التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
٦٥
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
٦٦
لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٦٧
-الأنعام

تفسير المنار

ذكر الله تعالى هؤلاء الناس في الآيتين السابقتين ببعض آياته في أنفسهم، ومنته عليهم في وقائع أحوالهم التي يشعر بها كل من وقعت له منهم، وكونه هو الذي ينجيهم من الظلمات والكروب والأهوال والخطوب، إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام، ثم قال:
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } فهذا تذكير بقدرته على تعذيبهم إثر التذكير بقدرته على تنجيتهم، لا فرق فيهما بين أفرادهم وبين مجموعهم وجملتهم، وإنذار بأن عاقبة كفر النعم أن تزول وتحل محلها النقم. والمعنى: قل أيها الرسول لقومك ومن وراءهم من الكافرين بنعم الله، الذين يشركون به سواه، ولا يشكرون له ما من به من النعم وأسداه، ومن الذين يتنكبون سنن الله، ويختلفون في الكتاب بعد أن هداهم به الله: هو الله القادر على أن يثير ويرسل عليكم عذابا تجهلون كنهه فيصبه عليكم من فوقكم، أو يثيره من تحت أرجلكم، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا، مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم تشايع إماما في الدين، أو تتعصب لملك أو رئيس، ويذيق بعضكم بأس بعض وهو ما عنده من الشدة والمكروه في السلم والحرب. وقال صاحب الكشاف بعد تفسير اللبس بالخلط: ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال من قوله:

وكتيبة لبستها بكتيبة... حتى إذا التبست نفضت لها يدي.

أقول: وأصل معنى اللبس التغطية، كاللباس، وهذا التفريق والاختلاف بين الشيع كالغطاء، يستر عن كل شيعة ما عليه الأخرى من الحق، وما في الاتفاق معها من المصلحة والخير، ولمادة (ش ي ع) ثلاثة معان أصلية في اللغة
(أحدها) الانتشار والتفرق، ومنه شاع وأشاع الأخبار، وطارت نفسه شعاعا.
(ثانيها) الاتباع والدعوة إليه، ومن الأول تشييع المسافر وتشييع الجنازة، ومن الثاني قولهم: أشاع بالإبل، أي دعاها إذا استأخر بعضها ليتبع بعضها بعضا.
(ثالثها) التقوية والتهييج، ومنه قولهم شيع النار إذا ألقى عليها حطبا يذكيها به، والشياع - بالفتح والكسر - ما تضرم به النار، وكل هذه المعاني ظاهرة في الشيع، والأحزاب المتفرقة بالخلاف في الدين أو السياسة. وفسر ابن عباس الشيع بالأهواء المختلفة أي أصحابها.
وقد ورد في المأثور تفسير العذاب من فوق بالرجم من السماء، أي: من جهة العلو - وكذا الطوفان - كما وقع لبعض الأمم القديمة. والعذاب من تحت الأرجل بالخسف والزلازل المعهودة في القديم والحديث،
وروي عن ابن عباس أن المراد بالفوق أئمة السوء - أي الحكام والرؤساء - وبالتحت خدم السوء،
وفي رواية (من فوقكم) يعني أمراءكم (أو من تحت أرجلكم) يعني عبيدكم وسفلتكم،
وهذا معنى صحيح في نفسه، ولعل مراد الخبر منه أنه يدخل في عموم ما ترشد إليه الآية، وقيل: المراد بالفوق حبس المطر، وبالتحت منع الثمرات، وهذا تفسير سلبي، والتعبير عنه بالإرسال تعبير عن الشيء بضده، فإن الإرسال ضد المنع والإمساك والحبس، ومنه قوله تعالى:
{ وما يمسك فلا مرسل له من بعده } [فاطر: 2] ولما كان لفظ العذاب في الآية نكرة جاز حمله على كل عذاب يأتي من فوق الرءوس ومن تحت الأرجل، أو من رؤساء الناس أو من تحوتهم، ولولا أن هذا الإبهام مراد لأجل هذا الشمول لصرح بالمراد كما صرح به في مثل قوله تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير } [الملك: 16-17]
وحكمة مثل هذا الإبهام في القرآن أن ينطبق معنى اللفظ على ما يدل عليه مما يحدث في المستقبل أو نكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم، إذ ورد في وصف القرآن أنه لا تنتهي عجائبه، وأن فيه نبأ من قبل الذين نزل في زمانهم، ومن كان معهم، ومن يجيء بعدهم.
مثال ما عبر القرآن عنه ولم ينكشف لجمهور الناس انكشافا تاما إلا بعد نزوله بقرون - كون الثمار وغيرها أزواجا؛ منها الذكر والأنثى، قال تعالى:
{ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [الرعد: 3] وقال: { ومن كل شيء خلقنا زوجين } [الذاريات: 49] وكانوا يحملون الآيات في ذلك على المجاز - وكون الرياح تلقح النبات كما هو صريح قوله تعالى: { وأرسلنا الرياح لواقح } [الحجر: 22] وقد جعله بعض مفسري السلف تلقيحا مجازيا كقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: إنها تلقح السحاب فيدر كما تدر اللقحة. نعم قال ابن عباس رضي الله عنه - وكذا الحسن: تلقح الشجر وتمري السحاب. ولكن هذا القول المقتبس من التنزيل بنور الفهم الصحيح لم يزل خفيا في تفصيله حتى عن العرب الذين كانوا يلقحون النخيل - إلى أن اكتشف الناس أعضاء الذكورة والأنوثة في النبات وكونها تثمر بالتلقيح، وكون الرياح تنقل مادة الذكورة من ذكرها إلى أنثاها فتلقحها به، ولما علم الإفرنج بهذا قال بعض المطلعين على القرآن المجيد من المستشرقين منهم: إن أصحاب الإبل - يعني العرب - قد عرفوا أن الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعرفها أهل أوربة بثلاثة عشر قرنا.
ومثال ما عبر القرآن عنه مما شمل ما لم يكن في زمن تنزيله ولا فيما قبله بحسب ما يعلم البشر - هذه الآية التي ظهر تفسيرها في هذا الزمان بهذه الحرب الأوربية التي لم يسبق لها نظير؛ فقد أرسل الله على الأمم عذابا من فوقها بما تقذفه الطيارات والمناطيد من المقذوفات النارية والسموم البخارية والغازية التي لم تعرف قبل هذه الحرب فوق مقذوفات المدافع وغيرها مما كان معروفا قبلها، ولكن بعد تنزيل الآية - وعذابا من تحتها بما يتفجر من الألغام النارية، وبما ترسله المراكب الغواصة في البحر التي اخترعت في هذا العصر، ولبسها شيعا متعادية، وأذاق بعضها بأس بعض، فحل بها من التقتيل والتخريب ما لم يعهد له نظير في الأرض.
وقد شرحنا هذا في مقالة نشرناها في المنار. ولا شك في أن دلالة الآية على هذه المخترعات مراد ; لأن الله تعالى منزل القرآن هو علام الغيوب. وفي الحديث المرفوع ما يشير إلى ذلك؛ فقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية (قل هو القادر) إلى آخرها، فقال:
"أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد" ويقويه ما ورد في تطبيقها على أمتنا ; لأنه سنة الله في أهل الكتاب قبلنا كما يأتي قريبا.
{ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } أي انظر بعين عقلك أيها الرسول - ومثله في هذا كل مخاطب بالقرآن - كيف نصرف الآيات والدلائل فنجعلها على أنحاء شتى، منها ما طريقه الحس، ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما طريقه علم الغيب - لعلهم يفقهون الحق، ويدركون كنه الأمر، فإن الفقه هو فهم الشيء بدليله وعلته، المفضي إلى الاعتبار والعمل به، وإنما يرجى تحصيله بتصرف الآيات وتنويع البينات.
فعلم مما تقدم أن هذه الآية عامة وإن نزلت في سياق إنذار مشركي مكة وإقامة الحجة عليهم، فالعبرة فيها كغيرها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أو مقتضى السياق، كما تقرر في الأصول، وقد جهل هذا بعض المعممين فأنكروا علينا منذ أول العهد بإنشاء (المنار) ما كنا نورده في سياق تذكير المسلمين من الآيات التي نزلت في المشركين والمنافقين. ومما يؤيد مسلكنا هذا ما رواه البخاري والنسائي في تفسير هذه الآية من حديث جابر قال:
"لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بوجهك قال: { أو من تحت أرجلكم } قال: أعوذ بوجهك { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا أهون أو هذا أيسر" هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، ووقع في كتاب الاعتصام منه "هاتان أهون أو أيسر" - والشك من الراوي -
وإنما كانت خصلتا اللبس وإذاقة البأس أهون أو أيسر ; لأن المستعاذ منه قبلها هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين بألا يبقى من الأمة أحد، ويدل على ذلك أحاديث متعددة؛ منها حديث ابن عباس عند أبي بكر بن مردويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض، وألا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع الأخريين" .
وفي رواية أخرى عنده عنه - أي ابن عباس - قال: لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر } ... قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثم قال: "اللهم لا ترسل على أمتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعا ولا تذق بعضهم بأس بعض" قال: فأتاه جبريل فقال: يا محمد قد أجار الله أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم. أي: ولم يجرهم من العذابين الآخرين؛ لأنه لا بد أن يتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب، ويحل ما حل بهم من عذاب التفرق والخلاف،
وذلك مقتضى سنته تعالى في عقاب أتباع الرسل، يختلفون في الدين الجامع لكلمتهم فيكونون مذاهب وشيعا، ويتبع ذلك اختلافهم في السلطة والسياسة أو يتقدمه، ويترتب عليه التخاصم والاقتتال الذي نعهده، وهذا معنى قضاء الله في حديث ثوبان الذي يأتي قريبا.
وروى أبو الشيخ عن مجاهد في تفسير الآية أن هذا العذاب عذاب أهل الإقرار، وأن العذاب الأول عذاب أهل التكذيب.
وأوضح منه ما رواه ابن جرير، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا } قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ، فسأل ربه ألا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل. فهبط إليه جبريل فقال: يا محمد، إنك سألت ربك أربعا، فأعطاك اثنتين، ومنعك اثنتين: لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها، ولكنه يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهم بأس بعض، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء، ولكن يعذبون بذنوبهم. وأوحى الله إليه
{ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } [الزخرف: 41] يقول من أمتك { أو نرينك الذي وعدناهم } [الزخرف: 42] من العذاب وأنت حي { فإنا عليهم مقتدرون } [الزخرف: 42] فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فراجع ربه، فقال: "أي مصيبة أشد من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضا؟" وأوحي إليه { الم * أحسب الناس أن يتركوا } [العنكبوت: 1-2] الآيتين
فأعلمه أن أمته لم تخص دون الأمم بالفتن، وأنها ستبتلى كما ابتليت الأمم، ثم أنزل عليه
{ قل رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني مع القوم الظالمين } [المؤمنون: 93-94] فتعوذ نبي الله فأعاذه الله، لم ير من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة، ثم أنزل عليه آية حذر فيها أصحاب الفتنة، فأخبره أنه إنما يخص بها ناسا منهم دون ناس، فقال: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال: 25] فخص بها أقواما من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بعده وعصم بها أقواما. اهـ.
وقد وفى الحسن -رحمه الله - المسألة حقها من البيان بذكر ما يتعلق بها، وإن نزل بعدها بسنين كآية الأنفال الأخيرة، ولكنه لم يبين معنى هذه، وهو بيان سنته تعالى في الفتن، تصاب بها الأمم لا تصيب الذين ظلموا منهم، وكانوا سبب العذاب المترتب عليها خاصة، بل تحل بهم وبمن لم يمنعهم عن الظلم ولو عجزا، بل ظاهر الرواية مخالف لظاهر الآية في هذا، ولعله محرف.
واعلم أنه ورد في هذا المعنى أحاديث أخرى؛ منها أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه ألا يهلك أمته بتسليط عدو عليهم من غير أنفسهم، ولا بالسنة العامة - أي المجاعة والقحط - ولا بالغرق، ولا بما عذب به الأمم قبلهم كالريح والصيحة والرجفة. وقد أورد هذه الأحاديث الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية، والسيوطي في الدر المنثور.
وقد استشكل هذه الأحاديث العلماء بما ورد من الأحاديث المتعددة من الطرق المختلفة في إثبات وقوع الخسف والمسخ والقذف في هذه الأمة، وأمثل ما أجابوا به عنها هو أن ما دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عدم هلاك أمته كلها بما ذكر كما هلكت عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، ووقوع شيء من ذلك في بعض الأمة لا ينافي استجابة الدعاء، فإن منه الموت غرقا أو جوعا، وقد وقع لكثير من الأمة حتما.
ثم حدث لهذه الأمة في الأجيال الأخيرة ما هو أولى بالإشكال، وأحوج إلى مثل هذا الجواب، وهو تسليط الأعداء عليها المعارض لما ورد في هذا الباب
وأصحه ما رواه مسلم، من حديث ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا" ورواه أحمد وأصحاب السنن - إلا النسائي - وغيرهم بزيادة عما هنا،
وقد ظهر صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها، وفي وقوع بأسهم بينهم، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم، ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم، وكم تألبت عليهم الأمم، فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا، وما بقي لهم الآن قليل ضعيف، يتوقع الطامعون الاستيلاء عليه قريبا،
ونحن نرجو خذلان الطامعين، وإقامة قواعد استقلالنا على أساس متين، يضمنه تكافل الأمم وحفظها للسلم ولو عشرات من السنين، لعلنا نصير في فرصتها من العالمين
العاملين، الذين يحفظون حقيقتهم بأنفسهم، ولا يتكلون على تنازع الطامعين فيهم، فإن هذا اتكال على أمر سلبي لا يدوم لنا، وإن كان هو الذي أبقى لنا هذا القليل الذي ذكرنا، وبقاؤه هو مصداق الحديث على الطريقة المعتمدة في الجواب عن الدعاء برفع الخسف والقحط والغرق وغيرها في الأحاديث الأخرى.
ويمكن أن يجاب عن حديث ثوبان هذا بجواب آخر غير الذي يؤخذ من جوابهم عن غيره وغير ما أشرنا إليه آنفا في بيان صدقه، وهو أن الله تعالى لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بعروة الإيمان الوثقى، وقائمين بحقوقه ومنها الأسباب التي وعدهم الله تعالى النصر ما داموا مستمسكين بها،
وقد بينها لهم في كتابه، وتقدم كثير منها فيما مر من التفسير، ويؤيد ذلك حديث آخر عن ثوبان نفسه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" رواه أبو داود في سننه، والبيهقي في دلائل النبوة.
(تنبيه غافل، وتعليم جاهل).
يسيء كثير من المسلمين تأويل حديثي ثوبان وغيرهما من أحاديث الفتن، ويحملونها على ما يضرهم، وهو ما لم يرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يرضاه لهم، فوجب أن نبين الحق في ذلك؛ فنقول:
إن لأحوال الأمم العامة تأثيرا عظيما في فهم أفرادها لنصوص الدين وغيرها من أقوال الحكماء والشعراء، فهي في حال ارتقائها بالعلم والحكمة وما يثمران من العزة والقوة تكون أصح أفهاما، وأصوب أحكاما، وأكثر اعتبارا وادكارا، وأحسن استفادة واستبصارا، وفي حال فشو الغباوة والجهل، وما ينتجان من الضعف والذل، تكون بالضد من ذلك،
وأضرب مثلا لذلك: النصوص والحكم المنظومة والمنثورة في ذم الطمع والحرص على المال وزينة الدنيا، وما يقابلها من تعظيم أمر الآخرة والترغيب في معالي الأمور وبذل المال في سبيل الحق. لم تكن تلك النصوص والحكم والأشعار والأمثال بصادة للأمة في طور حياتها وارتقائها عن الفتح والكسب،
وإحراز قصب السبق في جميع ميادين التنازع على السيادة وموارد الرزق، بل كانت هي الحافزة لها إلى ذلك بقصد إعزاز الملة، ورفع شأن الأمة، لذلك كانوا يبذلون تلك الأموال بمنتهى السخاء في سبيل البر وأعمال الخير، ولو حفظ المتأخرون منا ما حبسه من قبلهم من الأوقاف على جميع المصالح العامة وأنواع البر لوجدوا أن جميع ما ملكوه من الأرض كان وقفا بل وقف مرارا; لأن الخلف الصالح صار يحول أوقاف السلف الصالح إلى ملك، حتى كان عم والدي الشيخ النقاد الخبير السيد أحمد أبو الكمال يقول على سبيل المبالغة في هذا المعنى: في كل مائة سنة يتحول كل وقف في طرابلس الشام ملكا، وكل ملك وقفا.
كانت تلك النصوص والحكم للأمة في تلك الحياة كالغذاء الصالح للجسم السليم، يزيده قوة، ويحفظ له حياته ويعوضه عن كل ما ينحل منه من الدقائق الميتة مادة حية خيرا منها، ثم صارت في طور الضعف كالغذاء الجيد في الجسم العليل، لا يزيده إلا ضعفا وانحلالا ; إذ صاروا يفهمون منها أن الكسل والخمول والتواكل والفقر والذل من مقاصد الدين، فصاروا لا يستفيدون منها إلا ضعفا وعجزا، ولا يزدادون مع ذلك إلا حرصا ودناءة وبخلا.
إذا تدبرت هذا المثال فاجعله مرآة لما ورد في الأحاديث النبوية من أنباء مستقبل الأمة الإسلامية، كسعة ملكها في مشارق الأرض ومغاربها - أي بالنسبة إلى الحجاز - ثم تداعي الأمم عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ومن تفرقها شيعا ووقوع بأسها بينها، وغير ذلك من أنباء الفتن، وما يكون قبل قيام الساعة من الإحداث والبدع،
واعلم أن ما أصاب الأمة الإسلامية بسوء فهمها لهذه الأحاديث - بعد فشو الجهل فيها - هو نحو مما أصابها بسوء فهمها لتلك النصوص والحكم التي أشرنا إليها في المثال. وطن جماهير المسلمين أنفسهم منذ قرون على الرضا بجميع الفتن والشرور التي أنبأت الأحاديث بوقوعها في المستقبل، فقعدت هممهم عن القيام بما أمر الله تعالى به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع المكروه، والدفاع عن الحق بقدر الاستطاعة، معتذرين لأنفسهم بأن ذلك قدر قد ورد بوقوعه الخبر، فلا مهرب منه ولا مفر، كما يعتذرون لأنفسهم عن ترك مجاراة الأمم العزيزة في أسباب العزة وطرق الثروة بالنصوص والحكم التي وردت في التنفير عن الطمع والجشع وتهوين أمر شهوات الدنيا، والترغيب في معالي الأمر وإيثار الحياة الباقية. ولا حجة لهم في شيء من ذلك، بل لله الحجة البالغة عليهم، وقد بسطنا ذلك مرارا في التفسير وفي غير التفسير.
وتراهم مع هذا قد تركوا السعي والعمل لما وعدوا به في الآيات والأحاديث من الخير والسيادة كما كان يسعى ويعمل له سلفهم، ومن تلك الوعود ما لم يأت تأويله ولا بد من إتيانه؛ لأن وعد الله مفعول لا بد منه، كما تركوا العمل بالنصوص الآمرة بالبذل في سبيل الله، مع ادعائهم الأخذ بما ورد في إيثار الآخرة على الدنيا أو احتجاجهم به.
وحقيقة الأمر أنهم رزئوا بالجهل والكسل وسقوط الهمة، فهم بجهلهم يتعبون ويشقون في اتباع أهوائهم والسعي لحظوظهم الشخصية الدنيئة، ولا يفكرون في المصالح العامة، ولا يعقلون وجه ارتباط المنافع الخاصة بها، بل يتركونها زاعمين أنهم قد وكلوا أمرها إلى الله وعملوا بهدي دينه فيها. بل لا يخطر في بال أحد منهم هذا الزعم إلا إذا عذله عاذل أو وبخه موبخ على تفريطه في حقوق أمته وما يجب عليه لملته، فحينئذ يعتذرون بالأقدار، أو بأن الآخرة لهم والدنيا للكفار، وقد ذكرناهم بفساد شبهتهم هذه مرارا
{ وما يتذكر إلا من ينيب } [غافر: 13].
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر أمته بما سيقع فيها من التفرق والشيع، وركوب سنن أهل الكتاب في الإحداث والبدع، وبغير ذلك من أخبار الفتن الخاصة بهم والمشتركة بينهم وبين الأمم - إلا لأجل أن يكونوا على بصيرة في مقاومة ضرها واتقاء تفاقم شرها،، لا لأجل أن يتعمدوا إثارة تلك الفتن والاصطلاء بنارها، والاقتراف لأوزارها، فمثله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كمثل الطبيب الذي يخبر المسافرين إلى أرض مجهولة لهم بما فيها من الأمراض؛ لأجل أن يبذلوا جهدهم في اتقاء وقوعها بهم، ثم في مداواة من يصاب بها منهم، لا لأجل أن يجعلوا أنفسهم عرضة لها بإتيان أسبابها، وتوطين النفس على الهلاك بترك التداوي منها.
وقد كان أهل الصدر الأول يفهمون ذلك من النصوص، كما صرحت به عائشة في حديث لعن أهل الكتاب لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، فإنها عللته بقولها: يحذر ما صنعوا. وقد صرحت النصوص بالنهي عن التفرق والاختلاف الذي تدهور في تيهوره أهل الكتاب حتى لا نقع فيه على غرارة وجهالة فيكون شره مستطيرا، ولا نهتدي إلى تخفيفه سبيلا
{ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } [الزمر: 9] ولو أن علماء الصحابة أو التابعين كتبوا في التفسير وشرح الحديث لبينوا لنا ذلك.
ولم يقصر المصنفون من المتقدمين والمتأخرين في شيء من علم الكتاب والسنة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى في الأمم، والجمع بين النصوص في ذلك والحث على الاعتبار بها، ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام وقواعد الكلام لأفادوا الأمة ما يحفظ به دينها ودنياها، وهو ما لا يغني عنه التوسع في دقائق مسائل النجاسة والطهارة، والسلم والإجارة، فإن العلم بسنن الله تعالى في عباده، لا يعلوه إلا العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، بل هو منه أو من طرقه ووسائله.
وقد فطن لهذا بعض حكماء العلماء، فقال أبو حامد الغزالي في بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة من كتاب العلم في الإحياء: وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، وسننه في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته.
ثم فضل أهل هذا العلم على جميع العلماء كالمتكلمين والفقهاء، وأيده في ذلك العز بن عبد السلام إذ استفتي فيه فأفتى بصحته. وبين الغزالي في غير هذا الفصل من فصول الباب الثاني من أبواب العلم أن هذا العلم هو الذي امتاز به عظماء الصحابة - رضي الله عنهم، وأنه هو العلم الذي عناه عبد الله بن مسعود لما مات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقوله: مات تسعة أعشار العلم (ورواه أبو خيثمة في كتاب العلم بلفظ: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم).
أقول: أما العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله فهو معراج الكمال الإنساني، وأما العلم بسنته تعالى في خلقه فهو وسيلة ومقصد، أعني أنه أعظم الوسائل لكمال العلم الذي قبله، ومن أقرب الطرق إليه، وأقوى الآيات الدالة عليه، وأنه أعظم العلوم التي يرتقي بها البشر في الحياة الاجتماعية المدنية فيكونون بها أعزاء أقوياء سعداء، وإنما يرجى بلوغ كمال الاستفادة منه إذا نظر فيه إلى الوجه الرباني والوجه الإنساني جميعا، وهو ما كان عمر ينظر فيه بنور الله في فطرته وهداية كتابه، وأما أبو حامد فقد لاحظ الوجه الرباني فقط، وإن في سياسة عمر وفي كلامه لدلائل كثيرة على ما ذكرنا من بصيرته في هذا العلم، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهله، وأن يجعله وسيلة لنا لتكميل أنفسنا، وإصلاح ما فسد من أمر أمتنا، آمين.
إذا تدبرت هذا أيها القارئ، فاعلم أن الاستدلال بما ورد من الأخبار والآثار في تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن والساعة على أن الأمة الإسلامية قد قضي عليها بدوام ما هي عليه الآن من الضعف والجهل ولوازمهما كما يزعم الجاهلون بسنن الله، اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطسة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم في الأرض، فإن عمومها لم يتم بعد، وكخبر
"لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق" رواه أحمد، والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عند مسلم من أن مساحة المدينة سوف تبلغ الموضع الذي يقال له: إهاب، أي أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ص: 88].
{ وكذب به قومك وهو الحق } الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أي: وكذب جمهور قومك وهم قريش بالعذاب أو بالقرآن، على ما صرفنا فيه من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان بجعلها حججا يثبتها الحس والعقل والوجدان في أعلى أساليب البلاغة وحسن البيان، والحال أنه هو الحق الثابت في نفسه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما سبب ذلك إلا الكبر والعناد والجمود على تقليد الآباء والأجداد
{ قل لست عليكم بوكيل } أي: قل لهم أيها الرسول: إنني لست بوكيل مسيطر عليكم، وإنما أنا رسول لكم، فالوكيل هو الذي توكل إليه الأمور، وفي الوكالة معنى السيطرة والتصرف، فمن جعله السلطان أو الملك وكيلا له على بلاده أو مزارعه يكون مأذونا بالتصرف عنه فيها والسيطرة على أهلها، والرسول مبلغ عن الله تعالى، يذكر الناس ويعلمهم ويبشرهم وينذرهم، ويقيم دين الله فيهم، هذه وظيفته، وليس وكيلا عن ربه ومرسله، ولا يعطى القدرة على التصرف في عباده حتى يجبرهم على الإيمان إجبارا ويكرههم عليه إكراها
{ لا إكراه في الدين } [البقرة: 256] - { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } [الغاشية: 21-22] { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } [ق: 45] { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } [البقرة: 272] وراجع تفسير (6: 48) وقيل: الوكيل الحفيظ المجازي.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن هذه الآية نسخت بآية القتال، وتمسك بهذه الرواية كثير من المفسرين المغرمين بتكثير الآيات المنسوخة، قال الفخر الرازي: وهو بعيد، وهو في قوله المصيب، فإن الأذى بالقتال للدفاع عن الحق والحقيقة وحماية الدعوة والبيضة لم يخرج الرسول عن كونه رسولا، أي عبدا لله مبلغا عنه، لا شريكا له ولا وكيلا،
وما أرى الرواية تصح عن ابن عباس، ولو صحت لكان الوجه في مراده منه أن آية القتال أزالت ما كان من لوازم هذه الآية وأمثالها من إرشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى السكوت للمشركين على ما كان من تكذيبهم لما جاء به، ذلك التكذيب القولي العملي الذي أبرزوه بالصد عنه، ومنعه من تبليغ دعوة ربه، وإيذائه وإيذاء من آمن به، فإن الصحابة كانوا يريدون من النسخ معنى أعم من المعنى الذي قرره علماء الأصول، وهو الذي يجري عليه المفسرون،
ومن هنا قال الزجاج في تفسير العبارة: أي أني لم أؤمر بحربكم ومنعكم عن التكذيب. انتهى. وبناء على هذا قال كثيرون بنسخ الآيات الكثيرة التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر والعفو وحسن المعاملة، وهي هي الفضائل التي كان - صلى الله عليه وسلم - متحليا بها طول عمره مع وضعه كل شيء في موضعه.

ووضع الندى في موضع السيف في العلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى.

{ لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون } هذا تمام ما أمر الله تعالى رسوله أن يقوله لقومه المكذبين، والنبأ: الخبر كما قيل، أو الخبر الذي له شأن يهتم به، وقال الراغب: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة. انتهى. ويراد به المعنى المصدري أو مدلوله الذي يقع مصدقا له، والمستقر مصدر ميمي بمعنى الاستقرار وهو الثبات الذي لا تحول فيه، واسم زمان ومكان له، وإرادة الزمان هنا أظهر، ويستلزم غيره معه.
والمعنى: لكل شيء ينبأ عنه مستقر تظهر فيه حقيقته، ويتميز حقه من باطله، فلا يبقى مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأ به القرآن الذي كذبتم به من وعد ووعيد، أو لكل نبأ من أنباء القرآن الحق الذي كذبوا به زمان يحصل فيه مضمونه، فيكون قارا ثابتا فيه. ومن هذه الأنباء ما وعد الله الرسول، من نصره عليهم وما أوعدهم من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة
{ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } [الزمر: 25-26] { قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } [هود: 93] { ويحل عليه عذاب مقيم } [هود: 93 { إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل } [الزمر: 41] وسوف تعلمون ذلك عند وقوعه. وحسبك هذه الشواهد فهي مطابقة لما هنا أتم المطابقة، وإذ جعل المستقر بمعنى الاستقرار كان معناه لكل نبأ من أنباء القرآن استقرار أي وقوع ثابت لا بد منه. ومن أنباء القرآن ما هو خاص بأولئك القوم، ومنه ما هو في غيرهم، ومنه ما هو نبأ عن أهل ذلك العصر، ومنه ما هو نبأ عمن بعدهم، ومنه ما هو عام يشمل أمورا تأتي في أزمنة مختلفة، فيحصل في كل زمن منها ما يثبت لمن فقه حقية القرآن { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 52-53] وإذا أردت أن تزداد فهما بوجوه الاتصال والتناسب بين الآيات في هذا السياق، فارجع إلى ما ذكرناه من الكلام في مسألة استعجالهم العذاب وأجله الذي لا يتعداه، والحمد لله.