التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
٢
وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
٣
-الأنعام

تفسير المنار

افتتح الله كتابه بالحمد، ثم افتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها، الأولى " الأنعام " وهي آخر سورة كاملة في الربع الأول من القرآن، والثانية " الكهف " وهي مشتركة بين آخر الربع الثاني وأول الربع الثالث والثالثة والرابعة " سبأ " و " فاطر "، وهما آخر الربع الثالث، وليس في الربع الرابع سورة مفتتحة بالحمد، وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده الكامل، وكل منهما سمي نورا بل هما أعظم أنوار الهداية وفي الثالثة بخلق السماوات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة، وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج فيها والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة، والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء والتي تعرج فيها. فظهر بها أن السور الثلاث مفصلة لما أجمل في الأولى " الأنعام " مما حمد الله عليه، كما أنها مؤيدة لما فيها من إثبات التوحيد والرسالة والبعث.
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } الحمد هو الثناء الحسن والذكر بالجميل كما تقدم شرحه في سورة الفاتحة، وإسناد الحمد إلى الله تعالى خبر منه تعالى على المختار، والعبد يحكيه بالتلاوة مؤمنا به فيكون حامدا لمولاه، ويذكره في غير التلاوة إنشاء للحمد وتذكرا له، ويجوز أن يكون الحمد هنا إنشاء منه تعالى، وإن إنشاء الحمد بالجملة الخبرية جمع بين الخبر والإنشاء، أثنى سبحانه على نفسه بما علم به عباده الثناء عليه، فأثبت أن كل ثناء حسن فهو ثابت له بالاستحقاق وبما هو متصف به من الخلق والإيجاد والإعداد والإمداد. فذاته تعالى متصفة بجميع صفات الكمال وجوبا فالكمال الأعلى داخل في مفهوم حقيقتها أو لازم بين من لوازمه.
وقد وصف تعالى نفسه في مقام هذا الحمد بصفتين من صفاته الفعلية التي هي من موجبات الحمد له، وهما خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.
أما خلق السماوات والأرض فمعناه إيجاد هذه العوالم العلوية التي نرى كثيرا منها فوقنا، وهذا العالم الذي نعيش فيه إيجادا مرتبا منظما. وقد تقدم القول في معنى الخلق لغة وشرعا.
وأما جعل الظلمات والنور فهو في الحسيات بمعنى إيجادهما لأن هذا هو معنى الجعل المتعدي إلى مفعول واحد، وسيأتي بيان معناه في المعنويات. قال الزمخشري في الكشاف جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله: { وجعل الظلمات والنور } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله:
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } [الزخرف: 9]
والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك
{ وجعل منها زوجها } [الأعراف: 189] { وجعل الظلمات والنور } لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار { وجعلنا لهم أزواجا } [الرعد: 38] { أجعل الآلهة إلها واحدا } [ص: 5] اهـ.
وقد أخذه الرازي من غير عزو وزاد عليه قوله: وإنما حسن لفظ الجعل هنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر انتهى.
وقال أبو السعود: والجعل هو الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني. وفيه معنى التقدير والتسوية، وهذا عام له كما في الآية الكريمة وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة } الآية انتهى المراد منه، وفيه كلام آخر فيما يلابس مفعوله من الظروف، وقد بينا في تفسير قوله تعالى:
{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } [المائدة: 97] أن الجعل فيها خلق تكويني وأمر شرعي معا.
وقد بين الراغب في مفرداته وجوه استعمال الجعل فكانت خمسة فليراجعها في مفرداته من شاء.
والظلمة الحالة التي يكون عليها كل مكان ليس فيه نور، لا عدم النور أي فقده كما يوهمه كلام كثير من العلماء مع قولهم إن الظلمة هي الأصل كما سيأتي.
قال الراغب: الظلمة عدم النور، وقال: النور الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وقال: الضوء ما انتشر من الأجسام النيرة، ويقال: ضاءت النار وأضاءها غيرها انتهى.
وفرق بعضهم بين الضياء والنور بما لا محل لذكره هنا. ولا يوجد شيء من العالم أظهر ولا أغنى عن التعريف من المظاهر الحسية للرب تبارك وتعالى. على أن بيان حقيقته العلمية من أعسر الأمور، وكثيرا ما كان الخفاء من شدة الظهور، وأقرب ما نعرفه به للجمهور أن نقول: هو اشتعال يحدث في أجسام لطيفة منبثة في الهواء وفي الأجسام الكثيفة التي تستوقد بها النار.
والنور قسمان: حسي صوري، وهو ما يدرك بالبصر، ومعنوي عقلي أو روحي وهو ما يدرك بالبصيرة، وقد أطلقت كلمة النور في التنزيل على القرآن، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في سورتي النساء والمائدة.
وقد أفرد النور وجمعت الظلمة هنا وفي كل آية قوبل فيها بين النور والظلام سواء كان ذلك في الحسي أو المعنوي، بل لم يذكر النور في القرآن، إلا مفردا والظلمة إلا جمعا وحكمة ذلك أن النور شيء واحد وإن تعددت مصادره، ولكنه يكون قويا ويكون ضعيفا وأما الظلمة فهي تحدث بما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهي كثيرة جدا، وكذلك النور المعنوي شيء واحد في كل نوع من أنواعه أو جزئي من جزئياته، ويقابل كلا منهما ظلمات متعددة، فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير، والهدى واحد لا يتعدد والضلال الذي يقابله كثير، مثال ذلك توحيد الله تعالى وما يقابله من التعطيل والشرك في الألوهية بأنواعه، والشرك في الربوبية بأنواعه وفضيلة العدل وما يقابلها من أنواع الظلم وقد بينا ذلك في تفسير سورتي البقرة والمائدة.
وقدمت الظلمات في الذكر على النور لأن جنسها مقدم في الوجود، فقد وجدت مادة الكون وكان دخانا مظلما أو سديما كما يقول علماء الفلك ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال من شدة الحركة كما يقولون، ويشير إليه أو يؤيده حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والترمذي
"إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره وفي رواية ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل"
والظاهر أن هذا النور هو المعنوي من حيث إنه مشبه بالنور الحسي في تكوينه.
وأما حديث عائشة عند مسلم
"خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" فالظاهر أن النور فيه هو الحسي، ولا يقتضي ذلك أن ترى الملائكة كما يرى النور فالفرق بين الشيء وما خلق منه أصله عظيم كما نراه في أنفسنا. ويجوز أن يكونوا من نور غير هذا الذي نراه بأعيننا.
وسبق الظلمات المعنوية للنور المعنوي أظهر، فإن نور العلم والهداية كسبي في البشر وما كان غير كسبي في ذاته كالوحي فتلقيه كسبي وفهمه والعمل به كسبيان، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور، فالرسول لا يولد رسولا وإنما يؤتى الرسالة إذا بلغ أشده واستوى، والعالم لا يولد عالما، ولا الفاضل فاضلا " إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم "
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } [النحل: 78].
وقد اختلف مفسرو السلف في المراد من الظلمات والنور هنا فأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس " وجعل الظلمات والنور " قال: الكفر والإيمان. وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: " خلق الله السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار " إلخ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: الظلمات ظلمة الليل والنور نور النهار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة. قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا وإنما خلق النور وكل شيء حسن، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا أن قوله تعالى: { خلق السماوات والأرض } رد على الزنادقة المنكرين لوجود الله تعالى وقوله: { وجعل الظلمات والنور } رد على المجوس الذين زعموا أن الظلمة والنور هما المدبران وقوله: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } رد على مشركي العرب ومن دعا دون الله إلها.
وجملة القول أن بعضهم قال بأن المراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية وبالنور النور الحسي، وبعضهم قال بما يقابل ذلك، وفي القول الأول رد على المجوس أو الثنوية الذين زعموا أن للعالم ربين، أحدهما النور وهو الخالق للخير، والثاني الظلمة وهو خالق الشر.
ويجوز الجمع بين إرادة الحسي والمعنوي من كل من اللفظين. وقال الواحدي: الأول حمل اللفظين عليهما واستشكله الرازي ; لأنه مبني على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا، فإن الجعل يشمل الخلق والأمر أي الشرع كما تقدم فيفسر جعل كل نور بما يليق به، فجعل الدين شرعه والقرآن إنزاله والرسول إرساله والعلم والهدى تهيئة أسبابهما.
وقد ذكر خلق السماوات على خلق الأرض لأنه أعظم وأشرف، وقيل: لأنها خلقت قبل الأرض كما ذكر عن قتادة آنفا والأول أظهر، وفي الثاني خلاف معروف.
{ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } هذه الجملة معطوفة على جملة (الحمد لله) أو على جملة " خلق السماوات والأرض " وقد عطفت بثم الدالة على بعد ما بين مدلولي المعطوف والمعطوف عليه; لإفادة استبعاد ما فعله الكافرون وكونه ضد ما كان يجب عليهم للإله الحقيق بجميع المحامد; لكونه هو الخالق لجميع الكون العلوي والسفلي وما فيه من الظلمات الحسية والمعنوية، والهادي لما فيه من النور الذي يهتدي به الموفقون في كل ظلمة منها، كأنه قال: وهم مع ذلك يعدلون به غيره أي يجعلونه عدلا له، أي عديلا مساويا له في كونه يعبد ويدعى لكشف الضر وجلب النفع، فهو بمعنى يشركون به، ويتخذون له أندادا
وقيل: يعدلون بأفعاله عنه وينسبونها إلى غيره ممن لم يجعله سببا لتلك الأفعال، كالمعبودات التي ينسبون إليها ما ليس لها أدنى تأثير فيه، وأدنى من هذا أن تنسب إلى الأسباب مع نسيان فضل الله الذي سخر لهم تلك الأسباب، وإنما الواجب معرفة السبب والخالق الواضع للأسباب رحمة منه بالعباد،
وقيل: معناه يعدلون عن الحق وهو التوحيد وما يستلزمه من حمد الخالق وشكره من قولهم: عدل عن الشيء عدولا إذا جار عنه وانحرف، ومال إلى غيره وانصرف.
{ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون } هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين، وهو التراب الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين وقد خلق الله آدم أبا البشر من الطين كما خلق أصول سائر الأحياء في هذه الأرض إذ كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي، بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين فبنية الإنسان مكونة من الغذاء، ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل وما يلقحه من ماء الذكر، فهو متولد من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات من الطين، ومن تفكر في هذا ظهر له ظهورا جليا أن القادر عليه لا يعجزه أن يعيد هذا الخلق كما بدأه، إذا هو أمات هذه الأحياء بعد انقضاء آجالها التي قضاها لها في أجل آخر يضربه لهذه الإعادة بحسب علمه وحكمته.
والأجل في اللغة هو المدة المضروبة للشيء، أي المقدار المحدود من الزمان، وقضاء الأجل يطلق على الحكم به وضربه للشيء وعلى القيام بالشيء وفعله، إذ أصل القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا كما قال الراغب
مثال الأول: أن شعيبا عليه السلام قضى أجلا لخدمة موسى له ثماني سنين وأجلا آخر اختياريا سنتين، فهذا قضاء قولي، وقد قضى موسى عليه السلام الأجل المضروب كما قال تعالى:
{ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [القصص: 29] الآية وذلك قضاء فعلي.
والقضاء قد يكون نفسيا، كأن يضرب الإنسان في نفسه أجلا لعمل يعمله بأن يكون في نهار أو ساعة من نهار، ويعد هذا من القضاء القولي; لأنه من متعلق الكلام النفسي على أن الكلام إنما يكون على مقتضى العلم وقد يقضيه ويفصل فيه كتابة، فالقضاء القولي يشمل الكلام النفسي وما هو مظهر له من لفظ أو كتاب أو غير ذلك.
وقد أخبرنا عز وجل أنه قضى لعباده أجلين أجلا لمدة حياة كل فرد منهم ينتهي بموت ذلك الفرد وأجلا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء عمر الدنيا، وقيل: إن الأجل الآخر هو أجل حياة مجموعهم الذي ينقضي بقيام الساعة وقيل غير ذلك، جاء في تفسير الحافظ ابن كثير في تفسير الأجلين ما نصه: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس " ثم قضى أجلا " يعني الموت " وأجل مسمى عنده " يعني الآخرة. (وعزاه أيضا إلى عشرة من التابعين) وقول الحسن في رواية عنه: " ثم قضى أجلا " وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت " وأجل مسمى عنده " وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث هو يرجع إلى ما تقدم وهو تقدير الأجل الخاص وهو عمر كل إنسان. وتقدير الأجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهاؤها وقضاؤها وزوالها والمصير إلى الدار الآخرة.
وعن ابن عباس ومجاهد: " ثم قضى أجلا " يعني مدة الدنيا " وأجل مسمى " يعني عمر الإنسان إلى حين موته. وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا:
{ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار } [الأنعام: 60] الآية وقال عطية عن ابن عباس: " ثم قضى أجلا " يعني النوم يقبض الله فيه الروح ثم يرجع أي الروح إلى صاحبه عند اليقظة " وأجل مسمى عنده " يعني أجل موت الإنسان. وهذا قول غريب. انتهى ما أورده ابن كثير، وهذا القول الذي استغربه مأخوذ من قوله تعالى في سورة الزمر: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } [الزمر: 42] ولكن الأجل المسمى هنا هو الموت ولم يسم التوفي الأول وهو النوم أجلا، على أن القرآن استدل على البعث بالنوم واليقظة في آية الأنعام الآتية وآية الزمر وغيرهما كقوله في سورة النمل: { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا } [النمل: 86]. هذا وإن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهي بالموت فراجع في ذلك سورة [هود: 3] و[النحل: 61] و[طه: 129] و[العنكبوت: 53] و[فاطر: 45] و[الزمر: 42] و[غافر: 67] و[نوح: 4] وقد ذكر بعضها آنفا
فإذا عد هذا مرجحا يتسع مجال تأويل الأجل الأول في الآية وهو الذي لم يوصف بالمسمى، فيحتمل ما تقدم من أنه النوم وغير ما تقدم من الأقوال التي قالها مفسرو الخلف ومنها ما عزاه الرازي إلى حكماء الإسلام من " أن لكل مسلم أجلين أحدهما الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني، وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب العارضة كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة " انتهى. ومنها أنه ما انقضى من عمر كل أحد. ومنها قول أبي مسلم: إنه ما انقضى من آجال الأمم الماضية. والمسمى عنده أجل من يأتي من الأمم لأنه لا يزال غيبا.
ومعنى " مسمى " عنده أي لا يعلمه، غيره كذا قالوا. وهذا إنما يظهر إذا أريد بهذا الأجل الساعة أي القيامة; لأنها هي التي لم يطلع عليها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. وأما إذا أريد به الموت فالأظهر أن يكون معنى كونه مسمى عنده أنه مكتوب عنده في الكتاب الذي كتب به مقادير السماوات والأرض وفيما يكتبه الملك عندما ينفخ الروح في الجنين، كما ثبت في حديث الصحيحين " ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد " فمعنى العندية إذا اختصاص ذلك بالعالم العلوي الذي لا يصل إليه كسبنا، فهي عندية تشريف وخصوصية وهذه الكتابة كالعلم الإلهي بالشيء لا تقتضي الجبر ولا سلب اختيار العبد، كما بيناه في مواضع كثيرة.
وقوله تعالى: { ثم أنتم تمترون } هو كقوله قبله: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } في دلالته على استبعاد الامتراء وهو الشك في البعث من الإله القدير الذي خلقكم وقدر آجالكم، فدل ذلك على قدرته وحكمته دلالة لا تبقي لاستبعاد البعث وجها، فإذا كان سبب الاستبعاد عدم رؤية مثال لهذا البعث وهو الواقع فمثله أنكم لا ترون مثلا لخلق أصلكم وجدكم الأول من تراب، ولا لخلق غيركم من أنواع الحيوان; فإن التولد الذاتي لا يقع في هذه الأزمان، خلافا لما كان يتوهمه علماء القرون الماضية في تولد دود الفاكهة والجبن والفيران.
{ وهو الله في السماوات وفي الأرض } اسم الجلالة (الله) علم لرب العالمين خالق السماوات والأرض، وقد كان هذا معروفا عند مشركي العرب. قال تعالى في سورة العنكبوت:
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } [العنكبوت: 61] ومثلها في سورة الزمر: 39: 38 وفي معنى هذا السؤال والجواب آيات كثيرة وردت في سياق إثبات التوحيد والبعث راجع من آية 80 إلى 90 من سورة المؤمنون وآية 60 وما بعدها من سورة النمل. فمن هذه الآيات تعلم أن اسم الجلالة يشمل هذه الصفات أو يستلزمها، فمعنى الآية أن الله تعالى هو الله المتصف بهذه الصفات المعروفة المعترف له بها في السماوات والأرض، كما تقول: إن حاتما هو حاتم في طي وفي جميع القبائل أي هو المعروف بالجود المعترف له به في كل قومه وفي غيرهم، وأن فلانا هو الخليفة في مملكته وفي جميع البلاد الإسلامية، وفي معنى قوله تعالى في أواخر الزخرف { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم } [الزخرف: 84] إلى آخر الآيات،
وجعل بعضهم المعنى الاشتقاقي في الاسم الكريم إما المعبود وإما المدعو، وهذا هو معنى " الإله " وهو داخل في مفهوم الاسم الأعظم، والمعنى على هذا: كمعنى آية الزخرف أي وهو المعبود أو المدعو في السماوات والأرض، وقال الحافظ ابن كثير: إنه الأصح من الأقوال،
وفي الآيات وجوه أخرى: فمنها أنه المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما ومنها أنه الذي يقال له الله فيهما لا يشرك به في هذا الاسم وقيل: إن " في السماوات وفي الأرض " متعلق بما بعده، وفيه إشكال نحوي وإشكال معنوي. وزعمت الجهمية أن المعنى أن الله تعالى كائن في السماوات والأرض، ومنه أخذوا قولهم. إنه في كل مكان، والله أعلى وأجل مما قالوا، فهو بائن من خلقه غير حال فيه كله ولا في جزء منه، وما صح من إطلاق كونه في السماء ليس معناه إنه حال في هذه الأجرام السماوية كلها أو بعضها، وإنما هو إطلاق لإثبات علوه على خلقه غير مشابه لهم في شيء بل هو بائن منهم ليس كمثله شيء.
وأما جملة { يعلم سركم وجهركم } فهي تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم أو خبر ثان، قيل: أو ثالث (ويعلم ما تكسبون) من الخير والشر فيجازيكم عليه.