التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ
١٨
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٩
-الأنفال

تفسير المنار

نبدأ بتفسير الألفاظ الغريبة في الآيات فنقول: (الزحف) مصدر زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي، أو على ركبتيه، قال امرؤ القيس:

فأقبلت زحفا على الركبتين فثوب لبست وثوب أجر

والمشي بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف الدبى (صغار الجراد قبل طيرانها) قال في الأساس: وزحف البعير وأزحف: أعيا حتى جر فرسنه، وزحف الشيء جره جرا ضعيفا، وزحف العسكر إلى العدو: مشوا إليهم في ثقل لكثرتهم، ولقوهم زحفا، وتزاحف القوم وزاحفناهم، وأزحف لنا بنو فلان صاروا لقتالنا. انتهى ملخصا. والزحف الجيش، ويجمع على زحوف لخروجه عن معنى المصدرية، و (الأدبار) جمع دبر (بضمتين) وهو الخلف، ومقابله القبل بوزنه وهو القدام؛ ولذلك يكنى بهما عن السوأتين، وتولية الدبر والأدبار عبارة عن الهزيمة؛ لأن المنهزم يجعل خصمه متوليا ومتوجها إلى دبره ومؤخره، وذلك أعون له على قتله إذا أدركه و (المتحرف) للقتال أو غيره هو المنحرف عن جانب إلى آخر، وأصله في الحرف وهو الطرف، وصيغة التفعيل تعطيه معنى التكلف أو معاناة الفعل المرة بعد المرة أو بالتدريج، وفي معناه (المتحيز) وهو المنتقل من حيز إلى آخر. والحيز المكان، ومادته الواو، فالحوز المكان يبنى حوله حائط، قال في الأساس: انحاز عن القوم: اعتزلهم، وانحاز إليهم وتحيز انضم. وذكر جملة الآية و (الفئة) الطائفة من الناس و (المأوى) الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان وينضم و (موهن) الشيء مضعفه، اسم فاعل من أوهنه أي أضعفه، ومثله وهنه وهنا ووهنه توهينا. و (الكيد) التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء غايته المكيدية به كما تقدم في تفسير الآية 183 من سورة الأعراف. و " الاستفتاح " طلب الفتح والفصل في الأمر، كالنصر في الحرب.
والمعنى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } أي: إذا لقيتموهم حال كونهم زاحفين لقتالكم، كما كانت الحال في غزوة بدر، فإن الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فثقفوهم في بدر فلا تولوهم الأدبار أي: { فلا تولوهم ظهوركم } وأقفيتكم منهزمين منهم، وإن كانوا أكثر منكم عددا وعددا، وإذا كان التزاحف من الفريقين أو كان الزحف من المؤمنين فتحريم الفرار والهزيمة أولى، ولفظ " لقيتموهم زحفا " يصلح للأحوال الثلاثة، ورجح الأول هنا بقرينة الحال التي نزلت فيها الآية، وكون النهي عن التولي والفرار إنما يليق بالمزحوف عليه; لأنه مظنة له، ويليه ما إذا كان التزاحف من الفريقين، وأما الزاحف المهاجم فليس مظنة للتولي والانهزام فيبدأ بالنهي عنه، وهو منه أقبح.
{ ومن يولهم يومئذ دبره } عبر بلفظ تولية الدبر في وعيد كل فرد، كما عبر به في نهي الجماعة لتأكيد حرمة جريرة الفرار من الزحف وكون الفرد فيها كالجماعة، وآثر هذا اللفظ مفردا وجمعا على لفظ الظهور والظهر أو القفا والأقفية زيادة في تشنيعها؛ لأنه لفظ يكنى به عن السوأة، أي وكل من يولهم يوم إذ تلقونهم دبره { إلا متحرفا لقتال } أي: إلا متحرفا لمكان من أمكنة القتال رآه أحوج إلى القتال فيه - أو متحرفا لضرب من ضروبه رآه أبلغ في النكاية بالعدو، كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه فينفرد عن أشياعه فيكر عليه فيقتله { أو متحيزا إلى فئة } أي: متنقلا إلى فئة من المؤمنين في حيز غير الذي كان فيه لينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليه ممن كان في حيزهم فقد باء بغضب من الله أي: فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله عليه ومأواه جهنم وبئس المصير ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير جهنم. كأن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه من الهلاك فعوقب على ذلك بجعل عاقبته التي يصير إليها دار الهلاك والعذاب الدائم أي جوزي بضد غرضه من معصية الفرار، وقد تكرر في التنزيل التعبير عن جهنم والنار بالمأوى، وهو إما من قبيل ما هنا، وإما للتهكم المحض، فإنك إذا راجعت استعمال هذا الحرف في غير هذا المقام من التنزيل تجده لا يذكر إلا في مقام النجاة من خوف أو شدة، كقوله تعالى:
{ { إذ أوى الفتية إلى الكهف } [الكهف: 10] وقوله: { أو آوي إلى ركن شديد } [هود: 80] وقوله: { { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } [هود: 43] وقوله: { والذين آووا ونصروا } [الأنفال: 72] إلخ.
والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وقد جاء التصريح بذلك في أحاديث أصحها عن أبي هريرة مرفوعا عند الشيخين
"اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين، وعد بعضهم الآية منسوخة بقوله تعالى من هذه السورة: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } [الأنفال: 66] الآية وستأتي. وهذا ظاهر على قول من يسمي التخصيص نسخا كالمتقدمين. قال الشافعيرحمه الله تعالى: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة.
وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروى هو وابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر.
وقد روي عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاص بيوم بدر - قيل: إنه بناء على أن قوله تعالى: يومئذ يراد به يوم بدر، ولكن هذا خلاف قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويؤيده نزول الآية بعد انتهاء الغزوة، فإنه ليس فيها ذكر " يوم بدر " وإنما المراد بتنوين يومئذ ما فهم من أول الآية، أي يوم لقائهم زحفا كما تقدم، فاليوم فيه بمعنى الوقت.
وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام، لو انهزم فيها المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم لكانت الفتنة كبيرة، وتأييد المسلمين فيها بالملائكة يثبتونهم، ووعده تعالى بنصرهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم - فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص، وقرينة الحال في النهي، اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها، أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رضي الله عنهم بالتولي والإدبار خاصا بها، أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رضي الله عنهم بالتولي والإدبار في القتال مرتين مع وجوده صلى الله عليه وسلم معهم: يوم أحد، وفيه يقول الله تعالى:
{ { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } [3: 155] ويوم حنين وفيه يقول الله تعالى: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [التوبة: 25 - 26] إلخ. وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير، بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا.
وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال:
" "كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة، وكنت فيمن حاص، - فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا. فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من، الفرارون؟. فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة المسلمين. قال: فأتيناه حتى قبلنا يده" . ولفظ أبي داود فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب، ولا يرانا أحد، فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا، فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون إلخ ". تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى، ولا لللغة حكم، وقد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد أقول: وهو مختلف فيه، ضعفه الكثيرون. وقال ابن حبان: كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه، فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح، وجملة القول أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة. وأما قوله: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم فهو وصل للنهي عن التولي بما هو حجة على جدارتهم بالانتهاء، فإن كانت الآية التي قبله قد نزلت بعد انتهاء القتال في غزوة بدر كسائر السورة كما عليه الجمهور فوجه الوصل بالفاء ظاهر جلي، كأنه يقول: يا أيها المؤمنون لا تولوا الكفار ظهوركم في القتال أبدا، فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، فها أنتم أولاء قد انتصرتم عليهم على قلة عددكم وعددكم وكثرتهم واستعدادهم، وإنما ذلك بتأييد الله تعالى لكم، وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذريع بمحض قوتكم واستعدادكم المادي، ولكن الله قتلهم بأيديكم بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب في قلوبهم، فهو بمعنى قوله عز وجل: { { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } [التوبة: 14] الآية، والمؤمن أجدر بالصبر الذي هو الركن الأعظم للنصر من الكافر؛ لأنه أقل حرصا على متاع الدنيا، وأعظم رجاء بالله والدار الآخرة كما قال تعالى: { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } [النساء: 104] وقال حكاية لرد المؤمنين بهذا الرجاء، على الخائفين من كثرة الأعداء: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } [البقرة: 249].
ثم التفت عن خطاب المؤمنين المقاتلين بأيديهم، والمجندلين لصناديد المشركين بسيوفهم إلى خطاب قائدهم وهو الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد منه تعالى بالآيات، ومنها أنه رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب قائلا:
" "شاهت الوجوه " فأعقبت رميته هزيمتهم، روي عن أبي معشر المدني عن محمد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظي بالمعنى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في استغاثته يوم بدر: " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا. قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم - ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين" " وروى السدي أنه صلى الله عليه وسلم طلب من علي أن يعطيه حصبا من الأرض، فناوله حصبا عليه تراب فرماهم به إلخ. وعن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة أيضا أن الآية في رميه صلى الله عليه وسلم في بدر. فإذا لم تكن رواية من هذه الروايات وصلت إلى درجة الصحيح فمجموعها مع القرينة حجة على ذلك. وروي مثل هذه الرمية في غزوة حنين، فحمل الآية بعضهم على ذلك وهو شاذ، وحملها بعضهم على رميه صلى الله عليه وسلم لأمية بن خلف بالحربة يوم أحد وهو مقنع بالحديد فقتله وهو شاذ أيضا، فالآية بل السورة نزلت في غزوة بدر.
والمعنى { وما رميت إذ رميت } إلخ. وما رميت أيها الرسول أحدا من أولئك المشركين في الوقت الذي رميت فيه تلك القبضة من التراب، بإلقائها في الهواء فأصابت وجوههم، فإن ما أوتيته كأمثالك من البشر من استطاعة على الرمي لا يبلغ هذا التأثير الذي هو فوق الأسباب الممنوحة لهم { ولكن الله رمى } وجوههم كلهم بما أوصل التراب الذي ألقيته في الهواء إليها مع قلته، أو بعد تكثيره بمحض قدرته، وحذف مفعول الرمي للدلالة على عمومه في كل من الإثبات والنفي، كما قدرنا فيهما وفاقا لما تقرر في علم المعاني - وقد علم من هذا التفسير المتبادر من اللفظ بغير تكلف وجه الفرق بين قتل المؤمنين للكفار الذي هو فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب الذي ليس بسبب لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله، وبعدهم عن راميه، وكونهم غير مستقبلين كلهم له، ولأجل هذا الفرق ذكر مفعول القتل مثبتا ومنفيا - وهو ضمير المشركين - فنفى القتل المحسوس مطلقا، وأثبت المعقول مطلقا; لعدم تعارضهما، فالمراد من كل منهما ظاهر بغير شبهة، ولو أثبت لهم القتل مع نفيه عنهم بأن قال: إذ قتلتموهم - لكان تناقضا ظاهرا يخفى وجهه جعل المثبت منه غير المنفي. وقتلهم لهم مشاهد لا يحتاج إلى إثبات من حيث كان سببا ناقصا، وإنما الحاجة إلى بيان نقصه وعدم استقلاله بالسببية، ثم بيان ما لولاه لم يكن، وهو إعانة الله ونصره.
وأما رمي النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه القوم فلم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، والجمع بين نفيه وإثباته لا يوهم التناقض للعلم بعدم السببية. ولم يذكر مفعول الرمي بأن يقال: " وما رميت وجوههم " إذ لا شبهة هنا في عدم استطاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا استقلالا بكسبه العادي، وأما هنالك فالظاهر أن القتل من كسبهم الاستقلالي.
والحقيقة أنه لولا تأييد الله تعالى ونصره بما تقدم بيانه لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل، وقد علمنا ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال ومجادلة النبي صلى الله عليه وسلم فيه:
{ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } [الأنفال: 6] فلو ظلوا على هذه الحالة المعنوية مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب أن يمحقهم المشركون محقا.
وأما الفرق بين فعله تعالى في القتل وفعله في الرمي. فالأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل التي تقدم بيانها، كما هو الشأن في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة، كقوله تعالى:
{ { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما } [الواقعة: 63 - 65] إلخ. فالإنسان يحرث الأرض، ويلقي فيها البذر، ولكنه لا يملك إنزال المطر، ولا إنبات الحب وتغذيته بالتراب المختلف العناصر، ولا دفع الجوائح عنه، ولا يستقل إيجاد الزرع وبلوغ ثمرته وصلاحها بكسبه وحده. وأما الثاني فهو من فعله تعالى وحده بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلم في تأثيره، فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فمثله في ذلك كمثل أخيه موسى عليه السلام في إلقائه العصا { فإذا هي حية تسعى } [طه: 20] فخاف منها أولا كما ورد في سورتي طه والنمل.
هذا ما يدل عليه نظم الكلام بلا تكلف، ولا حمل على المذاهب والآراء الحادثة من كلامية وتصوفية وغيرها، فالجبري يحتج بها على سلب الاختيار، وكون الإنسان كالريشة في الهواء، والاتحادي يحتج بها على وحدة الوجود، وكون العبد هو الرب المعبود، والأشعري يحتج بها على الجمع بين كسب العبد وخلق الرب بإسناد الرمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى الخالق عز وجل. وهو يغني عن إسناد القتل إلى المؤمنين بالأولى، والقرآن فوق المذاهب وقبلها، غني بفصاحته وبلاغته عن هذه التأويلات كلها
{ كل حزب بما لديهم فرحون } [الروم: 32] وكلام الله فوق ما يظنون.
وأما موقع " الفاء " في أول الآية على القول بأن الآية السابقة عليها نزلت قبل القتال تحريضا عليه، فقد قيل: إنها واقعة في جواب شرط مقدر، واختلفوا في تقديره. وقال بعضهم: بل هي لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض، وقد يقال: إنه لا مانع من نزولها بعد المعركة، ووصلها بما قبلها للدلالة على ما ذكرنا من التعليل والاحتجاج على مشروعية النهي عن الهزيمة، وأولى منه أن يستدل بها على نزول ما قبلها في ضمن السورة بعد المعركة.
وأما قوله تعالى: { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } فهو معطوف على تعليل مستفاد مما قبله، أي أنه فعل ما ذكر لإقامة حجته، وتأييد رسوله { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } بالنصر والغنيمة وحسن السمعة. والبلاء: الاختبار بالحسن أو بالسيئ، كما قال تعالى في بني إسرائيل:
{ { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [الأعراف: 168] وتقدم بيانه بالتفصيل. وختم الآية بقوله: { إن الله سميع عليم } وهو تعليل مستأنف للبلاء الحسن، والمراد أنه تعالى سميع لما كان من استغاثة المؤمنين مع الرسول ربهم ودعائهم إياه وحده، عليم بصدقهم وإخلاصهم، وبما يترتب على استجابته لهم من تأييد الحق الذي هم عليه، وخذلان الشرك، كما أنه سميع لكل نداء وكلام، عليم بالنيات الباعثة عليه، والعواقب التي تنشأ عنه، وبكل شيء.
ولما كان من سنة القرآن المقابلة بين الإيمان والكفر، وبين أهل كل منهما وجزائهما عليهما قال: { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } أي: الأمر في المؤمنين وفائدتهم مما تقدم هو ذلكم الذي سمعتم، ويضاف إليه تعليل آخر، وهو أن الله تعالى موهن كيد الكافرين، أي مضعف كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن تقوى وتشتد، قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر (موهن) بتشديد الهاء والتنوين ونصب (كيد) والتشديد للمبالغة في الوهن. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والإضافة والباقون بالتخفيف والنصب.
وقد صرح التنزيل بجزاء الفريقين في تعليل آخر في عاقبة الحرب، قال في سياق غزوة أحد في سورة آل عمران:
{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 140 - 141].
{ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } قيل: إن الخطاب للكفار، ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم، ثم التفت عنه إلى تذكيرهم وتوبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر محمد بن إسحاق وعروة عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير " أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة. فكان ذلك استفتاحا منه " رواه عنه أحمد، ورواه النسائي في التفسير والحاكم في المستدرك عن الزهري، وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم.
وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } يقول: قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه وسلم " وفي رواية " أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم رب ديننا القديم ودين محمد الحديث، فأي الدينين كان أحب إليك، وأرضى عندك فانصر أهله اليوم " فالفتح هو نصر النبي ودينه وأتباعه. وهذا يدل على أن أبا جهل كان مغرورا بشركه واثقا بدينه، ولم يكن أكثر أكابر مجرمي مكة كذلك، بل كان كفرهم عن كبر وعلو وحسد للنبي صلى الله عليه وسلم.
{ وإن تنتهوا فهو خير لكم } أي: إن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم; لأنكم لا تكونوا إلا مغلوبين مخذولين كقوله:
{ { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [آل عمران: 12] والخيرية في هذه الحالة بالإضافة إلى الاستمرار على العدوان والقتال، ويحتمل أن يراد به الانتهاء عن الشرك فتكون الخيرية على حقيقتها وكمالها.
{ وإن تعودوا نعد } أي: إن تعودوا إلى مقاتلته نعد لما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم الذي يذل فيه شرككم، وتدول الدولة للمؤمنين عليكم { ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت } أي: ولن تدفع عنكم جماعتكم من المشركين شيئا من بأس الله وبطشه ولو كثرت عددا فالكثرة لا تكون سببا للنصر، إلا إذا تساوت مع القلة في الثبات والصبر، والثقة بالله عز وجل { وأن الله مع المؤمنين } بالمعونة والولاية والتوفيق فلا تضرهم قلتهم. قرأ نافع وابن عامر (وأن) وحفص بفتح الهمزة بتقدير اللام أي: ولأن الله مع المؤمنين كان الأمر ما ذكره، وقرأها الباقون بالكسر على الاستئناف.
وقيل: إن الخطاب في الآية للمؤمنين كسابقه ولاحقه، والمعنى: إن تستنصروا ربكم وتستغيثوه عند شعوركم بالضعف والقلة فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يأمر به الرسول، ومجادلته في الحق بعدما تبين فهو خير لكم. وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني عنكم كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فها نحن أولاء قد نصرناكم على قلتكم وضعفكم.
هذا أقوى من كل ما رأيناه في تصوير المعنى، فأكثر ما قالوه ظاهر التكلف، ولولا السياق لكان المعنى الأول أرجح; لأنه أظهر.