التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
٥١
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
٥٢
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً
٥٣
أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً
٥٤
فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
٥٥
-النساء

تفسير المنار

أخرج أحمد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير، فنزلت فيهم: { { إن شانئك هو الأبتر } [الكوثر: 3]، ونزلت فيه: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب }، إلى قوله: { نصيرا } وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو عمارة، وهودة بن قيس، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار اليهود، وأهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه!! فأنزل الله: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب }، إلى قوله: { ملكا عظيما } اهـ، من لباب النقول.
أقول: الرواية الأولى عند البزار وغيره في سبب نزول سورة الكوثر وهي مكية، ووقائع هذه السورة مدنية كما بيناه، ومحاجة اليهود وبيان أحوالهم لم يفصل إلا في السور المدنية بعد ابتلاء المؤمنين بكيدهم فيها وفي جوارها، ففي الرواية خلط سببه اشتباه بعض الرواة في الأسباب المتشابهة، وسيأتي بعض روايات ابن جرير في ذلك، والآيات متصلة بما قبلها، ولا يبعد أن يكون هذا السياق كله قد نزل بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها ; إذ نقض اليهود عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتحدوا مع المشركين على استئصال المسلمين، وذلك هو تفضيلهم للمشركين على المؤمنين بالفعل، ولا بد أن يكونوا صرحوا بالتفضيل بالقول عند النداء بالنفير لحرب المؤمنين.
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } الاستفهام للتعجيب من هذه الحال من أحوالهم كما سبق نظيره في الآية التي افتتحت بمثل ما افتتحت به للتعجيب من ضلالهم في أنفسهم وإرادتهم إضلال المؤمنين، و " الجبت " قال بعض اللغويين: أصله الجبس، فقلبت التاء سينا، ومعناه فيهما الرديء الذي لا خير فيه، وأطلق على السحر، وعلى الساحر، وعلى الشيطان، وقيل: إنه حبشي الأصل، روي عن ابن عباس، وابن جبير، وأبي العالية: أنه الساحر، وفي رواية عن ابن عباس، ومجاهد: أنه الأصنام، وعن عمر، ومجاهد في رواية أخرى، وابن زيد: أنه السحر. و " الطاغوت ": من مادة الطغيان وتقدم تفسيره في تفسير آية الكرسي من الجزء الثالث [ص 20 ج 3 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب]، بأنه كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يعبد، ورئيس يقلد، وهوى يتبع، وقد روي عن عمر ومجاهد أن الطاغوت: الشيطان، وعن ابن عباس: أن الطاغوت هم الناس الذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، وقيل: الطاغوت: الكهان، وقيل: الجبت والطاغوت: صنمان كانا لقريش، وأن بعض اليهود سجدوا لهما مرضاة لقريش واستمالة لهم ليتحدوا معهم على قتال المسلمين، وفي حديث قطن بن قبيصة عن أبيه مرفوعا عند أبي داود: " العيافة والطيرة، والطرق من الجبت " وفسر العيافة بالخط، وهو ضرب الرمل، وتطلق العيافة على التفاؤل والتشاؤم بما يؤخذ من الألفاظ بطريق الاشتقاق كقول الشاعر:

تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا بأن عن لي منك البنان المطرف
وفي عرفات ما يخبر أنني بعارفة من طيب قلبك أسعف
وأما دماء الهدي فهو هدي لنا يدوم ورأي في الهوى يتألف
فأوصلتا ما قلته فتبسمت وقالت أحاديث العيافة زخرف

والطيرة: التشاؤم، وأصله من زجر الطير، والطرق: هو الضرب بالحصا أو الودع، أو حب الفول، أو الرمل لمعرفة البخت وما غاب من أحوال الإنسان، وهذه الأمور كلها من الدجل والحيل، فالمعنى الجامع للفظ الجبت هو الدجل والأوهام والخرافات، والمعنى الجامع للفظ الطاغوت هو ما تقدم آنفا في تفسير آية الكرسي من مثارات الطغيان.
ومعنى الآية: ألم ينته علمك أيها الرسول أو لم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف حرموا هدايته؟ فهم يؤمنون بالجبت والطاغوت وينصرون أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائه، وحقية أصل كتبهم { ويقولون للذين كفروا } أي: لأجلهم وفي شأنهم والحكاية عنهم: { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا }، أي يقولون: إن المشركين أهدى وأرشد طريقا في الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال ابن جرير: ومعنى الكلام أن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله، ومعصيتهما وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله اهـ.
ثم ذكر الروايات في ذلك عنهم، ومنها ما تقدم عن كعب بن الأشرف، ومنها ما رواه أيضا عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرهم أن يغزوه وقال: إنا معكم نقاتله، فقالوا: إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين، وأمر بهما ففعل، ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء ـ الناقة الضخمة السنام ـ ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده، فقال: بل أنتم خير وأهدى.
ومنها عن السدي قال: لما كان من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين فهموا به وبأصحابه، فأطلع الله رسوله على ما هموا من ذلك ورجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه، قال: دينكم خير من دين محمد فاثبتوا عليه، وذكر روايات أخرى.
{ أولئك الذين لعنهم الله } أي: أولئك الذين بينا سوء حالهم هم الذين لعنهم الله، أي: اقتضت سنته في خلقه أن يكونوا بعداء عن موجبات رحمته وعنايته من الإيمان بالله وحده والكفر بالجبت والطاغوت { ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } أي: ومن يلعنه الله بالمعنى الذي ذكرناه آنفا فلن ينصره أحد من دونه ; إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى في خلقه، ومنها أن يكون الخذلان والانكسار نصيب المؤمنين بالجبت والطاغوت، أي: بمثار الدجل والخرافات والطغيان، أي مجاوزة سنن الفطرة وحدود الشريعة، ولا سيما إذا أراد هؤلاء مقاومة أهل التوحيد والحق والاعتدال في سياستهم وأعمالهم بسيرهم على سنن الاجتماع فيها، وهذه الآية تدل على أن سبب لعن الله للأمم هو إيمانها بالخرافات والأباطيل والطغيان، وأنه تعالى إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك، وتدل بطريق اللزوم على أن الأمم المغلوبة تكون أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة المنصورة، فليحاسب المسلمون أنفسهم بها وبما في معناها من الآيات، كقوله تعالى:
{ { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [الروم: 47]، ليتبين لهم من كتاب ربهم صدقهم في دعوى الإيمان من عدمه، ولعلهم يرجعون إليه ويعولون في أمر دينهم ودنياهم عليه.
{ أم لهم نصيب من الملك } قالوا: إن { أم } هنا منقطعة وهي عند جمهور البصريين للإضراب أو الاستفهام، والمراد بالإضراب هنا: الانتقال من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المؤمنين إلى توبيخهم على البخل والشح والأثرة، واختار الأستاذ الإمام أن أم إذا وقعت في أول الكلام تكون للاستفهام المجرد [راجع ص 24 ج 2 من التفسير ط الهيئة المصرية العامة للكتاب]، والاستفهام هنا للإنكار، والتوبيخ يستفاد من قرينة المقام، أي: ليس لهم نصيب من الملك كما لهم نصيب من الكتاب، بل فقدوا الملك كله بظلمهم وطغيانهم { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أي: ولو كان لهم نصيب من الملك لسلكوا فيه طريق البخل والأثرة بحصر منافعه ومرافقه في أنفسهم، فلا يعطون الناس نقيرا منه إذ ذاك، والنقير: هو النقرة أو النكتة في ظهر نواة التمر، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة شبهت بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة، والنقير كالفتيل في الآية السابقة [49] يضرب به المثل في الشيء القليل والحقير التافه، ويطلق النقير أيضا على ما نقر، أي حفر من الحجر أو الخشب فجعل إناء ينبذ فيه، وكذلك يضرب المثل بالقطمير وهي القشرة الدقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة.
وحاصل المعنى: أن هؤلاء اليهود أصحاب أثرة شديدة وشح مطاع يشق عليهم أن ينتفع منهم أحد من غير أنفسهم، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، فكيف لا يشق عليهم أن يظهر نبي من العرب ويكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل؟ وهذه الصفة لا تزال غالبة على اليهود ظاهرة فيهم، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس، وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا من نواة أو موضع زرع نخلة، أو نقرة في أرض أو جبل، وهم يحاولون الآن وحاولوا قبل الآن ذلك بقطع أسباب الرزق عن غيرهم، فالنجار اليهودي في بيت المقدس يعمل لك العمل بأجرة أقل من الأجرة التي يرضى بها المسلم أو النصراني وإن كانت أقل من أجرة المثل، ولعل جمعياتهم السياسية والخيرية تساعدهم على ذلك، فالدلائل متوفرة على أن القوم يحاولون امتلاك الأرض المقدسة، وحرمان غيرهم من جميع أسباب الرزق فيها، يفعلون هذا وليس لهم نصيب من الملك " هذا وما كيف لو ".
وهل يعود إليهم الملك كما يبغون؟ الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وإنما تبين ما تقتضيه طباعهم فيه لو حصل، وسيأتي البحث في ذلك في تفسير سورة الإسراء التي تسمى أيضا (سورة بني إسرائيل) ويدخل في ذلك ما تقتضيه من الكثرة وهم متفرقون ومتعلقون بأموالهم في كل الممالك، ومن الاستعداد للحرب والزراعة، وقد ضعف ذلك في أكثرهم، ولكنهم يعتقدون اعتقادا دينيا أنهم سيقيمون الملك، أو سوف يقيمونه في البلاد المقدسة، وقد ادخروا لذلك مالا كثيرا، فيجب على العثمانيين ألا يمكنوا لهم في فلسطين ولا يسهلوا لهم طرق امتلاك أرضها، وكثرة المهاجرة إليها، فإن في ذلك خطرا كبيرا كما نبهنا في تفسير الآيات السابقة من عهد قريب.
{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله }، الأستاذ الإمام: سبق في الآيات قبل هذه أن اليهود حكموا بأن المشركين أهدى سبيلا من المؤمنين، وذلك من الحسد والغرور بأنفسهم؛ فإنهم يقولون ذلك مع أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، فهم في شر حال، ويعيبون من هم في أحسن حال، فالله تعالى يقول: إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده، ولا يحبون أن يكون لأمة من الأمم فضل أكثر مما لهم أو مثله أو قريب منه لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم، فكأنه قال: هل غرر هؤلاء بأنفسهم تغريرا، أم لهم نصيب من الملك في هذا الكون فهم يمنعون الناس، فلا يؤتونهم منه نقيرا، أم يحسدون الناس على ما أعطاهم الله من فضله؟ أي: العرب.
{ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل، وقد كانت ظهرت تباشير الملك العظيم فيهم عند نزول هذه الآيات ; فإنها مدنية متأخرة، وكانت شوكة المسلمين قد قويت، فالآية مبشرة لهم بالملك الذي يتبع النبوة والحكمة، والحاصل أن حال اليهود يومئذ كان لا يعدو هذه الأمور الثلاثة: إما غرور خادع يظنون معه أن فضل الله محصور فيهم، ورحمته تضيق عن غير شعب إسرائيل من خلقه، وإما حسبان أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يسمحون لأحد بشيء منه ولو حقيرا كالنقير، وإما حسد العرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئ عظمته، انتهى ما قاله في الدرس، وليس عندنا عنه في ذلك غيره.
وأقول: فسروا الحسد بأنه تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها، ولم يرد ذكره في القرآن إلا في هذه الآية، وفي قوله من سورة البقرة:
{ { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } [البقرة: 109]، وفي سورة الفلق، وأهل الكتاب في آية البقرة هم اليهود، فهو لم يسند الحسد إلى غيرهم ; لأنهم ـ وقد سلب منهم الملك ـ يتمنون عودته إليهم وقد كبر عليهم أن تسبقهم العرب إلى ذلك، ولم يكن النصارى يومئذ يحسدون المسلمين؛ لأنهم متمتعون بملك واسع، ولا مشركو العرب؛ لأنهم ما كانوا يظنون أن النبوة التي قام بها واحد منهم حق، ولا أنها تستتبع ملكا؛ فإن من ظهر له حقية الدعوة صار مسلما، وأما اليهود فإنه لم يؤمن ممن ظهرت لهم حقية دعوة الإسلام إلا نفر قليل، ومنع الحسد باقي الرؤساء أن يؤمنوا وتبعهم العامة تقليدا لهم، وقلما يمنع الناس من اتباع الحق بعد ظهوره لهم مثل الحسد والكبر، فالحسود يؤثر هلاك نفسه على انقيادها لمن يحسده؛ لأن الحسد يفسد الطباع، وفي التفسير المأثور أن المراد بالناس هنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا شك أنهم حسدوه وحسدوا قومه العرب؛ لأنه منهم وهم أسبق إلى الخير الذي جاء به.
ورد في بعض أسباب نزول الآية أن بعض اليهود ككعب بن الأشرف لم يجدوا مطعنا يقولونه في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا تعدد أزواجه، وقيل: حسدوه على ذلك، والآية ترد هذه الشبهة؛ لأن بعض أنبيائهم كداود وسليمان كان لهم أزواج كثيرة، كما رد عليهم استبعادهم أن يكون الملك في غير آل إسرائيل بأنه تعالى أعطى آل إبراهيم من ذرية إسحاق الكتاب والحكمة والنبوة فضلا منه من غير أن يكون لهم حق عليه تعالى، فكذلك يعطى ذلك لآله من ذرية إسماعيل، ولا حجر على فضله، فإن كان هذا الفضل الإلهي لا يناله إلا من له سلف فيه، فللعرب هذا السلف ; على أن هذه الدعوى باطلة وإلا لكانت هذه العطايا قديمة أزلية وليس الإنسان قديما أزليا، ولو كان أزليا لما أمكن أن تكون بعض فروعه أزلية، فإيتاء الله تعالى بعض البشر الفضل؛ إما أن يكون بمحض الاختصاص والاختيار وذلك موكول إلى مشيئته عز وجل، وإما أن يكون لمزايا وفضائل فيمن يعطيه ذلك، وحينئذ يكون كل من يكتسب مثل تلك المزايا مستحقا لهذا الفضل، والنبوة ومقدماتها بمحض الاختصاص.
أما كثرة النساء، لداود وسليمان عليهما السلام فقد نقل بعض المفسرين أنه كان لداود مائة امرأة، ويؤخذ ذلك من سورة (ص) وأنه كان لسليمان ألف وثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فكيف يستنكر أتباعهما أن يكون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسع نسوة، وقد تزوج أكثرهن لحكم وأسباب عامة أو خاصة كما تقدم بيان ذلك في تفسير آية تعدد الزوجات من الجزء الرابع، وفي سفر الملوك من كتابهم المقدس ما نصه: 11: 1 وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم ولا يدخلون إليكم؛ لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري فأمالت نساؤه قلبه " إلى آخر ما هناك من الطعن فيه ـ عليه السلام ـ وبرأه الله.
{ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه } القول المشهور المقدم في كتب التفسير التي بين أيدينا أن الضمير في قوله: { آمن به } للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ما أنزل عليه، أي: من أولئك اليهود من آمن به ومنهم من أعرض عنه، يقال: صد الرجل عن الشيء إذا أعرض عنه، ويقال أيضا: صد غيره عنه إذا صرفه عنه، ونفره منه، وقيل: إنه عائد إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أي من آله من آمن به، ومنهم من لم يؤمن به، وقيل: إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم، وقيل: إلى الكتاب، وقال الأستاذ الإمام: يرجع الضمير إلى ما ذكر من الكتاب والحكمة والملك العظيم، فأما الإيمان بالكتاب والحكمة، وهي ما جاء به الأنبياء من بيان أسرار الكتاب فظاهر، وأما الإيمان بالملك فهو الإيمان بوعد الله تعالى به، وهكذا شأن الناس في كل شيء لا يتفقون عليه، وإنما يأخذ به بعضهم ويعرض عنه آخرون.
{ وكفى بجهنم سعيرا } أي: نارا مسعرة لمن صد عنه وآثر إرضاء حسده والعمل بما يزينه له على اتباع الحق، فهو لا يزال يغريه بنصر الباطل ومعاندة الحق حتى يدسي نفسه ويفسدها ويهبط بها إلى دار الشقاء وهاوية النكال المعبر عنها بجهنم وبالسعير وهي بئس المثوى وبئس المصير.