التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٠٢
فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً
١٠٣
-النساء

تفسير المنار

صلاة السفر والخوف
السياق في أحكام الجهاد في سبيل الله، وجاء فيه حكم الهجرة، والصلاة فرض لازم في كل حال لا يسقط في وقت القتال، ولا في أثناء الهجرة ولا غير الهجرة من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في السفر وحال الحرب إقامتها فرادى وجماعة كما أمر الله - تعالى - أن تقام في صورتها ومعناها، فناسب في هذا المقام أن يبين الله - تعالى - ما يريد أن يرخص لعباده فيه من القصر من الصلاة في هاتين الحالتين فقال:
{ وإذا ضربتم في الأرض }، الضرب في الأرض عبارة عن السفر فيها ; لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته، كما يقال: طرق الأرض إذا مر بها، كأنه ضربها بالمطرقة، ومنه الطريق أي: السبيل المطروق، وقال هاهنا: ضربتم في الأرض، ولم يقل { ضربتم في سبيل الله }، كما قال في الآية (94) من هذه السورة الواردة في حكم إلقاء السلام في الحرب ; لأن هذه أعم، فهي رخصة لكل مسافر ولو لم يكن سفره في سبيل الله للدفاع عن الحق وإقامة الدين بأن كان للتجارة أو لمجرد السياحة مثلا، وإذا كان السفر في سبيل الله فالمسافر أحق بالرخصة، وهي له أولا وبالذات بقرينة السياق وما جاء في الآية التي بعد هذه { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }، أي فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة دين الله، وهو الحنيفية السمحة في القصر من الصلاة، والجناح فسر بالإثم والتضييق وبالميل عن الاستواء، قيل: هو من جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها قاله الراغب، وهو الذي فسر جنوح السفينة بما ذكر، وفسره غيره بأنه عبارة عن بلوغها أرضا رقيقة تغرز فيها ويمتنع جريها، وهذا المعنى يناسب الجناح أيضا على أن الجنوح معناه الميل، وهو من الجنح بالكسر بمعنى الجانب.
ومن فسر الجناح بالتضييق أخذه من قولهم جنح البعير بصيغة المجهول إذا انكسرت جوانحه - أضلاعه - لثقل حمله، وتفسيره بالإثم مأخوذ من هذا أيضا وهو مجاز، والقصر - بالفتح - من القصر - كعنب - ضد الطول، وقصرت الشيء جعلته قصيرا.
فالقصر من الصلاة هو ترك شيء منها تكون به قصيرة، ويصدق بترك بعض ركعاتها، وبترك بعض أركانها كالركوع والسجود والجلوس للتشهد، واختلف العلماء في هذه الآية، فقيل: إن المراد بالقصر من الصلاة فيها ترك بعض ركعاتها وهي صلاة السفر التي تقصر فيها الرباعية فقط فتصلى ثنتين، وقيل: بل المراد به صلاة الخوف مطلقا أو كيفية من كيفياتها وهي المبينة في الآية التي بعد هذه. وقيل: بل المراد بها القصر من هيئتها لا من ركعاتها، وقيل: بل القصر من العدد والأركان جميعا، وجمع المحقق ابن القيم في الهدي النبوي بين الأقوال فقال في فصل صلاة الخوف.
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف أن أباح الله - سبحانه وتعالى - قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر، وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه، وهذا كان هديه - صلى الله عليه وسلم - وبه يعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف، اهـ، وسيأتي تفصيل ذلك.
فقوله - تعالى -: { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، والفتنة الإيذاء بالقتل أو غيره كما صرح به بعضهم، وأصله الاختيار بالمكروه والأذى كما تقدم من قبل، قال ابن جرير: وفتنتهم إياهم فيها حملهم عليهم وهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له اهـ، وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلي قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر.
{ إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا }، تعليل لتوقع الفتنة من الذين كفروا، أي: كان شأنهم أنهم أعداء مظهرون للعداوة بالقتال والعدوان، فهم لا يضيعون فرصة اشتغالكم بمناجاة الله - تعالى -، ولا يراقبون الله، ولا يخشونه فيكم فيمتنعوا عن الإيقاع بكم إذا وجدوكم غافلين عنهم، والعدو يستوي فيه الواحد والجمع.
بعد هذا أقول: إن القصر في هذه الآيات مجمل، وإنما اختلف العلماء في المراد منه ; لأن الآية التي بعد هذه الآية تبين لنا نوعا أو أنواعا من قصر الصلاة المعروفة في الإسلام فقيل: إنها مبينة لما قبلها، ورد بعضهم هذا بأن الأصل أن تفيد كل آية من الآيتين معنى جديدا تفاديا من التكرار، وأنهم كانوا يفهمون من القصر نقص عدد الركعات بدليل حديث ذي اليدين المشهور إذ قال: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ وهذا دليل ضعيف، ومن أسباب الخلاف ما ثبت في السنة، وجرى عليه العمل من العصر الأول إلى الآن من قصر الصلاة الرباعية، والسنة مبينة لإجمال القرآن، ولا يمكن أن تعرف الاصطلاحات الشرعية من ألفاظ اللغة بدون توقيف، والقرآن نفسه لم يبين لنا إلا كيفية القليل من العبادات كالوضوء والتيمم، فالسنة هي التي بينت كيفية الصلاة وكيفية الحج وغير ذلك، وإنني أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في هاتين الآيتين قبل أن أفسر الثانية منهما، ثم أذكر ملخص ما ثبت في السنة في قصر الصلاة وصلاة الخوف، ثم أبين معنى الآية الثانية وكيفيات صلاة الخوف التي وردت.
الأستاذ الإمام: الكلام لا يزال في الجهاد وقد مر في الآيات السابقة الحث عليه لإقامة الدين وحفظه، وإيجاب الهجرة لأجل ذلك وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر فيها على إقامة دينه، والجهاد يستلزم السفر، والهجرة سفر، وهذه الآيات في بيان أحكام من سافر للجهاد أو هاجر في سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها، وهو أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلي جماعتها بالكيفية التي ذكرت في الآية الثانية من هذه الآيات.
قال: والقصر المذكور في الآية الأولى هنا ليس هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين بشروطه في كتب الفقه، فذلك مأخوذ من السنة المتواترة، وأما ما هنا فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة وغيرهم من السلف، والشرط فيها على ظاهره، والقول بأنه لبيان الواقع فلا مفهوم له لغو من القول لا يجوز أن يقال في أغلى الكلام وأبلغه، فهذا القصر المذكور في الآية الأولى هو المبين في الآية التي بعدها، وفي سورة البقرة بقوله تعالى: { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } [البقرة: 239]، فآية البقرة في القصر من هيئة الصلاة، والرخصة في عدم إقامة صورتها بأن يكتفي الرجال المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود. وهو قول في القصر المراد، والآية التي نحن بصدد تفسيرها في القصر من عدد ركعات بأن تصلي طائفة مع الإمام ركعة واحدة، فإذا أتمتها جاءت طائفة أخرى - وهي التي كانت تحرس الأولى، فصلت معه الركعة الثانية، وليس في الآية أن واحدة من الطائفتين تتم الصلاة اهـ، ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس ملخصا.
وأما ما ورد في السنة فقد لخصه ابن القيم في الهدي النبوي أحسن تلخيص، وناهيك بسعة حفظه وحسن استحضاره وبيانه، قال في بيان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، وعبارته فيه ما نصه:
"وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره ألبتة، وأما حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم، فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقد روي: كان يقصر وتتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك " يفطر وتصوم " أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين. قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم.
والصحيح عنها: أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه؟
قال ابن القيم "قلت": وقد أتمت عائشة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا، وقال: فكان يقصر وتتم هي، فغلط بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو.
والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر فإذا زال الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر آمنا وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر - رضي الله عنه - وغيره فسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه بالشفاء وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة.
وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين، انتفى القصران فيصلون صلاة تامة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية.
فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان وسميت صلاة الأمن، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما.
قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس.
وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد خاب من افترى، وهذا ثابت عن عمر - رضي الله عنه - وهو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" ، ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجابه بأن هذا صدقة الله عليكم، ودينه أليس السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح، ينفى عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله -تعالى-.
وقال أنس:
"خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة" متفق عليه._@_ ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال: " إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان " متفق عليه، ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول: وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان في السفر لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان يعني في صدر خلافته، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات، انتهى نص عبارته.
وهاهنا ذكر ابن القيم ستة تأويلات لإتمام عثمان الصلاة وردها أقوى رد إلا السادس منها فقال: إنه أحسن ما اعتذر به عن عثمان، وهو أنه قد تزوج بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أتم صلاته فيه، وهو قول الحنفية والمالكية وورد فيه حديث مختلف في تضعيفه، وقال غيره: إنه كان نوى الإقامة لأجل الزواج، ثم ذكر الاعتذار عن عائشة وأعاد قول ابن تيمية: إن الإتمام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب عليها.
وقد احتج الشافعي بحديث عائشة ورواه من طريق طلحة بن عمر وعن عطاء عنها، قال البيهقي وروي عن طريق المغيرة بن زياد عن عطاء أيضا، أقول: وهما ضعيفان.
ثم قواه البيهقي بروايتين للدارقطني. إحداهما: من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عنها، وقيل: عن أبيه عنها وحسنها، وفي العلاء مقال يمنع الاحتجاج به، قيل: مطلقا وقيل فيما خالف فيه الإثبات كهذا الحديث، واختلف في سماع عبد الرحمن منها، وقالوا: إن في متن هذا الحديث نكارة، وقال ابن حزم: هو حديث لا خير فيه، وملخصه: أنها خرجت معتمرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فكان يقصر، وكانت تتم ثم ذكرت له ذلك فقال
"أحسنت" . والرواية الثانية للدارقطني صححها عن عمر بن سعيد عن عطاء عنها، وقد تقدم ذكرها عن ابن القيم وأنه جزم بغلط راويها، وهي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في الصلاة ويتم ويصوم ويفطر" .
قال في نيل الأوطار قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: وقد استنكره الإمام أحمد وصحته بعيدة إلخ، وقد ضبط الحديث في التلخيص بمثل ما تقدم عن ابن القيم من إسناد الإتمام والفطر إلى عائشة لا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن تيمية جزم بكذب الحديثين عن عائشة كما ذكره تلميذه ابن القيم، على أن العبرة برواية الصحابي لا رأيه وفهمه وخصوصا ما يخالف فيه غيره، وقد اختلف في تأويل عثمان وقد تقدم الراجح وهو أنه عد نفسه بالزواج مقيما غير مسافر، وأما تأولها الذي رواه عروة عنها فهو أن القصر رخصة ; لأنها قالت له لما سألها: "يا ابن أختي إنه لا يشق علي" رواه البيهقي وصححه ويعارضه على تقدير تسليم صحته كون فرض المسافر ركعتين - المتفق عليه عنها فيرجح عليه.
وجملة القول: أن الثابت المتفق عليه هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر والعصر والعشاء في السفر ركعتين ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر وسائر الصحابة إلا عثمان وعائشة فإنهما إنما متأولين وقد عرفت الجواب عن ذلك، وأن الإتمام عن عائشة لم يصح، فالحق ما عليه الحنفية وغيرهم من وجوب ذلك خلافا للشافعية.
وهل هو أصل المفروض كما روي في الصحيح أو قصر؟ خلاف.
قال ابن القيم: قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن، يعني صلاة الرباعية ركعتين فقال له ابن عمر: يا أخي إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - يفعل اهـ، أقول: وهذا هو القول الفصل، والحاذق من عرف كيف يطبق فعله - صلى الله عليه وسلم - على القرآن فهو تبيين له لا يعدله تبيان.
مسافة القصر
من المباحث التي تتعلق بالآية أن الفقهاء الذين يقلدهم جماهير المسلمين في هذه الأعصار قد ذهبوا إلى أن قصر الصلاة، وكذا جمعها والفطر في رمضان، لا يكون في كل سفر بل لا بد من سفر طويل وأقله عند المالكية والشافعية مرحلتان وعند الحنفية ثلاث مراحل، والعبرة فيها بالذهاب، والمرحلة أربعة وعشرون ميلا هاشمية وهي مسيرة يوم بسير الأقدام أو الأثقال، أي: الإبل المحملة، وليس هذا مجمعا عليه، ولا ورد فيه حديث صحيح.
وقد اختلف فيه فقهاء السلف وأئمة الأمصار، وفي فتح الباري أن ابن المنذر وغيره نقلوا في المسألة أكثر من عشرين قولا، وقد بينا في تفسير
{ { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } [البقرة: 184]، أن الفطر في رمضان يباح في كل ما يسمى في اللغة سفرا طال أو قصر كما هو المتبادر من الآية، ولم يثبت في السنة ما يقيد هذا الإطلاق، وبينا ذلك في بعض الفتاوى أيضا ونذكر منها الفتوى الآتية نقلا من المجلد الثالث عشر من المنار وهي:
(س 52) من م. ب. ع. في سمبس برنيو (جاوه).
حضرة فخر الأنام، سعد الملة وشيخ الإسلام، سيدي الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء أدام الله بعزيز وجوده النفع، آمين.
وبعد إهداء أشرف التحية وأزكى السلام فيا سيدي وعمدتي أرجو منكم الالتفات إلى ما ألقيه إليكم من الأسئلة لتجيبوني عنها وهي - وذكر أسئلة - منها:
هل تحد مسافة القصر بحديث: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان وإلى الطائف أم لا؟ وهل أربعة البرد هي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية؟ وعليه فكم يكون قدر المسافة المعتبرة شرعا بحساب كيلو متر؟ أفتونا فتوى لا نعمل إلا بها ولا نعول إلا عليها فلا زلتم مشكورين وكنا لكم ذاكرين:
ج: الحديث الذي ذكره السائل رواه الطبراني عن ابن عباس وفي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير، قال الإمام أحمد: ليس بشيء ضعيف، وقد نسبه النووي إلى الكذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، ولكن مالكا والشافعي روياه موقوفا على ابن عباس وإذ لم يصح رفعه فلا يحتج به.
وفي الباب حديث أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، رواه أحمد ومسلم وأبو داود من طريق شعبة، وشعبة هو الشاك في الفراسخ والأميال. قال بعض الفقهاء الثلاثة الأميال داخلة في الثلاثة الفراسخ فيؤخذ بالأكثر.
وقد يقال الأقل هو المتيقن، وفيه أن هذه حكاية حال لا تحديد فيها، والعدد لا مفهوم له في الأقوال فهل يعد حجة في وقائع الأحوال؟ وهناك وقائع أخرى فيما دون ذلك من المسافة. فقد روى سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة، وأقره الحافظ في التلخيص بسكوته عنه وعليه الظاهرية.
وأقل ما ورد في المسألة ميل واحد رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح وبه أخذ ابن حزم وظاهر إطلاق القرآن عدم التحديد، وقد فصلنا ذلك في [ص 416 و649 من المجلد السابع من المنار].
والمشهور أن البريد أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال، وأصل الميل مد البصر ; لأن ما بعده يميل عنه فلا يرى، وحدوده بالقياس، فقالوا: هو ستة آلاف ذراع، الذراع 14 أصبعا معترضة معتدلة، والأصبع ست حبات من الشعير معترضة معتدلة، وقال بعضهم: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان، وهو أي الفرسخ 5541 مترا اهـ.
هذه هي الفتوى: وأزيد الآن: أن الشافعية قد اعتمدوا في كتب الفقه الاستدلال على تحديد سفر القصر بما روي عن ابن عباس وابن عمر من قول الأول، وكون الثاني كان يسافر البريد فلا يقصر.
وهذا ما استدل به الشافعي في الأم ولم يستدل بحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قصره - صلى الله عليه وسلم - في سفره إلى مكة، وقال:
"لم يبلغنا أن يقصر فيما دون يومين" ، يعني لو بلغه لعمل به كما هي قاعدته -رحمه الله -: " إذا صح الحديث فهو مذهبي "، وقد بلغ غيره ما لم يبلغه في هذا، وهو حديث أنس عند أحمد ومسلم في صحيحه من قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة فراسخ أو أميال قال الحافظ ابن حجر: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه.
وكان سببه أن أنسا سئل عن القصر بين الكوفة والبصرة فقاله، ويرجح رواية الثلاثة الأميال حديث أبي سعيد في الفرسخ فإنه ثلاثة أميال، فوجب على الشافعية العمل به ككل من بلغه.
كيفية صلاة الخوف في القرآن قال - عز وجل - بعدما تقدم من الإذن بالقصر من الصلاة: { وإذا كنت فيهم } أي: وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين، ومثله في هذا كل إمام في كل جماعة { فأقمت لهم الصلاة }، إقامة الصلاة تطلق على الذكر الذي يدعى به إلى الدخول فيها وهو نصف ذكر الأذان وزيادة " قد قامت الصلاة " مرتين بعد كلمة حي على الفلاح كما ثبت في السنة الصحيحة، وقيل: هو كالأذان مع زيادة ما ذكر، وتطلق على الإتيان بها مقومة تامة الأركان والشرائط والآداب، والظاهر هنا المعنى الأول، لتعديته باللام ; ولأن الصلاة المبينة في الآية ليست تامة بل هي مقصور منها.
وتقابل صلاة الخوف هنا صلاة الاطمئنان المأمور بها في الآية التالية، فمعنى أقمت لهم الصلاة دعوتهم إلى أدائها جماعة، أي: والزمن زمن الحرب وفتنة الكفار مخوفة { فلتقم طائفة منهم معك }، في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين العدو يحرسون المصلين خوفا من اعتدائه { وليأخذوا أسلحتهم }، أي: وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها.
وعن ابن عباس أن الأمر بأخذ السلاح أي جملة هو للطائفة الأخرى لقيامها بالحراسة، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون للطائفتين جميعا أي وليكن المؤمنون حين انقسامهم إلى طائفتين واحدة تصلي وواحدة تراقب وتحرس - حاملين للسلاح لا يتركه منهم أحد، ووجه تقديم الأول أن من شأن الجميع في مثل تلك الحال أن يحملوا أسلحتهم إلا في وقت الصلاة التي لا يكون فيها قتال ولا نزال، فاحتيج إلى الأمر بحمل السلاح في الصلاة ; لأنه مظنة المنع أو الامتناع.
والأسلحة جمع سلاح وهو كل ما يقاتل به، وإنما يحمل منه في حال إقامة الصلاة التامة الأركان ما يسهل حمله فيها كالسيف والخنجر والنبال من أسلحة الزمن الماضي، ومثل البندقية على الظهر والمسدس في الحزام أو الجيب من أسلحة هذا العصر.
{ فإذا سجدوا }، أي: فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة { فليكونوا من ورائكم } أي: فليكن الآخرون الذين يحرسونكم من خلفكم.
وأحوج ما يكون المصلي للحراسة ساجدا ; لأنه لا يرى حينئذ من يهم به، أو عبر بالسجود عن الصلاة أي: إتمامها ; لأنه آخر صلاة الطائفة الأولى.
ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صلوا، وهو قوله { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك }، أي: ولتأت طائفة الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا معك كما صلت الطائفة الأولى: { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم، وزاد هنا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ والاحتراس من المخلوف، وتقدم تحقيق القول فيه في تفسير قوله - تعالى - من هذه السورة بل من هذا السياق فيها
{ { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } [النساء: 71]، قيل: إن حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية هو أن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين فيها، بل يظن إذا رآهم صفا أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة، كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة، وقد بين - تعالى - لنا هذا معللا به الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة فقال:
{ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة }، أي: تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم، أي: يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح تاركون حماية المتاع والزاد، فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا أخذه، فلا تغفلوا عنهم، ولا تجعلوا لهم سبيلا عليكم، وهذا الخطاب عام لجميع المؤمنين لا يختص الطائفة الحارسة دون المصلية وهو استئناف بياني على سنة القرآن في قرن الأحكام بعللها وحكمها.
ولما كان الخطاب عاما لجميع المحاربين، وكان يعرض لبعض الناس من العذر ما يشق معه حمل السلاح، عقب على العزيمة بالرخصة لصاحب العذر فقال: { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم }، أي: ولا تضييق عليكم ولا إثم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربما أفسد الماء السلاح ; لأنه سبب الصدأ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل، ولكن يجب عليكم حتى في هذه الحال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم، ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم، والضرورة تتقدر بقدرها { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا }، بما هداكم إليه من أسباب النصر، كإعداد كل ما يستطاع من القوة وأخذ الحذر، والاعتصام بالصلاة والصبر، ورجاء ما عند الله من الرضوان والأجر.
فالظاهر أن العذاب ذا الإهانة هو عذاب الغلب وانتصار المسلمين عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله - تعالى - به من الأسباب النفسية والعملية، وسيأتي قريبا ما يؤيد هذا المعنى في هذا السياق كالأمر بذكر الله كثيرا وقوله:
{ { فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } [النساء: 104]، ويؤيده قوله - تعالى -: { { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } [التوبة: 14]، وقال جمهور المفسرين: إن المراد به عذاب الآخرة، وإنه مع ذلك ينفي ما ربما يخطر في البال من أن الأمر بأخذ السلاح والحذر يشعر بتوقع النصر للأعداء.
روى البخاري أن الرخصة في الآية للمرضى، نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، والمعنى عندي أن الآية قد انطبق حكمها عليه، وإلا فهي قد نزلت في سياق الآيات بأحكام أعم وأشمل، وروى أحمد والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن ابن عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم .
فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة }، الحديث وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة، وابن جرير نحوه عن جابربن عبد الله وابن عباس، انتهى من لباب النقول.
كيفيات صلاة الخوف في السنة
ورد في أداء النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الخوف جماعة - كيفيات متعددة أوصلها بعضهم إلى سبع عشرة والتحقيق ما قاله ابن القيم من أن أصولها ست، وأن ما زاد على ذلك فإنما هو من اختلاف الرواة في وقائعها واعتمده الحافظ ابن حجر، والحق أن كل كيفية منها صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي جائزة، وهاك أصولها المشهورة.
1- روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة (وفي لفظ عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع) أن طائفة صفت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وطائفة وجاه العدو - أي تجاهه مراقبة له فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم.
وغزوة ذات الرقاع هذه هي غزوة نجد، لقي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال ولكن القتال كان منتظرا، فلذلك صلى بأصحابه صلاة الخوف، وسميت ذات الرقاع ; لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع أي الخرق، وقيل: لأن حجارة تلك الأرض مختلفة الألوان كالرقاع المختلفة، وقيل غير ذلك.
هذه الكيفية في حالة كون العدو في غير جهة القبلة وهي منطبقة على الآية الكريمة، فليس في الآية ذكر السجود إلا مرة واحدة، فظاهرها أن كل طائفة تصلي ركعة واحدة هي فرضها لا تتم ركعتين، لا مع الإمام ولا وحدها، وهو الذي يصلي ركعتين، وقد قال بهذه الصلاة أفقه فقهاء الصحابة عليهم الرضوان علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت، وكذا أبو هريرة وأبو موسى وسهل بن أبي حثمة راوي الحديث المتفق عليه، وعليها من فقهاء آل البيت - عليهم السلام - القاسم والمؤيد بالله وأبو العباس، ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم.
2- روى أحمد والشيخان عن ابن عمر قال:
"صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة" .
هذه الكيفية تنطبق على الآية أيضا وهي كالتي قبلها في حال كون العدو في غير جهة القبلة، ولا فرق بينها وبين الأولى إلا في قضاء كل فرقة ركعة بعد سلام الإمام ليتم لها ركعتان، والظاهر أنهما تأتيان بالركعتين على التعاقب لأجل الحراسة، وأما فرض كل منهما في الكيفية الأولى فركعة واحدة.
والظاهر أن الطائفة الثانية تتم بعد سلام الإمام من غير أن تقطع صلاتها بالحراسة، فتكون ركعتاها متصلتين، وأن الأولى لا تصلي الركعة الثانية إلا بعد أن تنصرف الطائفة الثانية من صلاتها إلى مواجهة العدو وهو ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود فإنه قال: ثم سلم وقام هؤلاء أي: الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، وقد أخذ بهذه الكيفية الحنفية والأوزاعي وأشهب ورجحها ابن عبد البر على غيرها بقوة الإسناد وموافقتها للأصول في كون المأموم يتم صلاته بعد سلام إمامه.
3- روى أحمد والشيخان عن جابر قال:
"كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع وللقوم ركعتان" .
هذه الكيفية منطبقة على الآية أيضا، وكانت كاللتين ذكرتا قبلها في حال وجود العدو في غير جهة القبلة، إلا أنه ليس فيها تفصيل، كأن جابرا قال ما قاله لمن كان يعرف القصة وكون كل طائفة كانت تراقب العدو في جهته عند صلاة الأخرى، أو أن الراوي عنه ذكر من معنى حديثه ما احتيج إليه، والفرق بين هذه وما قبلها أن الصلاة كانت فيها ركعتين للجماعة وأربعا للإمام، وفي رواية ابن عمر ركعتين لكل من الجماعة والإمام، وفي رواية سهل ركعة واحدة للجماعة وركعة للإمام، فلا فرق إلا في عدد الركعات، وقد صرح بأن هذه كانت في ذات الرقاع، وكذلك الأولى، والظاهر أن الثانية كانت فيها أيضا أو في غزوة مثلها كان العدو فيها في غير جهة القبلة.
وفي رواية للشافعي والنسائي عن الحسن عن جابر " أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم، وفي رواية أخرى للحسن عن أبي بكرة عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم قال:
"صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان" ، وقد أعلوا هذه الرواية بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة وأجاب الحافظ ابن حجر بجواز أن يكون رواه عمن صلاها، فيكون مرسل صحابي.
ويؤيد هذه الرواية وكونها تفسيرا لما قبلها - موافقتها للآية فضل موافقة بتصريحها بما يدل على قيام الركعتين اللتين صلاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الثانية كانتا له نفلا ولها فرضا. واقتداء المفترض بالمتنفل ثابت في السنة، قال النووي في شرح مسلم: وبهذا قال الشافعي وحكوه عن الحسن البصري وادعى الطحاوي أنه منسوخ ولا تقبل دعواه إذ لا دليل لنسخه اهـ، أقول: وقد قال الشافعية باستحباب إعادة الفريضة مع الجماعة، وقالوا إنه ينوي بها الفرض، ولم يجزموا بأن الثانية هي النفل، بل قال بعضهم بجواز أن تحسب الثانية هي الفريضة.
وجملة القول أن هذه الكيفية من صلاة الخوف داخلة في مفهوم الآية، وموافقة للأحاديث المتفق عليها في عدم زيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركعتين في سفره، حتى إن الشافعية الذين يجيزون أداء الرباعية تامة في السفر قالوا: إن الركعتين كانتا نفلا له - صلى الله عليه وسلم - ولو صلى الأربع موصولة لكان لمدع أن يدعي عدم اطراد ذلك النفي.
4- روى النسائي بإسناد رجاله ثقات احتج به الحافظ ابن حجر في التلخيص وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد - بالتحريك - وهو ماء على مسافة ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر، فصف الناس صفين ; صفا خلفه وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا ركعة.
وروى أبو داود والنسائي بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ثعلبة بن زهدم - رضي الله عنه - قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا، ورويا مثل صلاة حذيفة عن زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس الذي تقدم نقله عن زاد المعاد وهو: فرض الله الصلاة على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
والقول بهذا قد روي عن أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وغير واحد من التابعين وهو مذهب الثوري وإسحاق ومن تبعهما.
هذه الكيفية داخلة في مفهوم الآية الكريمة أيضا ; إذ ظاهر الآية أن كل طائفة صلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة واحدة، وليس فيها أن أحدا أتم ركعتين، ويجمع بين هذا وبين ما تقدم من روايات الإتمام: بأن أقل الواجب في الخوف مع السفر ركعة، ويجوز جعلها ركعتين كسائر صلاة السفر، وجمع بعضهم بأن صلاة الركعة الواحدة إنما يكون عند شدة الخوف، ولا يتجه هذا إلا بنقل يعلم به ذلك ولو ببيان أن الخوف كان شديدا في الغزوات التي صلى فيها ركعة واحدة بكل طائفة ولم تقض واحدة منهما أي لم تتم، وإن كانت الأحوال التي تقع فيها الأعمال لا تعد شروطا لها إلا بدليل.
5- روى أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال:
"صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف عام غزوة نجد فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين معه، والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومن معه، ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان، ولكل طائفة ركعتان" .
هذه الكيفية تشارك ما قبلها بكونها من الكيفيات التي كان العدو فيها في غير جهة القبلة وكونها كانت في غزوة نجد وهي غزوة ذات الرقاع وكانت بأرض غطفان، وهناك مكان يسمى بطن نخل وهو الذي صلى فيه بكل طائفة ركعتين كما تقدم.
وتخالفها كلها كما تخالف ما أرشدت إليه الآية التي نزلت في تلك الغزوة فيما تدل عليه من ترك الطائفتين معا للقيام تجاه العدو في آخر الصلاة، وتخالف الأصل المجمع عليه في وجوب استقبال القبلة وقت تكبيرة الإحرام، وقد روى أبو داود عن عائشة كيفية هذه الصلاة في هذه الغزوة فصرحت بأنه كبر معه الذين صفوا معه قالت:
" "كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبرت الطائفة الذين صفوا معه ثم ركع فركعوا ثم سجد فسجدوا ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى حتى قاموا من ورائهم وجاءت الطائفة الأخرى فقاموا فكبروا ثم ركعوا لأنفسهم ثم سجد رسول الله عليه وسلم فسجدوا معه ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجدوا لأنفسهم الثانية، ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركع فركعوا ثم سجد فسجدوا جميعا ثم عاد فسجد الثانية وسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع ثم سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلموا، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شاركه الناس في الصلاة كلها" .
وفي إسناد هذا الحديث محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث، وإنما وقع الخلاف في عنعنته لا في سماعه، وهذه كيفية أخرى أجدر من رواية أبي هريرة بأن يعتمد عليها لخلوها من ذكر الإحرام مع علم استقبال القبلة، وكأن عائشة أجابت عن ترك الحراسة بالإسراع في السجود، وفي النفس منها شيء، وما أرى أن الشيخين تركا ذكر هذين الحديثين في صحيحيهما لأجل سنديهما فقط.
6- روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن جابر قال: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصفنا صفين خلفه والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الآخر في نحر العدو.
فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعا ثم رفع رأسه ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود بالصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعا قال في المنتقى بعد إيراد هذا الحديث: وروى أحمد وأبو داود والنسائي هذه الصفة من حديث ابن عياش الزرقي وقال: فصلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم والبخاري لم يخرج هذا الحديث، وقال: إن جابرا صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بذات الرقاع، وأجيب بتعدد الصلاة وحضور جابر في كل منها، وعسفان بضم أوله قرية بينها وبين مكة أربعة برد.
وهذه الكيفية لا تنطبق على نص الآية لأن الآية نزلت في واقعة كان فيها العدو في غير ناحية القبلة فاحتيج إلى وقوف طائفة تجاهه لحراسة المصلين ولهذا استنكرنا حديث أبي هريرة وعائشة في الكيفية الخامسة، وفي هذه الواقعة كان العدو في جهة القبلة فاكتفي فيها من العمل بهذه الآية ألا يسجد الصفان معا بل على التعاقب ; لأن حال العدو لا تخفى عليهم إلا في وقت السجود.
7- روى الشافعي في الأم والبخاري في تفسير قوله - تعالى -:
{ { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } [البقرة: 239]، عن ابن عمر أنه ذكر صلاة الخوف، وقال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا - جمع راجل وهو ما يقابل الراكب - قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال مالك قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك، ورواه ابن ماجه عنه مرفوعا قال: عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف صلاة الخوف وقال: "فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا" ، أي: يصلي كيفما كانت حاله ويومئ بالركوع والسجود إيماء، والظاهر أن هذه هي صلاة الناس فرادى عند التحام القتال أو الفرار من الخوف، لا من الزحف، أو خوف فوات العدو عند طلبه.
وفرق بعضهم بين من يطلب العدو ومن يطلبه العدو، قال الحافظ ابن المنذر: كل من أحفظ عنه العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء وإن كان طالبا نزل فصلى بالأرض. وفصل الشافعي فقال: إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود الطلوب عليه فيجزئه ذلك.
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن ما قاله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بشدة الخوف ولم يستثن طالبا من مطلوب، وبه قال ابن حبيب من المالكية، أقول: ويؤيده عمل عبد الله بن أنيس عندما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله إذ كان يجمع الجموع لقتال المسلمين قال:
"فانطلقت أمشي وأنا أصلي وأومئ إيماء" ، رواه أحمد وأبو داود وحسن إسناده الحافظ في الفتح، وأخذ الزمخشري هذه الكيفية من الآية التالية كما يأتي.
{ فإذا قضيتم الصلاة }، أي: أديتموها وأتممتموها في حال الخوف كما بينا لكم من القصر منها، وهو كقوله: { فإذا قضيت الصلاة }، وقوله:
{ { فإذا قضيتم مناسككم } [البقرة: 200]، { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } أي: اذكروه في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا وإعداد الثواب والرضوان لهم في الآخرة، وأن ذلك جزاؤهم عنده ما داموا مهتدين بكتابه، جارين على سننه في خلقه، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتسبيح والتهليل والدعاء، اذكروه على كل حال تكونون عليها من قيام في المسايفة والمقارعة، وقعود للرمي أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، لتقوى قلوبكم وتعلو هممكم، وتحتقروا متاعب الدنيا ومشاقها في سبيله فهذا مما يرجى به الثبات والصبر، وما يعقبهما من الفلاح والنصر، وهذا كقوله - تعالى - في سورة الأنفال: { { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45].
وإذا كنا مأمورين بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يعطيه السياق، فأجدر بنا أن نؤمر بذلك في كل حال من أحوال السلم كما يعطيه الإطلاق على أن المؤمن في حرب دائمة وجهاد مستمر، تارة يجاهد الأعداء، وتارة يجاهد الأهواء، ولذلك وصف الله المؤمنين العقلاء بقوله:
{ { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } [آل عمران: 191]، وأمرهم بكثرة الذكر في عدة آيات.
وذكر الله أعوان ما يعين على تربية النفس وإن جهل ذلك الغافلون، روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على عقله، فقال: { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة السر والعلانية، وعلى كل حال اهـ.
{ فإذا اطمأننتم } أي: فإذا اطمأنت أنفسكم بالأمن وزال خوفكم من العدو فأقيموا الصلاة، أي ائتوا بها مقومة تامة الأركان والحدود والآداب، لا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم في حال من أحوال الخوف، ولا من ركعاتها ونظام جماعتها كما أذن لكم في حال أخرى منها.
وقيل: إن المراد بالاطمئنان الاستقرار في دار الإقامة بعد انتهاء السفر لأنه مظنته، وإذا كان هذا الحكم مقابلا لما تقدم من حكم القصر من الصلاة في السفر إذا عرض الخوف، ومن كيفية صلاة الخوف، فالمراد بالاطمئنان فيه ما يقابل السفر والخوف جميعا.
كما أن المراد بإقامة الصلاة ما يقابل القصر منها بنوعيه: القصر من هيئتها وحدودها، والقصر من عدد ركعاتها، وذلك أن السفر تقابله الإقامة، ولم يقل فإذا أقمتم، والخوف يقابله الأمن كما قال في آية أخرى
{ { وآمنهم من خوف } [قريش: 4]، ولم يقل هنا فإذا أمنتم، ومعنى الاطمئنان السكون بعد اضطراب وانزعاج فهو يقابل كلا من الخوف والسفر مجتمعين ومنفردين، إذ يصدق على من زال خوفه في سفره أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان، كما يصدق على من انتهى سفره واستقر في وطنه أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان.
وهذا المعنى يلتئم مع قول من قال: إن الآيتين السابقتين وردتا في صلاة الخوف لا صلاة السفر، سواء منهم من قال: إن صلاة السفر قد ثبت القصر فيها بالسنة المتواترة، ومن قال: إنها شرعت ركعتين ركعتين إلا المغرب فقط فإنها ثلاث، ومع قول من قال: إنهما جامعتان لصلاة السفر بقصر الرباعية فيه، ولصلاة الخوف بأنواعها، ومنها ما تكون فريضة المأموم فيها ركعة واحدة ومنها ما يكون بالإيماء، سواء منهم من تأول في اشتراط الخوف فلم يجعل له مفهوما أو جعل مفهومه منسوخا، ومن فصل فجعل شرط السفر خاصا بقصر الرباعية إلى ثنتين وشرط الخوف خاصا بقصرها إلى ركعة واحدة، أو القصر من هيئتها وأركانها.
وذهب الزمخشري إلى أن الآية بمعنى آية البقرة في صلاة الخوف فجعل قضاء الصلاة فيها عبارة عن أدائها، والذكر بمعنى الصلاة، والمعنى: فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فصلوا قياما مسايفين ومقارعين، وقعودا جاثين على الركب مرامين، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح، وفسر الاطمئنان بالأمن وإقامة الصلاة بعده بقضاء ما صلى بهذه الكيفية، أي القضاء المصطلح عليه في الفقه وهو إعادة الصلاة بعد فوات وقتها.
وجعل الآية بهذا حجة للشافعي في إيجابه الصلاة على المسافر في حال القتال في المعركة كيفما اتفق ثم قضائها في وقت الأمن، خلافا لأبي حنيفة الذي يجيز ترك الصلاة في حال القتال وتأخيرها إلى أن يطمئن، وقد خرج الزمخشري بهذا عن الظاهر المتبادر من استعمال لفظي القضاء وإقامة الصلاة في القرآن، وهو الدقيق في فهم اللغة وتفسير أكثر الآيات بما يفصح عنه صميمها المحض، أسلوبها الغض فسبحان المنزه عن الذهول والسهو.
{ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } هذا تذييل في تعليل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها، أي: إن الصلاة كانت في حكم الله ومقتضى حكمته في هداية عباده كتابا، أي: فرضا مؤكدا ثابتا ثبوت الكتاب في اللوح أو الطرس، موقوتا، أي: منجما في أوقات محدودة لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان، وأن أداءها في أوقاتها مقصورا منها بشرطه خير من تأخيرها لقضائها تامة، وسنبين ذلك في بحث حكمة التوقيت.
روى ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: " إن للصلاة وقتا كوقت الحج "، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير { موقوتا } منجما، كلما مضى نجم جاء نجم، قال: يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر اهـ، يقال: وقت العمل يقته كوعده يعده، ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدى فيه، ويقال: أقته أيضا بالهمزة بدلا من الواو، كما يقال: وكدت الشيء توكيدا وأكدته تأكيدا.
حكم توقيت الصلاة
التشكيك شنشنة لأهل الجدل والمراء من دعاة الملل، ومتعصبي مقلدة المذاهب والنحل، وناهيك بمن يتخذونه صناعة وحرفة كدعاة النصرانية الذين عرفناهم في بلادنا، وقد صار بعض شبهاتهم على الإسلام يروج في سوق المتفرنجين، فيما يوافق أهواءهم من التفصي من عقل الدين، ومن أغرب ذلك اعتراضهم على توقيت الصلاة وزعمهم أنه عبارة عن جعلها رسوما صورية، وعادات بدنية، وأن المعقول أن يوكل هذا إلى اختيار المؤمن فيذكر ربه ويناجيه عندما يجد فراغا تسلم به الصلاة من الشواغل، ولا توجد قاعدة من قواعد الشرائع أو القوانين، ولا نظرية من نظريات العلم والفلسفة، ولا مسألة من مسائل الاجتماع والآداب، إلا ويمكن الجدال فيها، والمراء في نفعها أو ضرها، وقد سئلت عن هذه المسألة في شعبان سنة 1328 هـ وأنا في القسطنطينية فأجبت عنها جوابا وجيزا مستعجلا نشر في ص 579 من مجلد المنار الثالث عشر، وهذا نص السؤال، وقد ورد مع أسئلة أخرى:
" إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي إلى تهذيب الأخلاق وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم صلاته بمواعيد فكيف يعقل والناس على ما ترى، أن كل الصلوات التي تقام في المساجد والبيوت هي بإخلاص عند كل المسلمين؟ وإذا كان الجزء القليل منها هو المقصود من الدين والمبني على الفضيلة فلماذا لا تترك الحرية التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم؟ وإلا فما هي الفائدة التي تعود على النفس من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيقي للعبادة، بل اتباعا للمواعيد، واحتراما للتقاليد؟
وهذا هو الجواب:
الجواب عن هذا يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصا بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل نفسه بما يعتقد أنه الحق وفيه الفائدة والخير، بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك العناية بتكميل إيمانه، وتهذيب نفسه، وشكر ربه وذكره.
وقد رأيت بعض المتعلمين في المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على الحتم، ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضا وجوب غير ذلك من أنواع الطهارة بناء على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته إليها، والعقل يحدد ذلك ويوقته!! هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وأن ما جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسبانين خطأ، فهم قد تربوا على أعمال من الطهارة - النظافة - منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في الصباح - التواليت - وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من الأعمال، وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة، فقياس سائر الناس عليهم في البدو والحضر خطأ جلي.
إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى اجتهادهم ; ولذلك ترى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها وأثاثها كل يوم في أوقات معينة - عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة، وتارة تكون غير نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم في وقت معين وإن لم يلم بها أذى أو غبار فهي التي تكون نظيفة دائما.
فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه، وأن يترك المكان أو الفراش أو البساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء، فالتربية التجريبية تقضي بأن تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة ليكون التنظيف خلقا وعادة لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل.وعندي أن أظهر حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها مقررا في النفس محتما لا هوادة فيه.
وقد قال لي " متشل أنس " وكيل المالية بمصر في عهد "كرومر": إنه يوجد إلى الآن في أوربة أناس لا يغتسلون مطلقا، وإننا نحن الإنكليز أكثر الأوربيين استحماما، وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام من أهل الهند، ثم سبقنا جميع الأمم فيها، فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم للصحة والهناء.
واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبة موقوتة مفروضة بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم.
إذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله - تعالى - شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم، وبشكر نعم الله عليهم باستعمالهم في الخير ومنع الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها الخير ويرغبها فيه - مثل ذكر الله - عز وجل -، أي: تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال.
ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح وتلاوة القرآن والدعاء، فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبتة لله - عز وجل - وحبه له، أي: حبه للكمال المطلق، وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص، وترغب في الخير والفضل، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء ما لم يكن فرضا معينا وكتابا موقوتا، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس - وهو الصلاة - تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها، ومن قصر في هذا القدر القليل من الذكر الموزع على هذه الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ونفسه، ويغرق في بحر من الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد، ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه، وهو الذي استحسنه السائل.
وجملة القول أن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة ; لتكون مذكرة لجميع أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة ; لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير في الخير، ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي يرونها أوفق بحالهم.
وإذا راجعت تفسير
{ { حافظوا على الصلوات } [البقرة: 238]، في الجزء الثاني من تفسيرنا هذا تجد بيان ذلك واضحا، وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا واظب المؤمن عليها، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم.