التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
١٢٨
-الأنعام

تفسير المنار

اشتمل سياق الآيات السابقة لهذه الآيات على وعيد بما أعد الله من العذاب للمجرمين، ووعد بالنعيم في دار السلام للمؤمنين في إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه. وقفى عليه في هذه الآيات بذكر ما يكون قبل ذلك الجزاء من الحشر، وبعض ما يكون في يومه من الحساب وإقامة الحجة على الكفار، وسنة الله في إهلاك الأمم، وجعل درجات الجزاء بالعمل، قال: { ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } قرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب " يحشرهم " بالياء والباقون " نحشرهم " بنون العظمة. والمعشر الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا. وقال في لسان العرب: ومعشر الرجل أهله. والمعشر الجماعة متخالطين كانوا أو غير ذلك. قال ذو الأصبع العدواني:

وأنتم معشر زيد على مائة فأجمعوا أمركم طرا فكيدوني

والمعشر والنفر والقوم والرهط معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء. قال: والعشيرة أيضا للرجال، والعالم أيضا للرجال دون النساء. وقال الليث: المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر المشركين، والمعشر جماعات الناس انتهى. ثم ذكر أن المعشر يطلق على الإنس والجن واستشهد بالآية { يامعشر الجن قد } وإنما سمي كل من الجن والإنس لأنهم جماعة من عقلاء الخلق.
وليس المعنى أن لفظ المعشر مرادف للفظ الإنس وللفظ الجن وإنما يضاف إليه إضافة بيانية. والظاهر أنه مشتق من المعاشرة. ونقل الآلوسي عن الطبرسي أن المعشر " الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنه تمام العقد " انتهى. وهو قول لا دليل عليه ولا نقل يثبته فيما نعلم.
تكرر في التنزيل مثل هذا التعبير في التذكير بيوم القيامة والإعلام بما يكون فيه من الأهوال والحساب والجزاء كقوله تعالى في سورة يونس:
{ { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم } [يونس: 28] وقوله في سورة الفرقان: { { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } [الفرقان: 17] الآية. وقوله فيها: { ويوم تشقق السماء بالغمام 25 } الآيات. وقوله في سورة القصص: { { ويوم يحشرهم } [القصص: 62. 65. 47] الآيات.
وجمهور المفسرين يجعلون كلمة " يوم " في أمثال هذه الآيات مفعولا لفعل محذوف تقديره، " واذكر "، وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي واذكر لهم فيما تتلوه عليهم يوم يكون كذا وكذا، لأن هذا معهود ومعروف عندهم ويدل عليه
{ { واذكر في الكتاب إبراهيم } [مريم: 41] وأمثاله بعده.
وبعضهم يجعله ظرفا لفعل مقدر إن لم يوجد بعده ما يصلح أن يكون عاملا فيه مذكورا أو مقدرا، ومنه فعل القول المقدر هنا قبل النداء فيقال هنا: ويوم نحشرهم جميعا يقول لمعشر الجن منهم يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس. فالضمير في " يحشرهم " للجن والإنس الذين سبق ذكرهم في هذه السورة بقوله:
{ { وجعلوا لله شركاء الجن } [الأنعام: 100] وقوله: { { شياطين الإنس والجن } [الأنعام: 112] وهو أقرب، والشياطين هم الأشرار من الفريقين، فهم المرادون هنا لأن الخطاب لهم لا لجميع الجن. وفيمن ضل من الإنس بهم لا في جميع الإنس. قال الحافظ ابن كثير: يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. (قال) ومعنى قوله: قد استكثرتم من الإنس - أي من إغوائهم وإضلالهم كقوله تعالى: { { ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } [يس: 60 - 62] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } يعني أضللتم منهم كثيرا. وكذلك قال مجاهد والحسن وقتادة. انتهى.
فالاستكثار هنا أخذ الكثير لا طلبه، كقولهم استكثر الأمير من الجنود، أي أخذ كثيرا، وفلان من الطعام أي أكل كثيرا. والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم; لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم في الحق والخير أو في الباطل والشر.
{ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } أولياؤهم هم الذين تولوهم. أي أطاعوهم في وسوستهم وما ألقوه إليهم من وحي الغرور، والاستمتاع طلب الشيء لجعله متاعا. أو جعله متاعا بالفعل.
والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا؛ لأن أصل معناه الطول والارتفاع. أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس في جواب الرب تعالى: يا ربنا قد تمتع كل منا بالآخر، أي بما كان للجن من اللذة في إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها، وبما كان لنا في طاعة وسوستهم من اللذة في اتباع الهوى والانغماس في اللذات.
قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل بالأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي - فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة. انتهى.
ونقله ابن كثير عن ابن جرير بلفظ: وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم فيقولون قد سدنا الإنس والجن انتهى. ومقتضاه أن المشركين من أهل الجاهلية يظلون يوم القيامة على خرافاتهم التي كانوا عليها في الدنيا، إذ كانوا يخافون من الجن في أسفارهم ويستعيذون بعظمائهم من أذى دهمائهم.
وهو مستبعد وأبعد منه اعتذارهم به لله تعالى، وأبعد منهما جعله هو المراد من الآية، وهي عامة لجميع من استمتع من الفريقين بالآخر ممن كان يستعيذ بعظماء الجن وسادتهم من شرارهم في الأودية كعرب الجاهلية،
وممن لا يعرف هذا من مصدق بوجود الجن وإن لم يخف منهم ولم يستعذ بسيد من مسود، ومن مكذب بوجودهم أو غير مصدق ولا مكذب، فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن مما يزين له الباطل والشر ويغريه بالفسق والفجور كما تقدم مفصلا. فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر، ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض والأدواء، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها، بل إحداث الأمراض الوبائية وغيرها بالفعل، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما هو عليه بألوف من الأضعاف،
ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو اليونان أو العرب: إن في الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام، وتنمى فيها بسرعة عجيبة فتكون ألوف الألوف، وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة - لقالوا إن هذا القول من تخيلات المجانين. ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد اكتشاف ذلك في الأجساد، وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفا من السنين أولى.
وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام، ولو صرح به قبل اختراع هذه المناظير التي يرى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادا لما جاء به الرسل من خبر الجن. ففي الحديث: " تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة " والنسمة في اللغة كل ما فيه روح، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنفس { بالتحريك } أي تواتره الذي يسمى الربو والتهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تجوز لا يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر، وروي عن عمرو بن العاص: اتقوا غبار مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة.
وهو بعيد عن تأويلهم، وظاهر فيما يقوله الأطباء اليوم، وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه وعمرو من فصحاء قريش جهابذة هذا اللسان.
{ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، ولك الأمر فينا. فالمراد من ذكر بلوغ الأجل لازمه وهو إظهار الحسرة والندامة على ما كان من تفريطهم في الدنيا، والاضطرار إلى تفويضهم الأمر إلى الرب جل وعلا،
ولم يذكر هنا قولا للمتبوعين من الشياطين، وعلله بعضهم بأن الاقتصار على حكاية كلام الضالين دون المضلين يؤذن بأن المضلين قد أفحموا فلم يتكلموا، والصواب أن الله تعالى يذكر لنا بعض ما يكون يوم القيامة في آي متفرقة من سور متعددة; لأن المراد به - وهو العظة والاعتبار - ينبغي أن يكون متفرقا لما بيناه من حكمته في مواضع من هذا التفسير:
وقد قال تعالى في الفريقين:
{ { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } [العنكبوت: 25] وبين في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض،
وقال بعده:
{ { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } [البقرة: 167] وحكى في " سورة إبراهيم " أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وقول المتكبرين المتبوعين لهم وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوه.
بعد ما تقدم ينتظر السامع والقارئ جواب الله تعالى لهم وقد بينه بقوله: { قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } النار: اسم لدار الجزاء المعدة للمشركين والمجرمين.
والمثوى: مكان الثواء والثواء نفسه وهو الإقامة والسكنى. والخلود: المكث الثابت الطويل غير المؤقت كمكث أهل الوطن في بيوتهم المملوكة لهم فيه، أي تثوون فيها ثواء خلود أو مقدرين الخلود موطنين أنفسكم عليه، إلا ما شاء الله تعالى مما يخالف ذلك فكل شيء بمشيئته. وهذا الجزاء يقع باختياره فهو مقيد بها، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل لأن مشيئته نافذة في كل شيء تتعلق به قدرته الكاملة وسلطانه الأعلى
ولكن هل يشاء شيئا من ذلك أم لا؟ ذلك مما يعلمه هو سبحانه حق العلم وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه. وإنما تتعلق الإرادة بما يقتضيه العلم والحكمة، وقد بين ذلك بقوله: { إن ربك حكيم عليم } أي حكيم فيما تتعلق به مشيئته من جزائهم المنصوص عليه في كتابه، عليم بما يستحقه كل من الفريقين، وفي هذا الاستثناء مدلوله وتأويله وغايته، والبشر لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وإنما تكلم من تكلم في الاستثناء هنا وفي سورة هود بالتأول للآيات الواردة في الجزاء والجمع بينها للجزم بأن الاختلاف والتعارض في كتاب الله تعالى محال. وكذا يتأول ما ورد في الأحاديث المبينة لما أنزله تعالى، ومنها أحاديث سبق الرحمة وغلبها على الغضب وسعتها لكل شيء وعمومها.
أما ما ورد في التفسير المأثور في الاستثناء هنا فيؤيد ما جرينا عليه من تفويض الأمر فيه إلى الله تعالى وعدم الحكم على مشيئته في هذا الأمر الغيبي، وهو ما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنة ولا نارا. وأما الاستثناء في سورة هود فقد ذكروا في تأويله عدة روايات منها قول قتادة: الله أعلم بثنياه، ولأهل التفسير باللغة والجمع بين النقل والعقل فيها عدة آراء.
وإننا نعقد لبيان ما ورد عن السلف في مسألة أبدية النار بالمعنى الذي عليه المتكلمون وهو عدم النهاية والانقضاء، وما فيه من المذاهب والآراء، لأن هذه المسألة فيها نظريات دقيقة، وروايات عن بعض السلف والخلف غريبة، وشبهات لكثير من الناس خطرة، فيجب التوسع فيها.
{ فصل في الخلاف في أبدية النار وعذابها }
نلخص في هذا الفصل أولا ما ورد في { الدر المنثور في التفسير بالمأثور } للسيوطي من الروايات في آية هود، وهي قوله تعالى بعد تقسيم الناس في يوم القيامة إلى شقي وسعيد وكون الأشقياء في النار:
{ { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } [هود: 107] ونبدأ منها بحديث مرفوع انفرد ابن مردويه بروايته عن جابر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية إلى قوله: { إلا ما شاء الله } وقال: " إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل ".
ومقتضاه أن الوعيد في أهل النار مقيد بالمشيئة المبهمة بخلاف الجنة كما سيأتي، وما ذكر في إخراج أناس هل يجوز في الجميع أم لا؟ وهل الذين شقوا في الآية هم الكفار أم جميع من يدخل النار أم هم عصاة المؤمنين؟ أقول: المتبادر في المسألة الأخيرة الأول كما قاله بعض المحققين وسيأتي بيانه،
وفيه عن ابن عباس أن الآية في أهل الكبائر الذين يخرجون من النار بالشفاعات. وعنه في الاستثناء قال: فقد شاء الله أن يخلد هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة.
وعن خالد بن معدان في الاستثناء قال: في أهل التوحيد من أهل القبلة. ومثله عن الضحاك، وقال قتادة: يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء (أي من الخوارج الذين يقولون بخلود أصحاب الكبائر)
وعن ابن عباس أن استثناء الله أن يأمر النار أن تأكلهم.
وعن السدي أن الآية منسوخة بما دل من الآيات المدنية على الخلود الدائم.
وعن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله الأنصاري أو عن أبي سعيد الخدري أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله، يقول حيث كان في القرآن { خالدين فيها } تأتي عليه.
وعن أبي نضرة قال: ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية: { إن ربك فعال لما يريد } وعن عمر بن الخطاب: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وعن أبي هريرة: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد.
وقرأ
{ { فأما الذين شقوا } [هود: 106] وعن إبراهيم النخعي ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها. زاد ابن جرير عنه: ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وعن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا. انتهى التلخيص.
ونقل الآلوسي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين.
وقال ابن جرير بعد أن أورد الأقوال في الآية والروايات في كل قول، وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة فعرفنا ثنياه بقوله: { عطاء غير مجذوذ } [هود: 108] أنها في الزيادة على مدة السموات والأرض، قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان اهـ.
وقد لخص صاحب { جلاء العينين } ما ورد في الدر المنثور من الروايات في انتهاء عذاب النار ثم قال: وفي شرح عقيدة الإمام الطحاوي بعد كلام طويل ما نصه:
{ السابع } أنه سبحانه يخرج منها من شاء كما ورد في السنة ثم يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه. { الثامن } أن الله تعالى يخرج منها من شاء - كما ورد في السنة - ويبقي فيها الكفار بقاء لا لانقضاء كما قال الشيخ يعني الطحاوي. وما عدا هذين القولين من الأقوال المتقدمة ظاهر البطلان. وهذان القولان لأهل السنة ولينظر في دليلهما. ثم أورد آية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها ثم آية هود التي لخصنا ما ورد فيها بما تقدم وغير ذلك.
وأقول: على هذه الروايات بنيت الأقوال والمذاهب في أبدية النار وعدم نهايتها، وفي ضده، ويدخل فيه أنها تفنى كما تقول الجهمية وينتهي عذابها، أو يتحول إلى نعيم كما قال الشيخ محيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجيلي من الصوفية.
تفصيل ابن القيم للمسألة:
وقد استوفى ذلك بالإسهاب المحقق ابن القيم في كتابه { حادي الأرواح } فقال:
{ فصل } وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام: فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين. قلت هاهنا أقوال سبعة:
{ أحدها } أن من دخلها لا يخرج منها أبدا، بل كل من دخلها لا يخرج منها أبدا، بل كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد بإذن الله وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
{ والثاني } أن أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم. وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي { قال في فصوصه } الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز
{ { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } [إبراهيم: 47] لم يقل وعيده، بل قال: { { ونتجاوز عن سيئاتهم } [الأحقاف: 16] مع أنه توعد على ذلك، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح.

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد والأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاين

وهذا في طرف، والمعتزلة الذين يقولون: لا يجوز على الله أن يخلف وعيده بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب في طرف، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلا، وهذا عنده لا يعذب بها أحدا أصلا. والفريقان مخالفان لما علم بالاضطرار أن الرسول جاء به وأخبر به عن الله عز وجل.
{ الثالث } قول من يقول: إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى - في القرآن - فيه فقال تعالى:
{ { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 80، 81] وقال تعالى: { { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } [آل عمران: 23، 24] فهذا القول إنما هو قول أعداء الله اليهود فهم شيوخ أربابه والقائلين به، وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام على فساده. قال تعالى: { { وما هم بخارجين من النار } [البقرة: 167] وقال: { { وما هم منها بمخرجين } [الحجر: 48] وقال: { { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } [الحج: 22] وقال تعالى: { { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } [السجدة: 20] وقال تعالى: { { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } [فاطر: 36] وقال تعالى: { { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [الأعراف: 40] وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة.
{ الرابع } قول من يقول: يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب، حكاه شيخ الإسلام. والقرآن والسنة أيضا يردان على هذا القول كما تقدم.
{ الخامس } قول من يقول: بل تفنى بنفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته. وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.
{ السادس } قول من يقول: تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادا لا يتحركون ولا يحسون بألم. وهذا قول أبي الهذيل العلاف إمام المعتزلة طردا لامتناع حوادث لا نهاية لها، والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم.
{ السابع } قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها، قال شيخ الإسلام وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم، وقد روى عبد بن حميد وهو من أجل أئمة الحديث في تفسيره المشهور: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، قال قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. وقال: حدثنا حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه.
ذكر ذلك في تفسير ثابت عند قوله تعالى:
{ { لابثين فيها أحقابا } [النبأ: 23] فقد رواه عبد وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة عن هذين الجليلين سليمان بن حرب، وحجاج بن منهال وكلاهما عن حماد بن سلمة وحسبك به، وحماد يرويه عن ثابت وحميد وكلاهما يرويه عن الحسن، وحسبك بهذا الإسناد جلالة، والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به وقال: قال عمر بن الخطاب، ولو قدر أنه لم يحفظ عن عمر فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد، مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا، فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأئمة لكانوا أول منكر له،
قال: ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها، فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم،
"أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون" ولا يناقض هذا قوله تعالى: { خالدين فيها } وقوله: { وما هم منها بمخرجين } بل ما أخبر الله به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه، لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا لم تبق نارا ولم يبق فيها عذاب.
قال أرباب هذا القول: وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى: { قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا. قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصا بأهل القبلة فإنه سبحانه قال: { ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } وأولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعا، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين كما قال تعالى:
{ { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } [الأعراف: 27] وقال تعالى: { { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } [النحل: 99، 100] وقال تعالى: { { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } [الأعراف: 201، 202] وقال تعالى: { { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } [الكهف: 5] وقال تعالى: { { فقاتلوا أولياء الشيطان } [النساء: 76] وقال تعالى: { { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [الحشر: 19] وقال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } { 121 } والاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشياطين النار، فمن هاهنا قال ابن عباس: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه.
{ قالوا }: وقول من قال: إن { إلا } بمعنى سوى أي سوى ما شاء الله أن يزيدهم من أنواع العذاب وزمنه لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه، وأن الذي يفهمه المخاطب مخالفة ما بعد { إلا } لما قبلها.
{ قالوا }: وقول من قال: إنه لإخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان كزمان البرزخ والموقف ومدة الدنيا أيضا لا يساعد عليه وجه الكلام، فإنه استثناء من جملة خبرية مضمونها أنهم إذا دخلوا النار لبثوا فيها مدة دوام السموات والأرض إلا ما شاء الله، وليس المراد الاستثناء قبل الدخول، هذا ما لا يفهمه المخاطب،
ألا ترى أنه سبحانه يخاطبهم بهذا في النار حين يقولون: { ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } فيقول لهم حينئذ: { النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } وفي قوله: { ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } نوع اعتراف واستسلام وتحسر، أي استمتع الجن بنا واستمتعنا بهم فاشتركنا في الشرك ودواعيه وأسبابه، وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك، وانقضت آجالنا وذهبت أعمارنا في ذلك ولم نكتسب فيها رضاك، وإنما كان غاية أمرنا في مدة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض،
فتأمل ما في هذا من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه، وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض، ولم يستمتعوا بعبادة ربهم ومعرفته وتوحيده ومحبته وإيثار مرضاته. وهذا من نمط قولهم:
{ { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [الملك: 10] وقوله: { { فاعترفوا بذنبهم } [الملك: 11] وقوله: { { فعلموا أن الحق لله } [القصص: 75] ونظائره، والمقصود أن قوله: { إلا ما شاء ربك } عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصا بهم أو شاملا لهم ولعصاة الموحدين، وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له.
ولما رأت طائفة ضعف هذا القول قالوا: الاستثناء راجع إلى مدة البرزخ والموقف وقد تبين ضعف هذا القول.
ورأت طائفة أخرى أن الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار. قالوا والمعنى أنكم في النار أبدا إلا ما شاء الله أن يعذبكم بغيرها وهو الزمهرير وقد قال تعالى:
{ { إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا } [النبأ: 21 - 23]
{ قالوا }: والأبد لا يقدر بالأحقاب، وقد قال ابن مسعود في هذه الآية: ليأتين على جهنم زمان وليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا، وعن أبي هريرة مثله حكاه البغوي عنهما ثم قال: ومعناه عند أهل السنة - إن ثبت - أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.
{ قالوا }: قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو، وقد سأل حرب إسحاق بن راهويه عن هذه الآية فقال: سألت إسحاق قلت قول الله تعالى:
{ { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } [هود: 107] فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي في القرآن كله { إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } قال المعتمر قال: أتى على كل وعيد في القرآن.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بلج سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا.
حدثنا عبيد الله، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: ما أنا بالذي لا أقول إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد. وقرأ قوله:
{ { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } [هود: 106] الآية. قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين.حدثنا أبو معن، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله أو بعض أصحابه في قوله: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } قال هذه الآية تأتي على القرآن كله.
وقد حكى ابن جرير هذا القول في تفسيره عن جماعة من السلف فقال: " وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكل من دخلها، ذكر من قال ذلك " ثم ذكر الآثار التي نذكرها. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله. يقول: حيث كان في القرآن { خالدين فيها } تأتي عليه، قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه،
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى، أنبأنا عبد الرزاق فذكره. قال: وحدثت عن المسيب، عمن ذكره، عن ابن عباس { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } قال: لا يموتون وما هم منها بمخرجين ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، قال: استثنى الله: قال أمر الله النار أن تأكلهم، قال وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقابا.
حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن بيسان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا. وحكى ابن جرير في ذلك قولا آخر فقال: وقال آخرون: أخبرنا الله عز وجل بمشيئته لأهل الجنة فعرفنا معنى ثنياه بقوله:
{ { عطاء غير مجذوذ } [هود: 108] وأنها في الزيادة على مقدار مدة السموات والأرض قالوا: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة وجائز أن تكون في النقصان،
حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } فقرأ حتى بلغ { عطاء غير مجذوذ } فقال: أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: { عطاء غير مجذوذ } ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وقال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جبير بن عرفة، حدثنا يزيد بن مروان الخلال، حدثنا أبو خليد، حدثنا سفيان، يعني الثوري عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } [هود: 106، 107] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل" وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولها: خلافا لمن زعم أنه قبل الدخول، ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار
وهذا حق بلا ريب، وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها وأكلها لمن فيها وأنهم يعذبون فيها دائما ما دامت كذلك وما هم منها بمخرجين، فالحديث دل على أن بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل. وأن الاستثناء إنما هو فيما بعد دخولها لا فيما قبله، وعلى هذا فيكون معنى الاستثناء إلا ما شاء ربك من الأشقياء فإنهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء نوعين: نوعا يخرجون منها، ونوعا يخلدون فيها، فيكونون من الذين شقوا أولا ثم يصيرون من الذين سعدوا فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين.
قالوا: وقد قال الله تعالى:
{ { إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا } [النبأ: 21 - 28] فهذا صريح في وعيد الكفار والمكذبين بآياته. ولا يقدر الأبدي بمدة الأحقاب ولا غيرها. كما لا يقدر به القديم; ولهذا قال عبد الله بن عمرو فيما رواه شعبة عن أبي بلج سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا.
{ فصل والذين قطعوا بدوام النار لهم ستة طرق }
أحدها - اعتقاد الإجماع فكثير من الناس يعتقدون أن هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه، وأن الاختلاف فيه حادث وهو من أقوال أهل البدع.
الطريق الثاني - أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه سبحانه أخبر أنه عذاب مقيم وأنه لا يفتر عنهم، وأنه لن يزيدهم إلا عذابا، وأنهم خالدون فيها أبدا وما هم بخارجين من النار، وما هم منها بمخرجين، وأن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها. وأن عذابها كان غراما، أي مقيما لازما، قالوا: وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره.
الطريق الثالث - أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الإيمان.
الطريق الرابع - أن الرسول وقفنا على ذلك وعلمناه من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقل معين كما علمنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها.
الطريق الخامس - أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا تفنيان بل هم دائمتان، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع.
الطريق السادس - أن العقل يقضي بخلود الكفار في النار، وهذا مبني على قاعدة، وهي أن المعاد وثواب النفوس المطيعة وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو مما يعلم بالعقل أو لا يعلم إلا بالسمع؟ فيه طريقتان لنظار المسلمين، وكثير منهم يذهب إلى أن ذلك يعلم بالعقل مع السمع كما دل عليه القرآن في غير موضع، كإنكاره سبحانه على من زعم أنه يسوي بين الأبرار والفجار في المحيا والممات، وعلى من زعم أنه خلق خلقه عبثا وأنهم إليه لا يرجعون، وأنه يتركهم سدى أي لا يثيبهم ولا يعاقبهم، وذلك يقدح في حكمته وكماله وأنه نسبه إلى ما لا يليق به.
وربما قرروه بأن النفوس البشرية باقية واعتقاداتها وصفاتها لازمة لها لا تفارقها، وإن ندمت عليها لما رأت العذاب فلم تندم عليها لقبحها أو كراهة ربها لها، بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أولا، قال تعالى:
{ { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } [الأنعام: 27، 28] فهؤلاء قد ذاقوا العذاب وباشروه ولم يزل سببه ومقتضيه من نفوسهم، بل خبثها قائم بها لم يفارقها بحيث لو ردوا لعادوا كفارا كما كانوا، وهذا يدل على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل كما جاء به السمع.
{ قال أصحاب الفناء: الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة }
{ فأما الطريق الأول } فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم، وإنما يظن الإجماع في هذه المسألة من لم يعرف النزاع، وقد عرف النزاع بها قديما وحديثا، بل لو كلف مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال إن النار لا تفنى أبدا لم يجد إلى ذلك سبيلا، ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك، بل التابعون حكوا عنهم هذا وهذا، قالوا: والإجماع المعتد به نوعان، متفق عليهما، ونوع ثالث مختلف فيه، ولم يوجد واحد منها في هذه المسألة.
النوع الأول - ما يكون معلوما من ضرورة الدين كوجوب أركان الإسلام وتحريم المحرمات الظاهرة.
{ الثاني } ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه. { الثالث } أن يقول بعضهم القول وينشر في الأمة ولا ينكره أحد، فأين معكم واحد من هذه الأنواع؟ ولو أن قائلا ادعى الإجماع من هذه الطريق واحتج بأن الصحابة صح عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه لكان أسعد بالإجماع منكم.
{ قالوا: وأما الطريق الثاني } وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟ نعم الذي دل عليه القرآن أن الكفار خالدون في النار أبدا وأنهم غير خارجين منها، وأنه لا يفتر عنهم من عذابها، وأنهم لا يموتون فيها، وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام أي لازم لهم،
وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر، وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها، ولا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة.
وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والاتحادية وبعض أهل البدع، وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية، ولا يخرجون منها مع بقائها ألبتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها، فالفرق كالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
{ قالوا: وأما الطريق الثالث } وهو مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك فهي حق لا شك فيه، وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحدين منها وهي دار عذاب لم تفن، ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية. والنصوص دلت على هذا وعلى هذا.
{ قالوا: وأما الطريق الرابع } وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفنا على ذلك ضرورة فلا ريب أنه من المعلوم من دينه بالضروة أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية، هذا معلوم من دينه بالضرورة، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك.
{ قالوا: وأما الطريق الخامس } وهو أن في عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهمية والمعتزلة. وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين، وأما فناء النار وحدها فقد وجدنا من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار، فكيف يكون القول به من أقوال أهل البدع مع أنه لا يعرف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين؟ فقولكم إنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبر له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم.
قالوا: والقول الذي يعد من أقوال أهل البدع ما خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أو الصحابة أو من بعدهم. وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فلا يعد من أقوال أهل البدع وإن دانوا به واعتقدوه،
فالحق يجب قبوله ممن قاله،
والباطل يجب رده على من قاله. وكان معاذ بن جبل يقول: الله حكم قسط هلك المرتابون. إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة
وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق،
فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا.
قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا؟ فاحذروا زيغه ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق. وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة. والذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم وأنهم خالدون فيها. ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبدا فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها ولم يبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها.
{ قالوا }: وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق، وأما أصل الثواب والعقاب فهل يعلم بالعقل مع السمع أو لا يعلم إلا بالسمع وحده؟ ففيه قولان لنظار المسلمين من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، والصحيح أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا، وأما تفصيله فلا يعلم إلا بالسمع، ودوام الثواب والعقاب مما لا يدل عليه العقل بمجرده وإنما علم بالسمع، وقد دل السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين، وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضا دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين. وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهذا معترك النزال، فمن كان السمع في جانبه فهو أسعد بالصواب وبالله التوفيق.
{ فصل }
ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعا وعقلا وذلك يظهر من وجوه: { أحدها } أن الله سبحانه وتعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع، وأنه غير مجذوذ. وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها وعدم خروجهم منها، وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأنها مؤصدة عليهم، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وأن عذابها لازم لهم وأنه مقيم عليهم لا يفتر عنهم. والفرق بين الخبرين ظاهر.
الوجه الثاني - أن النار قد أخبر الله سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها: الأولى - قوله سبحانه وتعالى:
{ { قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } [الأنعام: 128] والثانية قوله: { { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } [هود: 107] والثالثة قوله: { { لابثين فيها أحقابا } [النبأ: 23] ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها لكان حكم الاستثناء في الموضعين واحدا، كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناءين؟ فإنه قال في أهل النار: { إن ربك فعال لما يريد } فعلمنا أنه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلا لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: { عطاء غير مجذوذ } فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدا. فالعذاب موقت معلق والنعيم ليس بموقت ولا معلق.
الوجه الثالث - أنه قد ثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا قط من المعذبين الذين يخرجهم الله من النار، وأما النار فلم يدخلها من لم يعمل سوءا قط ولا يعذب إلا من عصاه.
الوجه الرابع - أنه قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ينشئ للجنة خلقا آخر يوم القيامة يسكنهم إياها ولا يفعل ذلك بالنار، وأما الحديث الذي قد ورد في صحيح البخاري من قوله:
"وأما النار فينشئ الله لها خلقا آخرين" فغلط وقع من بعض الرواة انقلب عليه الحديث وإنما هو ما ساقه البخاري في الباب نفسه " وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا آخرين " ذكره البخاري -رحمه الله - مبينا أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا وهذا. والمقصود أنه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق.
يوضحه الوجه الخامس أن الجنة من موجب رحمته ورضاه، والنار من غضبه وسخطه، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وإذا كان رضاه قد سبق غضبه وهو يغلبه كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه وما من موجب غضبه ممتنعا.
يوضحه الوجه السادس - أن ما كان بالرحمة وللرحمة فهو مقصود لذاته قصد الغايات، وما كان من موجب الغضب والسخط فهو مقصود لغيره قصد الوسائل فهو مسبوق مغلوب مراد لغيره، وما كان بالرحمة فغالب سابق مراد لنفسه.
يوضحه الوجه السابع - وهو أنه سبحانه قال للجنة: { أنت رحمتي أرحم بك من أشاء - وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء } وعذابه مفعول منفصل وهو ناشئ عن غضبه، ورحمته هاهنا هي الجنة وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن. فهاهنا أربعة أمور: رحمة هي وصفه سبحانه، وثواب منفصل وهو ناشئ عن رحمته، وغضب يقوم به سبحانه، وعقاب منفصل ينشأ عنه. فإذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب فلأن يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى، فلا تقاوم النار التي نشأت عن الغضب الجنة التي نشأت عن الرحمة.
يوضحه الوجه الثامن - أن النار خلقت تخويفا للمؤمنين وتطهيرا للخاطئين والمجرمين، فهي طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في هذا العالم، فإن تطهرت هاهنا بالتوبة النصوح والحسنة الماحية والمصائب المكفرة لم تحتج إلى تطهير هناك، وقيل لها مع جملة الطيبين:
{ { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } [الزمر: 73] وإن لم تتطهر في هذه الدار ووافت الدار الأخرى بدرنها ونجاستها وخبثها أدخلت النار طهرة لها، ويكون مكثها في النار بحسب زوال ذلك الدرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء، فإذا تطهرت الطهر التام أخرجت من النار،
والله سبحانه خلق عباده حنفاء، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلو خلوا وفطرهم لما نشئوا إلا على التوحيد، ولكن عرض لأكثر الفطر ما غيرها; ولهذا كان نصيب النار أكثر من نصيب الجنة، وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلا الله، فأرسل الله رسله وأنزل كتبه يذكر عباده بفطرته التي فطرهم عليها، فعرف الموفقون الذين سبقت لهم من الله الحسنى صحة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى، فتوافق عندهم شرع الله ودينه الذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها، فمنعتهم الشرعة المنزلة والفطرة المكملة أن تكتسب نفوسهم خبثا ونجاسة ودرنا يعلق بها ولا يفارقها، بل كلما ألم بهم شيء من ذلك ومسهم طائف من الشيطان أغاروا عليه بالشرعة والفطرة فأزالوا موجبه وأثره، وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مما يحبون أو يكرهون تمحص عنهم تلك الآثار التي شوشت الفطرة، فجاء مقتضى الرحمة فصادف مكانا قابلا مستعدا لها ليس فيه شيء يدافعه فقال هاهنا أمرت.
وليس لله سبحانه غرض في تعذيب عباده بغير موجب كما قال تعالى:
{ { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما } [النساء: 147] واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة ونقلها مما خلقت عليه إلى ضده حتى استحكم الفساد وتم التغيير، فاحتاجوا في إزالة ذلك إلى تغيير آخر وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات الله المتلوة والمخلوقة وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار، فأتاح لهم آيات وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال موجب العذاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له.
فإن قيل: هذا حق ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضا كمعاصي الموحدين، أما إذا كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه، منها قوله تعالى:
{ { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [الأنعام: 28] فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك وأنها غير قابلة للإيمان أصلا. ومنها قوله تعالى: { { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } [الإسراء: 72] فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره، ومقتضاه لا يفارقهم، ومنها قوله تعالى: { { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } [الأنفال: 23] وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره، ويدل على أنهم لا خير فيهم هناك أيضا قوله: " أخرجوا من النار كل من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير " فلو كان عند هؤلاء أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين.
قيل: لعمر الله إن هذا لمن أقوى ما يتمسك به في المسألة، وإن الأمر لكما قلتم، وإن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا، وبواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا، والعذاب مستمر عليهم دائم ما داموا كذلك.
ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال؟ هذا حرف المسألة وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي. وقد أخبر سبحانه أنه فطر عباده على الحنفية، وأن الشياطين اجتالتهم عنها، فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب كما فطر الحيوان البهيم على طبيعته، وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده،
فإذا كان هذا الحق الذي فطروا عليه وخلقوا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل، فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده من الحق أولى وأحرى، ولا ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لما نهوا عنه. ولكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تتبدل بنشأة أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم، فإن العذاب لم يكن سدى وإنما كان لحكمة مطلوبة.
فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب ولا غرض يقصد، والله سبحانه ليس يشتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه، وهو لا يعذب عبده لهذا الغرض، وإنما يعذبه طهرة له ورحمة به فعذابه مصلحة له وإن تألم به غاية التألم، كما أن عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها،
وقد سمى الله سبحانه الحد عذابا وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داء دواء يناسبه، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كيا بعد كي. ليخرج منه المادة الردية الطارئة على الطبيعة المستقيمة، وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قطعه وأذاقه أشد الألم، فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طرأت على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته.
وإذا تأمل اللبيب شرع الرب وقدره في الدنيا وثوابه وعقابه في الآخرة وجد ذلك في غاية التناسب والتوافق وارتباط ذلك بعضه ببعض; فإن مصدر الجميع عن علم تام، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وهو سبحانه الملك الحق المبين وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل.
الوجه التاسع - أن عقوبته للعبد ليست لحاجته إلى عقوبته، ولا لمنفعة تعود إليه، ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة، بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص. ولا هي عبث محض خال عن الحكمة والغاية الحميدة فإنه أيضا يتنزه عن ذلك ويتعالى عنه، فإما أن يكون من تمام نعيم أوليائه وأحبائه، وإما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا، وعلى التقارير الثلاثة فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل لا قصد الغايات، والمراد من الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها،
ونعيم أوليائه ليس متوقفا في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه ودوامه. ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم. الوجه العاشر - أن رضاء الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتيتان له فلا منتهى لرضاه، بل كما قال أعلم الخلق به " سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته " فإذا كانت رحمته غلبت غضبه فإن رضى نفسه أعلى وأعظم، فإن رضوانه أكبر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها، وقد أخبر عن أهل الجنة أنه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا.
وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان، والناس لهم في صفة الغضب قولان: { أحدهما } أنه من صفاته الفعلية القائمة به كسائر أفعاله. { والثاني } أنه صفة فعل منفصل عنه غير قائم به. وعلى القولين فليس كالحياة والعلم والقدرة التي يستحيل مفارقتها له،
والعذاب إنما ينشأ من صفة غضبه وما سعرت النار إلا بغضبه، وقد جاء في أثر مرفوع: { إن الله خلق خلقا من غضبه وأسكنهم بالمشرق وينتقم بهم ممن عصاه } فمخلوقاته سبحانه نوعان: نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة، ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب، فإنه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه، ومنه أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل وينتقم ويعفو، بل هذا موجب ملكه الحق وهو حقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد، فإذا زال غضبه سبحانه وتبدل برضاه زالت عقوبته وتبدلت برحمته فانقلبت العقوبة رحمة، بل لم تزل رحمة وإن تنوعت صفتها وصورتها كما كان عقوبة العصاة رحمة وإخراجهم من النار رحمة، فتقلبوا في رحمته في الدنيا وتقلبوا فيها في الآخرة، لكن تلك الرحمة يحبونها وتوافق طبائعهم، وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم كرحمة الطبيب الذي يبضع لحم المريض ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الردية الفاسدة.
فإن قيل: هذا اعتبار غير صحيح، فإن الطبيب يفعل ذلك بالعليل وهو يحبه وهو راض عنه، ولم ينشأ فعله به عن غضبه عليه وهذا لا يسمى عقوبة، وأما عذاب هؤلاء فإنه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم وهو عقوبة محضة. { قيل }: هذا حق ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم وإن كان عقوبة لهم، وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا فإنه عقوبة ورحمة وتخفيف وطهرة فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة، وهم لما أغضبوا الرب تعالى وقابلوه بما لا يليق أن يقابل به وعاملوه أقبح المعاملة، وكذبوه وكذبوا رسله، وجعلوا أقل أهله وأخبثهم وأمقتهم له ندا له وآلهة معه، وآثروا رضاءهم على رضاه وطاعتهم على طاعته - وهو ولي الإنعام عليهم وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم الحق - اشتد مقته لهم وغضبه عليهم، وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عليه تقدير خلافها ويستحيل عليه تخلف آثارها ومقتضاها عنها، بل ذلك تعطيل لأحكامها، كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها، وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه.
فالمعطلون نوعان: أحدهما عطل صفاته، والثاني عطل أحكامه وموجباتها، وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه ودواء لهم من وجهة الرحمة السابقة للغضب فاجتمع فيه الأمران، فإذا زال الغضب بزوال سببه وزالت المادة الفاسدة بتغيير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها، وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة عملت الرحمة عملها وطلبت أثرها من غير معارض.
يوضحه الوجه الحادي عشر وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والرضا أحب إليه من الغضب، والفضل أحب إليه من العدل، ولهذا ظهرت آثار هذه المحبة في شرعه وقدره، ويظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه، وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه وله خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع، وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء لا قصور فيها بوجه ما،
وتلك المواد الردية الفاسدة مرض من الأمراض وبيده سبحانه الشفاء التام والأدوية الموافقة لكل داء، وله القدرة التامة والرحمة السابغة والغنى المطلق، وبالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت به غاية الضرر والمشقة، وقد عرف العبد أنه عليل وأن دواءه بيد الغني الحميد فتضرع إليه ودخل به عليه، واستكان له وانكسر قلبه بين يديه وذل لعزته، وعرف أن الحمد كله له وأن الخلق كله له، وأنه هو الظلوم الجهول، وأن ربه - تبارك وتعالى - عامله بكل عدله لا ببعض عدله، وأن له غاية الحمد فيما فعل به، وأن حمده هو الذي أقامه في هذا المقام وأوصله إليه، وأنه لا خير عنده من نفسه بوجه من الوجوه، بل ذلك محض فضل الله وصدقته عليه، وأنه لا نجاة له مما هو فيه إلا بمجرد العفو والتجاوز عن حقه فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص، وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح،
فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك فطلبوا مرضاته ولو بدوامهم في تلك الحال، وقالوا: إن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نريد، وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب ما لا يرضيك، فأما إذا أرضاك هذا منا فرضاك غاية ما نقصده

(وما لجرح إذا أرضاك من ألم)

وأنت أرحم بنا من أنفسنا وأعلم بمصالحنا، ولك الحمد كله عاقبت أو عفوت، لانقلبت النار عليهم بردا وسلاما
(وقد روى الإمام أحمد) في مسنده من حديث الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يأتي أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما"
{ وفي المسند أيضا } من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة مثله وقال: " فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها " فهؤلاء لما رضوا بتعذيبهم وبادروا إليه لما علموا أن فيه رضى ربهم وموافقة أمره ومحبته انقلب في حقهم نعيما.
(ومثل هذا) ما رواه عبد الله بن المبارك: حدثني رشدين قال حدثني ابن أنعم عن أبي عثمان أنه حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن رجلين ممن دخل النار يشتد صياحهما؟ فقال الرب جل جلاله: أخرجوهما فإذا أخرجا فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحكما قالا: فعلنا ذلك لترحمنا. قال: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار، قال فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها الله سبحانه عليه بردا وسلاما، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه فيقول له الرب: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني أرجوك ألا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها. فيقول الرب تعالى: لك رجاؤك. فيدخلان الجنة جميعا برحمة الله" .
(وذكر الأوزاعي) عن بلال بن سعد قال: يؤمر بإخراج رجلين من النار فإذا أخرجا ووقفا قال الله لهما: كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما؟ فيقولان شر مقيل وأسوأ مصير صار إليه العباد، فيقول لهما: ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد. قال فيؤمر بصرفهما إلى النار، فأما أحدهما فيغدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها وأما الآخر فيتلكأ فيؤمر بردهما فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها ما حملك على ما صنعت وقد أخرجت منها؟ فيقول: إني خبرت من وبال معصيتك ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانيا، ويقول للذي تلكأ: ما حملك على ما صنعت؟ فيقول: حسن ظني بك حين أخرجتني منها ألا تردني إليها فيرحمهما جميعا ويأمر بهما إلى الجنة.
الوجه الثاني عشر - أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه; ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه، وأما العذاب والعقوبة فإنما هو من مخلوقاته; ولذلك لا يسمى بالمعاقب والمعذب، بل يفرق بينهما فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة كقوله تعالى:
{ { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } [الحجر: 49، 50] وقال تعالى: { { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } [المائدة: 98] وقال تعالى: { { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } [الأعراف: 167] ومثلها في آخر الأنعام.
فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له، وهو غاية مطلوبة في نفسها.
وأما الشر الذي هو العذاب فلا يدخل في أسمائه وصفاته، وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني، بخلاف الخير فإنه سبحانه دائم المعروف لا ينقطع معروفه أبدا وهو قديم الإحسان أبدي الإحسان، فلم يزل ولا يزال محسنا على الدوام وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لا يزال معاقبا على الدوام، غضبان على الدوام، منتقما على الدوام، فتأمل هذا الوجه تأمل فقيه في باب أسماء الله وصفاته يفتح لك بابا من أبواب معرفته ومحبته.
يوضحه الوجه الثالث عشر - وهو قول أعلم خلقه به وأعرفهم بأسمائه وصفاته " والشر ليس إليك " ولم يقف على المعنى المقصود من قال الشر لا يتقرب به إليك.
بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات كمال يحمد عليها ويثنى عليه بها، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمة لا شر فيها بوجه ما، وأسماءه كلها حسنى، فكيف يضاف الشر إليه؟
بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه، إذ فعله غير مفعوله، ففعله خير كله، وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقا منفصلا غير قائم بالرب سبحانه فهو لا يضاف إليه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل أنت لا تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفا وفعلا واسما، وإذا عرف هذا فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها،
وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباتها والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه; ولأجلها خلق خلقه وأرسل رسله وأنزل كتبه، وهي ثناء على الرب وإجلاله وتعظيمه وعبوديته، وهذه لها آثار تطلبها وتقتضيها فتدوم آثارها بدوام متعلقها.
وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق، فهي مفعولات قدرت لأمر محبوب وجعلت وسيلة إليه، فإذا حصل ما قدرت له اضمحلت وتلاشت وعاد الأمر إلى الخير المحض.
الوجه الرابع عشر - أنه سبحانه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته، ولا ينافي هذا أن يرحم العبد بما يشق عليه ويؤلمه وتشتد كراهته له; فإن ذلك من رحمته أيضا كما تقدم، وقد ذكرنا حديث أبي هريرة آنفا وقوله تعالى لذينك الرجلين، رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار.
وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا دعا لمبتلى قد اشتد بلاؤه وقال: اللهم ارحمه - يقول الرب تبارك وتعالى: " كيف أرحمه من شيء به أرحمه " فالابتلاء رحمة منه لعباده { وفي أثر إلهي } يقول الله تعالى: " أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من المعايب " فالبلاء والعقوبة أدوية قدرت لإزالة أدواء لا تزول إلا بها والنار هي الدواء الأكبر، فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة، وإلا فلا بد له من الدواء بحسب دائه. ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده، وتحببه إلى عباده وإرادته الإنعام عليهم وسبق رحمته لهم، لم يبادر إلى إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله.
يوضحه { الوجه الخامس عشر } أن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل، فلا يفعل عبثا ولا جورا ولا باطلا، بل هو المنزه عن ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص.
وإذا ثبت ذلك فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث وتكمل الطهارة فظاهر. وإن كان لحكمة فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب.
وليس في الحكمة دوام العذاب أبد الآباد بحيث يكون دائما بدوام الرب تبارك وتعالى، وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم فليست مصلحتهم في بقائهم في العذاب كذلك، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه فإن ذلك أكمل في نعيمهم فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب، وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفا على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السرمد. فإن قلتم إن ذلك هو موجب الرحمة والحكمة والمصلحة قلتم ما لا يعقل، وإن قلتم إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا تطلب له حكمة ولا غاية فجوابه من وجهين:
{ أحدهما } أن ذلك محال على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن الحكم والمصالح والغايات المحمودة. والقرآن والسنة وأدلة العقول والفطر والآيات المشهودة شاهدة ببطلان ذلك.
{ والثاني } أنه لو كان الأمر كذلك لكان إبقاؤهم في العذاب وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء، ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله،
وهو سبحانه لم يخبرنا بأبدية العذاب وأنه لا نهاية له، وغاية الأمر على هذا التقدير أن يكون من الجائزات الممكنات الموقوف حكمها على خبر الصادق، فإن سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام، وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضا، وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه ما يقتضيه.
الوجه السادس عشر - أن رحمته سبحانه سبقت غضبه في المعذبين، فإنه أنشأهم برحمته ورباهم برحمته ورزقهم وعافاهم برحمته وأرسل إليهم الرسل برحمته.
وأسباب النقمة والعذاب متأخرة عن أسباب الرحمة طارئة عليها فرحمته سبقت غضبه فيهم، وخلقهم على خلقة تكون رحمته إليهم أقرب من غضبه وعقوبته; ولهذا ترى أطفال الكفار قد ألقى عليهم رحمته فمن رآهم رحمهم، ولهذا نهى عن قتلهم فرحمته سبقت غضبه فيهم فكانت هي السابقة إليهم، ففي كل حال هم في رحمته في حال معافاتهم وابتلائهم. وإذا كانت الرحمة هي السابقة فيهم لم يبطل أثرها بالكلية، وإن عارضها أثر الغضب والسخط فذلك لسبب منهم، وأما أثر الرحمة فسببه منه سبحانه، فما منه يقتضي رحمتهم، وما منهم يقتضي عقوبتهم، والذي منه سابق وغالب. وإذا كانت رحمته تغلب غضبه فلأن يغلب أثر الرحمة أثر الغضب أولى وأحرى.
الوجه السابع عشر - أنه سبحانه يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عقيم، وعذاب يوم عظيم، وعذاب يوم أليم، ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد. وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، والله سبحانه جعل العذاب على ما كان من الدنيا وأسبابها، وما أريد به الدنيا ولم يرد به الله فالعذاب على ذلك، وأما ما كان للآخرة وأريد به وجه الله فلا عذاب عليه، والدنيا قد جعل لها أجل تنتهي إليه، فما انتقل منها إلى تلك الدار مما ليس لله فهو المعذب به.
وأما ما أريد به وجه الله والدار الآخرة فقد أريد به ما لا يفنى ولا يزول فيدوم بدوام المراد به، فإن الغاية المطلوبة إذا كانت دائمة لا تزول لم يزل ما تعلق بها، بخلاف الغاية المضمحلة الفانية فما أريد به غير الله يضمحل ويزول بزوال مراده ومطلوبه، وما أريد به وجه الله يبقى ببقاء المطلوب المراد، فإذا اضمحلت الدنيا وانقطعت أسبابها وانتقل ما كان فيها لغير الله من الأعمال والذوات وانقلب عذابا وآلاما لم يكن له متعلق يدوم بدوامه بخلاف النعيم.
الوجه الثامن عشر - أنه ليس في حكمة أحكم الحاكمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له ولا انقطاع أبدا، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية والفطرية على أنه سبحانه حكيم وأنه أحكم الحاكمين، فإذا عذب خلقه عذبهم بحكمة كما يوجد التعذيب والعقوبة في الدنيا في شرعه وقدره فإن فيه من الحكم والمصالح وتطهير العبد ومداواته وإخراج المواد الردية عنه بتلك الآلام ما تشهده العقول الصحيحة، وفي ذلك من تزكية النفوس وصلاحها وزجرها وردع نظائرها وتوقيفها على فقرها وضرورتها إلى ربها وغير ذلك من الحكم والغايات الحميدة مما لا يعلمه إلا الله.
ولا ريب أن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب; ولهذا يحاسبون - إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة والنار - فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة،
ومعلوم أن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين، فإذا عذبوا بالنار عذابا يخلص نفوسهم من ذلك الخبث والوسخ والدرن كان ذلك من حكمة أحكم الحاكمين ورحمته،
ولا ينافي الحكمة خلق نفوس فيها شر يزول بالبلاء الطويل والنار كما يزول بها خبث الذهب والفضة والحديد فهذا معقول في الحكمة وهو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة، أما خلق نفوس لا يزول شرها أبدا وعذابها لا انتهاء له، فلا يظهر في الحكمة والرحمة، وفي وجوب مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء، أعني ذواتا هي شر من كل وجه ليس فيها شيء من خير أصلا، وعلى تقدير دخوله في الوجود فالرب تبارك وتعالى قادر على قلب الأعيان وإحالتها وإحالة صفاتها، فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس والحكمة المطلوبة من تعذيبها فالله سبحانه قادر أن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة، ويرحمها في النشأة الثانية نوعا آخر من الرحمة.
يوضحه (الوجه التاسع عشر) وهو أنه قد ثبت أن الله سبحانه ينشئ للجنة خلقا آخر يسكنهم إياها ولم يعملوا خيرا تكون الجنة جزاء لهم عليه، فإذا أخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه وبلغت العقوبة مبلغها، فانكسرت تلك النفوس وخضعت وذلت واعترفت لربها وفاطرها بالحمد، وأنه عدل فيها كل العدل، وأنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه، ولو شاء أن يكون عذابهم أشد من ذلك لفعل وشاء كتب العقوبة طلبا لموافقة رضاه ومحبته وعلم أن العذاب أولى بها وأنه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فذابت منها تلك الخبائث كلها وتلاشت وتبدلت بذل وانكسار وحمد وثناء على الرب تبارك وتعالى - لم يكن في حكمته أن يستمر بها في العذاب بعد ذلك; إذ قد تبدل شرها بخيرها وشركها بتوحيدها وكبرها بخضوعها وذلها،
ولا ينتقض هذا بقوله عز وجل:
{ { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [الأنعام: 28] فإن هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث، وإنما هو عند المعاينة قبل الدخول، فإنه سبحانه قال: { { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } [الأنعام: 27-28]فهذا إنما قالوه قبل أن يستخرج العذاب منهم تلك الخبائث.
فأما إذا لبثوا في العذاب أحقابا - والحقب كما رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الحقب خمسون ألف سنة" - فإنه من الممتنع أن يبقى ذلك الكبر والشرك والخبث بعد هذه المدد المتطاولة في العذاب.
الوجه العشرون - أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة " فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة من حميل السيل فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه " فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار بحيث صاروا حمما - وهو الفحم المحترق بالنار -.
وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير فإن لفظ الحديث هكذا:
"فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط"
فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة، ومن هذا رحمته سبحانه للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه. فهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط، ومع هذا فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك وأنت أعلم، فما تلافاه أنرحمه الله فلله سبحانه في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر.
وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام" قالوا: ومن ذا الذي في مدة عمره كلها من أولها إلى آخرها لم يذكر ربه يوما واحدا ولا خافه ساعة واحدة؟ ولا ريب أن رحمته سبحانه إذا أخرجت من النار من ذكره وقتا ما أو خافه في مقام ما فغير بدع أن تفنى النار ولكن هؤلاء خرجوا منها وهي نار.
الوجه الحادي والعشرون - أن اعتراف العبد بذنبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه من كل وجه، ونسبة العدل والحمد والرحمة والكمال المطلق إلى ربه من كل وجه، يستعطف ربه تبارك وتعالى عليه ويستدعي رحمته له، وإذا أراد أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه والرحمة معه ولا سيما إذا اقترن بذلك جزم العبد على ترك المعاودة لما يسخط ربه عليه وعلم الله أن ذلك داخل قلبه وسويدائه فإنه لا يتخلف عنه الرحمة مع ذلك.
وفي معجم الطبراني من حديث يزيد بن سنان الرهاوي، عن سليمان بن عامر، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهرا لبطن كالغلام يضربه أبوه وهو يفر منه، يعجز عنه عمله أن يسعى فيقول: يارب بلغ بي الجنة ونجني من النار. فيوحي الله تبارك وتعالى إليه: عبدي! إن أنا نجيتك من النار وأدخلتك الجنة أتعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يارب وعزتك وجلالك إن نجيتني من النار لأعترفن لك بذنوبي وخطاياي. فيجوز الجسر ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار، فيوحي الله إليه: عبدي اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك وأدخلك الجنة، فيقول العبد: لا وعزتك وجلالك ما أذنبت ذنبا قط ولا أخطأت خطيئة قط، فيوحي الله إليه: عبدي إن لي عليك بينة فيلتفت العبد يمينا وشمالا فلا يرى أحدا، فيقول يارب أرني بينتك، فيستنطق الله تعالى جلده بالمحقرات فإذا رأى ذلك العبد يقول: يارب عندي وعزتك العظائم فيوحي الله إليه: عبدي أنا أعرف بها منك اعترف لي بها أغفرها لك وأدخلك الجنة. فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنة"
ثم ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه - يقول هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف بالذي فوقه؟ فالرب تعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذلة له والعزم على مرضاته. فما دام أهل النار فاقدين لهذا الروح فهم فاقدون لروح الرحمة، فإذا أراد عز وجل أن يرحمهم أو من يشاء منهم جعل في قلبه ذلك فتدركه الرحمة، وقدرة الرب تبارك وتعالى غير قاصرة عن ذلك وليس فيه ما يناقض موجب أسمائه وصفاته وقد أخبر أنه فعال لما يريد.
الوجه الثاني والعشرون - أنه سبحانه قد أوجب الخلود على معاصي من الكبائر وقيده بالتأبيد ولم يناف ذلك انقطاعه وانتهاءه، فمنها قوله تعالى:
{ { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } [النساء: 93] ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" وهو حديث صحيح.
وكذلك قوله في الحديث الآخر في قاتل نفسه: " فيقول الله تبارك وتعالى بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة " وأبلغ من هذا قوله تعالى:
{ { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } [الجن: 23] فهذا وعيد مقيد بالخلود والتأبيد، مع انقطاعه قطعا بسبب من العبد وهو التوحيد. فكذلك الوعيد العام لأهل النار لا يمتنع انقطاعه بسبب ممن كتب على نفسه الرحمة وغلبت رحمته غضبه، فلو يعلم الكافر بكل ما عنده من الرحمة لما يئس من رحمته، كما في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة - وقال في آخره - فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار" .
الوجه الثالث والعشرون - أنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحا بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له، لكان ذلك وعيدا منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده.
وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كله أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تبارك وتعالى به ويثنى عليه به فإنه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه، والكريم لا يستوفي حقه، فكيف بأكرم الأكرمين، وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده، ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده.
وقد روى أبو يعلى الموصلي، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل بن أبي حزم، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه، ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار"
وقال أبو الشيخ الأصبهاني: حدثنا محمد بن حمزة حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا الأصمعي قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو أيخلف الله ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده الله على عمله عقابا أيخلف الله وعده عليه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عارا ولا خلفا أن تعد شرا ثم لا تفعله، ترى ذلك كرما وفضلا، وإنما الخلف أن تعد خيرا ثم لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب، قال نعم أما سمعت إلى قول الأول:

ولا يرهب ابن العم ما عشت سطوتي ولا أختني من صولة المتهدد
وإني وإن أوعدته ووعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

قال أبو الشيخ وقال يحيى بن معاذ: الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله؟ والوعيد حقه على العباد. قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وإن شاء أخذ لأنه حقه. وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم إنه غفور رحيم. ومما يدل على ذلك ويؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

فإذا كان هذا في وعيد مطلق فكيف بوعيد مقرون باستثناء معقب بقوله: { { إن ربك فعال لما يريد } [هود: 107] وهذا إخبار منه أنه يفعل ما يريد عقيب قوله: { إلا ما شاء ربك } فهو عائد إليه ولا بد، ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، بل إما أن يختص بالمستثنى أو يعود إليهما، وغير خاف أن تعلقه بقوله: { إلا ما شاء ربك } أولى من تعلقه بقوله: { خالدين فيها } وذلك ظاهر للمتأمل وهو الذي فهمه الصحابة فقالوا: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضا. وإنما أرادوا أنه عقب الاستثناء بقوله: { إن ربك فعال لما يريد } وهذا التعقيب نظير قوله في " الأنعام ": { خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } فأخبر أن عذابهم في جميع الأوقات ورفعه عنهم في وقت يشاؤه صادر عن كمال علمه وحكمته، لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، إذ يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك.
الوجه الرابع والعشرون - أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب، ولولا ذلك لما عمرت ولا قام لها وجود كما قال تعالى:
{ { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } [النحل: 61] وقال: { { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [فاطر: 45] فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم.
ومع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار وأنزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار ونالت البر والفاجر والمؤمن والكافر مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له وتمكنه من إغضاب ربه والسعي في مساخطته، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعا وتسعين ضعفا، وقد أخذ العذاب من الكفار مأخذه وانكسرت تلك النفوس وأنهكها العذاب وأذاب منها خبثا وشرا لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا. بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها، فكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة وقوي جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار. واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته؟! وسر الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأظهر وأكثر من أسماء الانتقام. وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام. وظهور آثار الرحمة أعظم من آثار الانتقام والرحمة أحب إليه من فعل الانتقام.
وبالرحمة خلق خلقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته وكتبها على نفسه ووسعت كل شيء وما خلق بها فمطلوب لذاته وما خلق بالغضب فمراد لغيره كما تقدم تقرير ذلك، والعقوبة تأديب وتطهير، والرحمة إحسان وكرم وجود، والعقوبة مداواة. والرحمة عطاء وبذل.
الوجه الخامس والعشرون - أنه سبحانه لا بد أن يظهر لخلقه جميعهم يوم القيامة صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين المفترين. ويظهر لهم حكمه الذي هو أعدل حكم في أعدائه، وأنه حكم فيهم حكما يحمدونه هم عليه فضلا عن أوليائه وملائكته ورسله، بحيث ينطق الكون كله بالحمد لله رب العالمين. ولذلك قال تعالى:
{ { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } [الزمر: 75] فحذف فاعل القول لإرادة الإطلاق وأن ذلك جار على لسان كل ناطق وقلبه.
قال الحسن: لقد دخلوا النار وإن قلوبهم لممتلئة من حمده ما وجدوا عليه سبيلا.
وهذا هو الذي حسن حذف الفاعل من قوله:
{ { قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } [الزمر: 72] حتى كأن الكون جميعه قائل ذلك لهم إذ هو حكمه العدل فيهم ومقتضى حكمته وحمده. وأما أهل الجنة فقال تعالى: { { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } [الزمر: 73] فهم لم يستحقوها بأعمالهم وإنما استحقوها بعفوه ورحمته وفضله، فإذا أشهد سبحانه ملائكته وخلقه كلهم حكمه العدل وحكمته الباهرة ووضعه العقوبة حيث تشهد العقول والفطر والخليقة أنه أولى المواضع وأحقها بها، وأن ذلك من كمال حمده الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته، وأن هذه النفوس الخبيثة الظالمة الفاجرة لا يليق بها غير ذلك ولا يحسن بها سواه بحيث تعترف هي من ذواتها بأنها أهل ذلك وأنها أولى به حصلت الحكمة التي لأجلها وجد الشر وموجباته في هذه الدار وتلك الدار.
وليس في الحكمة الإلهية أن الشرور تبقى دائما لا نهاية لها ولا انقطاع أبدا، فتكون هي والخيرات في ذلك على حد سواء. فهذا نهاية إقدام الفريقين في هذه المسألة ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب.
فإن قيل: فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تبارك وتعالى:
{ { إن ربك فعال لما يريد } [هود: 107] وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء، بل وإلى هاهنا انتهت أقدام الخلائق.
وما ذكرنا في هذه المسألة بل في الكتاب كله من صواب فمن الله سبحانه وهو المان به. وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده والله أعلم اهـ.
هذا ما أورده في المسألة العلامة المحقق ابن القيم، وفيه من دقائق المعرفة بالله تعالى وفهم كتابه والغوص على درر حكمه في أحكامه وأسراره في أقداره والإفصاح عن سعة رحمته وخفي لطفه وجليل إحسانه، ما لم يسبقه إليه فيما نعلم سابق، ولم يلحقه به لاحق، فنسأله سبحانه أن يكافئه على ذلك أفضل ما يكافئ العلماء العاملين، والعارفين الكاملين، وأن يحشرنا وإياه في ثلة المقربين آمين.
وقد أشار إلى بحثه هذا غير واحد من المفسرين ومؤلفي العقائد، وإنما أوردناه بنصه على طوله لما تضمنه من الحقائق التي نوهنا بها، ولأمر آخر أهم وهو أننا نعلم أن أقوى شبهات الناس من جميع الأمم على الدين قول أهل كل دين من الأديان المشهورة أنهم هم الناجون وحدهم وأكثر البشر يعذبون عذابا شديدا دائما لا ينتهي أبدا، بل تمر ألوف الألوف المكررة من الأحقاب والقرون ولا يزداد إلا شدة وقوة وامتدادا، مع قولهم - ولا سيما المسلمين منهم - إن الله تعالى أرحم الراحمين، وإن رحمة الأم العطوف الرءوم بولدها الوحيد ليست إلا جزءا صغيرا من رحمة الله التي وسعت كل شيء. وهذا البحث جدير بأن يزيل شبهة هؤلاء فيرجع المستعدون منهم إلى دين الله تعالى مذعنين لأمره ونهيه راجين رحمته خائفين عقابه الذي تقتضيه حكمته لأنهم لا يعلمون قدره -
فما أعظم ثواب ابن القيم على اجتهاده في شرح هذا القول المأثور عن بعض الصحابة والتابعين وإن خالفهم الجمهور الذين حملوا الخلود والأبد اللغويين في القرآن على المعنى الاصطلاحي الكلامي، وهو عدم النهاية في الواقع، ونفس الأمر، لا بالنسبة إلى تعامل الناس وعرفهم في عالمهم كما يقصد أهل كل لغة في أوضاع لغتهم، فالعرب كانت تستعمل الخلود في الإقامة المستقرة غير المؤقتة، ويسمون الأثافي (حجارة الموقد) الخوالد، ولا يتضمن ذلك استحالة الانتقال والنقل كما بيناه من قبل. ويعبرون بالأبد عما يبقى مدة طويلة كما صرح به الراغب في مفردات القرآن، وناهيك بتدقيقه في تحديد معاني الألفاظ، وفي حقيقة الأساس.
وتقول: رزقك الله عمرا طويل الآباد بعيد الآماد. فهل معناه أنه ليس ينتهي؟! ويقول أهل القضاء وغيرهم في زماننا حكم على فلان بالسجن المؤبد أو الأشغال الشاقة المؤبدة - وهو لا ينافي عندهم انتهاءها بعفو السلطان مثلا.
وهذا التفصيل قد ينفع من ذكرنا من المارقين ولا يضر المؤمنين بقول الجمهور مستدلين أو مقلدين، وسنعود إلى المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير آيتي سورة هود، ونلخص جميع التأويلات مع بيان الراجح منها والمرجوح ودلائل الجمهور.