التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً
٦٩
ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً
٧٠
-النساء

تفسير المنار

الصراط المستقيم في الآية السابقة هو الصراط الذي سار عليه عباد الله المصطفون الأخيار، الذين أنعم الله عليهم بمعرفة الحق واتباعه، وعمل الخيرات واجتناب الفواحش والمنكرات، وهم الأصناف الأربعة في قوله: { ومن يطع الله والرسول } إلخ، وكان الظاهر بادي الرأي أن يقال: ولهديناهم صراطا مستقيما، صراط أولئك الذين أنعم الله عليهم، أو فكانوا مع الذين أنعم الله عليهم، أو ما هو بهذا المعنى.
ولكن أعيد ذكر طاعة الله ورسوله؛ لأنه هو الأصل المراد في السياق، الذي تكون سعادة صحبة من أنعم الله عليهم جزاء له، أي: إن كل من يطيع الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الوجه المبين في الآيات من قوله: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } إلى قوله: { ولهديناهم صراطا مستقيما }.
{ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين }، وما قيل من أن الطاعة تصدق بامتثال أمر واحد مرة واحدة وما يبنى عليه من الجواب هو مما اعتادوه من اختراع الإيرادات والأجوبة عنها، وإن كان السياق يأباها، فهذه الطاعة هي التي يدخل فيها إيثار حكم الله ورسوله على حكم الطاغوت من أهل الأهواء، وهي التي علمنا بها أن العمل من أركان الإيمان الصحيح أو شرط له لتوقفه على الإذعان في الظاهر والباطن لحكم الله ورسوله، بحيث لا يكون في نفس المؤمن حرج منه ويسلم له تسليما، ويدخل في ذلك امتثال أمر الله ورسوله ولو في تعريض النفس للقتل والخروج من الديار والأوطان.
ذهب بعض المفسرين إلى أن الصديقين والشهداء والصالحين أوصاف متداخلة لموصوف واحد، فالمؤمنون الكاملون فريقان: الأنبياء والمتصفون بالصفات الثلاث، وهذا وجه ضعيف، والصواب المغايرة بينهم كما هو ظاهر العطف على ما في صفاتهم من العموم والخصوص، وقد اختلفوا في تعريفهم، وهاك ما لا كلفة فيه ولا جناية على اللغة.
(الصديقون) جمع صديق، وهو من غلب عليه الصدق وعرف به كالسكير لمن غلب عليه السكر، قال الراغب: الصديق من كثر منه الصدق، وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قط، وقيل: لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بقوله. قال:
{ { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا } [مريم: 41]، وقال: أي في المسيح: { { وأمه صديقة } [المائدة: 75]، وقال: { من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } فالصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة على ما بينت ذلك في الذريعة إلى مكارم الشريعة.
الأستاذ الإمام: الصديقون: هم الذين زكت فطرتهم، واعتدلت أمزجتهم، وصفت سرائرهم، حتى إنهم يميزون بين الحق والباطل والخير والشر بمجرد عروضه لهم، فهم يصدقون بالحق على أكمل وجه، ويبالغون في صدق اللسان والعمل، كما نقل عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه بمجرد ما بلغته دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرف أنها الحق وقبلها وصدق بها فصدق النبي في قوله وعمله أكمل الصدق، ويليه في ذلك جميع السابقين الأولين، فإنهم انقادوا إلى الإسلام بسهولة قبل أن تظهر الآيات وثمرات الإيمان تمام الظهور كعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون ـ وعد آخرين من السابقين ـ ودرجة هؤلاء قريبة من مرتبة النبوة، بل الأنبياء صديقون وزيادة.
وأقول: ما نقلناه عن الراغب والأستاذ من كون الصديقية هي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة في الكمال البشري قد صرح به كثير من العلماء، وللغزالي كلام كثير فيه، ولا غرو فالصدق في القول والعمل أس الفضائل، كما أن الكذب والنفاق أس الرذائل، واختار الأستاذ الإمام أخذ الصديق من التصديق وهو المبالغة في تصديق الأنبياء وكمال الإيمان بهم، ولهذا كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ صديقا.
وقد وردت الأحاديث الصحاح، والتي دون الصحاح في تصديقه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين كذبه الناس، وفي حديث ابن مسعود عن الديلمي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
"ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم" وعن ابن عباس عند أبي نعيم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما كلمت في الإسلام أحدا إلا أبى علي، وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله وسارع إليه" ، وسندهما ضعيف.
وقد عد بعض المستشرقين على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ المسارعة إلى تصديق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدم التلبث به، وحسب أن ذلك من السذاجة وضعف الروية، وينقض حسبانه كل ما عرف من سيرة أبي بكر في الجاهلية والإسلام، فإنه كان من أجود الناس رأيا، وأنفذهم بصيرة، وأصحهم حكما، وأقلهم خطأ، وإنما يعرف قيمة الصدق الصادقون، وقدر الشجاعة الشجعان، وحقائق الحكمة الحكماء، فلما كانت مرتبة أبي بكر قريبة من مرتبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصدق وتحري الحق وإيثاره على الباطل، وإن ركب في سبيله الصعاب وتقحم في الأخطار كان السابق إلى تصديقه، وبذل ماله ونفسه في نصره، وقد سمى الله الدين صدقا في قوله:
{ { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } [الزمر: 33].
نعم إن الصادق يكون أسرع إلى تصديق غيره عادة، فإن كان بليدا أو ساذجا غرا صدق غيره في كل شيء، وإن كان ذكيا مجربا ـ كأبي بكر ـ لم يصدق إلا ما هو معقول، ومن كان كبير العقل قوي الحدس يدرك لأول وهلة ما لا يصل إليه غيره إلا بعد السنين الطوال، وكان أبو بكر من أعلم العرب بتاريخ العرب وأنسابها وأخلاقها، وظهر أثر ذلك في سياسته أيام خلافته ولا سيما في المرتدين ومانعي الزكاة، فلولاه لانتكث فتل الإسلام وغلبته عصبية الجاهلية، أفهكذا تكون السذاجة وضعف الرأي والروية! أم ذلك ما أملاه على ذلك المستشرق كره المخالف، ووسوس به شيطان العصبية؟؟
{ الشهداء } جمع شهيد، وبين الرازي أنه لا يجوز أن يراد بالشهيد هنا من قتله الكفار في الحرب؛ لأن الشهادة مرتبة عالية عظيمة في الدين " وكون الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف؛ لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق، ومن لا منزلة له عند الله تعالى " ولأن المؤمنين يدعون الله تعالى أن يرزقهم الشهادة ولا يجوز أن يطلبوا منه أن يسلط عليهم الكفار يقتلونهم؛ ولأنه ورد إطلاق لفظ الشهيد على المبطون والمطعون والغريق.
قال: " فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله:
{ { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط } [آل عمران: 18]، ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث إنه بذل نفسه في نصرة دين الله، وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة كما قال: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143].
وقال الأستاذ الإمام: الشهداء هم الذين أمرنا الله تعالى أن نكون منهم في قوله:
{ { لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143]، وهم أهل العدل والإنصاف الذين يؤيدون الحق بالشهادة لأهله بأنهم محقون، ويشهدون على أهل الباطل أنهم مبطلون، ودرجتهم تلي درجة الصديقين، والصديقون شهداء وزيادة.
وأقول: إن الشهادة التي تقوم بها حجة أهل الحق على أهل الباطل تكون بالقول والعمل، والأخلاق، والأحوال، فالشهداء هم حجة الله تعالى على المبطلين في الدنيا والآخرة بحسن سيرتهم، وتقدم القول في ذلك في تفسير:
{ { لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143]، من الجزء الثاني، وتفسير [2: 140]، من الجزء الأول.
ويروى عن سيدنا علي أنه قال: إن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، ويتوهم أسرى الاصطلاحات، ورهائن القيود المستحدثات، أن حجج الله تعالى في الأرض هم علماء الرسوم حملة الشهادات، الذين حذقوا النقاش في العبارات، والجدل في مصارعة الشبهات، وجمع النقول في تلفيق المصنفات، كلا؛ إن حجج الله تعالى من الناس هم أعلام الحق والفضيلة، ومثل العدل والخير، فمنهم العالم المستقل بالدليل وإن سخط المقلدون، والحاكم المقيم للعدل، وإن كثر حوله الجائرون، والمصلح لما فسد من الأخلاق والآداب وإن غلب المفسدون، والباذل لروحه حتى يقتل في سبيل الحق وإن أحجم الجبناء والمراءون.
{ الصالحون } هم الذين صلحت نفوسهم وأعمالهم ولم يبلغوا أن يكونوا حججا ظاهرين كالذين قبلهم ; لأنه ليس لهم من العلم والعمل المتعدي نفعه إلى غيرهم ما يحتج به على المبطلين، والجائرين عن الصراط المستقيم، وقال الأستاذ الإمام: هم الذين صلحت أعمالهم في الغالب، ويكفي أن تغلب حسناتهم على سيئاتهم وألا يصروا على الذنب وهم يعلمون.
هؤلاء الأصناف الأربعة هم صفوة الله من عباده، وقد كانوا موجودين في كل أمة، ومن أطاع الله والرسول من هذه الأمة كان منهم، وحشر يوم القيامة معهم ; لأنه وقد ختم الله النبوة والرسالة لا بد أن يرتقي في الاتباع إلى درجة أحد الأصناف الثلاثة: الصديقين والشهداء والصالحين { وحسن أولئك رفيقا } أي: إن مرافقة أولئك الأصناف هي في الدرجة التي يرغب العاقل فيها لحسنها، وفي الكشاف: إن في هذه الجملة معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحسن أولئك رفيقا، والرفيق كالصديق والخليط الصاحب، والأصحاب يرتفق بعضهم ببعض.
واستعملت العرب الرفيق والرسول البريد مفردا استعمال الجمع أو الجنس، ولهذا حسن الإفراد هنا، وقيل: تقدير الكلام، وحسن كل فريق من أولئك رفيقا.
وهل يرافق كل فريق فريقه، إذ كان مشاكله وضريبه، أم يتصل كل منهم بمن فوقه، ولو بعض الاتصال، الذي يكون في حال دون حال؟ الظاهر الثاني وهو ما يشير إليه التعبير بالفضل في الآية التالية.
روى الطبراني وابن مردويه بسند قال السيوطي: لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك.
فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية { ومن يطع الله والرسول } وأخرج ابن أبي حاتم، عن مسروق، أن سبب نزولها قول الصحابة: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنك لو قدمت لرفعت فوقنا ولم نرك، وأخرج عن عكرمة قال: أتى فتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أنت معي في الجنة إن شاء الله - تعالى -" اهـ، وهذه الروايات ضعيفة السند، فإن كان لها أصل فالمراد أن الآية نزلت في سياقها المتصلة به بعد شيء من هذه الأسئلة.
وأما معنى هذه الروايات فيؤيده حديث أبي قرصانة مرفوعا: من أحب قوما حشره الله معهم رواه الطبراني والضياء، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة، وفي معناه حديث أنس عند أحمد والشيخين وغيرهم: المرء مع من أحب وقد يغر كثير من المنافقين والفاسقين أنفسهم بدعوى محبة الله ورسوله، وإنما آية المحبة الطاعة، والآية قد جعلت هذه المعية جزاء الطاعة، وفي آية أخرى:
{ { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31]، فراجع تفسيرها في الجزء الثالث.
{ ذلك الفضل من الله } في هذه العبارة وجهان: أحدهما أن المعنى ذلك الذي ذكر من جزاء من يطيع الله ورسوله هو الفضل الكامل الذي لا يعلوه فضل، فإن الصعود إلى إحدى تلك المراتب في الدنيا وما يتبعه من مرافقة أهلها وأهل من فوقها في الآخرة هو منتهى السعادة، فيه يتفاضل الناس فيفضل بعضهم بعضا، وهو من الله تفضل به على عباده، وثانيهما: أن المعنى: ذلك الفضل الذي ذكره من جزاء المطيعين هو من الله - تعالى -. ويرى بعض الناس أن التعبير بلفظ الفضل ينافي أن يكون ذلك جزاء ويقتضي أن يكون زيادة على الجزاء، سمه جزاء أو لا تسمه هو من فضل الله - تعالى - على كل حال.
{ وكفى بالله عليما } وكيف لا تقع الكفاية بعلمه بالأعمال وبدرجة الإخلاص فيها وبما يستحق العامل من الجزاء، وإرادته تعالى للجزاء الوفاق والجزاء الفضل ولزيادة الفضل، ذلك كله تابع لعلمه المحيط! فهو يعطي بإرادته ومشيئته، ويشاء بحسب علمه، فالتذكير بالعلم الإلهي في آخر السياق يشعرنا بأن شيئا من أعمالنا ونياتنا لا يعزب عن علمه، ليحذر المنافقون المراءون، لعلهم يتذكرون فيتوبون، وليطمئن المؤمنون الصادقون، لعلهم ينشطون ويزدادون.