التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٣
-النساء

تفسير المنار

قيل: إن هذه الآية في المنافقين، وهم الذين كانوا يذيعون بمسائل الأمن والخوف ونحوها مما ينبغي أن يترك لأهله، وقيل: هم ضعفاء المؤمنين، وهما قولان فيمن سبق الحديث عنهم في الآيات التي قبلها، وصرح ابن جرير بأنها في الطائفة التي كانت تبيت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له.
أقول: ويجوز أن يكون الكلام في جمهور المسلمين من غير تعيين لعموم العبرة، ومن خبر أحوال الناس يعلم أن الإذاعة بمثل أحوال الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة، بل هي مما يلغط به أكثر الناس، وإنما تختلف النيات، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر، وضعيف الإيمان قد يذيع ما يرى فيه الشبهة، استشفاء مما في صدره من الحكة، وأما غيرهما من عامة الناس فكثيرا ما يولعون بهذه الأمور لمحض الرغبة في ابتلاء أخبارها، وكشف أسرارها، أو لما عساه ينالهم منها.
فخوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم، والأمن والخوف، أمر معتاد وهو ضار جدا إذا شغلوا به عن عملهم، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به، وهم لا يستطيعون كتمان ما يعلمون، ولا يعرفون كنه ضرر ما يقولون، وأضره علم جواسيس العدو بأسرار أمتهم، وما يكون وراء ذلك، ومثل أمر الخوف والأمن وسائر الأمور السياسية والشئون العامة، التي تختص بالخاصة دون العامة.
قال تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، أي: إذا بلغهم خبر من أخبار سرية غازية أمنت من الأعداء بالظفر والغلبة أو خيف عليها منهم بظهورهم عليها بالفعل أو بالقوة، أو إذا جاءهم أمر من أمور الأمن والخوف مطلقا، سواء كان من ناحية السرايا التي تخرج إلى الحرب أو من ناحية المركز العام للسلطة، أذاعوا به أي بثوه في الناس وأشاعوه بينهم، يقال: أذاع الشيء وأذاع به، قال أبو الأسود:

أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب

أي: حتى صار مشهورا يعرفه كل أحد كالنار في المكان العالي، أو كأنه نار في رأس علم، والثقوب والثقاب العيدان التي تورى بها النار، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه كما قال الزمخشري. وقال الأستاذ الإمام: أي أنهم من الطيش والخفة بحيث يستفزهم كل خبر عن العدو يصل إليهم فيطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس.
وما كان ينبغي أن تشيع في العامة أخبار الحرب وأسرارها، ولا أن تخوض العامة في السياسة فإن ذلك يشغلها بما يضر ولا ينفع، يضرهم أنفسهم بما يشغلهم عن شئونهم الخاصة، ويضر الأمة والدولة بما يفسد عليها من أمر المصلحة العامة اهـ، وهو مبني على رأيه في كون هذه الآيات في ضعفاء المسلمين.
{ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } رد الشيء صرفه وإرجاعه وإعادته، وفي الرد هنا وفي قوله السابق: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }، معنى التفويض: أي ولو أرجعوا هذا الأمر العام الذي خاضوا فيه وأذاعوا به، وفوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أي أهل الرأي والمعرفة بمثله من الأمور العامة والقدرة على الفصل فيها، وهم أهل الحل والعقد منهم الذين تثق بهم الأمة في سياستها وإدارة أمورها { لعلمه الذين يستنبطونه منهم }، أي: لعلم ذلك الأمر الذين يستخرجونه ويظهرون مخبأه منهم. الاستنباط: استخراج ما كان مستترا عن إبصار العيون عن معارف القلوب - كما قال ابن جرير، وأصله استخراج النبط من البئر وهو الماء أول ما يخرج، وفي المستنبطين وجهان:
أحدهما: أنهم الرسول وبعض أولي الأمر، فالمعنى لو أن أولئك المذيعين ردوا ذلك الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عنده وعند بعض أولي الأمر، وهم الذين يستنبطون مثله ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم، فهو إذا من الأمور التي لا يكتنه سرها كل فرد من أفراد أولي الأمر، وإنما يدرك غوره بعضهم لأن لكل طائفة منهم استعدادا للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها دون بعض، فهذا يرجح رأيه في المسائل الحربية، وهذا يرجح رأيه في المسائل المالية، وهذا يرجح رأيه في المسائل القضائية، وكل المسائل تكون شورى بينهم، فإذا كان مثل هذا لا يستنبطه إلا بعض أولي الأمر دون بعض، فكيف يصح أن يجعل شرعا بين العامة يذيعون به؟
والوجه الثاني: أن المستنبطين هم بعض الذين يردون الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أي لو ردوا ذلك الأمر إليهم وطلبوا العلم به من ناحيتهم لعلمه من يقدر أن يستفيد العلم به من الرسول ومن أولي الأمر منهم، فإن الرسول وأولي الأمر هم العارفون به، وما كل من يرجع إليهم فيه يقدر أن يستنبط من معرفتهم ما يجب أن يعرف، بل ذلك مما يقدر عليه بعض الناس دون بعض.
والمختار الوجه الأول ; فالواجب على الجميع تفويض ذلك إلى الرسول وإلى أولي الأمر في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وإليهم دون غيرهم من بعده ; لأن جميع المصالح العامة توكل إليهم، ومن أمكنه أن يعلم بهذا التفويض شيئا يستنبطه منهم فليقف عنده، ولا يتعده، فإن مثل هذا من حقهم، والناس فيه تبع لهم، ولذلك وجبت فيه طاعتهم.
لا غضاضة في هذا على فرد من أفراد المسلمين، ولا خدشا لحريته واستقلاله، ولا نيلا من عزة نفسه، فحسبه أنه حر مستقل في خويصة نفسه، لم يكلف أن يقلد أحدا في عقيدته ولا في عبادته، ولا غير ذلك من شئونه الخاصة به، وليس من الحكمة ولا من العدل ولا المصلحة أن يسمح له بالتصرف في شئون الأمة ومصالحها، وأن يفتات عليها في أمورها العامة، وإنما الحكمة والعدل في أن تكون الأمة في مجموعها حرة مستقلة في شئونها كالأفراد في خاصة أنفسهم، فلا يتصرف في هذه الشئون العامة إلا من يثق بهم من أهل الحل والعقد، المعبر عنهم في كتاب الله بأولي الأمر ; لأن تصرفهم قد وثقت به الأمة هو عين تصرفها، وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها.
زعم الرازي وغيره أن في هذه الآية دليلا على حجية القياس الأصولي، قال الأستاذ الإمام: وإنما تعلق الأصوليون في هذا بكلمة " يستنبطونه " وهي من مصطلحاتهم الفنية، ولم تستعمل في القرآن بهذا المعنى فقولهم مردود، أقول: وقد فرع الرازي على هذه المسألة أربعة فروع:
1 - أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص.
2 - أن الاستنباط حجة.
3 - أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث.
4 - أن النبي كان مكلفا باستنباط الأحكام كأولي الأمر.
وأورد على ما قاله بعض الاعتراضات وأجاب عنها كعادته، ولما كانت المسألة التي أخذ منها هذه الفروع وبنى عليها هذه المجادلة - خارجة عن معنى الآية، لا تدخل في معناها من باب الحقيقة ولا من باب المجاز ولا من باب الكناية، كان جميع ما أورده لغوا وعبثا.
هذا شاهد من أفصح الشواهد على ما بيناه قبل من سبب غلط المفسرين، وبعدهم عن فهم الكثير من آيات الكتاب المبين، بتفسيره بالاصطلاحات المستحدثة، فأهل الأصول والفقه اصطلحوا على معنى خاص لكلمة الاستنباط، فلما ورد هذا اللفظ في هذه الآية حمل الرازي على فطنته أن يخرج بها عن طريقها ويسير بها في طريق آخر ذي شعاب كثيرة يضل فيها السائر، حتى لا مطمع في رجوعه إلى الطريق السوي.
معنى الآية واضح جلي، وهو أن بعض المسلمين من الضعفاء أو المنافقين أو العامة مطلقا يخوضون في أمر الأمن والخوف، ويذيعون ما يصل إليهم منه على ما في الإذاعة به من الضرر، والواجب تفويض مثل هذه الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام في الحرب، وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى لأنهم هم الذين يستخرجون خفايا هذه الأمور ويعرفون مصلحة الأمة فيها، وما ينبغي إذاعته وما لا ينبغي، فأين هذا من مسائل النص في الكتاب على بعض الأحكام والسكوت عن بعض؟ ووجوب استنباط ما سكت عنه مما نص عليه على الرسول وعلى أولي الأمر، ووجوب اتباع العامة للعلماء فيما يستنبطونه مطلقا؟ ليس هذا من ذاك في شيء.
على أن الرازي كان أبطل قول من قال إن أولي الأمر هم العلماء، وقول من قال: إنهم الأمراء، وأثبت أنهم أهل الحل والعقد أي جماعتهم، فكيف يبطل هنا ما حققه في آية
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59]، بقوله بوجوب تقليد العلماء، كما أبطل به ما حققه في تفسير آيات كثيرة من بطلان التقليد؟
قد علمت أيها القارئ الذي أنعم الله عليه بنعمة الاستقلال في الفهم أن الآية التي قبل هذه الآية قد أوجبت تدبر القرآن والاهتداء به على كل مسلم، فكانت من الآيات الكثيرة الدالة على منع التقليد في أصول الدين وفاقا للرازي الذي صرح بذلك في تفسير الآية نفسها، وكذا في الفروع العملية الشخصية كالعبادات والحلال والحرام ; لأن أكثرها معلوم من الدين بالضرورة، والنصوص فيها أوضح وأقرب إلى الفهم من مسائل أصول الدين.
وفي حديث الصحيحين: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه الحديث، وهو قد أوجب في الأمور المشتبه فيها أن تترك لئلا تجر إلى الحرام، ولم يوجب على المشتبه في شيء أن يرجع إلى ما يعتقده غيره ويقلده فيه، وأما المسائل العامة كالحرب والسياسة والإدارة، فهي التي تفوضها العامة إلى أولي الأمر منهم وتتبعهم فيها، هذا ما تهدي إليه الآية وفاقا لغيرها من الآيات، ولا اختلاف في القرآن.
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } أي: لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم أيها المسلمون بما هداكم إليه من طاعة الله والرسول ظاهرا وباطنا، وتدبر القرآن ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول: طاعة لك، وتبيت غير ذلك، والتي تذيع بأمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها به، إلا قليلا من الأتباع، أي لاتبعتم الشيطان في أكثر أعمالكم بجعلها من الباطل والشر لا فيها كلها، أو إلا قليلا منكم أوتوا من صفاء الفطرة وسلامتها ما يكفي لإيثارهم الحق والخير كأبي بكر وعلي، فهي كقوله تعالى:
{ { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا } [النور: 21].
وفسر بعض المفسرين الفضل والرحمة بالقرآن وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعناية الله بهدايتهم بهما كما قلنا، والقليل المستثنى بمثل قس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال نحوه الأستاذ الإمام فهو اختيار منه له.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: إن المراد بفضل الله ورحمته هنا النصر والظفر والمعونة التي أشار إليها في قوله في الآيات السابقة من هذا السياق:
{ { ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم } [النساء: 73]، أي لولا النصر والظفر المتتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا القليل منكم، وهم أصحاب البصائر النافذة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شروط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولأجل تواتر الانهزام يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق. انتهى من التفسير الكبير للرازي، وهو الذي صحح قول أبي مسلم ورجحه.
وقوله بعدم التلازم بين كونه حقا أو باطلا وبين الظفر وضده لا يسلم مطلقا، وإنما يسلم بالنسبة إلى بعض الوقائع، فإن العاقبة للمتقين، وقد بينا ذلك مرارا.
وقيل: إن الاستثناء من قوله: أذاعوا به، وقيل: من الذين يستنبطونه، وكلاهما بعيد على أنه مروي عن بعض مفسري السلف، قال ابن جرير بعد رواية القولين، وقال آخرون: معنى ذلك { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } جميعا.
قالوا: وقوله: إلا قليلا خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجمع والإحاطة، فالاستثناء دليل الإحاطة، أقول: أو كما يقول الأصوليون: معيار العموم، أي: فهو لتأكيد ما قبله كقوله تعالى:
{ سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله } [الأعلى: 6، 7]، وهذا الاستعمال وإن كان صحيحا لا يظهر هنا، وقد بينا من قبل أن من دقة القرآن وتحريه للحقائق عدم حكمه بالضلال العام المستغرق على جميع أفراد الأمة، ومثل هذا الاحتراس متعدد فيه، ولا يكاد يتحراه الناس [راجع ص 54 ج 4 طبعة الهيئة المصرية للكتاب].