التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
١٠٢
-المائدة

تفسير المنار

قال الرازي: في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
(الأول) أنه تعالى لما قال: (ما على الرسول إلا البلاغ) صار التقدير كأنه قال: ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليكم فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل ويشق عليكم.
(الثاني) أنه تعالى لما قال: (ما على الرسول إلا البلاغ) وهذا ادعاء منه للرسالة ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخرى على سبيل التعنت كما قال حاكيا عنهم:
{ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } [الإسراء: 90] إلى قوله: { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [الإسراء: 93] والمعنى أني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواه في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك يكون طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي، ولعل إظهارها يوجب ما يسوؤكم، مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا،
ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذه المعجزات وقع في قلوبهم إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي لهم أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوؤهم. (الوجه الثالث) أن هذا متصل بقوله: { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسؤكم. انتهى كلام الرازي بنصه وضعف عبارته.
وأقول: إن مناسبة هاتين الآيتين لآية تبليغ الرسول للرسالة مناسبة خاصة قريبة ولهما موقع من مجموع السورة ينبغي تذكره والتأمل فيه: ذلك أن هذه السورة آخر ما نزل من السور كما قالت عائشة، وسورة النصر، كما قال ابن عباس: وجمع بينهما ابن عمر، وقد صرح الله تعالى في أوائلها بإكمال الدين، وإتمام النعمة به على العالمين، فناسب أن يصرح فيها بأن الرسول قد أدى ما عليه من وظيفة البلاغ الذي كمل به الإسلام، وأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فتكون العاقبة أن يسرع إليها الفسوق عن أمر ربها، وهو معصوم من كتمان شيء مما أمره الله بتبليغه.
فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم طال الفصل بين هذا النهي وبين الخبر بإكمال الدين ولم يتصل به في النظم الكريم؟ قلت: تلك سنة القرآن في تفريق مسائل الموضوع الواحد من أخبار وأحكام وغيرهما لما بيناه مرارا من حكمة ذلك، وهاك أقوى ما ورد في أسباب نزول الآيتين:
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها:
"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" ، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل: من أبي؟ قال فلان، فنزلت هذه الآية { لا تسألوا عن أشياء }
قال الحافظ ابن كثير وقال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة في قوله: { ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الآية، قال فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال:
"لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم" فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، قال: ثم قام عمر أو فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله أو قال أعوذ بالله من شر الفتن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط" أخرجاه (أي الشيخان) من طريق سعيد، ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه،
قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة: (ما رأيت ولدا أعق منك، قالت: أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته).
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمرا وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال أين أبي؟ قال: في النار فقام آخر فقال: من أبي؟ قال أبوك حذافة، فقام عمر بن الخطاب، فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا، قال: فسكن غضبه ونزلت هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الآية" إسناده جيد.
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف منهم أسباط عن السدي فذكر ابن كثير عنه مثل حديث أبي هريرة في جملته وزاد كلام عمر " فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي: فيومئذ قال: والولد للفراش وللعاهر الحجر " (ثم قال) قال البخاري: حدثنا الفضل بن سهل حدثنا أبو النضر حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } حتى فرغ من الآية كلها، تفرد به البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان الأسدي حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز عن علي قال: " لما نزلت هذه الآية
{ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [آل عمران: 97] قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الآية " وكذا رواه الترمذي وابن ماجه عن طريق منصور بن وردان به، وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول: أبو البختري لم يدرك عليا. ا ه.
أقول: منصور بن وردان ثقة كما قال ابن حبان وغيره، وأبو البختري هو سعيد بن فيروز التابعي ثقة فيه تشيع، روى عن الجماعة كلهم، ولكن مراسيله ضعيفة.
وقد عزا السيوطي في الدر المنثور حديث علي هذا إلى أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وذكر نحوه عن ابن عباس عازيا إياه إلى عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم - قال: وصححه - والبيهقي في سننه، وفيه أن السائل الأقرع بن حابس، وذكر مثله أيضا عن الحسن من تخريج عبد بن حميد وفيه: " ذروني ما تركتكم " إلخ، وهذه الزيادة من أحاديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة ولفظ البخاري: " دعوني ما تركتكم " ولفظ مسلم " دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ".
قال القسطلاني في شرحه له تبعا للحافظ ابن حجر: وسبب هذا الحديث على ما ذكره مسلم (أقول: وكذا النسائي) من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم" الحديث وأخرجه الدارقطني مختصرا فزاد فيه: فنزلت: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) انتهى وأقول: محمد بن زياد هذا ثقة، روى عنه الجماعة كلهم.
ونص سنن النسائي عن أبي هريرة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال:
"إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج، فقال رجل: في كل عام؟ فسكت عنه حتى أعاده ثلاثة فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتم; فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بالشيء وفي نسخة بشيء فخذوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" روي عن ابن عباس مسألة وجوب الحج وأن الأقرع بن حابس قال: "كل عام يا رسول الله؟ فسكت فقال: لو قلت نعم، لوجبت ثم إذن لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة" ، وفي فتح الباري أن ابن عبد البر نقل عن رواية مسلم أن السؤال عن الحج كان يوم خطب صلى الله عليه وسلم وقال: "لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته" . وقال ابن جرير: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس (لا تسألوا عن أشياء) قال: " هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك: ما جعل الله من كذا ولا كذا " قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)، قال فقالت: قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس فما لك تقول هذا؟ فقال: هيه.
ثم روى ابن جرير مثل قول مجاهد عن سعيد بن جبير، ثم قال: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه، ومسألة سائله إذا قال " إن الله فرض عليكم الحج " أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل،
وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس فغير بعيد عن الصواب، ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، ذكر هنا القول به من أجل ذلك، على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها إلى آخر ما قاله، وفيه أن تلك الأخبار صحاح فوجب ترجيحها، ويشير إلى ضعف سند رواية مجاهد ; لأن خصيف بن عبد الرحمن راويها عنه قد ضعفه الإمام أحمد وقال مرة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: تكلم في سوء حفظه، ولكن قال ابن معين فيه: مرة صالح ومرة ثقة.
والطريقة المتبعة في الجمع بين أمثال هذه الأحاديث: أن يقال: إن النهى في الآية يشمل كل ما ورد في سبب نزولها وكل ما هو في معناه، وليس كل ما روي في أسباب النزول كان سببا حقيقيا، بل كانوا يقولون في كل ما يدخل في معنى الآية ويشمله عمومها: إنها نزلت فيه، وكثيرا ما ينقلون كلام الرواة بمعناه فيجيء منطوقه متعارضا، وقد بينا هذه المسألة مرارا،
وأبعد ما قيل في أسباب نزول هذه الآية: أن بعضهم كان يسأل النبي عن الشيء امتحانا أو استهزاء، وهذا لا يصدر إلا من كافر صريح أو منافق، والخطاب في الآية للمؤمنين فلا يمكن نهيا لهم عن سؤال لامتحان أو استهزاء، وإنما يجوز أن يكون في الآية تعريض بالكافرين والمنافقين.
وفي بعض روايات حديث أنس بن مالك " أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة " إلى آخر الحديث المتقدم، وفي حديث لأبي موسى الأشعري في الصحيحين بمعناه: " فلما أكثروا عليه المسألة غضب وقال: سلوني " فبعض العلماء يرى أن النهي عن السؤال في الآية لهذا الإحفاء والإغضاب الذي آذوا به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ما شرط في النهي وما علل به ينافي ذلك.
والقول الجامع للروايات والمتبادر من اللغة في معنى الآية ما يأتي:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } (أشياء) اسم جمع أو جمع لكلمة (شيء) وهي أهم الألفاظ الدالة على الموجود، فتشمل السؤال عن الأحكام الشرعية، والعقائد والأسرار الخفية، والآيات الكونية إذا تحقق فيها ذكر معنى الجملتين الشرطيتين، والمقصود أولا بالذات النهي عن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف، يليه السؤال عن الأمور الغيبية أو الأسرار الخفية المتعلقة بالأغراض، وغير ذلك من الأشياء التي يحتمل أن يكون إظهارها سببا للمساءة، إما بشدة التكاليف وكثرتها، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها،
ولكن حذف مفعول " تسألوا " يدل على العموم، أي ولا تسألوا غير الرسول عن أشياء يحتمل أن يكون إبداؤها مساءتكم، فهي النهي عن الفضول وما لا يغني المؤمن.
ومن المقرر في قوانين العربية أن شرط " إن " مما لا يقطع بوقوعه، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه، فكان التعبير بقوله: (إن تبد لكم تسؤكم) دون " إذا أبديت لكم تسؤكم " دالا على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها.
وبهذا سقط قول من يقول: إن أمثلة المائل المنهي عنها الواردة في أسباب النزول مما يمكن العلم بكون إبدائها يسوء السائلين عنها، بل يحتمل عندهم أن يكون مما يسر، وقد كان جواب من سأل عن أبيه سارا له، وكذلك من سأل عن الحج إذ كان جوابه التخفيف عنه وعن الأمة ببيان كون الحج يجب على كل مستطيع مرة واحدة لا في كل عام، ويمكن أن يقال في كل سائل عن أمثال هذه المسائل فلا يظهر تعليل النهي، بهذا الشرط، كل هذا يسقط بما ذكرنا من دلالة الجملة الشرطية المصدرة: بـ " إن " على احتمال وقوع شرطها لا على القطع بوقوعه.
ويدل على هذا الذي قررناه قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الحج " ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم؟ ولو قلت نعم لوجبت " إلى آخر ما تقدم، وفي رواية لابن جرير: " ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحرج " فهو صريح في كون احتمال قوله: " نعم " كان كافيا في جواب ترك ذلك السؤال، ويدل عليه أيضا في سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه قوله له: " ما رأيت ولدا أعق منك، أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس؟ " وسيأتي رأينا في جوابه صلى الله عليه وسلم لابن حذافة.
{ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوؤكم حين ينزل القرآن في شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزل إليكم، فإن الله يبديه لكم على لسان رسوله، وبنحو هذا القول قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، فإنه بعد إيراد الوجوه السابقة في السؤال عند تفسير صدر الآية قال في تفسير هذه الجملة ما نصه:
"يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاهم عن مسألتهم إياه عن فرائض لم يفرضها عليهم، وتحليل أمور لم يحللها لهم، وتحريم أشياء لم يحرمها عليهم قبل نزول القرآن بذلك يا أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابا ولا وحيا لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيان بوحي وتنزيل ساءكم; لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم فإنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم، ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة، ولوم ومؤنة وكلفة، وإما بتحريم ما لم يأت بتحريمه وحي كنتم من التقديم عليه في فسحة وسعة، وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقا إلى ما كنتم ترونه باطلا، ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم بين عليكم ما أنزلناه إليه من إتيان كتابي وتأويل تنزيلي ووحيي.
"وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدثنا به هناد بن السري قال: حدثنا أبو معاوية عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال: " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها، ثم روى ابن جرير مثل هذا المعنى عن عبيد بن عمير تفسيرا للآية، وروى عن ابن عباس أنه قال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن منها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه اهـ. وظاهر كلامه أن الحديث موقوف على أبي ثعلبة وستعلم أنه مرفوع.
وقال الحافظ ابن كثير في بيان هذا الوجه: " أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها فلعله قد ينزل بسؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: " أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته " ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها (عفا الله عنها) أي ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" وفي الحديث الصحيح أيضا: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" . أقول: أما حديث: " ذروني ما تركتكم " وفي رواية بلفظ: " دعوني " فهو في الصحيحين وسببه السؤال عن الحج كما تقدم،
وأما حديث أبي ثعلبة فقد عزاه الحافظ ابن كثير إلى الصحيح أيضا ولم يسنده ولا أشار إلى من خرجه، وهو في سنن الدارقطني، وأورده صاحب مشكاة المصابيح عنه في الفصل الثاني من كتابه الاعتصام بالكتاب والسنة قال: وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها" . ورويناه في الأربعين النووية عنه بلفظ: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " قال النووي: حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
وثم وجه ثان في معنى الجملة وهو أنه يقول: إن تسألوا عن تلك الأشياء في زمن نزول القرآن وعهد التشريع يظهرها الله لكم إن كانت اعتقادية ببيان ما يجب أن يعلم فيها، وإن كانت عملية ببيان حكمها، لأن لكل شيء حكما يليق به في علم الله وحكمته، والله تعالى يبين لعباده بنص الخطاب ما لا بد لهم منه لصلاح أمري معادهم ومعاشهم وبفحوى الخطاب أو الإشارة ما يفتح لهم باب الاجتهاد في كل ما له علاقة بأمور مصالحهم، فيعمل كل فرد أو هيئة حاكمة منهم بما ظهر أنه الحق والمصلحة، وينتهي عما يظهر له أنه الباطل والمفسد، فيكون الوازع للفرد في المسائل الشخصية من نفسه بحسب درجته في العلم والفضيلة، وللمجموع في الأحكام والسياسة من أنفسهم أيضا، لأنه يتقرر بتشاور أولي الأمر منهم، وفي ذلك منتهى السعة واليسر،
وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يترك أمر التشريع إليه تعالى، لأنه أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، فلا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم أحكامها تسؤكم وتحرجكم، ومتى سألتم عنها في عهد التشريع لا بد أن تجابوا وتبين لكم، ولكن هذا البيان قد يسد في وجوهكم باب الاجتهاد الذي فرضه الله إليكم، ويقيدكم بقيود أنتم في غنى عنها وسيأتي تفسير هذا المبحث قريبا عقب تفسير الآيات.
فحاصل هذا الوجه: أن السؤال عن تلك الأشياء في زمن نزول القرآن يقتضي إبداءها لكم، وإبداؤها يقتضي مساءتكم، فيجب ترك السؤال عنها ألبتة.
وحاصل الوجه الأول تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون قد نزل في شأنها شيء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه، كما وقع في مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة تقدم بيانه بالتفصيل، فعلى هذا تكون الجملة الشرطية الثانية من قبيل الاستثناء من عموم النهي، وإنما يدل على هذا جواز السؤال عن تلك بشرطه لا على وجوبه، فالسؤال عما ذكر غير مطلوب بإطلاق.
وكل من هذين الوجهين ظاهر في السؤال عن الأشياء التي تقتضي أجوبتها تشريعا جديدا، وأحكاما تزيد في مشقة التكاليف، ولا يظهر ألبتة في سؤال الآيات الكونية لما يعارض ذلك من النصوص الدالة على عدم إجابة مقترحي الآيات لعنادهم ومشاغبتهم، وكون الإجابة تقتضي هلاكهم إذا لم يؤمنوا بها، كما هي سنة فيمن قبلهم (فإن قيل): إنما هذا الوعد للمؤمنين، وإنما كانت تلك الاقتراحات من الكافرين (قلنا): لو أن المؤمنين فهموا من الآية أنهم يجابون إلى ما يقترحون من الآيات لوجد كثير منهم يقترح ذلك لما للنفوس من الشوق إلى رؤية الآيات، وأما السؤال عن الأمور الواقعة التي تقتضي أجوبتها إخبارا عن أسرار خفية وأمور غيبية، فلا يظهر فيه كل من الجوابين مثل ظهوره في طلب الأحكام، ولا سيما الأشياء الشخصية كسؤال بعضهم عن أبيه، فإذا صح أنه مراد من الآية فوجهه والله أعلم أن زمن نزول القرآن هو زمن بيان المغيبات وإظهارها، للرسول عند الحاجة إلى معرفتها، ومنه وقت السؤال عنها، فإنه إن سئل عنها يخبره الله بها مزيدا في إثبات ثبوته ورسالته، كما أخبره بالجواب عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وذي القرنين، حين سأله اليهود عنها، وعندي أن جوابه صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه جواب شرعي لا غيبي، بدليل قوله بتلك المناسبة: " الولد للفراش " فكأنه قال له: أبوك الشرعي من ولدت على فراشه وهو حذافة بن قيس، وهذا من أسلوب الحكيم المتضمن لتعليمهم ما ينفعهم من السؤال، فهو من قبيل ما ورد في تفسير:
{ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [البقرة: 189] وقد تقدم في تفسير سورة البقرة (ج2).
وهذه الآية تدل على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو على أنه لا يقع، وقد غفل جمهور الأصوليين عن الاستدلال بها، وبيان ذلك أن ما يسأل عنه إما أن يكون مما يطلب العلم به كالعقائد والأخبار، وإما أن يكون مما يطلب العمل به وهو الأحكام. وتأخير البيان - دع تركه وعدمه - يقتضي الإقرار على الاعتقاد الباطل، أو العمل بغير الوجه المراد للشارع، إلا أن يكون من شرعه تركه الاجتهاد للناس توسعة عليهم،
ولا يدخل في هذا ولا ذاك السؤال عن الأمور الشخصية كسؤال من سأل عن ناقته، ولذلك جعلنا هذا النوع من السؤال غاية في خفاء دخوله في عموم: (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فإن كان داخلا فيه فحكمته والله أعلم أن عدم إبداء الجواب للسائل المؤمن ربما كان مشككا له في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذهب أبو السعود مذهبا غريبا في الآية وتعليل إبداء الأشياء المسئول عنها بما يوجب المساءة في كل نوعيها، فقال: المراد بها ما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل، من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته. اهـ.
ثم أورد على ما قرره بعد أن استشهد عليه بما ورد في سبب نزول الآية ثلاثة إيرادات وأجاب عنها فقال:
(إن قلت): تلك الأشياء غير موجبة للمساءة ألبتة، بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا، لأن إيجابها للأولى إن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا، وليست إحدى الحيثيتين محققة عند المسائل، وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت، بل ظهورها بإيجابها للمساءة؟
(قلت): لتحقيق المنهي عنه كما سنعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده، لأن تلك الحيثية هي الموجبة للانتهاء والإنزجار لا حيثية إيجابها للمسرة، ولا حيثية ترددها بين الإيجابين.
(إن قيل): الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها ألبتة كما مر، فلم تخلف الإبداء عن السؤال في مسألة الحج حيث لم يفرض في كل عام؟
(قلنا): لوقوع السؤال وورود النهي، وما ذكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعد وروده، إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد، ولا تخلف فيه.
(إن قيل): ما ذكرته إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر من التكاليف الشاقة، وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتمشى؛ لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل النهي أو بعده، وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة عبد الله بن حذافة، فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره، فيتعين التخلف حتما.
(قلنا): لا احتمال للتخلف فضلا عن التعين، فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال، كسؤال من قال: أين أبي؟ لا عما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل للوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع، اهـ.
وحاصل ما ذهب إليه أن المراد من الآية نهي المؤمنين عن السؤال عما يعلمون أن الجواب عنه يسوؤهم من الأخبار والأحكام دون ما يعلمون أنه يسرهم أو يكون محتملا للمسرة والمساءة، وهذا النوع من السؤال قلما يقع من أحد وأن من سأل عن شيء مما يتعلق بالأحكام في زمن نزول القرآن فإن الجواب عنه لا يكون إلا بالتشديد، عقوبة له ولجميع الأمة على إساءة أدبه، وإن هذا المذهب بعيد عن العقل والنقل، غير منطبق على عموم الرحمة ويسر الشرع، وقد غفل قائله عفا الله عنه عند كتابته عن ذلك، فلم يفكر إلا في ظواهر مدلول اللفظ، ولا نتوسع في بسط الاعتراض عليه اكتفاء بتقرير الصواب الذي هدانا الله تعالى إليه.
أما قوله تعالى: { عفا الله عنها والله غفور حليم } فقد روي في تفسيره قولان:
(أحدهما): ما رواه ابن جرير عن عبيد بن عمير وأشرنا إليه فيما نقلناه عنه، ونقلنا مثله عن ابن كثير، وهو أن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها هي مما عفا الله عنه بسكوته عنه في كتابه وعدم تكليفكم إياه فاسكتوا عنه أيضا، وأيدوا هذا القول بحديث أبي ثعلبة الخشني إذ قال صلى الله عليه وسلم:
"وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها" والجملة على هذا صفة لأشياء كما قال بعضهم، أو هي استئناف بياني يتضمن تعليل النهي، وهو يناسب كون النهي عن المسائل المتعلقة بالتشريع.
(ثانيهما): أن معناه عفا الله عما كان من مسألتكم قبل النهي فلا يعاقبكم عليها لسعة مغفرته وحلمه، فهو كقوله فيما يشابه هذا السياق:
{ عفا الله عما سلف } [المائدة: 95 } وقوله: { إلا ما قد سلف } [النساء: 22، 23] ولا مانع عندنا يمنعنا من إرادة المعنيين معا، فإن كل ما تدل عليه عبارات القرآن من المعاني الحقيقية والمجازية والكنائية يجوز عندنا أن يكون مرادا منها مجتمعة تلك المعاني أو منفردة ما لم يمنع مانع من ذلك، كأن تكون تلك المعاني مما لا يمكن اجتماعها شرعا أو عقلا، فحينئذ لا يصح أن تكون كلها مرادة بل يرجح بعضها على بعض بطرق الترجيح من لفظية ومعنوية.
ثم قال تعالى: { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } أي قد سأل هذه المسألة أي هذا النوع منها أو هذه المسائل أي أمثالها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها لهم كافرين بها، فإن الذين أكثروا السؤال عن الأحكام التشريعية من الأمم قبلكم لم يعملوا بما بين لهم منها بل فسقوا عن أمر ربهم، وتركوا شرعه لاستثقالهم العمل به، وأدى ذلك إلى استنكاره واستقباحه أو إلى جحود كونه من عند الله تعالى، وكل ذلك من الكفر به، والذين سألوا الآيات كقوم صالح لم يؤمنوا بعد إعطائهم إياها بل كفروا واستحقوا الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، والأخبار الغيبية كالآيات أو منها، وقد اقتصر ابن جرير في هذه الآية على تفسير المسائل التي سألوها وكفروا بها بالآيات التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام، وذكر ابن كثير المعنيين اللذين قررناهما آنفا واستشهد للأول بمسألة السؤال عن الحج لا بد من الجمع بينهما لتكون هذه الآية تتمة لما قبلها وبيانا لسبب ذلك النهي الجامع للمعنيين كما تقدم، ويؤيد الأول ما ورد في حديث السؤال عن الحج من كون فرضه كل عام يفضي إلى الكفر، وإنما يظهر ذلك بالوجه الذي قررنا وبيناه ولم نر أحدا سبقنا إليه، وقد يكون مما لم نره وهو الأكثر.
والعبرة في هذه الآية أن كثيرا من الفقهاء وسعوا بأقيستهم دائرة التكاليف وانتهوا بها إلى العسر والحرج المرفوع بالنص القاطع، فأفضى ذلك إلى ترك كثير من أفراد المسلمين وحكوماتهم للشريعة بجملتها، وفتح لهم أبواب انتقادها والاعتراض عليها، فاتبعوا بذلك سنن من قبلهم، ولا بد لنا من عقد فصل خاص في تفصيل هذا البحث.
(علاوة في بيان) كون كثرة الزيادة على نصوص الشارع والتنطع في الدين
باستعمال الرأي في العبادات وأحكام الحلال والحرام مخلا بيسر الإسلام ومنافيا لمقصده.
نفتتح هذا الفصل بمقدمات من المسائل أكثرهن مقاصد لا وسائل، يتجلى بهن المراد ويتميز الحق من الباطل.
(1) إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل دينه وأتم به نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن على خاتم رسله وبما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل القيام من بيان مراد الله تعالى من تنزيله، فهذه مسألة قطعية ثابتة بالنقل والعقل، وقد تقدم تفصي القول فيها في تفسير:
{ اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] من هذه السورة.
(2) إن هذا الدين يسر قد رفع الله تعالى منه الحرج كما نطق به النص في آية الوضوء من هذه السورة وفي سياق آيات الصيام من سورة البقرة، وتقدم تفسير النصين، وسيأتي نص آخر في معنى نص آية الوضوء في آخر سورة الحج، وقال تعالى في سورة الأعلى:
{ ونيسرك لليسرى } [الأعلى: 8] أي الشريعة التي تفضل غيرها باليسر، ولذلك سماها الرسول صلى الله وعليه وسلم بالحنيفية السمحة، ووصفها بقوله: "ليلها كنهارها" وجعل الدين عين اليسر مبالغة في يسره فقال: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" إلخ، رواه البخاري وابن حبان من حديث أبي سعيد المقبري، وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين وفي لفظ: الأديان إلى الله الحنيفية السمحة" رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وذكره البخاري في ترجمة أحد أبواب الصحيح تعليقا، والطبراني من حديث ابن عباس وقال صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" رواه الشيخان من حديث أنس وقال: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء" رواه ابن ماجه من حديث لأبي الدرداء.
(3) إن القرآن الحكيم هو أصل الدين وأساسه، وقد قال الله تعالى:
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام: 38] وقال: { تبيانا لكل شيء } [النحل: 89] وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ له والمبين لمراد الله تعالى مما جاء فيه مجملا، قال تعالى مخاطبا له: { إن عليك إلا البلاغ } [الشورى: 48] وقال: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44] وقال: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [النساء: 105].
واختلف العلماء فيما جاء في السنة من الأحكام التي لا ذكر لها في القرآن، هل هي من رأي النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده فيه؟ أم بوحي آخر غير القرآن؟ أم أذن الله له باستئناف التشريع؟ والخلاف مشهور، ورجح الإمام الشافعي القول الثاني، وفي صحيح البخاري: (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: " لا أدري " أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس لقوله تعالى: (بما أراك الله) (4: 105) ويليه في (باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل).
ونقول: لا يتجه الخلاف إلا في الأحكام الدينية المحضة، وأما المصالح المدنية والسياسية والحربية فقد أمر بالمشاورة فيها، وكان يرى الرأي فيرجع عنه لرأي أصحابه، وعاتبه الله تعالى على بعض الأعمال التي عملها برأيه صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في غزوات بدر وأحد وتبوك، ولا يتأتى شيء من ذلك فيما كان بوحي.
(4) الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل، وفيما بينه للناس من أمر دينه، ولذلك قال في مسألة تلقيح النخل حين ظن أنه لا ينفع فتركه بعضهم لظنه فخسر موسمه:
"إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله" وقال أيضا: "إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر" وقال أيضا: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم.
(5) إن الله تعالى قد فوض إلى المسلمين أمور دنياهم الفردية والمشتركة الخاصة والعامة، بشرط ألا تجني دنياهم على دينهم وهدي شريعتهم فجعل الأصل في الأشياء الإباحة بمثل قوله:
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } [البقرة: 29] وقوله: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } [الجاثية: 13]
وجعل أمور سياسة الأمة وحكومتها شورى، إذ قال في وصف المؤمنين:
{ وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38] وأمر بطاعة أولي الأمر وهم أهل الحل والعقد ورجال الشورى بالتبع لطاعة الله ورسوله وأرشد إلى رد أمور الأمن والخوف المتعلقة بالسياسة والحرب والإدارة إلى رسول الله وإلى أولي الأمر، كما تقدم بيان ذلك في سورة النساء راجع تفسير: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59] وتفسير: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83] وآتى هذه الأمة الميزان مع القرآن كما آتاه الأنبياء من قبل، والميزان: ما يقوم به العدل والمساواة في الأحكام من الدلائل والبينات التي يستخرجها أهل العلم والبصيرة باجتهادهم في تطبيق الأقضية على النص والعدل والمصلحة.
وأما أدلة ذلك من السنة فأعظمها وأظهرها سيرته صلى الله عليه وسلم في تدبير أمر الأمة في الحرب والسلم والسياسة العامة بمشاورة أولي الرأي والفهم والمكانة المحترمة من المؤمنين، وهم كبراء المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ومنها إذنه لمعاذ عند إرساله إلى اليمن بالاجتهاد في القضاء، وحديث:
"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر" رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص وذكر أن أبا هريرة وأبا سلمة تابعاه عليه.
(6) إن الله تعالى جعل الإسلام صراطه المستقيم لتكميل البشر، في أمورهم الروحية والجسدية، ليكون وسيلة للسعادة الدنيوية والأخروية، ولما كانت الأمور الروحية التي تنال بها سعادة الآخرة من العقائد والعبادات لا تختلف باختلاف الزمان والمكان أتمها الله تعالى وأكملها أصولا وفروعا وقد أحاطت بها النصوص، فليس لبشر بعد الرسول أن يزيد فيها ولا أن ينقص منها شيئا.
وأما الأمور الدنيوية من قضائية وسياسية، فلما كانت تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة بين الإسلام أهم أصولها، وما مست إليه الحاجة في عصر التنزيل من فروعها، وكان من إعجاز هذا الدين وكماله أن ما جاءت به النصوص من ذلك يتفق مع مصالح البشر في كل زمان ومكان، ويهدي أولي الأمر إلى أقوم الطرق لإقامة الميزان، بما تقدم ذكره من الشورى والاجتهاد.
(7) من تدبر ما تقدم تظهر له حكمة ما كان من كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة سؤال المؤمنين له عن المسائل التي تقتضي أجوبتها كثرة الأحكام، والتشديد في الدين، أو بيان أحكام دنيوية ربما توافق ذلك العصر ولا توافق مصالح البشر بعده، وقد تقدم بسط ذلك في تفسير الآيتين، وسنورد قريبا أحاديث أخرى وآثارا في معنى ما أوردناه في سياق تفسيرهما.
(8) من أجل ذلك الذي تقدم كان السلف الصالح يذمون الإحداث والابتداع، ويوصون بالاعتصام والاتباع، وينهون عن الرأي والقيام في الدين، ويتدافعون الفتوى ويتحامونها ولا سيما إذا سئلوا عما لم يقع، ولكن بعض الذين انقطعوا لعلم الشريعة فتحوا باب القياس والرأي فيها، وأكثروا من استنباط الفروع الكثيرة في العبادات والمعاملات جميعا، فجاء بعض الفروع مخالفا للسنة القولية أو العملية مخالفة بينة، وبعضها غير موافق ولا مخالف، إلا أنه يدخل فيما عفا الله عنه فسكت عن بيانه رحمة لا نسيانا كما ورد،
وقد وضعوا للاستنباط أصولا وقواعد منها الصحيح الذي تقوم عليه الحجة، ومنها ما لا تقوم عليه حجة ألبتة ومنهم من لم يلتزم تلك الأصول والقواعد في استنباطه للأحكام، وقوله هذا حلال وهذا حرام، وذهبوا في ذلك مذاهب بددا، وسلكوا إليه طرائق قددا، فكثرت التكاليف حتى تعسر تعلمها، فما القول في عسر العمل بها؟ فتسلل منها الأفراد والجماعات، ونقصت من عقلها الحكومات، وكثرت على المسلمين بها الشبهات، وكانت في طريق الدعوة إلى الإسلام أصعب العقبات، ولو سلك المتأخرون طريق السلف حتى أئمة أهل الرأي منهم في منع التقليد والرجوع إلى صحيح المأثور، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول لما وصلنا إلى هذا الحد الذي وصفناه.
(9) إن الإسلام دين توحيد واجتماع، وقد نهى أشد النهي عن التفريق والاختلاف قال تعالى:
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } [آل عمران: 103] وقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [آل عمران: 105] وقال: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } [الأنعام: 159] وقال: { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } [الروم: 31-32]
ولم تكن هذه النصوص من الكتاب وأمثالها منه ومن السنة برادعة للمسلمين عن التفرق، وما كان التفرق إلا من الرأي الذي اتبعوا فيه سنن من قبلهم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى دخلوا جحر الضب الذي دخلوه قبلهم، مصداقا للحديث المتفق عليه، وروى ابن ماجه والطبراني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا" وقد علم عليه السيوطي بالحسن، ونقل هذا المعنى غير مرفوع عن غير واحد من علماء التابعين من أهل الكتاب عامة، كما رواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم.
ولما كثر القول بالرأي قام أهل الأثر يردون على أهل الرأي وينفرون الناس منهم، فكان علماء الأحكام قسمين: أهل الأثر والحديث، وأهل الرأي، وكان أئمة الفريقين من المؤمنين المخلصين، الناهين عن تقليد غير المعصوم في الدين، ثم حدثت المذاهب، وبدعة تعصب الجماعة الكثيرة للواحد، وفشا بذلك التقليد بين الناس، فضاع العلم من الجمهور بترك الاستقلال في الاستدلال، فكان هذا أصل كل شقاء وبلاء لهذه الأمة في دينها ودنياها.
(10) ما اجتمعت هذه الأمة على ضلالة قط، أما أهل الصدر الأول فلم يفتتن بالبدع التي ظهرت في عصرهم إلا القليل منهم، وكان السواد الأعظم على الحق، ولما ضعف الحق وارتفع العلم بكثرة الموت في العلماء المستقلين، وفشو الجهل بتقليد الجماهير حتى لأمثالهم من المقلدين، كان يوجد في كل عصر طائفة ظاهرة على الحق مقيمة للسنة خاذلة للبدعة ولغربة الإسلام صار هؤلاء غرباء في الناس، وكانوا في اعتصامهم بالحق وفي غربتهم في الإسلام مصداقا للأحاديث الصحيحة،
ولو خلت الأرض منهم وانفرد بتعليم الدين والتصنيف فيه المقلدون المتعصبون للمذاهب، الذين جعلوا كلام مقلديهم أصلا في الدين، يردون إليه أو لأجله نصوص الكتاب والسنة حتى بالتحريف والتأويل ويضعفون الصحيح ويصححون السقيم، لعميت السبيل الموصلة إلى دين الله القويم.
إنما أعني بأهل الحق وأنصار السنة من عرفوا الحق ودعوا إليه وأنكروا على مخالفيه وقرروه بالتدريس والتأليف، فهؤلاء هم الذين يصدق عليهم حديث الصحيحين وغيرهما:
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله" ، وفي لفظ: "حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" وحديث مسلم وغيره: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" وفي رواية للترمذي زيادة في تفسير الغرباء وهي: "الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي"
وقد وجد كثير من العلماء في كل عصر عرفوا الحق في أنفسهم ولكنهم ما دعوا إليه، ولا أنكروا على مخالفيه لضعف في عزائمهم، أو خوف على جاههم وكرامتهم عند الناس، ومنهم من عرف بعض الحق ولم يوفق لتمحيصه، وكتبوا في ذلك كتبا خلطوا فيها عملا صالحا وآخر سيئا.
وجملة القول أن أنصار السنة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، منهم القوي والضعيف ولين القول وخشنه، والمبالغ والمقتصد، وقد فضلت الأندلس الشرق بعد خير القرون بإمام جليل منهم قوي العارضة شديد المعارضة، بليغ العبارة، بالغ الحجة ألا وهو الإمام المحدث الفقيه الأصولي مجدد القرن الخامس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، ألف كتبا في أصول الفقه وفروعه، هدم بها القياس، وبين إحاطة النصوص بالأحكام أبلغ بيان، وأنحى بها على أهل الرأي أشد الإنحاء،
ولكنه جاء في القرن الخامس الذي تمكنت فيه المذاهب القياسية في جميع الأقطار، بتقليد الجماهير وتأييد الحكومات لها وما حبس على أهلها من الأوقاف، حتى صار المنتسبون إلى كل مذهب منها يقدمون قول كل مؤلف منتسب إليها، على نصوص الشارع التي اتفق نقلة الدين على صحتها، فما استفاد من كتب ابن حزم إلا الأقلون. وعندي أن الصارف الأكبر للناس عن كتبه هو شدة عبارته في تجهيل فقهاء القياس حتى الأئمة المتبوعين منهم
وقد كان أكابر العلماء في كل يستفيدون من كتبه وينسخونها بأقلامهم ويتنافسون فيها، ولكن قلما كانوا ينقلون عنها إلا ما يجدونه من هفوة يردون عليها; ولذلك بعد من مناقب الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي اعترفوا له بالاجتهاد المطلق ولقب بسلطان العلماء، قوله لمن سأل عن خير كتب الفقه في الإسلام (المحلى) لابن حزم، و (المغني) للشيخ الموفق.
وفي دار الكتب الكبرى بمصر نسخة من كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم من خط علامة الشافعية في عصره ابن أبي شامة، فهذا الأثر وذلك القول يدلان على عناية كبار العلماء بكتب ابن حزم وحرصهم على الاستفادة منها.
لم يجئ بعد الإمام ابن حزم من يساميه أو يساويه في سعة علمه وقوة حجته وطول باعه وحفظه للسنة وقدرته على الاستنباط إلا شيخ الإسلام مجدد القرن السابع أحمد تقي الدين بن تيمية، وهو قد استفاد من كتب ابن حزم واستدرك عليها وحرر ما كان من ضعف فيها، وكان على شدته في الحق مثله أنزه منه قلما أو أكثر أدبا مع أئمة الفقهاء من أهل الرأي والقياس، على أنه لم ينف القياس ألبتة، ولكنه فرق بين القياس الصحيح الموافق للنصوص والقياس الباطل المخالف لها بما لم يسبقه إليه أحد من علماء الأمة فيما نعلم.
وكان الإمام أبو عبد الله محمد بن القيم وارث علم أستاذه ابن تيمية وموضحه، وكان أقرب من أستاذه إلى اللين والرفق بالمبطلين والمخطئين، فلذلك كانت تصانيفه أقرب إلى القبول، ولم يلق من المقاومة والاضطهاد ما لقي أستاذه بتعصب مقلدة المتفقهين، وجهل الحكام الظالمين.
وإن أنفع ما كتب بعدهم لأنصار السنة كتاب (فتح الباري) شرح صحيح البخاري لقاموس السنة المحيط الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني شيخ الحفاظ والفقهاء بمصر في القرن التاسع، فإنه هو الكتاب الذي لا يكاد يستغني عنه أحد يخدم السنة في هذا العصر; لأنه جامع لخلاصة كتب السنة وزبدة أقوال العلماء في العقائد والفقه والآداب، ومن أنفعها في كتب فقه الحديث كتاب (نيل الأوطار) شرح منتقى الأخبار، ومن كتب أصول الفقه كتاب (إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول) كلاهما للإمام الجليل المجدد مجتهد اليمن في القرن الثاني عشر: محمد بن علي الشوكاني رحمهم الله ونفع بهم أجمعين.
فهؤلاء أشهر أعلام المصلحين في الإسلام من علماء الحديث والفقه الذين تعد كتبهم أعظم مادة للإصلاح فيما نحن بصدده، ومن دونهم كثير من العلماء والحفاظ في كل عصر وكل قطر، وقد اكتفينا بذكر من اعتمدنا على كتبهم في هذا البحث وهي أمتع الكتب فيه، وإن حسن اختيار الكتب نصف العلم.
إذا تمهد هذا فإننا ننقل للقراء بعده ملخص ما أورده الإمام البخاري في صحيحه في مسألة النهي عن السؤال، ثم أورده الحافظ ابن حجر في شرحه له من الأحاديث وأقوال أشهر العلماء فيها. ثم ما قاله الإمام ابن حزم في القياس، ثم خلاصة ما حرره العلامة ابن القيم من كلام شيخه ابن تيمية وما فتح الله عليه في مسألة القياس والرأي. ثم ما اعتمده العلامة الشوكاني فيها. ثم نأتي بخلاصة الخلاصة التي عقدنا لها هذا الفصل.
(أحاديث البخاري في كراهة السؤال).
عقد البخاري في صحيحه بابا في كتاب الاعتصام عنوانه: باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) أورد فيه تسعة أحاديث:
(أولها): حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا:
"إن أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ورواه مسلم بلفظ: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما" إلخ
(الثاني): حديث زيد بن ثابت:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس ففقدوا صوته ليلة فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به. فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" .
(الثالث): حديث أبي موسى الأشعري الذي تقدم ذكره في سبب نزول النهي عن السؤال وهو في معنى حديث أنس في ذلك، (ص 110 ط الهيئة).
(الرابع): حديث المغيرة بن شعبة الذي كتب به إلى معاوية لما سأله أن يكتب إليه ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنه. وكتب إليه: " أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ".
(الخامس): قول عمر: " نهينا عن التكلف " فهو في حكم المرفوع، وسببه كما أخرجه رواة التفسير المأثور: أنه سئل عن الأب في قوله تعالى:
{ وفاكهة وأبا } [عبس: 31] فقال، وفي رواية لابن جرير أنه قال بعده: " ما بين لكم فعليكم به وما لا فدعوه " وروي أيضا أن ابن عباس فسر الأب عند عمر بما تأكل الأنعام أي من النبات فلم ينكر عليه، قيل: إن كلمة الأب غير عربية؛ فلذلك لم يعرفها عمر ولا أبو بكر، كما روي بسندين منقطعين والأولى أن يقال: إنها غير قرشية أو غير حجازية. ولذلك عرفها ابن عباس لسعة اطلاعه على لغة العرب وكثير من الصحابة.
(السادس والسابع): حديث أنس المتقدم في سبب نزول (لا تسألوا عن أشياء) الآية. (ص 107).
(الثامن): حديث أنس مرفوعا:
"لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟" ورواه هو ومسلم في باب وسوسة الشيطان وغيره عن غير واحد من الصحابة.
وقد قفى البخاري على هذا الباب باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فباب ما يكره من التعمق والتنازع، فباب إثم من آوى محدثا، أي مبتدعا، فباب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس.
خلاصة الأحاديث وأقوال العلماء في المسألة.
أورد الحافظ ابن حجر في أول شرح الباب الذي سردنا أحاديث ما ورد في معناها ما نصه:
" ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال: سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه:
"ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا" ثم تلا هذه الآية: { وما كان ربك نسيا } [مريم: 64]. " وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان لا تبحثوا عنها" ، وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود.
" وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في كتاب العلم من طريق ثابت عن أنس قال: " كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأل ونحن نسمع " فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها.
" ولمسلم عن النواس بن سمعان قال: " أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم " ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل؛ خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا، فيمتنع عليه السؤال. وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم. " وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: " لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } الآية. كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا فرشوناه برداء وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم ".
" ولأبي يعلى عن البراء " أن كان لتأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب؛ أي قدومهم ليسألوا فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها ". " وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب.
" وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها عن ابن عمر: " لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن، وعن عمر: " أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلا " وعن زيد بن ثابت أنه كان سئل عن الشيء يقول: " كان هذا؟ فإن قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون " وعن أبي بن كعب وعن عمار نحو ذلك.
" وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه:
"لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل" وهما مرسلان يقوي بعض بعضا. ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا: "لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل" الحديث نحوه.
" قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين:
(أحدهما): أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين.
(ثانيهما): أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع، مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس، بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: " هلك المتنطعون " أخرجه مسلم. فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته. ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدا. فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
" وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها. ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث. وأشد من ذلك ما توقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه:
"لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟" وهو ثامن أحاديث هذا الباب.
" وقال بعض الشراح: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز، فإن عاد فقال: أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك. إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز.
" وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى يفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.
" ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به. " وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من أهل دين واحد، والوسط هو المعتدل من كل شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي
"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد، وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم.
وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى. والإنصاف أن يقال: كل ما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين، فالناس فيه على قسمين: من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه، وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدى، ومن وجد في نفسه قصورا، فإقباله على العبادة أولى ; لعسر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم، لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه. والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه به عن الثاني والله الموفق " انتهى كلام الحافظ.
أقول: لله در الحافظ، فإنه أتى بخلاصة الآثار وصفوة ما فسرها به أهل التحقيق من العلماء، ولولا عموم افتتان الجماهير بالكتب الفقهية الملأى بما ذكر من الفروع التي نهى الشرع عن الخوض في مثلها، وأجمع السلف على ذم الاشتغال بها لاكتفينا بما رواه البخاري وما حرره الحافظ في الشرح، وقلنا فيه كما قال الإمام الشوكاني: لا هجرة بعد الفتح، ولكن ما أشرنا إليه من جمود الجماهير على التقليد، لا يزلزله هذا القول الوجيز المختصر المفيد، فلا بد إذا من تفصيل القول في مسألة الرأي والقياس، التي هي منشأ كل هذا البلاء في الناس، وهاك ما قاله الإمام علي بن حزم في مسائل الأصول من مقدمة المحلى:
إبطال ابن حزم القياس والرأي:
(مسألة) ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي ; لأن أمر الله تعالى بالرد عند التنازع إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح، فمن رد إلى قياس أو إلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المتعلق بالإيمان، ورد إلى غير ما أمره الله تعالى بالرد إليه، وفي هذا ما فيه.
(قال علي): وقول الله تعالى:
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام: 38] وقوله تعالى: { تبيانا لكل شيء } [النحل: 89] وقوله تعالى: { لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44] وقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] إبطال للقياس والرأي; لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي في أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص. وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس كل ما نزل إليهم، وأن الدين قد كمل فصح أن النص قد استوفى جميع الدين. فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى رأي ولا إلى رأي غيره.
ونسأل من قال بالقياس: هل كل قياس قاسه قائس حق؟ أم منه حق ومنه باطل؟ فإن قال: كل قياس حق أحال; لأن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا، ومن المحال أن يكون الشيء وضده من التحريم والتحليل حقا معا، وليس هذا مكان نسخ ولا تخصيص كالأخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا ويخصص بعضها بعضا. وإن قال: بل منها حق ومنها باطل قيل له: فعرفنا بماذا يعرف القياس الصحيح من الفاسد؟ ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك.
وإذا لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه فقد بطل كله، وصار دعوى بلا برهان.
فإن ادعوا أن القياس قد أمر الله تعالى به، سئلوا: أين وجدوا ذلك؟ فإن قالوا: قال الله عز وجل:
{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } [الحشر: 2] قيل لهم: إن الاعتبار ليس هو كلام العرب الذي نزل به القرآن إلا التعجب قال الله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [النحل: 66] أي تعجبا، وقال تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [يوسف: 111] أي عجب. ومن الباطل أن يكون معنى الاعتبار القياس، ويقول الله تعالى لنا: قيسوا، ثم لا يبين لنا ماذا نقيس؟ ولا كيف نقيس؟ ولا على ماذا نقيس؟ هذا ما لا سبيل إليه; لأنه ليس في وسع أحد أن يعلم شيئا من الدين إلا بتعليم الله تعالى إياه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [البقرة: 286].
فإن ذكروا أحاديث وآيات فيها تشبيه شيء بشيء، وأن الله قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا، قلنا لهم: كل ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو حق، لا يحل لأحد خلافه، وهو نص به نقول، وكيفما تريدون أنتم أن تشبهوه في الدين، وأن تعلقوه مما لم ينص عليه الله تعالى، ولا رسوله عليه السلام فهو باطل وإفك، وشرع لم يأذن الله تعالى به. وهذا يبطل عليهم تمويههم بذكر آية جزاء الصيد، و " أرأيت لو مضمضت " و
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } [المائدة: 32] وكل آية وحديث موهوا بإيراده، وهو مع ذلك حجة عليهم، على ما بيناه في (كتاب الإحكام لأصول الأحكام) وفي (كتاب النكت) وفي (كتاب الدرة) و (كتاب النبذ).
(قال علي): وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله أو أوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة، فموه منهم مموهون. فإن قالوا: أنتم دابا تبطلون القياس بالقياس، وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به، وأنتم في ذلك بمنزلة المحتج بحجة العقل ليبطل حجة العقل، وبدليل من النظر ليبطل به النظر.
(قال علي) فقلنا: هذا شغب يسهل إفساده ولله الحمد، ونحن لم نحتج بالقياس في إبطال القياس، ومعاذ الله من هذا، لكن أريناكم أن أصلكم الذي أتيتموه من تصحيح القياس يشهد بفساد قياساتكم، ولا قول أظهر باطلا من قول أكذب نفسه، وقد نص الله تبارك وتعالى على هذا فقال:
{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم } [المائدة: 18] فليس هذا تصحيحا لقولهم: إنهم أبناء الله وأحباؤه، ولكن إلزاما لهم ما يفسد به قولهم. ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في إبطال حجة العقل بحجة العقل; لأن فاعل ذلك مصحح القضية العقلية التي يحتج بها، فظهر تناقضه من قرب، ولا حجة له غيرها، فقد ظهر بطلان قوله. وأما نحن فلم نحتج قط في إبطال القياس بقياس نصححه، ولكنا نبطل القياس بالنصوص وبراهين العقل. ثم نزيد بيانا في فساده منه نفسه بأن نرى تناقضه جملة فقط،
والقياس الذي نعارض به قياسكم نحن نقر بفساده وفساد قياسكم الذي هو مثله أو أضعف منه، كما نحتج على أهل كل مقالة من معتزلة، ورافضة، ومرجئة، وخوارج، ويهود، ونصارى، ودهرية، من أقوالهم التي يشهدون بصحتها، فنريهم فسادها وتناقضها، وأنتم تحتجون عليهم معنا بذلك ولسنا نحن ولا أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج عليهم منها، بل هي عندنا في غاية البطلان والفساد كاحتجاجنا على اليهود والنصارى من كتبهم التي بأيديهم ونحن لا نصححها، بل نقول: إنها محرفة مبدلة؛ لكن لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم، لا سيما وجميع أصحاب القياس مختلفون في قياساتهم، لا تكاد توجد مسألة إلا وكل طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته تعارض به قياس الأخرى.
وهم كلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا، فقلنا لهم: فهاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح الذين يتميزان به من القياس الفاسد. وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا تقيسون إلا عليها من العلة الفاسدة، فلجلجوا.
(قال علي): وهذا مكان إن زم عليهم فيه ظهر فساد قولهم جملة ولم يكن لهم إلى جواب يفهم سبيل أبدا، وبالله تعالى التوفيق.
فإن أتوا في شيء من ذلك بنص قلنا: النص حق، والذي تريدون أنتم إضافته إلى النص بآرائكم باطل، وفي هذا خولفتم، وهكذا أبدا.
فإن ادعوا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم: كذبتم، بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على بطلانه. برهان كذبهم: أنه لا سبيل لهم إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا، إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر رضي الله عنه
فإن فيها: " واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور " وهذه رسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، وهو ساقط بلا خلاف، وأبوه أسقط منه أو ممن هو مثله في السقوط، فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر رضي الله عنه؟ منها قوله فيها: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب " وهم لا يقولون بهذا، يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم ومالكيهم وشافعيهم، فإن كان قول عمر لو صح في تلك الرسالة في القياس حجة، فقوله في أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد حجة. فليس قوله في القياس حجة لو صح، فكيف ولم يصح؟
وأما برهان صحة قولنا في إجماع الصحابة رضي الله عنهم على إبطال القياس، فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع الصحابة رضي الله عنهم مصدقون بالقرآن وفيه:
{ اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [النساء: 59] فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة رضي الله عنهم يعلمون هذا ويؤمنون به ثم يردون عند التنازع إما إلى قياس أو رأي. هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل.
فكيف وقد ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: " أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم " وصح عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال: " اتهموا الرأي على الدين، وإن الرأي منا هو الظن والتكلف " وعن عثمان رضي الله عنه في فتيا أفتاها " إنما كان رأيا رأيته فمن شاء أخذه ومن شاء تركه " وعن علي رضي الله عنه: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه "
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه: " أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم " وعن ابن عباس رضي الله عنه: " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من جهنم " وعن ابن مسعود رضي الله عنه: " سأقول فيها بجهد رأيي ". وعن معاذ بن جبل في حديث: " تبتدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه; فإنه بدعة وضلالة " فعلى هذا النحو هو كل رأي.
وروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا على أنه إلزام ولا أنه حق، ولكنه إشارة بعفو أو صلح أو تورع فقط لا على سبيل الإيجاب... وحديث معاذ الذي فيه: " أجتهد رأيي ولا آلو " لا يصح لأنه لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدرى من هو، عن رجال من أهل حمص لم يسمهم عن معاذ. وقد تقصينا إسناد هذه الأحاديث كلها في كتبنا المذكورة ولله تعالى الحمد.
حدثنا أحمد بن قاسم، نا ابن قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا نعيم بن حماد، نا عبد الله بن المبارك، نا عيسى بن يونس، عن أبي إسحاق السبيعي، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نصير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" .
قال علي: والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه، وإما حرام يعصي من فعله، وإما مباح لا يعصي من فعله ولا من تركه. وهذا المباح ينقسم ثلاثة أقسام: إما مندوب إليه يؤجر من فعله ولا يعصي من تركه، وإما مكروه يؤجر من تركه ولا يعصي من فعله، وإما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه، ولا يعصي من تركه ولا من فعله. وقال الله عز وجل: { خلق لكم ما في الأرض جميعا } [البقرة: 29] وقال تعالى: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } [الأنعام: 119] فصح أن كل شيء حلال إلا ما فصل تحريمه في القرآن والسنة.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا زهير بن حرب، نا يزيد بن هارون، نا الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال:
"أيها الناس ! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا" . فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى أعادها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" .
(قال علي): فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها. ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ولا فرضا، وأن ما أمر به فهو فرض، وما نهى عنه فهو حرام، وأن ما أمرنا (به) فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط، وأن نفعل مرة واحدة نؤدي ما ألزمنا، ولا يلزمنا تكراره فأي حاجة بأحد إلى القياس أو رأي مع هذا البيان الواضح، ونحمد الله على عظيم نعمه.
فإن قال قائل منهم: لا يجوز إبطال القول بالقياس إلا حتى توجدونا تحريم القول به نصا في القرآن. قلنا: قد أوجدناكم البرهان نصا بذلك بألا تردوا التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط، قال الله تعالى:
{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [الأعراف: 3] وقال تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } [النحل: 74] والقياس ضرب أمثال في الدين لله تعالى.
ثم يقال لهم: إن عارضتم الروافض بمثل هذا فقالوا لكم: لا يجوز القول بإبطال الإلهام، ولا بإبطال اتباع الإمام، إلا حتى توجدونا تحريم ذلك نصا. أو قال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد إنسان بعينه، بماذا تتفصون؟ بل الحق أن يقال: إنه لا يحل أن يقال على الله تعالى: إنه حرم أو حلل أو أوجب إلا بنص فقط، وبالله تعالى التوفيق اهـ.
(ملخص ما حققه ابن القيم في الرأي والقياس).
عقد في أول كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) فصلا في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المخالف للنصوص، صدره بآيات أولها قوله تعالى:
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [القصص: 50] قال: فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به، وإما اتباع الهوى، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى، وقفى على الآيات بطائفة من الأحاديث أولها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا واللفظ للبخاري: "إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" وحديث عوف بن مالك الأشجعي: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله" رواه الحافظ ابن عبد البر وغيره.
ثم أورد فصلا بل فصلين فيما روي عن علماء الصحابة كالخلفاء الأربعة والعبادلة وغيرهم في ذم الرأي ومنها قول عمر: " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها. فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " وللأثر ألفاظ أخرى، قال المصنف: وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة.
ثم عقد فصلا آخر ذكر فيه ما احتج به أهل الرأي من إفتاء بعض هؤلاء الصحابة ومن بعدهم من التابعين وقضائهم بالرأي، كقول عمر لكاتبه: " قل: هذا ما رأى عمربن الخطاب " وقول عثمان في الأمر بإفراد العمرة عن الحج: " إنما هو رأي رأيته " وقول علي في أمهات الأولاد: " اتفق رأيي ورأي عمر على ألا يبعن
" وما نقل عن أبي بكر وعمر من القول والعمل على القضاء بكتاب الله إن وجد فيه الحكم وإلا فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد فيهما ما يقضى به، جمعوا له الناس أو رؤساء الناس، وفي رواية: علماء الناس وكلاهما صواب فقد كان الرؤساء علماء واستشاروهم، وكان يكون القضاء بما يجتمع رأيهم عليه. وكان القراء أصحاب مشورة عمر، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى.
ومنه ما في كتاب عمر إلى شريح: " إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك "
وفي رواية لابن جرير الاقتصار على أمره بأن يجتهد رأيه عند عدم النص. وعن ابن مسعود كلام بمعنى هذا، إلا أنه قال في الحالة الثالثة لمن عرض عليه القضاء: " فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون " وقال في الحالة الرابعة: " فليجتهد رأيه ولا يقل إني أرى وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " اهـ.
ومراد ابن مسعود بالصالحين هو عين مراد عمر بما أجمع عليه الناس في كتابه إلى شريح، كالذين كان يستشيرهم رضي الله عنه.
أقول: هذا زبدة ما ورد في هذا الفصل وغيره بمعناه. وكله يتعلق بأمر القضاء إلا رأي عثمان في إفراد العمرة عن الحج، فإنه في مسألة دينية، وهو شاذ ولا حجة في مثل هذا بقول صحابي، وهو لم يأمر أحدا بالعمل به، بل تركه إلى الناس وهم مخيرون فيه شرعا.
وأما القضاء بما ذكر من المراتب الأربع فهو ليس برأي صحابي واحد، وإنما تلك سنتهم التي جروا عليها، واهتدى بهم فيها سائر المسلمين فكانت إجماعا صحيحا.
ولكن المتأخرين تركوا جمع العلماء لاستشارتهم فيما لا نص فيه، اكتفاء بتقليد مذاهبهم. ولا حجة في هذه الطريقة ولا في أقوالهم فيها على جواز استخراج أحكام لم يرد فيها قرآن ولا سنة في العبادات والحلال والحرام، كما فعل المؤلفون في الفقه، وإنما الاجتهاد والرأي في الأقضية التي تحدث للناس في معاملاتهم وما في معناها من أمور السياسة، وهي التي فوض الله أمرها إلى أولي الأمر بشرطه.
الجمع بين إثبات الرأي وإنكاره.
ثم عقد ابن القيم فصلا للفصل بين الرأي الذي يعمل به والذي لا يعمل به فقال:
" ولا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار، عن السادة الأخيار، بل كلها حق وكل منها له وجه. وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين، فنقول والله المستعان:
الرأي في الأصل مصدر رأى الشيء يراه رأيا، ثم غلب استعماله على المرئي نفسه، من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى، ثم استعمل في الشيء الذي يهوى فيقال: هذا هوى فلان. والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها، فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا رأيا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فك وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به: إنه رأيه، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأى، وإن احتاج إلى فكر وتأمل، كدقائق الحساب ونحوها.
" وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه. والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به، وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.
" والقسم الثالث: سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد، ولم يلزموا أحدا العمل به، ولم يحرموا مخالفته، ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين، بل خيروا بين قبوله ورده، فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه. كما قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس فقال لي: عند الضرورة. وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة، لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه. كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها، كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه، فلم يتعدوا في استعماله قدر الضرورة، ولم يبغوا بالعدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار، كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم:
{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } [البقرة: 173] فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى، والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها. ثم بينرحمه الله تعالى أن الرأي الباطل أنواع قال:
(النوع الأول): الرأي المخالف للنصوص. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.
(النوع الثاني): هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها. فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر، أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم من غير نظر في النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.
(النوع الثالث): الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال إلخ.
(النوع الرابع): الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن، وعم به البلاء، وتربى عليه الصغير، وهرم فيه الكبير.
(قال): فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين.
(النوع الخامس): ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها إلخ.
(أقول): ثم ذكر أن في هذا تعطيل السنن، واستشهد على بطلان هذا الرأي وما فسره به بالأحاديث الواردة في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات، وعن عضل المسائل، وعن كثرة المسائل، وقد أورد ابن عبد البر في هذا الفصل أكثر ما أوردناه آنفا عن فتح الباري، ومنه ما ورد في سبب نزول الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
(آثار علماء السلف في الرأي والقياس).
ثم عقد ابن القيم لآثار التابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في ذم القياس والنهي عنه، وبيان كون القائلين به لم يريدوا أن يجعله الناس دينا يدان به وشرعا متبعا للأمة، وكون المتعصبين لهم من بعدهم انحرفوا عن طريقهم وخالفوا مذهبهم غلوا فيه، ومنه قول القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن - قعنب وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطا، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي. ومنه قول الشافعي: مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برئ فأعقل ما يكون قد هاج. ومنه تقديم أبي حنيفة وأحمد الحديث الضعيف على الرأي والقياس، ومن شواهد هذا في مذهب أبي حنيفة الأخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وحديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر، وحديث قطع السارق في أقل من عشرة دراهم، وحديث جعل أكثر الحيض عشرة أيام، والحديث في اشتراط المصر لإقامة الجمعة. وكل هذه الأحاديث ضعيفة وقد قدمها على القياس، وقد نهى جميع العلماء عن تقليدهم وتقليد غيرهم في دين الله.
(أنواع الرأي المحمود).
ثم بين ابن القيم أنواع الرأي المحمود وهي أربعة:
(أولها): رأي علماء الصحابة رضي الله عنهم.
(ثانيها): الرأي الذي يفسر النصوص. ويبين وجه الدلالة منها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها. وقد بين له الشواهد مما ورد عن الصحابة من الرأي في التفسير، ثم أورد على هذا ما ورد في الصحيح من قول أبي بكر:
"وأي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي؟" وحديث: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" .
وأجاب ابن القيم عن ذلك الإيراد بأن الرأي نوعان: رأي مجرد لا دليل عليه بل هو خرص وتخمين; فهذا الذي أعاذ الله الصحابة منه، ورأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص أو من نص آخر معه، فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه. ومثل له بتفسير الصديق رضي الله عنه الكلالة بأنها ما عدا الوالد والولد.
أقول: وقد بينت ذلك أتم البيان في تفسير آية الكلالة في آخر سورة النساء، ولا تنس في هذا المقام، قول علي المرتضى عليه السلام، أنه ليس عندهم شيء من الوحي غير ما في كتاب الله قال: " إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ".
(ثالثها): رأي جماعة الشورى، وقد فصلت القول فيه بما لم أسبق إليه فيما أعلم في الكلام على أولي الأمر من تفسير سورة النساء.
(رابعها): الاجتهاد الذي أجازه الصحابة فيما لا نص فيه من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا ما قضى به الخلفاء الراشدون، وكان الأولى أن يقول: وما أجمع عليه الصحابة منه، وفي حكمه ما قضى به الراشدون، وشرط هذا الاجتهاد أن يكون في مسائل القضاء والمعاملات، لا في العقائد والعبادات، وتقدم بيان هذا من قبل، وسيعاد القول فيه إن شاء الله تعالى، وقد استشهد لهذا النوع بكتاب عمر رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وقد أثبته وشرحه شرحا طويلا، وابن حزم ينكر هذا الكتاب كما تقدم.
ثم أطال ابن القيم فيما عد من قبيل القياس في القرآن المجيد والأحاديث النبوية، وذكر طائفة من أقيسة الصحابة بناء على التوسع في معنى القياس، ولكن لا تنطبق تلك الأمثلة كلها على القياس المصطلح عليه في علم أصول الفقه، وليست كلها في الأحكام العملية، وإنما أراد أن يستوفي كل ما يمكن أن يلوذ به ويلجأ إليه القائلون بالقياس، فكان منه ما لعله لم يخطر لأحد منهم على بال، ولذلك قفى على ذلك بما يقابله من الكلام في ذم القياس وكونه ليس من الدين في شيء. فافتتح ذلك بقوله:
(فصل) قد أتينا على ذكر فصول في القياس نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا تقرب منها، فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين.
(مثال القياس الباطل).
ثم إنه أطال في بيان ذلك بالكتاب والسنة وسرد الأمثلة الكثيرة للأقيسة الباطلة من كتب الفقه، وقد تقدم بعض تلك الآيات، وأما الأحاديث، فما ذكرناه منها أكثر مما ذكره في هذا السياق، وزاد هو إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عمر وأسامة محض القياس في الحلتين الحريريتين اللتين أهداهما إليهما إذ لبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع، وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها المحرم بالنص. (قال): فأسامة أباح وعمر حرم قياسا، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من القياسين وقال لعمر:
"إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها" وقال لأسامة: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثتها إليك لتشققها خمرا لنسائك" والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط فقاسا قياسا أخطئا فيه، فأحدهم قاس اللبس على الملك، وعمر قاس التملك على اللبس، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس، وهذا عين إبطال القياس " اهـ.
أقول: ولكن هذا لم يمنع بعض الفقهاء بعد ذلك من قياس كل استعمال للحرير على اللبس، ومن قياس كل استعمال للذهب والفضة على ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الأكل في صحافهما والشرب من آنيتهما. وهكذا شأنهم في أمثلة ذلك.
ثم عقد فصلين في ذم الصحابة والتابعين للقياس وإبطالهم له، وفصلا في تعارض الأقيسة وتناقضها، وفصلا آخر في فساد القياس وبطلانه وتناقض أهله فيه واضطرابهم تأصيلا وتفصيلا، وذكر أنواع القياس الأربعة عند غلاتهم كفقهاء ما وراء النهر وهي قياس العلة والدلالة والشبهة والطرد، وذكر أمثلة كثيرة من أقيستهم الفاسدة واضطرابهم في التأصيل والتفصيل، وهذا الفصل من أجل الفصول وأطولها، وفيه كثير من الأقيسة التي جمعوا فيها بين ما فرقت النصوص أو الميزان المستقيم، وفرقوا فيها بين ما جمعت، وبيان ذلك بالدلائل العقلية والنقلية وتبعه عدة فصول تفرعت منه.
(الحكم بين مثبتي القياس ومنكريه).
بعد أن أطال ابن القيم في بسط أدلة الفريقين تصدى لبيان الحكم بينهما بإثبات القياس الموافق للنصوص وإبطال القياس الاصطلاحي، ومهد لذلك تمهيدا مفيدا بين فيه أن هذه المسألة فرع لمسألة الحكمة والتعليل والأسباب، وقد انقسم الناس في كل منهما إلى غلاة في النفي وغلاة في الإثبات ومعتدلين فيه قال:
وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون به من إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره (أي وشرعه) وإثبات لام التعليل وفاء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة، واتفق عليه الكتاب والميزان " ثم قال:
" والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل، انقسموا في فرعه وهو القياس إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات. والفرقتان أخلتا النصوص على تناولها لجميع أحكام المكلفين، وإنما أحالتا على القياس. ثم قال غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به.
خطأ نفاة القياس ومثبتيه بإطلاق:
" والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث. وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها والنصوص كافية وافية بها، والقياس حق مطابق للنصوص، فهما دليلان للكتاب والميزان، وقد تخفى دلالة النص ولا يبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا، وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا. وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته.
وكل فرقة من هذه الفرق الثلاث سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله، فنفاه القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح، وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله، احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب فحملوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يسعانه،
فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه ولكن أخطأوا من أربعة أوجه.
بيان ما أخطأ فيه نفاة القياس:
(الخطأ الأول): رد القياس الصحيح ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن لعن عبد الله حمارا على كثرة شربه للخمر: " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله، وفي أن قوله: " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس " بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس، وفي أن قوله تعالى:
{ إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس } [الأنعام: 145] نهى عن كل رجس، وفي أن قوله في الهرة: " ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهى له عن كل طعام كذلك. وإذا قال: لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر نهى له عن كل مسكر، ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة وأمثال ذلك.
(الخطأ الثاني): تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه. وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله:
{ فلا تقل لهما أف } [الإسراء: 23] ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة (أف) فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان.
(الخطأ الثالث): تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علما بالعدم، وقد تنازع الناس في الاستصحاب، ونحن نذكر أقسامه ومراتبها، فالاستصحاب استفعال من الصحبة، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا، وهو ثلاثة أقسام: استصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.
أقول: وههنا أطال ابن القيم في بيان هذه الأقسام وأمثلتها ثم قال:
(الخطأ الرابع): لهم اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه.
فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما: أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهو عفو حتى يحرمها،
ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وعن تحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه، وما سكت عنه عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله،
فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه،
وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود كلها. فقال تعالى:
{ وأوفوا بالعهد } [الإسراء: 34] وقال: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [المائدة: 1] وقال: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } [المؤمنون: 8] وقال تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } [البقرة: 177] وقال تعالى: { ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [الصف: 2-3] وقال: { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } [آل عمران: 76] وقال: { إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58] وهذا كثير في القرآن اهـ.
(أقول): ثم إنه أورد بعد هذا كثيرا من الأحاديث النبوية في هذا الموضوع وفيها ما هو عام وما هو خاص، منها حديث أبي رافع الذي أرسله المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرجع إليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، فذهب ثم عاد فأسلم" رواه أبو داود. وحديث حذيفة وأبي حسل اللذين أخذهما المشركون فلم يطلقوهما إلا بعد أن أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه لينصرفان إلى المدينة ولا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبيل غزوة بدر، فلما أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: "انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" فلم يأذن لهما بالقتال معه. وقد استوفينا الكلام على مسألة الشروط في تفسير: (أوفوا بالعقود) (5: 1) من أول السورة.
(بيان ما أخطأ فيه مثبتو القياس).
ثم إن ابن القيم بين أنواع الخطأ الذي وقع فيه مثبتو القياس والرأي في الأحكام الشرعية، وقفى على ذلك بما هو فصل الخطاب عنده في المسألة فقال:
(فصل) وأما أصحاب الرأي والقياس فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها، وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا فتارة يقدمون القياس وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس فكان خطؤهم من خمسة أوجه.
" الأول: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.
" الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
" الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به هذه الأحكام.
" الرابع: اعتبارهم عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللا وأوصافا اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه.
" الخامس: تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضا. ونحن نعقد هاهنا ثلاثة فصول: " الفصل الأول في بيان شمول النصوص للأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس.
الفصل الثاني في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص ".
" الفصل الثالث في بيان (أن) أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح " وليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهنيتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هو عام الرسالة إلى كل مكلف، فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحد عن رسالته فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنه وعن بيانه له، ونحن نعلم أنا لا نوفي هذه الفصول حقها ولا نقارب، وأنها أجل من علومنا، وفوق إدراكنا، ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما نفتح أبوابها وننهج طرقها والله المستعان وعليه التكلان " اهـ.
أقول: إننا لم نجد في الكتاب إلا فصلين من هذه الثلاثة التي وعد بها، الأول في شمول النصوص وإغنائها على القياس، والثاني في بيان أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح والميزان المستقيم والموافقة لعقول البشر ومصالحهم، ولا ندري أسقط الفصل الذي بين فيه سقوط الرأي والاجتهاد والقياس مع وجود النص؟ أم أغفل كتابته بعد الوعد به نسيانا للوعد واكتفاء باتفاق العلماء على المسألة، وكون من يعتد بدينه وعلمه من أهل الرأي والقياس كربيعة وأبي حنيفة والشافعي لم يثبتوا حكما في مسألة فيها نص بالقياس إلا إذا كانوا غير عالمين بالنص أو غير ثابت عندهم، أو لم يفهموا الحكم منه.
(شمول النصوص للأحكام وتفاوت الأفهام فيها).
وقد صدر الفصل الأول بمقدمة نفيسة في نوعي الدلالة وتفاوت الأفهام في النصوص فقال:
(الفصل الأول) في شمول النصوص وإغنائها عن القياس، وهذا يتوقف على بيان مقدمة، وهي: أن دلالة النصوص نوعان: حقيقية وإضافية. فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته الألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباني السامعين في ذلك، وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمرو أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له، وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما، بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله:
"إنك ستأتيه وتطوف به" فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه.
وأنكر على عدي بن حاتم في فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين:
" وأنكر على من فهم من قوله:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر" شمول لفظه لحسن الثوب وحسن الفعل، وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس.
" وأنكر على من فهم من قوله:
"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب؛ فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه، وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه.
" وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى:
{ فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [الانشقاق: 8] معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض، أي حساب العرض لا حساب المناقشة.
" وأنكر على من فهم من قوله تعالى:
{ من يعمل سوءا يجز به } [النساء: 123] أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء، وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة.
" وأنكر على من فهم من قوله تعالى:
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [الأنعام: 82] أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك، وذكر قول لقمان لابنه: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك، فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم بل قال: { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } ولبس الشيء بالشيء: تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر،
ومن هذا قوله تعالى:
{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 81] فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا، فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به، ومع أن سياق قوله: { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } [الأنعام: 81] ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى، فدل على أن الظلم الشرك.
" وسأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال: " يكفيك آية الصيف " واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها، وفهمها الصديق.
" وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس، وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهورهم، وفهم بعضهم أنه لكونها كانت حول القرية.
" وفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي وصرح بعلته من كونها رجسا.
وفهمت المرأة من قوله تعالى:
{ وآتيتم إحداهن قنطارا } [النساء: 20] جواز المغالاة في الصداق فذكرته لعمر فاعترف به.
وفهم ابن عباس من قوله تعالى:
{ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } [الأحقاف: 15] مع قوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت حتى ذكره ابن عباس فأقر به.
ولم يفهم عمر من قوله:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" قتال مانعي الزكاة حتى بين له الصديق (ذلك) فأقر به: وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا } [المائدة: 93] رفع الجناح عن الخمر حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم، فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما.
وقد فهم من فهم من قوله تعالى:
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195] انغماس الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقال الصديق رضي الله عنه: " أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها:
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها.
وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين، وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين:
{ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } [الأعراف: 164] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم، وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم. وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به.
وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: " ما تقولون في
{ إذا جاء نصر الله والفتح } [النصر: 1] السورة قالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره فقال لابن عباس: ما تقول أنت قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها غير ما تعلم، وهذا من أدق الفهم وألطفه ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعلمه، بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسبب للاستغفار، فعلم أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب، فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه. ويدل عليه (أيضا) { فسبح بحمد ربك واستغفره } [النصر: 3] وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في الدين أمر أكثر من ذلك المتقدم، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها. ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم
الأعمال فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا، وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول:
"اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة، فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها.
والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده.
وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله:
{ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } [الاحقاف: 15] مع قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر، وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وأسقط الإخوة بالجد، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا فقال: "يكفيك آية الصيف" وإنما أشكل على عمر قوله: { قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [النساء: 176] الآية فدله النبي صلى الله عليه وسلم على ما بين له المراد منها، وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف، فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس، ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد وإن علا " انتهت المقدمة.
أقول: ثم إنه أورد بعد هذه المقدمة عدة مسائل مما اختلف فيه السلف ومن بعدهم بينتها النصوص، وهي ست مسائل في أحكام المواريث وقد وضح فيها إغناء النص عن القياس أتم الإيضاح.
مثال النصوص الكلية المغنية عن القياس:
ثم زاد على تلك المسائل عدة نصوص كلية يغني كل منها عن كثير من الأقيسة، وذلك قوله أدام الله النفع بعلمه
ومن ذلك الاكتفاء بقوله: " كل مسكر خمر " عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما فعله من لم يحسن الاستدلال بالنص.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله:
{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [المائدة: 38] عن إثبات قطع النباش بالقياس اسما أو حكما، إذ السارق يعم في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأموات والأحياء.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله:
{ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } [التحريم: 2] في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون من غير تخصيص إلا بنص وإجماع، وقد بين ذلك سبحانه في قوله: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } [المائدة: 89) فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذا كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات والحلف بأحب القربات المالية إلى الله وهو العتق، كما ثبت ذلك عن ستة منهم ولا مخالف لهم من أنفسهم، وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا مخالف له منهم، فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه، فالأمة لا تجمع على خطأ ألبتة.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله صلى الله عليه وسلم:
"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله عنه وحرمه وأنه لغو لا يعتد به نكاحا كان أو طلاقا أو غيرهما، إلا أن تجمع الأمة إجماعا معلوما على أن بعض ما نهى الله ورسوله عنه وحرمه من العقود صحيح لازم معتد به غير مردود، فهي لا تجمع على خطأ وبالله التوفيق.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله تعالى:
{ وقد فصل لكم ما حرم عليكم } [الأنعام: 119] مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " فكل ما لم يبين الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حراما فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه وبالله التوفيق ".
لا شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح:
ثم شرع ابن القيم في بيان كون جميع أحكام الشريعة موافقة للقياس الصحيح الموافق للعدل والعقل فقال:
(الفصل الثاني) في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع. وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم، وربما كان مجمعا عليه كقولهم: طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة خلاف القياس، وتطهير النجاسة على خلاف القياس، والوضوء من لحوم الإبل والفطر بالحجامة والسلم والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وصحة صوم الآكل الناسي والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس، فهل ذلك صواب أم لا؟ فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس. وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه وما فتح الله سبحانه لي بيمن إرشاده وبركة تعليمه وحسن بيانه وتفهيمه.
" إن أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد. والصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، فالأول قياس الطرد والثاني قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته بغيره، ولكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد. فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه. ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وحيث علمنا أن النص بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم، فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا، ولكن يخالف القياس الفاسد وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال " انتهى المراد منه.
(أقول): ثم إنه بعد هذا بين خطأ من قال: إن تلك المسائل جاءت على خلاف القياس بيانا كافيا شافيا في عدة فصول ظهر به بطلان كثير من كلام فقهاء القياس وأصولهم وقواعدهم، وتضمن ذلك فوائد نفيسة، منها انعقاد العقود بأي لفظ عرف به المتعاقدان مقصودهما، وأن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا، لا النكاح ولا غيره وأن الكناية مع القرينة كالصريح، ومنها بيان أنواع المعاملات المالية، وبطلان كثير من الشروط التي اشترطها فقهاء القياس فيها، ومنه يعلم يسر الشريعة وسعتها وموافقتها للعدل والعقل.
ثم أورد بعد هذا ما استشكله نفاة الحكمة والتعليل والقياس من تفريق الشريعة بين المتماثلين وجمعها بين المختلفين في عدة مسائل كثيرا ما يذكرونها، كفرض الغسل من المني الطاهر دون البول النجس وما في حكمه، وكذا إبطال الصيام بالاستمناء، ونضح الثوب من بول الغلام وغسله من بول الجارية، وقصر الصلاة الرباعية دون غيرها، وإيجاب إعادة الصيام على الحائض دون الصلاة، وتحريم النظر إلى الحرة ولو عجوزا شوهاء دون الأمة ولو شابة حسناء، وقطع يد سارق ربع دينار دون مغتصب ألف دينار مع جعل دية اليد خمسمائة دينار إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة في العبادات والمعاملات المالية والزوجية وفي العقوبات، ولعله استوفى كل ما بلغه من المسائل التي زعم بعض الناس أنها على خلاف القياس والعقل.
ثم أجاب عن ذلك كله بالإسهاب الذي لا يكاد يوجد مثله في غير هذا الكتاب. وفي جوابه أو أجوبته هذه من حكم الشريعة وأسرارها وبيان موافقتها للعقل ومصالح البشر ومن خطأ غلاة القياسيين ما لا يستغني عنه أحد من طلاب علم الشرع والتفقه في الدين.
نذكر من تلك المسائل مسألة واحدة على سبيل النموذج، وهي الجواب عن قول منكري القياس: إن الشارع حرم بيع مد حنطة بمد وحفنة، وجوز بيعه بقفيز من شعير، فهذا تفريق بين المتماثلين مخالف للقياس والعقل عندهم. وقد أطال في رد هذا بما بين به حكمة تحريم الربا في النقدين والبر والشعير والتمر والملح التي ورد بها الحديث. فنلخص ذلك بجمل وجيزة.
(الربا: موضوعه وعلته وحكمته).
(1) قال: " الربا نوعان: جلي، وخفي. فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة..
" فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له، تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده " إلخ.
(أقول): وهذا الربا الجاهلي هو الذي نزل فيه التشديد والوعيد. وقال الإمام أحمد: إنه هو الربا الذي لا شك فيه كما نقله المصنف عنه في هذا السياق وغيره عنه وعن غيره من السلف وهو الذي روى فيه ابن عباس وأسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا ربا إلا في النسيئة أو إنما الربا في النسيئة" كما رواه الشيخان في الصحيحين. وقد روي أن ابن عباس وابن عمر لم يكونا يحرمان ربا الفضل، وقيل: رجعا عن ذلك، وجزم الحافظ في الفتح برجوع الثاني والاختلاف في رجوع الأول. ويحتمل أن يكون مرادهما بالربا ما نزل فيه وعيد القرآن كما تقدم في تفسير آياته في سورتي البقرة وآل عمران.
وذهب ابن القيم في هذا السياق إلى ما اعتمده الجمهور من أن المراد به حصر الكمال، أي أن الربا التام الكامل لا يكون إلا في النسيئة
(قال): فإن ربا الفضل إنما سمي ربا تجوزا من باب إطلاق اسم المقصد على الوسيلة، وهو نحو من إطلاق اسم المسبب على السبب ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري الآتي. وأقول: هو من قبيل إطلاق اسم الزنا على النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة. وإنما حرم هذا النظر والخلوة بالأجنبية لسد الذريعة كربا الفضل.
(قال): وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء" والرماء هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، إلى آخر ما قاله في إيضاح ذلك وهو واضح.
(2) بين أن الحديث نص على تحريم الربا في ستة أعيان وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، ثم قال: فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس أي كبيع الذهب بالذهب والقمح بالقمح، بخلاف بيع الذهب بالفضة، والقمح بالشعير مثلا، فإنهم جوزوه وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يروي هذا عن قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل (هو من أئمة الحنابلة) في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسين في مسألة الربا ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس.
(3) بين أن أهل القياس اختلفوا في علة تحريم الربا في تلك الأعيان الستة التي ورد بها الحديث. فأما البر والشعير والتمر والملح فذهب بعضهم كأبي حنيفة وظاهر الرواية عن أحمد أن علته كونه مكيلا وموزونا فيجري الربا في كل مكيل وموزون، وذهب بعض آخر إلى أن علته كونه طعاما، وهو مذهب سعيد بن المسيب والشافعي ورواية عن أحمد فيجري على كل ما يطعم، وذهب غيرهم إلى أن علة ذلك كونها قوت الناس، وعبارة ابن القيم: وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه، وهذا قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه.
أقول: واعتبر بعض المالكية في القوت ما يدخر. وأما الذهب والفضة فالعلة فيهما عند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه الوزن، فيجري الربا على هذا في كل موزون وكل مكيل من المعادن كغيرها، وهذا أوسع الأقوال وأشدها في الربا، والجمهور على أن العلة فيها الثمنية؛ أي كونها معيار الأثمان في المعاملات كلها.
قال ابن القيم: وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب، ثم أورد الأدلة على ذلك، وأولها: الإجماع على إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا انتقضت من دون فرق مؤثر دل على بطلانها إلى آخر ما قاله.
(4) بنى ابن القيم بيان حكمة تحريم الربا على الراجح المختار من تعليل حصره في الأجناس الستة، ولا تظهر حكمة ذلك على قول من قال: إن الربا يجري في كل ما يكال ويوزن، بل هذا التضييق على العباد لا يعقل له حكمة، ولا هو عبادة بالنص، وقد بينا حكمة تحريم الربا في تفسير آياته من سورتي البقرة وآل عمران فيراجع هناك وفي إعلام الموقعين.
(5) بين أيضا أن ما حرم لذاته لا يباح شرعا إلا للضرورة إن كان مما يضطر إليه، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة والمصلحة، وبنى على ذلك جواز بيع الحلية من الذهب والفضة بنقود منهما تزيد على وزنها في مقابلة ما فيها من الصنعة، واستدل على هذا الجواز بأدلة منقولة ومعقولة أيضا، واستشهد على جواز ربا الفضل للمصلحة الراجحة بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم بيع العرايا، وذكر من نظائره إباحة نظر الخاطب والطبيب والشاهد إلى المرأة الأجنبية حتى إن الطبيب ينظر كل عضو تتوقف معالجته على النظر إليه، وكذا لمسه وإباحة لبس الحرير لمنع الحكة أو القمل، والأمثلة والشواهد كثيرة.
والغرض مما لخصناه هنا بيان فضيلة المذهب الوسط بين مذهبي نفي القياس ألبتة والتوسع فيه باستنباط العلل البعيدة. فمقتضى مذهب ابن حزم أنه إذا وجد أهل قطر لا قوت لهم إلا الرز ولا نقد لهم من النحاس فإنه يباح لهم الربا في نقدهم وقوتهم، وهذا ينافي حكمة الشارع في تحريم ذلك وهو غلو في الإباحة. ويقابله الغلو في الحظر وهو مذهب القائلين بجريان الربا في كل مكيل وموزون. والمذهب الوسط: أن الأجناس الستة المذكورة في الحديث كانت ولا تزال معيار الأثمان وأصول الأقوات لأكثر البشر، فكان ربا النسيئة فيها وهو الذي يتضاعف أضعافا كثيرة مضرا بهم ضررا بليغا، فكان من الرحمة والمصلحة تحريمه أشد التحريم وجعله من الكبائر، وتحريم ما كان ذريعة له تحريم الصغائر. فإذا وجدت هذه العلة في نقد آخر غير الذهب والفضة، وقوت آخر غير البر والشعير والتمر والبلح صح قياسهما على الأجناس الستة لحلولهما محلها، وانطباق حكمة التشريع على ذلك.
(فإن قيل): إن المعتدلين في القياس من أهل الأثر لا يعتدون إلا بالعلة الثابتة عن الشارع بالنص، كقوله تعالى في تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير:
{ فإنه رجس } [الأنعام: 145] أي خبيث مستقذر فهو داخل في عموم { ويحرم عليهم الخبائث } [الأعراف:: 157] ولا نص على علة الربا (قلنا): إنهم يريدون بالنص هنا ما ثبت بالمنطوق أو المفهوم أو القرينة الواضحة، كفحوى الخطاب ولحنه وما يقوم مقامه، فمنه ما يكون معلوما من مقاصد الشرع بالضرورة أو البداهة، أو بضرب من ضروب الدلائل اللفظية كترتيب الحكم على المشتق كالزاني والسارق.
والأجناس الستة التي ورد الحديث بجريان الربا فيها من هذا القبيل، فإن تخصيصها بالذكر لا بد أن يكون لمعنى فيها اقتضاه، وإلا كان لغوا أو عبثا يتنزه عنه العقلاء، فكيف يصدر عن الأنبياء؟! وليس فيها معنى تمتاز به على غيرها من المعادن والأطعمة إلا كونها تقود الناس التي هي معيار معاملاتهم ومبادلاتهم، وأغذيتهم الرئيسية وأصول أقواتهم، وأما كونها توزن أو تكال فهو من صفاتها العامة، ككونها تنقل وتحمل وتنظر وتلمس وتباع وتشترى، ولو كانت هذه الصفات مقصودة للنبي صلى الله عليه وسلم لما عبر عن الكثير الذي لا يحصر ببعض أفراده من غير بيان لعلته، بل كان البيان الصحيح يتوقف على ما يفهم به المراد من التعبير، كأن يقول: كل ما يكال أو يوزن فحكمه كذا،
وما قررناه واضح جدا وإن خفي على بعض أئمة الفقهاء. فقد رأيت أن أكابر علماء الصحابة الذين كانوا أوسع علما وفهما للنصوص من أولئك الفقهاء بشهادة علماء الأمة كلهم قد خفي على بعضهم ما هو مثل هذه المسألة في الوضوح أو أشد. والبشر عرضة للغفلة والذهول، وإن من أنهض الحجج على بطلان التزام تقليد فرد معين من العلماء ما ظهر كالشمس من خطأ أكابر المجتهدين في بعض الأحكام، إما بمخالفة النص الصريح، وإما بتنكب القياس الصحيح.
ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة للربا أظهر من جعل " الدخول في جوف " علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح; ولذلك قاسوا على الأكل والشرب إدخال المسبار في جرح البطن أو الرأس. حتى قال بعضهم: إذا خرجت مقعدته عند الغائط فأدخلها بيده أي بعد الاستنجاء فإنه يفطر !.
وبأمثال هذه الأقيسة زادت أحكام العبادات وأنواع المحرمات على ما كان معروفا في زمن إكمال الدين أضعافا كثيرة، ولم يبق لنا شيء ينطبق عليه ما امتن به علينا الشارع من سكوته عن أشياء عفا عنها رحمة بنا من غير نسيان تحقيقا لقوله تعالى: إنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، وإنه ما جعل علينا في الدين من حرج وإنه لا يريد أن يعنتنا.
(ما حققه الشوكاني في مسألة القياس):
بين الإمام محمد بن علي الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) الخلاف في القياس الفقهي: هل: يجوز التعبد به عقلا أم لا؟ واختلاف القائلين بالجواز، هل وقع بالفعل أم لا؟ واختلاف القائلين بالوقوع في شروطه ودلائله، هل هي سمعية أو عقلية؟ وانقسام القائلين بعدم الوقوع إلى فريقين: فريق يقول: لم يوجد في الشرع ما يدل عليه فوجب الامتناع من العمل به، وفريق يستدل على نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة وبالعقل. ثم قال: " وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية ولا حاجة بهم إلى الاستدلال; فالقيام في مقام المنع يكفيهم، وإيراد الدليل على القائلين به، وقد جاءوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة فلا نطول بذكرها، وجاءوا بأدلة نقلية فقالوا: دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب والسنة والإجماع ". ثم أورد ما قالوه وبحث فيه الإمام النحرير ملتزما قواعد الأصول وآداب المناظرة، فنلخص ذلك بما يأتي مبتدئين بأدلتهم من القرآن.
استدلالهم بالقرآن على القياس:
(الدليل الأول): قوله تعالى:
{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } [الحشر: 2] وقد نقل عن المحصول للإمام الرازي رد الاستدلال بهذه الآية على القياس الفقهي من وجوه، وبحث فيما اختاره من كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة، ووافقه على كون الآية غير حجة للقياسيين فقال: " والحاصل: أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، ومن أطال الكلام في الاستدلال بها فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته ".
(الدليل الثاني والثالث): قوله تعالى:
{ فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } [المائدة: 95] وقوله تعالى: { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [البقرة: 144] وهذان مما استدل به الإمام الشافعي في رسالته.
قال الشوكاني: ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هي المجيء بمثل ذلك الصيد وكونه مثلا له موكول إلى العدلين ومفوض إلى اجتهادهما، وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة. وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة، فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها، وليس ذلك من القياس في شيء.
(الدليل الرابع): ما استدل به ابن سريج وهو قوله تعالى:
{ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83] قال الشوكاني: قالوا: أولو الأمر هم العلماء، والاستنباط هو القياس. ويجاب عنه بأن الاستنباط هو استخراج الدليل من المدلول بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقييد أو الإجمال أو التبيين في نفس النصوص، أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه. ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط لكان ذلك مخصوصا بالقياس المنصوص على علته وقياس الفحوى ونحوه، لا بما كان ملحقا بمسلك من مسالك العلة التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع، فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله به، بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به. اهـ.
أقول: وقد بينا في تفسير الآية أن أولي الأمر ليسوا هم علماء الفقه المعروف وأصوله، بل هم أولو الحل والعقد من الأمة. فراجعه في محله.
(الدليل الخامس): ما استدل به ابن سريج، وهو قوله تعالى:
{ يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } [البقرة: 26] قال: لأن القياس هو تشبيه الشيء بالشيء، فما جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز. واعتمد الشوكاني في رد هذا الاستدلال قلبه على صاحبه ببيان أن من لا تخفى عليه خافية، فكل ما يضربه من مثل وما يثبته من تشبيه شيء بشيء يجب أن يكون صحيحا، وأما من لا يخلو من النقص والجهل فلا نقطع بصحة ذلك منه ولا نظنه لما في فاعله من الجهالة والنقص.
وأقول: إن تقرير هذا الاستدلال هفوة من أكبر الهفوات، بل سقطة من أقبح السقطات، فإنه على كونه ليس من الموضوع في ورد ولا صدر عبارة عن قياس العبد على الرب، وجعله أحق بالتشريع وأجدر، وقد أطال ابن القيمرحمه الله تعالى في مسألة أمثال القرآن من سياقه الذي اختصرناه، فيراجع في كتابه.
(الدليل السادس): قوله تعالى في الرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم:
{ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } [يس: 79] قال الشوكاني: ويجاب عنه بمنع كون هذه الآية لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللاحق وكون المؤثر فيهما واحدا، وذلك غير القياس الشرعي الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما.
(الدليل السابع): قوله تعالى:
{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [النحل: 90] وقد نسبه إلى ابن تيمية (قال): وتقريره أن العدل هو التسوية، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية. ويجاب عنه بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها، لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي، ونوع من أنواع الظنون الزائفة، وخصلة من خصال الخيالات المختلة اهـ.
أقول: أخطأ الشوكاني ههنا وأصاب - أصاب فيما رمى إليه من كون الأمر بالعدل ليس دليلا على القياس الفقهي المعروف الذي يجعل كل ما يوزن في حكم النقدين من الذهب والفضة، وكل ما يكال في حكم البر والشعير والتمر والملح، ويجعل مسبر الجراح مفطرا للصائم كالطعام والشراب، وأخطأ مراد ابن تيمية من القياس والعدل إذ يظهر أنه لم يطلع على ما كتبه هو ثم تلميذه ابن القيم في ذلك وهو عين ما سلم دلالة الآية عليه، وسنعود إلى ذكر مذهبهما فيه.
الاستدلال على القياس بالحديث والإجماع:
ثم أورد الشوكاني ما استدلوا به على حجة القياس من الحديث والإجماع وبدأ الكلام بحديث معاذ، إذ أقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله:
"أجتهد رأيي ولا آلو" في القضاء بما لا يجده في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقد تقدم تضعيف ابن حزم لهذا الحديث، وقال الشوكاني: إن الكلام في إسناد هذا الحديث يطول، وقد قيل: إنه مما تلقي بالقبول، ثم أجاب عنه وعن سائر أدلتهم بعد تلخيصها بما نصه:
" وأجيب عنه بأن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية، ورد بأنه إنما قال: " أجتهد رأيي " بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة، وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال: إنه غير موجود في الكتاب والسنة،
وأجيب عن هذا الرد بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة، فلا بد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس، فلا يكون الحديث حجة لإثباته، واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة يكون بالتمسك بالبراءة الأصلية، أو بأصالة الإباحة في الأشياء أو الحظر على اختلاف الأقوال في ذلك، أو التمسك بالمصالح أو التمسك بالاحتياط.
" وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي فليس المراد كل قياس، بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها والرجوع إليها، كالقياس الذي علته منصوصة، والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات لا القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلة والشبه الباطلة.
وأيضا فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة، لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة، وأما بعد أيام النبوة فقد كمل الشرع لقوله:
{ اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع إما بالنص على كل فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام: 38] وقوله: { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [الأنعام: 59].
واستدلوا أيضا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القياسات كقوله:
"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى" وقوله لرجل سأله فقال: "أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها؟ فقال: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر" وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم قال: فمن أين؟ قال: لعله نزعة عرق، قال: وهذا لعله نزعة عرق" وقال لعمر وقد قبل امرأته وهو صائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء" وقال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام، وقد وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم قياسات كثيرة حتى صنف الناصح الحنبلي جزءا في أقيسته صلى الله عليه وسلم.
" ويجاب عن ذلك بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه:
{ إن هو إلا وحي يوحى } [النجم: 4] ويقول في وجوب اتباعه: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر: 7] وذلك خارج عن محل النزاع، فإن القياس الذي كلامنا فيه إنما هو قياس من لم تثبت له العصمة ولا وجب اتباعه ولا كان كلامه وحيا بل من جهة نفسه الأمارة وبعقله المغلوب بالخطأ، وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه صلى الله عليه وسلم.
(استدلالهم على القياس بالإجماع):
" واستدلوا أيضا بإجماع الصحابة على القياس، قال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي. وقال الصفي الهندي: دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين. وقال الرازي في المحصول: مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جمهور الأصوليين. وقال ابن دقيق العيد: عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين. قال: وهذا أقوى الأدلة.
ويجاب عنه بمنع ثبوت هذا الإجماع فإن المحتجين بذلك إنما جاءونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين في غاية القلة، فكيف يكون ذلك إجماعا لجميعهم مع تفرقهم في الأقطار، واختلافهم في كثير من المسائل، ورد بعضهم على بعض، وإنكار بعضهم لما قاله البعض كما ذلك معروف؟.
" وبيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة على أقوال معروفة، وأنكر بعضهم على بعض، وكذلك اختلفوا في مسألة زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم، وأنكر بعضهم على بعض، وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع، وهكذا وقع الإنكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم، والقياس إن كان منه فظاهر وإن لم يكن منه فقد أنكره منهم من أنكره كما في هذه المسائل التي ذكرناها. ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها والتي قطع فيها بنفي الفارق، فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس الذي اعتبره كثير من الأصوليين وأثبتوه بمسالك تتقطع فيها أعناق الإبل، وتسافر فيها الأذهان حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء، وتتغلغل فيها العقول حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورود ولا صدر، ولا من الشريعة السمحة السهلة في قبيل ولا دبير، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها" وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين، وبما يفيد هذا المعنى ويصحح دلالته ويؤيد براهينه.
(القياس الصحيح).
وإذا عرفت ما حررنا، وتقرر لديك جميع ما قررنا، فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته وما قطع فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب على اصطلاح من يسمي ذلك قياسا، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة.
ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا وإن كان منصوصا على علته أو مقطوعا فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل مشمولا به مندرجا تحته، وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه، ويقرب لديك ما بعدوه; لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا،
وقد قدمنا لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها، ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها، وبيان ذلك: أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا تفي بالأحكام؛ فإنها متناهية والحوادث غير متناهية. ويجاب عن هذا بما قدمناه من إخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها، وبما أخبرها رسوله صلى الله عليه وسلم من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها.
ثم لا يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث، ويقوم ببيان كل نازلة تنزل، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله اهـ.
ثم قال الشوكاني عند الكلام على النص من مسالك العلة في القياس ما نصه:
" واعلم أنه لا خلاف في الأخذ بالعلة إذا كانت منصوصة، وإنما اختلفوا هل الأخذ بها من باب القياس أم من العمل بالنص؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني النافون للقياس، فيكون الخلاف على هذا لفظيا. وعند ذلك يهون الخطب ويصغر ما استعظم من الخلاف في هذه المسألة. فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل التأويل عن كل ما تجري العلة فيه كان المتعلق به مستدلا بلفظ قاض بالعموم " اهـ.
أقول: إن بعض الناس لا يعد كل تعليل في النصوص من قبيل العام، فيجري كل ما تحققت فيه العلة مجرى أفراد العام في حكمه، فالخلاف بين هؤلاء وبين الذين ينوطون الأحكام بالعلل المنصوصة حقيقي لا لفظي، سواء كانوا يسمون ذلك عملا بالنص أو قياسا، وإنما الخلاف اللفظي بين هذين الفريقين المتفقين على تحكيم العلل المنصوصة.
وابن تيمية وابن القيم من علماء الأثر إنما يوافقان الجمهور على إثبات القياس بهذا المعنى، ويريان أنه بهذا المعنى داخل في مفهوم كلمتي العدل والميزان وهذا حق، ومن مقتضاه أنه خاص بأحكام المعاملات دون العبادات المحضة، فإن العبادات قد استوفتها النصوص وبينتها السنة العملية، فلا وجه للزيادة فيها أو النقص منها، ولا لإيقاع شيء منها على غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال حذيفة رضي الله عنه: " كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها " والآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء السلف الصالحين في هذا كثيرة، ومن تتبع ما زاده بعض الفقهاء في أحكام العبادات بالقياس عما كان عليه أهل الصدر الأول لم ير لشيء منه حجة قيمة ولا قياسا صحيحا.
(بحث في التزام النصوص في العبادات، واعتبار المصالح في المعاملات).
تمهيد في مذهب مالك في ذلك:
كان الإمام مالك بن أنس من أشد علماء السلف تشديدا في اتباع السنة، وتدقيقا في إنكار البدع والمحدثات في الدين، حتى إنه أنكر على عبد الرحمن بن مهدي - وناهيك بعلمه وهديه - وضع ردائه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من الحر والصلاة عليه. وأنكر على من استشاره في الإحرام من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم من عند قبره ونهاه عن ذلك وأمره بالإحرام من الميقات، فلما ألح الرجل قال له: " لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة " فقال الرجل: وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك قد سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إني سمعت الله يقول:
{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [النور: 63] ومن أجل كلامه رضي الله عنه: من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين وفي رواية: الرسالة؛ لأن الله يقول: { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا اهـ.
نقل ذلك العلامة الشاطبي في عدة مواضع من كتاب الاعتصام (ص: 167 ج1 و198 ج2) وقال في ص: 310 من الجزء الثالث منه في مثل هذا المقام: ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ورفع الأحداث إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفع الأحداث النية، ولم يقم غير الماء مقامه عنده وإن حصلت النظافة حتى يكون بالماء المطلق، وامتنع من إقامة التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك.
" ودورانه في ذلك كله على ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب أن تصور لقلة ذلك في التعبدات وندوره، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول. فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع ألا يخرج عنه، ولا يناقض أصلا من أصوله اهـ.
(أقول): إن العلامة الشاطبي قد حرر بحث البدع وأطال في التنفير عنها والحث على التزام السنة في كتابه (الاعتصام) بما لم يسبق إلى مثله - بحسب علمه وعلمنا - سابق، ولم يلحقه فيه على ما وصل إليه علمنا لاحق، ومن ذلك أنه فرق بين البدع وبين المصالح المرسلة تفرقة واضحة بينة، وأثبت أن مالكا كان يقول بها على تشدده في نصر السنة، ومبالغته في مقاومة البدع، حتى قال أحمد بن حنبل فيه: إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع، وقال عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة.
المشهور أن القول بالمصالح المرسلة مذهب مالك وأن الجمهور على خلافه. وليس هذا القول صحيحا على إطلاقه، فإن بعض علماء الأصول جعل القول بها من مسالك العلة للقياس، فأدخلوها فيما يسمونه المناسبة أو المعنى المناسب. وعدها بعضهم من أنواع الاستدلال لا من أصول الأحكام، فالأكثرون يقولون بها، ولكن يختلفون في اسمها.
قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحا في الاستعمال لها على غيرهما، وقال القرافي: هي عند التحقيق في جميع المذاهب; لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك. قال إمام الحرمين: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى تعلق الأحكام بالمصالح المرسلة بشرط الملاءمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول.
وقد قسم علماء الأصول المناسب إلى ما علم اعتبار الشرع له، وما علم إلغاؤه له، وما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه له، وهو الذي لا يشهد له أصل معين بالاعتبار، بل يؤخذ من مقاصد الشرع العامة، فيعد من وسائلها وهذا القسم هو الذي يسمونه بالمصالح المرسلة. ذكر ذلك كله الشوكاني في إرشاد الفحول، وقال: وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به. قال الزركشي: وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة. ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك اهـ.
ما حرره الطوفي في مسألة المصالح:
(أقول): لم أر في كلام علماء المشارقة من أطنب في بحث المصالح مثل الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716 ولا في كلام علماء المغاربة مثل العلامة أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 790.
أما الطوفي فإنه وفى الموضوع حقه في شرحه لحديث أبي سعيد الخدري من الأربعين النووية:
"لا ضرر ولا ضرار" (رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا ومالك مرسلا وحسنوه) وقد قال هو وغيره: إنه يقتضي رعاية المصالح إثباتا ونفيا، والمفاسد نفيا. ثم استدل على المسألة بعدة أدلة من الكتاب والسنة تفصيلية وإجمالية، وبإجماع ما عدا الجامدين من الظاهرية، وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية على هذه المسألة، ودعم ذلك بالاستدلال عليها بالنظر العقلي، ولم يكتف بهذا حتى جعل رعاية المصلحة مقدمة على النص والإجماع عند التعارض، فقال: وإن خالفها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما.
وهذا الذي قرره الطوفي في رعاية المصلحة هو أدق وأوسع من القول بالمصالح المرسلة وأدلته أقوى، وقد صرح هو بذلك فقال:
" واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام " اهـ. ثم قال بعد بيان ذلك:
" وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها; لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعا خادما له إلا إذا امتثل ما رسم سيده وفعل ما يعلم أنه يرضيه، فكذلك ههنا، ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل وضلوا وأضلوا. وهذا بخلاف حقوق المكلفين؛ فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول.
" ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته لأنا نقول: قد قررنا أن المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح.
" ثم إن هذا إنما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات. وأما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل. فإذا رأينا الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتها " انتهى المراد منه هنا. ومن أراد الاطلاع على سياقه برمته فليرجع إلى المجلد التاسع من المنار (ص 745 - 770).
ما حرره الشاطبي في مسألة المصالح:
وأما الشاطبي، فإنه جعل الباب الثامن من كتابه الاعتصام في التفرقة بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان؛ فأما الاستحسان فإذا لم يرجع إلى قياس صحيح أو إلى رعاية المصالح ودفع المفاسد فليس بشيء، وأما المصالح المرسلة فقد وافق الشاطبي الأصوليين على عدها مما يسمونه المعنى المناسب، ووضحها بعشرة أمثلة منها:
(1) اتفاق الصحابة على كتابة القرآن في الصحف التي سمي مجموعها المصحف.
(2) اتفاقهم على حد شارب الخمر ثمانين جلدة، كذا قال.
(3) قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع، وقول علي (رضي الله عنه) في ذلك: لا يصلح الناس إلا ذاك.
(4) ما ذهب إليه بعض العلماء من الضرب في التهم، وما ذهب إليه مالك من السجن في التهم، مع أن السجن نوع من العذاب.
(5) ما قرره ونقل مثله عن الغزالي وابن العربي من جواز وضع الإمام العادل ضرائب وإعانات مؤقتة عند الضرورة ; لتكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك إذا لم يوجد في بيت المال ما يفي بذلك.
(6) اختلاف العلماء في العقاب على بعض الجنايات بأخذ المال.
(7) الزيادة على سد الرمق إذا توالت ضرورة الأكل من المحرم كالميتة في المجاعات، أو عم الحرام بلدا أو قطرا في جميع الأموال، فحينئذ لا ينظر إلى أصل المال، بل يؤخذ من الوجه الشرعي، كما لو كان أصله حلالا. هذا ملخص معنى ما ذكره، وعزى القول به إلى ابن العربي وأحال في بسطه على الغزالي في الإحياء; أي في كتاب الحلال والحرام من الجزء الثاني منه.
(8) قتل الجماعة بالواحد، قال: والمستند فيه المصلحة المرسلة; إذ لا نص على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مذهب مالك والشافعي.
(9) إقامة إمام للمسلمين (خليفة) غير مجتهد في الشرع إذا فقد المجتهد. قال: " إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضا أو كادوا يتفقون على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد. وهذا صحيح على الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس وافتقروا إلى إمام يقدمونه; لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد. ثم بين وجه ذلك وصرح بأنه لا يتجه إلا على فرض خلو الزمان عن مجتهد، وهذه مسألة فيها بحث، وقد صرح المحققون بأنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد، وليس هذا محل بيان هذه المسألة، بل هو لا يتسع لتحقيق مسألة المثال المفروضة أيضا.
(10) بيعة من لم تتوفر فيه شروط الإمامة ابتداء أو استدامتها بعد وجود الكفء لها كالقرشي المجتهد... إلخ; خوفا من الفتنة وتفرق الكلمة. وقد ذكر من الشواهد على هذا المثال مبايعة ابن عمر ليزيد ولعبد الملك بن مروان على كونهما من أئمة الجور، وأخذهما الملك بالسيف لا باختيار الأمة، ونهي مالك عن الخروج على أبي جعفر المنصور.
وفي هذه المسألة أبحاث من وجوه كثيرة; فلا تؤخذ على إطلاقها، وقد سبق في تفسير آية المحاربين (البغاة) قول وجيز فيها، وإشارة إلى بعض مسائلها; منه أن تحريرها لا يمكن إلا بمصنف خاص، ومنه أن الرأي الغالب على الأمم في هذا العصر أن المصلحة في الخروج على الملوك المستبدين الجائرين ; كما فعلت الأمة العثمانية إذ كونت قوة خرجت بها على سلطانها عبد الحميد فسلبت السلطة منه، وخلعته بفتوى من شيخ الإسلام فيها.
ومن دقق النظر في الأمثلة التي أوردها الشاطبي لمسألة المصالح المرسلة تبين له أن بعضها تدل عليه النصوص أو السنة العملية، ومنها ما يدل عليه القياس. فمن الأول كتابة القرآن في مصحف يجمعه كله، فإن تسمية الله تعالى إياه كتابا يدل على وجوب كتابته، واتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب له يكتبون بأمره كل ما نزل في وقته يدل على ذلك، وسبب عدم جمع النبي صلى الله عليه وسلم له في المصحف ظاهر لا يحتاج إلى إطالة الفكرة، وهو احتمال المزيد في كل سورة ما دام حيا،
ولا يمكن أن يتصور أحد ولا أن يجد شبهة على كون كتابته في صحف متفرقة هو مطلوب الشارع، وإنما تلبث أبو بكر رضي الله عنه في الأمر أولا على عادة أهل الروية في الأمور العظيمة، وناهيك بأوائل الأعمال التي تعرض على أصحاب المناصب العليا في مناصبهم. ومن الثاني حد السكر، قيل: إنه قياس على القذف، وقيل: إنه تعزير لا يجب التزام العدد فيه.
والحق الجلي الظاهر أن مسائل المعاملات التي يرجع فيها إلى الحكام من قضائية وسياسية وحربية ترجع كلها إلى الأصل الذي بينه حديث:
"لا ضرر ولا ضرار" بالتبع لآيات رفع المضارة في الإرث والزوجية أي رفع الضرر الفردي والمشترك، ومنه أخذت قاعدة دفع المفاسد وحفظ المصالح مع مراعاة ما علم من نصوص الشارع ومقاصده، وأمثلة هذا في أعمال الخلفاء الراشدين المالية والإدارية والحربية كثيرة جدا، على أن جماهير الفقهاء يصرحون دائما بإرجاع جميع الأحكام إلى القاعدة المذكورة آنفا، فقواعد العز بن عبد السلام الشافعي المشهود له بالاجتهاد المطلق أكثرها يدور على هذه القاعدة.
إنما فر أكثر علماء الأمة من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا مع اعتبارهم كلهم له كما قال القرافي خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها باجتهاد الأمراء والحكام. وهذا الخوف في محله، ولكن لم يق الأمة من أهواء الحكام كما ينبغي، إذ كان يوجد في عهد كل ظالم من علماء السوء من يمهد له الطريق ولو لبعض ما يريد من اتباع الهوى.
والطريقة المثلى لحفظ الحق وإقامة ميزان العدل: هي رفع قواعد الحكم على الأساس الذي شرعه الله تعالى للمسلمين بقوله:
{ وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38] وقوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59] كما فصلناه في تفسير هذه الآية في الجزء الخامس من التفسير لا بإنكار أصل المصالح ولا بالتضييق في تفريع الأحكام عليها. فإذا نيط ذلك بأولي الأمر أي أهل الحل والعقد الذين ينصبون الإمام (الخليفة) ويكونون أهل الشورى له ويكون هو مقيدا بما يقررونه فحينئذ لا يخشى من جعل مراعاة المصالح ذريعة للمفاسد ما يخشى منه في حال إقرار كل متغلب على الحكم مع التضييق في مسالك استنباط الأحكام، الذي جرى عليه جماهير الفقهاء. وإنما مثار المفاسد كلها أن يوسد الأمر إلى غير أهله. وأن يقر على الملك كل متغلب، ويرضى بتقليده كل جائر جاهل. فهذا هو الذي أضاع على المسلمين دينهم ودنياهم.
نتيجة ما تقدم.
علم مما تقدم أن المسائل الدينية المحضة، وهي: العقائد والعبادات والحظر والإباحة الدينيان، تؤخذ من نصوص القرآن، وبيان السنة لها بالقول أو العمل على الوجه الذي كان عليه الصدر الأول من الصحابة، فما أجمعوا عليه فلا عذر لأحد في مخالفته. وما اختلفوا فيه ينظر في دلائله، ويرجح بعضه على بعض، كما يأتي تفصيله في القسم الثالث من أقسام أحكام المعاملات، ولا يلتفت فيه إلى الشذوذ،
ولا يجوز بحال من الأحوال إحداث عبادة جديدة أو الإتيان بعبادة مأثورة على غير الوجه الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه رضي الله عنه لا بقياس ولا بدعوى إجماع لمن بعدهم ولا لمصلحة، ولا لغير ذلك من العلل والنظريات; لأن الله تعالى قد أكمل الدين أصوله وفروعه بكتابه وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونهانا عن السؤال المقتضي لزيادة التكاليف، وأخبرنا أن ما سكت عنه فهو عفو منه سبحانه، فمن زاد على ذلك شيئا كان مراغما لنص القرآن أو طاعنا في بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أو زاعما أنه أكمل منه علما وعملا بالدين كما قال الإمام مالك لمن أراد الإحرام بالحج من المسجد النبوي وقد تقدم.
وأما الأمور الدنيوية، من حلال وحرام وسياسة وقضاء وآداب فهي تنقسم بحسب الأدلة إلى ستة أقسام:
الأول: ما فيه نص محكم قطعي الرواية والدلالة لغة، وارد مورد التكليف الشرعي العام فالواجب أن يعمل به ولا مجال للاجتهاد فيه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه من النصوص الخاصة بموضوعه أو العامة كنفي الحرج ونفي الضرر والضرار، وكون الضرورات تبيح المحظورات بنص قوله تعالى:
{ إلا ما اضطررتم إليه } [الأنعام: 119] وكونها تقدر بقدرها وتزول بزوال مقتضيها.
الثاني: ما يدل عليه نص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه دلالة واضحة أجمع عليها أهل الصدر الأول أو عمل بها جمهورهم، وعرف شذوذ من خالف منهم، فالواجب في هذا عين الواجب فيما قبله بشرطه عند من عرفه.
الثالث: ما ورد فيه نص تكليفي غير قطعي الدلالة، أو حديث غير واه ولا صحيح، فاختلف فيه الصحابة أو غيرهم من علماء السلف وأئمة الفقه للاختلاف في صحة روايته أو صراحة دلالته. فمثل هذا يعمل فيه كل مكلف باجتهاد نفسه، ويعذر كل من خالفه فيما ظهر له أنه الحق لا يعيبه ولا ينتقده، كما اختلف السلف في بعض أحكام الطهارة والنجاسة، ولم يعب أحدهم مخالفه فيه، ولم يمتنع من الصلاة معه لا إماما ولا مقتديا، وكما فهم بعض الصحابة من آية البقرة في الخمر تحريمها وبعضهم عدم تحريمها، فعمل كل بما ظهر له ولم يعترض على غيره.
ومثله ما يستنبطه بعض العلماء من الكتاب والسنة في كل زمان، فمن ظهر له أن ذلك من الدين وأن كلام الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة عليه عمل به، ومن لم يظهر له ذلك فلا يكلفه تقليدا لمن استنبطه. وقد نقل عن أشهر المجتهدين من الفقهاء أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم وأن يأخذ بشيء من أقوالهم إلا إذا عرف مأخذه وظهر له صحة دليله، وعند ذلك يكون متبعا لما أنزل الله لا لآراء الناس، فلا يكون مخالفا لقوله تعالى:
{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [الأعراف:3].
وأما ما يتعلق بالأمور العامة من هذا القسم كالأحكام القضائية والسياسية فينبغي أن ينظر أولو الأمر ويتشاوروا فيه من حيث تصحيح النقل، ومن حيث طريق الدلالة على الحكم، فإذا ظهر لهم ما يقتضي إلحاقه بأحد الأقسام السابقة ألحقوه به فكان له حكمه، وإلا كان كالمسكوت عنه.
الرابع: ما ورد فيه نص غير وارد مورد التكليف كالأحاديث المتعلقة بالعادات من الأكل والشرب والطب ونحو ذلك العام - وهو ما يسميه العلماء إرشادا لا تشريعا - وكذا ما كان من قبيل الفتاوى الشخصية فلم يعمل به الجمهور لعدم الأمر بتبليغه، فالأولى والأفضل للمسلم أن يعمل بها ما لم يمنع من ذلك مانع من الشرع أو المصلحة والمنفعة العامة أو الخاصة; لأن المبالغة في الاتباع حتى في العادات مما يقوي الأمة، ويمكن الرابطة والوحدة بين المسلمين، ولا ينبغي لحكام المسلمين في مثل هذا أن يجبروا أحدا على فعله ولا على تركه، وإنما يحسن أن يكونوا قدوة صالحة في مثله.
الخامس: ما سكت عنه الشارع فلم يرد عنه فيه ما يقتضي فعلا ولا تركا فهو الذي عفا الله تعالى عنه رحمة منه وتخفيفا على عباده. فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يكلف عبدا من عبيده تعالى فعل شيء أو ترك شيء بغير إذن منه سبحانه، وإن ما أمرنا الله تعالى به من طاعة أولي الأمر منا خاص بأمر الدنيا ومصالحها ومشروط فيه ألا يكون في معصية الله تعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان في الصحيحين وأبو داود والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه:
"لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"
وأما أمر الدين فقد تم وكمل. وهو تعالى شارع الدين كما قال: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك } [الشورى: 13] إلخ. وكما قال: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها } [الجاثية: 18] والرسول صلى الله عليه وسلم هو مبلغ الدين كما قال تعالى: { إن عليك إلا البلاغ } [الشورى: 48] ومبينه كما قال: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44] فليس لأولي الأمر من المسلمين سلطان على أحد في أمر الدين المحض بزيادة على مدلول النصوص ولا نقصان منها، ومن ادعى ذلك أو ادعي له فقد جعل نفسه أو جعل شريكا لله تعالى أو اتخذ ربا من دونه { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21].
وقد مر تفصيل القول في كل مسألة من هذه المسائل حتى إن فيما أثبتناه هنا تكرارا وإعادة لبعض ما تقدم " وفي الإعادة إفادة " كما قيل ولا سيما إذا اختلف الأسلوب وتنوع التعبير. ثم قال عز وجل: