناك للوجوب لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين، وأكد بقوله: { { وأولئك هم المفلحون } [آل عمران: 104] إلا أن التأكيد فيه دون أخذ الميثاق هنا، وما فيه من معنى القسم، ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب، وبيعه بثمن قليل، ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال:
{ فنبذوه وراء ظهورهم } النبذ: الطرح، وقد جرت كلمة نبذه وراء ظهره مجرى المثل في ترك الشيء، وعدم المبالاة به، والاهتمام بشأنه، كما يقال في مقابل ذلك: " جعله نصب عينيه، أو ألقاه بين عينيه " أي اهتم به أشد الاهتمام بحيث كأنه يراه في كل وقت فلا ينساه ولا يغفل عنه، وفيه تنبيه إلى كون هذا هو الواجب الذي كان عليهم أن يقوموا به فيجعلوا الكتاب إماما لهم ونصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهر لا ينظر إليه، ولا يفكر في شأنه، وكذلك كان أهل الكتاب (منهم) الذين يحملونه كما يحمل الحمار الأسفار فلا يستفيد مما فيها شيئا، (ومنهم) الذين يحرفونه عن مواضعه، (ومنهم) الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها، أي قراءات يقرءونها، أو تشهيات يتشهونها، وتقدم بيان ذلك في سورة البقرة، وسيأتي في مواضع أخرى.
ثم بين - تعالى - جريمة أخرى من جرائمهم في الكتاب فقال: { واشتروا به ثمنا قليلا } أي أخذوا بدله فائدة دنيوية قليلة لا توازي عشر فوائد بيان الكتاب، والعمل به، فكانوا مغبونين في هذا البيع، والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرءوسين وعكسه - كما تقدم في سورة البقرة، وفي هذه السورة - ومنه ما يتقرب به العلماء إلى الحكام، وأجور الفتاوى الباطلة، وسيأتي بعض التفصيل فيه، والعبرة به.
وقد أرجع بعضهم كالزمخشري الضمير في قوله: { فنبذوه } وقوله: { واشتروا به } إلى الميثاق. وجرى مثل ذلك على لسان الأستاذ الإمام في الدرس، ونقله عنه بعض الطلاب، ولعله سهو، فإن هذه الآية بمعنى آية البقرة
{ { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ما يأكلون في بطونهم إلا النار } [البقرة: 174] الآية، وهي صريحة في الكتاب، فيراجع تفسيرها في الجزء الثاني، وفي معناها آيات أخرى منها قوله: { { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [البقرة: 79] ومنها في خطاب بني إسرائيل { { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } [البقرة: 41] فيراجع تفسيرهما في الجزء الأول. وورد في هذه السورة (آل عمران) بيع العهد والأيمان، واشتراء الثمن القليل بهما في الكلام على اليهود، قال - تعالى -: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } [آل عمران: 77] الآية. وتراجع في الجزء الثالث، والعهد يأتي بمعنى الميثاق، ويطلق بمعنى ما عهد الله به إلى الناس في وحيه من الشرائع كقوله - عز وجل -: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [يس: 60] الآية. وقوله: { { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين } [البقرة: 125] الآية، فالعهد بهذا المعنى يراد به المعهود به فيكون بمعنى الكتاب، وهو المراد في الآية المذكورة آنفا (3: 77)، ولذلك أفرد العهد، وعطف عليه الأيمان؛ لأن العهد واحد وإن اشتمل على أحكام كثيرة وهو الكتاب، والأيمان تعتبر كثيرة بكثرة من أخذت عليهم.
وجملة القول: أن الضمير في قوله: فنبذوه وقوله: واشتروا به هو ضمير الكتاب لا الميثاق كما قيل.
الأستاذ الإمام: نبذوا الميثاق: لم يفوا به إذ تركوا العمل بالكتاب، والثمن القليل الذي اشتروه به لم يبينه القرآن؛ لأنه ظاهر في نفسه، ومعروف من سيرتهم، وهو عبارة عن التمتع بالشهوات الدنية واللذائذ الفانية، فكان أحدهم يجد في العمل بالكتاب، والتزام الشريعة مشقة فيتركه حبا في الراحة، وإيثارا للذة، وأما التأويل والتحريف فقد كان لهم فيه أغراض كثيرة: (منها) الخوف من الحكام، والرجاء فيهم، فيحرف رجال الدين النصوص عن مواضعها المقصودة، ويصرفونها إلى معان أخرى ليوافقوا ما يريد الحاكم فيأمنوا شره، وينالوا بره. (ومنها) إرضاء العامة، أو الأغنياء خاصة بموافقة أهوائهم لاستفادة الجاه، والمال. (ومنها) - وهو الأصل الأصيل في التحريف - الجدل، والمراء بين رجال الدين أنفسهم لاسيما الرؤساء وطلاب الرياسة منهم، فإن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا، أو أفتى فأخطأ فأبان خطأه آخر ينبري لتصحيح قوله، وتوجيه فتياه، وتخطئة خصمه، وتأخذه العزة بالإثم فيرى الموت أهون عليه من الاعتراف بخطئه، والرجوع إلى قول أخيه في العلم والدين. (ومنها) الجهل، فإن المتصدي للتعليم، أو الفتيا قد يجهل مسائل فيتعرض لبيانها بغير علم، وإذا أبيح لمثل هذا أن يعلم للأسباب التي نعهدها من الرؤساء الذين يجيزون جهلة الطلاب بالتدريس، ويعطونهم الشهادة بالعلم محاباة لهم، فإنه يربي تلاميذ أجهل منه فيكونون كلهم محرفين مخرفين، ويفسد بهم الدين لاسيما إذا صاروا مقربين من الأمراء والحكام. (ومنها) انقطاع سلسلة أهل الفهم، والتبيين، وخبط الناس بعدهم فيما يؤثر عنهم من بيان، وتأويل، وحمله على غير المراد منه حتى بعدوا عن الأصل بعدا شاسعا.
قال: وانظر في حال المسلمين - الذين اتبعوا سنن من قبلهم - واعتبر بحال بعض أهل الأزهر ترى بعينيك كما رأينا، وتسمع بأذنيك كما سمعنا، وتفهم سر ما قصه الله من أنباء أهل الكتاب علينا.
أقول: ومما سمعه هو - وهو العجب العجاب - قول شيخ من أكبر الشيوخ سنا وشهرة في العلم في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملإ من العلماء: " من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق " يعني أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء، فقال له الأستاذ الإمامرحمه الله تعالى: " من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق " وقد ذكرنا هذه المسألة في المنار في زمنهما.
واعلم أنه لا مفسدة أضر على الدين وأبعث على إضاعة الكتاب، ونبذه وراء الظهر، واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام، فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام - لاسيما المستبدين منهم - وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية، ومعايش العلماء في أيدي السلاطين، والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالا في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاءوا من غش العامة باسم الدين، وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول، ولا فتوى من عالم رسمي مطوق بتلك السلاسل، وقد انتهى الأمر بالرتب العلمية في الدولة العثمانية أن صارت توجه على الأطفال بل الجاهلين من الرجال حتى قال فيها أحد علماء طرابلس الشام من قصيدة طويلة في سوء حال الدولة:

زمن رأيت به العجائب وذهلت فيه من الغرائب
زمن به الوهم السخي ف على عقول الناس غالب
أفلا تراهم جانبوا كسب المعارف والمآدب
ورضوا بأوراق تخط خطوطها مثل العقارب

يشهدن زورا أن من هي باسمه نور الغياهب
علامة العلماء أو بلاغ دولته المآرب
ويكون أجهل جاهل ولما لها بالغش ناهب
أو أنه حدث على فخذيه خرء الليل لازب

ثم هزأ الناظم بعد ذلك بكساوي التشريف العلمية وشبهها - وهي على العلماء - بالسروج (المزركشة) على الدواب " والسيور على القباقب " إلى أن قال:

ضحكت عليهم دولة هرمت وقاربت المعاطب

على أنه صار بعد ذلك من حملة هاتيك الأوراق، والمتزينين بتلك الكساوي الموشاة والمتحلين بتلك الأوسمة البراقة الذين يسبحون بحمد السلطان معطيها بكرة وأصيلا، ويضللون من يطلب إصلاح حال الدولة تضليلا؟ فهل يوثق بعلم عالم مقرب من المستبدين أو بدينه؟
إن علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين أشد مما يهربون من الحيات، والعقارب، ورووا في ذلك أخبارا، وآثارا كثيرة: منها قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"سيكون بعدي أمراء" - زاد في رواية "يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض" الحديث رواه الترمذي، وصححه، والنسائي، والحاكم، وصححه أيضا، والبيهقي. وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم وتصدقوا كذبهم، فأعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد" رواه الطبراني عن أبي سلالة، وله طرق أخرى، وإنما أوردناه لقوله فيه: "يملكون أرزاقكم" .
ومنها حديث أنس المشهور: " العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم " رواه العقيلي في المصنف، والحسن بن سفيان في مسنده، وكذا الحاكم في التاريخ، وأبو نعيم في الحلية، والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، ونازع السيوطي ابن الجوزي في وضعه فقال: إن له شواهد فوق الأربعين، فيحكم له على مقتضى صناعة الحديث بالحسن.
ومنها حديث ابن عباس:
"إن أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرءون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا" قال السيوطي: رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات، وكذا ابن عساكر. ومن حديثه عند الديلمي: " "سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة، ولا يرغبون، ويزهدون في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون"
". ومنه أيضا عند أصحاب السنن الثلاثة وحسنه الترمذي: " "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن" .
ومنها حديث معاذ بن جبل: " "ما من عالم أتى صاحب سلطان طوعا إلا كان شريكه في كل لون يعذب به في نار جهنم " أخرجه الحاكم في تاريخه، والديلمي. وأخرج أبو الشيخ في الثواب، والحاكم في التاريخ من حديثه أيضا: " إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين، ثم أتى باب السلطان تملقا إليه، وطمعا لما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنم " وأخرجه الديلمي من حديث أبي الدرداء بلفظ آخر.
وفي الباب أحاديث أخرى، أوردها الحافظ السيوطي في كتاب خاص سماه (الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) والآثار عن السلف الصالح في ذلك أكثر لظهور أمراء الجور في زمنهم، وتهافت العلماء عليهم، منها قول حذيفة الصحابي الجليل: " إياكم ومواقف الفتن. قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه: " وقال أبو ذر الصحابي الجليل لسلمة بن قيس: " لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك أفضل منه "، وقال الأوزاعي الإمام المشهور: " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا، أي من عمال الحكومة " وقال سمنون العابد الشهير: " ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد، فيسأل عنه، فيقال عند الأمير، وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج، فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم " اهـ، وقد أشار بقوله: وكنت أسمع إلخ إلى حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص" رواه الديلمي في مسند الفردوس. أو إلى قول سفيان الثوري ليوسف بن أسباط: إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص. وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، وإياك أن تخدع، فيقال لك: نرد مظلمة، ندفع عن مظلوم، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها للقراء سلما.
أقول: يعنون بالقراء علماء الدين، يعني أن الشيطان يلبس على رجال الدين ما يلبسون فيقول لهم ويقولون: إننا لا نريد بغشيان الأمراء والتردد عليهم إلا نفع الناس، ودفع المظالم عنهم، وهم إنما يريدون المال والجاه بدينهم، ويقل الصادق فيهم. وهكذا أضاعوا دينهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا.
وقد نظم كثيرون من ناظمي الحكم بعض هذه المعاني. ومن أحسن ما نظم في ذلك قول بعضهم:

قل للأمير مقالة لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى أبوابكم لا خير فيه

قال - تعالى -: { فبئس ما يشترون } أي هو ذميم قبيح، لأنهم يجعلون هذا العرض الفاني بدلا من النعيم الباقي في الآخرة، وكذا من سعادة الدنيا الحقيقية التي تحصل للأمة بمحافظة العلماء على الكتاب، وتبيينه لها، وإرشادها به إلى ما يهذب أخلاقها، ويعلي آدابها، ويجمع كلمتها، ويحول بينها وبين مطامع المستبدين فيها حتى تكون أمة عزيزة قوية متكافلة متضامنة، أمرها شورى بين أهل الرأي، وأولي الأمر من أفرادها.
ثم قال - عز وجل -: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } روى الشيخان، وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم وهذه! إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه. وأخرج الشيخان أيضا من حديث أبي سعيد الخدري: " أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية، " وأخرج عبد الرزاق في تفسيره، عن زيد بن أسلم: أن رافع بن خديج، وزيد بن ثابت كانا عند مروان فقال مروان: يا رافع، في أي شيء أنزلت هذه الآية { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا }؟ قال رافع: " أنزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا، وقالوا: ما حبسنا عنكم إلا شغل، فلوددنا لو كنا معكم فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكأن مروان أنكر ذلك فجزع رافع من ذلك، فقال لزيد بن ثابت: أنشدك الله هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم "، قال الحافظ ابن حجر يجمع بين هذا، وبين قول ابن عباس: بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا، قال: وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود: نحن اليهود، نحن أهل الكتاب الأول، والصلاة، والطاعة، ومع ذلك لا يقرون بمحمد. وروى ابن أبي حاتم من طرق، عن جماعة من التابعين نحو ذلك، ورجحه ابن جرير، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، انتهى من لباب النقول. وقد أخرج هذه الروايات غير من ذكرناهم أيضا.
وقد وجهها بعض من قال: إنها نزلت في اليهود بغير ذلك الوجه الخاص في رواية الصحيحين، عن ابن عباس، ومما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس في ذلك أنه قال: هم أهل الكتاب، أنزل عليهم الكتاب، فحكموا بغير الحق، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فرحوا بأنهم كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ويصلون، ويطيعون الله، وروي عن الضحاك: أنهم فرحوا بما أتوا من تكذيب النبي، والكفر به، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وهو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أهل الصلاة والصيام. وهذا وجه وجيه وهو الذي اختاره ابن جرير، وبمثل هذا العموم يوجه نزولها في المنافقين.
الأستاذ الإمام: كان الكلام في أهل الكتاب لتحذير المسلمين من مثل فعلهم في سياق الحض على الاستمساك بعروة الحق، وحفظه، والدعوة إليه، إذ أخذ على أولئك الميثاق، فقصروا فيه، وتركوا العمل بالكتاب، وتبيينه للناس، واشتروا به ثمنا قليلا، فاستحقوا العقاب من الله - تعالى -. بعد هذا بين في هذه الآية حالا آخر من أحوال أولئك الغابرين ليحذر المؤمنين منه، لأنهم عرضة له، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ويرون لأنفسهم شرفا فيه، وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم، وهذا فرح بالباطل، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب، ومفسروه، وعلماؤه، ومبينوه، والمقيمون له، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه عن الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام، وأهواء سائر الناس يطلبون بذلك حمدهم، بين الله هذه الحال في أسلوب عجيب، بين فيه حكما آخر، وهو أن هؤلاء الفرحين المحبين للمحمدة الباطلة قد اشتبه أمرهم على الناس، فهم يحسبون أنهم أولياء الله، وأنصار دينه، وعلماء كتابه، وأنهم أبعد الناس عن عذابه، وأقربهم من رضوانه، فبين الله كذب هذا الحسبان، ونهى عنه، وسجل عليهم العذاب.
أقول: إن هذه الآية على عمومها مبينة لشيء من الثمن الذي استبدلوه بكتاب الله، وكونه بئس الثمن، وهو أمران: " أحدهما " فرحهم بما أتوه من الأعمال فرح غرور، وخيلاء، وفخر على أن منه نبذ كتاب الله بترك العمل به، وعدم تبيينه على وجهه، إما بتحريفه عن مواضعه ليوافق أهواء الحكام، أو أهواء الناس، وإما بالسكوت عنه، والأخذ بكلام العلماء السابقين تقليدا بغير حجة إلا ادعاء أنهم كانوا أعلم بالكتاب، وأنهم إن خالفوا بعض نصوصه فلا بد أن يكون عندهم دليل أوجب عليهم ذلك. " وثانيهما ": حب المدح، والثناء بالباطل، فإنهم يتبعون أهواء الحكام، والناس في الدين، ويحبون أن يحمدوا بأنهم يبينون الحق لوجه الله لا تأخذهم فيه لومة لائم، فإن الحاكم، أو غير الحاكم إذا احتاج إلى عمل يرضي به هواه، وشهوته مما يحظره عليه الدين فلجأ إلى العالم فعلمه حيلة شرعية يسلم بها من نقد الناقدين، وذم المتدينين، فشك أنه يحمد ذلك العالم ويطريه بأنه العالم التقي المحقق، لا مكافأة له فقط بل يرى من مصلحته أن يعتقد الناس العلم والصلاح في مفتيه ليأخذوا كلامه بالقبول، وقد علمنا من الثقات أن الحكام منذ كانوا يتواطئون مع كبار شيوخ العلم، وشيوخ الطريق المحترمين - عند العامة - على تعظيم كل فريق منهم للآخر، فرؤساء الحكام يظهرون للعامة احترام العلماء، والاعتقاد بولاية كبار شيوخ أهل الطريق، فيقبلون أيديهم عند اللقاء، وربما أهدوا إليهم بعض الهدايا، والمشايخ من العلماء، وأهل الطريق يظهرون للعامة احترام أولئك الحكام، ويشهدون بقوة دينهم، وشدة غيرتهم على الإسلام والمسلمين، ووجوب طاعتهم في السر والجهر - يقولون: وإن ظلموا وجاروا؛ لأنهم مسلطون من الله عز وجل!!! فهكذا كان الظالمون المستبدون، وما زالوا يستفيدون من الدين بمساعدة رجاله، ويتفق الرؤساء من الفريقين على إضاعة حقوق الأمة وإذلالها لهم ليتمتعوا بلذة الرياسة ونعميها فيفرحون بما أتوا من ضروب المكايد السياسية، والاجتماعية، والتأويلات الدينية التي ترفع قدرهم، وتخضع العامة لهم، ويحبون أن يحمدوا دائما بأنهم أنصار الدين، وحماته، ومبينو الشرع ودعاته، وإن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتوجهوا إلى كتب أمثالهم، وأشباهم، وكانت الأمة لا تزداد كل يوم إلا شقاء بهم، حتى سبقتها الأمم كلها بسوء سياستهم، ولو أنهم أقاموا الكتاب كما أمروا بالبيان له، والعمل به، وإلزام الحكام بهديه لما عم الفسق، والفجور، وصارت الشعوب الإسلامية دون سائر الشعوب حتى ذهبت سلطتها، وتقلص ظلها عن أكثر الممالك التي كانت خاضعة لها، وهي تتوقع نزول الخطر بالباقي وهو أقلها.
وقد كان الأمراء والسلاطين فمن دونهم من كبراء الحكام هم الذين يخطبون ود العلماء، والمتصوفة، ويستميلونهم إليهم، وهؤلاء يتعززون، فيستجيب للرقية بعضهم، ويعتصم بالإباء، والتقوى آخرون؛ ثم انعكست الحال، وضعف سلطان التقوى أمام سلطان الجاه، والمال، فصار رجال الدين هم الذين يتهافتون على أبواب الأمراء والسلاطين، فيقرب المنافقون، ويؤذى المحقون المتقون، وتكون مراتب الآخرين على نسبة قربهم من أحد الطرفين.
هذا ما أحببت التذكير به في تبيين العبرة بالآية في سياسة الأمة، وعمل رؤساء الدين والدنيا الذين يفرحون بأعمالهم وإن ساءت، ويحبون أن يحمدوا بالشعريات الكاذبة التي راجت سوقها في هذا العصر بالصحف المنتشرة المعروفة بالجرائد، فالكثير منها قد أتقن هذه الجريمة - مدح السلاطين والأمراء والرؤساء بما لم يفعلوا - حتى اطمأنوا باعتقاد السواد الأعظم أن سيئاتهم حسنات، وحتى بطلت فائدة المحمدة الصحيحة وحب الثناء بالحق، والشكر على العمل فانهد بذهاب هذه الفائدة ركن من أركان التربية، والإصلاح القومي، والشخصي، فإن حب الحمد غريزة من أقوى غرائز البشر التي تنهض بالهمم، وتحفز العزائم إلى الأعمال العظيمة النافعة رغبة في اقتطاف ثمار الثناء عليها، فإذا كان الإنسان يدرك هذا الثناء الذي يستحقه العاملون بدون أن يكلف نفسه عناء العمل للأمة، ونفع الناس بكذب الجرائد في حمده، والثناء عليه بالباطل قعدت همته ووهت عزيمته، وأخلد إلى الراحة، أو اشتغل بالعمل للذته فقط.
فإذا كان العالم الذي ينتمي إلى الأمراء والسلاطين، وينال الحظوة عندهم لا يوثق بعلمه، ولا بدينه - كما تقدم بيانه والاستدلال عليه بالأحاديث والآثار - فأصحاب الجرائد أولى بعدم الثقة بأخبارهم، وآرائهم إذا كانوا كذلك. وأنى للعوام المساكين فهم هذا وإدراك سره والجهل غالب، والغش رائج، والناصح المخلص نادر؟ وقد صارت حاجة الملوك والأمراء المستبدين إلى حمد الجرائد توازي حاجتهم إلى حمد رجال الدين في غش الأمة، أو تزيد عليها؛ ولذلك يغدقون عليهم النعم، ويقربونهم، ويحلونهم بالرتب، وشارات الشرف التي تعرف بالأوسمة، أو النياشين، كما يحرص على إرضائهم كل محبي الشهرة بالباطل من الأغنياء، والوجهاء.
لولا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية لما قيد الله الوعيد على حب الحمد بقوله: بما لم يفعلوا فهذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم، ولا متوعد عليه، وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة، بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة كقوله - تعالى - لنبيه:
{ ورفعنا لك ذكرك } [الشرح: 4] وقوله في القرآن: { { وإنه لذكر لك ولقومك } [الزخرف: 44] نعم، إن هناك مرتبة أعلى من مرتبة من يعمل الحسنات ليحمد عليها، وهي مرتبة من يعملها حبا بالخير لذاته، وتقربا به إلى الله - تعالى -.
على أن المدح بالحق لا يخلو في بعض الأحوال من ضرر في الممدوح كالغرور والعجب، وفتور الهمة عن الثبات والمواظبة على العمل الذي حمد عليه، وهذا هو سبب النهي عن المدح في حديث أبي بكرة عند أحمد، والشيخين، وغيرهم قال:
" إن رجلا ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك" - وفي رواية: - "ويلك - قطعت عنق صاحبك - يقوله مرتين - إن كان أحدكم مادحا لأخيه، فليقل: أحسبه كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا" وفي رواية عند الطبراني في المعجم الكبير زيادة: والله لو سمعها ما أفلح نعم، يحتمل أن تكون عبارة ذلك المادح مما يستنكر من قبح الإطراء، وأن يكون ذلك الممدوح بها ممن يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - استعداده للغرور بما يقال فيه، فوقائع الأحوال موضع للاحتمالات لما فيها من الإجمال كما هو مشهور، ولكن قل من يسلم من الاغترار بالمدح، ولاسيما إذا كان إطراء، وقلما يكون الإطراء حقا، وقلما يلتزم المطرون الحق؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من حديث المقداد بن الأسود، وبعضهم، وغيرهم عن أنس، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" رواه البخاري من حديث ابن عمر.
ثم أعود إلى المسألة الأولى، فأقول: إن الفرح بالعمل من شأن المغرورين، وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل، وانبساطها لما يأتيه من العمل الذي يرى أنه محمود - كما فهم مروان - وإنما هو فرح البطر، والغرور الذي يتبعه الخيلاء والفخر - كما أشرنا إلى ذلك - وهو ما نبه عليه القرآن في فائدة المصائب تصيب المؤمنين بقوله - عز وجل -:
{ { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } [الحديد: 23] ومنه قوله - تعالى -: { إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } [القصص: 76] وهذا الإفراط في الفرح بالنعمة الذي يكون من الضعفاء يقابله عندهم المبالغة في الحزن في المصيبة إلى أن يقع المصاب في اليأس والكفر، وقد بين - تعالى - حال الفريقين بقوله: { { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } [هود: 9 - 11] أي لأنهم هم الذين رباهم الله - تعالى - بحوادث الزمان وغيره مع إرشادهم إلى وجه الاستفادة من ذلك - كما تقدم بيانه مفصلا في سياق تفسير الآيات التي نزلت في غزوة أحد - وإليه أشير بقوله بعد ذكر المصائب: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وفي معنى الآيتين مع زيادة في الفائدة آية سورة الروم: { { وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون } [الروم: 36].
ولما كان هذا هو شأن أصحاب هذا النوع من الفرح - فرح البطر والغرور - كان مما يتبع ذلك تبع المعلول للعلة، والمسبب للسبب ترك الشكر على النعمة باستعمالها فيما ينفع الناس بل يستعملونها فيما يسرهم ويمتعهم بلذاتهم ونعيمهم، فيكون ذلك مهلكة للأمة كما قال - تعالى - في أقوام هذا شأنهم:
{ { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } [الأنعام: 44] ولا يعارض ذلك قوله - تعالى -: { { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } [يونس: 58] لأن السرور بالنعمة مع تذكر أنها فضل من الله لا يحدث بطرا، ولا غرورا، وإنما يحدث شكرا، وإحسانا في العمل، فإذا فقهت هذا كله علمت أن الذين يفرحون بأعمالهم - فرح بطر واختيال وغرور - يكونون مستحقين للوعيد بالعذاب، وإن كانت أعمالهم التي بطروا بها، وفخروا، واغتروا بها، وكفروا من الأعمال الحسنة؛ لأن بعض الأعمال الحسنة قد تكون لها عواقب رديئة، وبعض الأعمال السيئة قد تكون لها عاقبة حسنة، وفي هذا قال ابن عطاء في حكمة: " رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا ".
ويؤيد هذا المعنى الذي حققه قوله - تعالى - في صفات الأخيار:
{ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } [المؤمنون: 60] وما روي من الحديث المرفوع في تفسيره، ففي حديث عائشة عند أحمد، والترمذي، وابن ماجه والحاكم - وصححه - وغيرهم، "قالت: يا رسول الله، قول الله: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يسرق، ويزني، ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله، قال: لا، ولكنه الرجل يصوم، ويتصدق، ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله ألا يقبل منه فهؤلاء هم الذين قال فيهم بعد ما تقدم: أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [المؤمنون: 61] بخلاف الذين يفرحون - بما أتوا من عمل، وما آتوا من صدقة - فرح عجب وخيلاء، فإنه يغلب عليهم الرياء، وحب الثناء، والسمعة، فيكسلون عن العمل، ولا يواظبون عليه" .
هذا شأن العمل في الدين، ومثله العمل في الدنيا، وللدنيا كما يفيدنا البحث في أحوال الأمم، فإن الذين استولى عليهم الغرور يفرحون، ويبطرون بكل عمل يعملونه، ويرون أنه منتهى الكمال، فلا تنشط هممهم إلى طلب المزيد، والمسارعة في الخيرات، ولا يقبلون الانتقاد على التقصير. حدثني الأستاذ الإمام قال: حدثني عالم ألماني لقيته في السفينة في إحدى سياحاتي قال: إنه لا يوجد عندنا عمل من الأعمال نحن راضون به، ومعتقدون أنه لا يقبل الترقي والإتقان، بل عندنا جمعيات تبحث في ترقية كل شيء، وتحسينه من الإبرة إلى أعظم الآلات، وأبدع المخترعات، مثال ذلك البندقية يبحثون فيها: هل يمكن أن تكون أخف وزنا، أو أبعد رميا، أو أقل نفقة؟ إلى آخر ما قال.
فإذا تدبرت ما قلناه في هاتين الصفتين الذميمتين: فرح البطر، والغرور، والفخر بالأعمال الذي يدعو إلى الكسل، والإهمال، وحب المحمدة الباطلة، والقناعة بالثناء الكاذب، إذا تدبرت هذا فقهت سر الوعيد الشديد بتعذيب الأمة المتصفة بهما مرتين: واحدة في الدنيا وواحدة في الآخرة، وهو المراد بقوله - عز وجل -: { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } إلخ.
أي لا تظن يا محمد أو أيها المخاطب أنهم بمنجاة من العذاب الدنيوي، أي متلبسون بالفوز والنجاة منه، وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها، وساءت أعمالها، وكابرت الحق والعدل، وألفت الفساد والظلم، وهو على قسمين: عذاب هو أثر طبيعي اجتماعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري، وهو خذلان أهل الباطل والإفساد، وانكسارهم، وذهاب استقلالهم بنصر أهل الحق، والعدل عليهم، وتمكينهم من رقابهم، وديارهم، وأموالهم، ليحل الإصلاح محل الإفساد، والعدل مكان الظلم
{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [هود: 102] وعذاب لا يكون أثرا طبيعيا، بل يسمى سخطا سماويا كالزلزال، والخسف، والطوفان، وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بهم، وكذبوهم، وآذوهم، فكان الله يوفق بين أسباب ذلك العذاب المعتادة، وأقدارها فينزلها بالقوم عند اشتداد عتوهم، وإيذائهم لرسوله فيكونون من الهالكين، وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعراف ونحوها إن أحيانا الله - تعالى - وأمدنا بتوفيقه.
فإن قلت: إن ما قررته يشمل استعلاء بعض الأمم الشمالية على كثير من ممالك المسلمين الجنوبية فهل كان أولئك الشماليون على الحق والصلاح، وهؤلاء الجنوبيون على الباطل والفساد؟ أقل: نعم، الأمر كذلك، فلولا أنهم يفضلونهم أخلاقا، وأعمالا، وعدلا، وإصلاحا، واتباعا لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة لما سلطوا عليهم
{ { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } [هود: 117] ولكنه يهلكها وأهلها مفسدون في الأرض - كما ثبت في آيات كثيرة - والإيمان قد يكون من جملة أسباب النصر - كما تقدم في غير ما موضع من التفسير - ولكن لذلك شروطا وسننا بينها الله في كتابه، وتقدم تفسير بعض الآيات فيها، فتطلب من مواضعها ومنها تتذكر، وتعلم أسباب ما عليه المسلمون الآن، فإن الله ما فرط في الكتاب من شيء.
ثم قال: { ولهم عذاب أليم } أي في الآخرة، فإن فساد أخلاقهم، وفرحهم، وبطرهم، وصغارهم الذي زين لهم حب الحمد الكاذب بالباطل جعل أرواحهم مظلمة دنسة، فهي التي تهبط بهم إلى الهاوية حيث يلاقون ذلك العذاب المؤلم.
ومن مباحث اللفظ في الآية: أن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن قوله - تعالى -: { فلا تحسبنهم } تأكيد لقوله: { لا تحسبن الذين } كما هو معهود في الكلام العربي من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: إن العرب إذا أطالت القصة تعيد " حسبت " وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول، فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا، فيقيد (لا تظنن) توكيدا وتوضيحا. والفاء زائدة كما في قوله:

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

ونقل الأستاذ الإمام هذا التوجيه في الدرس عن الكشاف ورده، فقال: لولا الفاء لصح، ولكن الفاء تمنع منه، وهذا بناء على مذهبه في عدم زيادة حرف ما في القرآن بلا فائدة، على أن الذين يقولون بزيادة بعض الحروف، وبعض الكلمات إنما يعنون زيادتها غالبا بحسب الإعراب لا أنهم يقولون: إن إثباتها وتركها سواء، ووجه العبارة هنا بأن المفعول الثاني في قوله: { لا تحسبن الذين يفرحون } محذوف حذف إيجاز لتذهب النفس في تقديره كل مذهب، قال: والقرآن ما أنزل لتحديد المسائل، والأخبار، والقصص تحديدا يستوي في فهمه كل قارئ، وإنما الغرض الأهم منه إصلاح النفوس، والتأثير الصالح فيها بترغيبها في الحق والخير، وتنفيرها من ضدهما. فإذا قال هاهنا: لا تحسبن الذين يفرحون بكذا ويحبون كذا تتوجه نفس القارئ، أو السامع إلى طلب المفعول الثاني، وتذهب فيه مذاهب شتى كلها من النوع الذي يليق بمن هذا حالهم، كأن تقدر: لا تحسبنهم مطيعين لربهم، أو عاملين بهدايته، وعندما يرد عليها بعده { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } يتعين عندها بهذا التفريع الذي ذكر فيه المفعول الثاني ما حذف من الأول لا بشخصه وعينه بل بنوعه؛ لأننا لو قلنا: إن ما حذف من الأول هو عين ما أثبت في الثاني لم يكن للتفريع فائدة. ثم قال - تعالى -:
{ ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير } قال الأستاذ الإمام: عطف هذه الآية على ما قبلها لاتصالها بالآيات التي قبلها، فالواو فيها عاطفة للجملة المستقلة على مثلها، كأنه يقول: لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا واصبروا واتقوا ولا تخورون عزائمكم، بينوا الحق، ولا تكتموا منه شيئا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولا تفرحوا بما عملتم، ولا تحبوا أن تحمدوا بما لم تفعلوا، فإن الله - تعالى - يكفيكم ما أهمكم، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها، فإن ملك السماوات والأرض كله له، يعطي منه ما يشاء وهو على كل شيء قدير، ولا يعز عليه نصركم على الذين يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين، وإليه ترجع الأمور؛ لأنه هو الذي يدبرها بحكمته وسننه في خلقه. وفي هذا التذييل حجة على كون الخير في اتباع ما أرشد إليه - تعالى -، وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، ووعد لهم بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين الذين سبق وصفهم في الآيات التي قبل هذه الآية، وهو أنهم لا يؤمنون بالله - تعالى - إيمانا صحيحا يظهر أثره في أخلاقهم، وأعمالهم وإلا لما تركوا العمل بكتابه، وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا، فإن هذا لا يكون إلا من عدم الثقة بوعده - تعالى - والخوف من وعيده، واليقين بقدرته وتدبيره.