التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٥
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٢٦
-الأنفال

تفسير المنار

يقال دعاه فأجابه واستجابه واستجاب له، وكثر المتعدي في التنزيل، ويقول الراغب: إن أصل الاستجابة التهيؤ والاستعداد للإجابة فحل محلها، أقول: والأقرب إلى الفهم قلب هذا وعكسه، وهو أن الاستجابة هي الإجابة بعناية واستعداد، فتكون زيادة السين والتاء للمبالغة، وهو يقرب مما قالوه في معانيهما من التكلف والتحري أو هو بعينه، إلا أنه لا يعبر به فيما يسند إلى الله تعالى كقوله: { فاستجاب لهم ربهم } [آل عمران: 195].
فقوله: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } معناه إذا علمتم ما فرضنا عليكم من الطاعة، وشأن سماع التفقه من الهداية، وقد دعاكم الرسول بالتبليغ عن الله تعالى لما يحييكم، فأجيبوا الدعوة بعناية وهمة، وعزيمة وقوة، فهو كقوله تعالى:
{ خذوا ما آتيناكم بقوة } [البقرة: 63] والمراد بالحياة هنا حياة العلم بالله تعالى وسننه في خلقه، وأحكام شرعه والحكمة والفضيلة والأعمال الصالحة التي تكمل بها الفطرة الإنسانية في الدنيا، وتستعد للحياة الأبدية في الآخرة، وقيل: المراد بالحياة هنا الجهاد في سبيل الله؛ لأنه سبب القوة والعزة والسلطان - والصواب أن الجهاد يدخل فيما ذكرنا، وليس هو الحياة المطلوبة، بل هو وسيلة لتحققها وسياج لها بعد حصولها، وقيل: هي الإيمان والإسلام، وإنما يصح باعتبار ما كان يتجدد من الأحكام، وثمرته في القلوب والأعمال، وبما في الاستجابة من معنى المبالغة في الإجابة، وإلا فالخطاب للمؤمنين. وقيل: هي القرآن، ولاشك أنه ينبوعها الأعظم، الهادي إلى سبيلها الأقوم، مع بيانه من سنة الرسول وهديه الذي أمرنا بأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، ويدل عليه اقتران طاعته بطاعة الله تعالى، بل قال بعض العلماء: إنه كان إذا دعا شخصا وهو يصلي يجب عليه أن يترك الصلاة استجابة له، وأن الصلاة لا تبطل بإجابته، بل له أن يبني على ما كان صلى ويتم، واستدلوا على ذلك بحديث رواه البخاري عن سعيد بن المعلى قال: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه - أو قال: فلم آته حتى صليت ثم أتيته - فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم }" ؟ الحديث.
وروى الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة
" أنه صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو في الصلاة " وذكر نحوا مما رواه البخاري عن أبي سعيد وصححه. وقال الحافظ في باب فضائل الفاتحة من الفتح عند ذكر فقه الحديث: وفيه أن الأمر يقتضي الفور; لأنه صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابي على تأخير إجابته، وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها. قال الخطابي: فيه أن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع مقتضاه، وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص؛ لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم ثم استثنى منها إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة (وفيه) أن إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة - هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل، أما كونه يخرج لإجابته من الصلاة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة، ولو خرج المجيب من الصلاة وإلى ذلك جنح بعض الشافعية إلى آخر ما أورده، ولا تعرض فيه لما يدعو المرء إليه، وهل يشترط لما ذكر أن يكون من أمر الدين أم لا؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم دعا سعيدا هذا ليعلمه فضل سورة الفاتحة، وأنها السبع المثاني، وفي متن الحديث شيء من الاضطراب على أنه لا يتعلق به بعده صلى الله عليه وسلم عمل.
وأحق من هذا بالبيان أن طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته، وبعد مماته فيعلم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمر الدين الذي بعثه الله تعالى به، كبيانه لصفة الصلوات وعددها والمناسك ولو بالفعل، مع قوله:
"صلوا كما رأيتموني أصلي" وقوله: "خذوا عني مناسككم" ومقادير الزكاة وغير ذلك من السنن العملية الدينية المتواترة، وكذا أقواله المتواترة التي أمر بتبليغها فيما تدل عليه دلالة قطعية - وأما غير القطعي رواية ودلالة من سننه فهو محل الاجتهاد، فكل من ثبت عنده شيء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم على أنه من أمر الدين، فينبغي له الاهتداء به فيما دل عليه من الأحكام الخمسة بحسبها - الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة -؛ لأن الأمور العملية الاجتهادية يكتفى فيها بالظن الراجح في الدليل وفي دلالته، ولكن لا يملك أحد من المسلمين أن يجعل اجتهاده تشريعا عاما يلزمه غيره أو ينكر عليه مخالفته أو مخالفة من قلده هو فيه، إلا الأئمة أولي الأمر، فتجب طاعتهم في اجتهادهم في أحكام المعاملات القضائية والسياسية إذا حكموا بها لإقامة الشرع وصيانة النظام العام - وعلى هذا كله جرى السلف الصالح، وجميع أئمة الأمصار، ومن كلامهم: إن المجتهد لا يقلد مجتهدا، وإنه لا يجب على أحد أن يقلد أحدا معينا في دينه، ولكن من عرض له أمر يستفتي فيه من يطمئن قلبه لعلمه بالكتاب والسنة، ويأخذ بفتواه إذا اطمأن لها. وقد امتنع الإمام مالك من إجابة المنصور ثم الرشيد إلى ما عرضاه عليه من إلزام الناس العمل بكتبه، حتى الموطأ الذي هو سنن واطأه جل علماء المدينة عليها.
أما من يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت تجب طاعته في عهده، ولا يجب العمل بعده إلا بالقرآن وحده، فهم زنادقة ضالون مضلون يريدون هدم الإسلام بدعوى الإسلام، بل تجب طاعة الرسول كما أطلقها الله تعالى، ويجب التأسي به في كل زمان إلى يوم القيامة، بل نقول: إننا نهتدي بخلفائه الراشدين، وأئمة أهل بيته الطاهرين، وعلماء أصحابه العاملين، وعلماء السلف من التابعين، وأئمة الأمصار من أهل البيت والفقهاء المحدثين، يهتدى بهم في آدابهم واجتهاداتهم القضائية والسياسية مع مراعاة القواعد الشرعية والمصالح العامة، ولا نسمي شيئا منها دينا ندين لله به إلا ما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المتقدم، وأما السنن والإرشادات النبوية في أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم فلم يعدها أحد من السلف، ولا علماء الخلف من أمور الدين، فتسمية شيء منها دينا بدعة منكرة; لأنه تشريع لم يأذن به تعالى، وقد فصلنا هذه المسألة من قبل في هذا التفسير وفي غيره من مقالات المنار.
{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } هذا تنبيه لأمرين عظيمين أمرنا الله أن نعلمهما علما يقينا إذعانيا لما لهما من الشأن في مقام الوصية بالاستجابة لدعوة الحياة الإنسانية العليا التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. (الأول) أن من سنة الله في البشر الحيلولة بين المرء وبين قلبه، الذي هو مركز الوجدان والإدراك، ذي السلطان على إرادته وعمله، وهذا أخوف ما يخافه المتقي على نفسه، إذا غفل عنها، وفرط في جنب ربه، كما أنه أرجى ما يرجوه المسرف عليها إذا لم ييأس من روح الله فيها، فهذه الجملة أعجب جمل القرآن، ولعلها أبلغها في التعبير، وأجمعها لحقائق علم النفس البشرية، وعلم الصفات الربانية، وعلم التربية الدينية، التي تعرف دقائقها بما تثمره من الخوف والرجاء، فبينا زيد يسير على سبيل الهدى، ويتقي بنيات طرق الضلالة الموصلة إلى مهاوي الردى، إذا بقلبه قد تقلب بعصوف هوى جديد، يميل به عن الصراط المستقيم، من شبهة تزعزع الاعتقاد، أو شهوة يغلب بها الغي على الرشاد. فيطيع هواه، ويتخذه إلهه من دون الله
{ { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } [الفرقان: 43] على أنه فيه مختار، فلا جبر ولا اضطرار.
ويقابل هذا من الحيلولة ما حكى بعضهم عن نفسه، أنه كان منهمكا في شهواته ولهوه، تاركا لهداه وطاعة ربه، فنزل يوما في زورق مع خلان له في نهر دجلة للتنزه ومعهم النبيذ والمعازف، فبينا هم يعزفون ويشربون، إذ التقوا بزورق آخر فيه تال للقرآن يرتل سورة
{ إذا الشمس كورت } [التكوير: 1] فوقعت تلاوته من نفسه موقع التأثير والعظة، فاستمع له وأنصت، حتى إذا بلغ قوله تعالى: { { وإذا الصحف نشرت } [التكوير: 10] امتلأ قلبه خشية من الله، وتدبرا لاطلاعه على صحيفة عمله يوم يلقاه. فأخذ العود من العازف فكسره، وألقاه في دجلة، وثنى بنبذ قناني النبيذ وكئوسه فيها، وصار يردد الآية، وعاد إلى منزله تائبا من كل معصية، مجتهدا في كل ما يستطيع من طاعة.
فتذكير الله تعالى إيانا بهذا الشأن من شئون الإنسان، وهذه السنة القلبية من سنن الله تعالى في الإرادات والأعمال، وأمره إيانا بأن نعلمها علم إيقان وإذعان، يفيدنا فائدتين لا يكمل بدونهما الإيمان، وهما ألا يأمن الطائع المشمر من مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، وألا ييأس العاصي والمقصر في الطاعة من روح الله، فيسترسل في اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه.
ومن لم يأمن عقاب الله، ولم ييأس من رحمة الله، يكون جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره، ويعاقب نفسه على هفواته؛ لتظل على صراط العدل المستقيم، متجنبة الإفراط والتفريط، ويتحرى أن يكون دائما بين خوف يحجزه عن المعاصي، ورجاء يحمله على الطاعات، ويساعدنا على ذلك (الأمر الثاني) وهو أن نذكر حشرنا إليه عز وجل ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا عليها إما بالعذاب الأليم، وإما بالنعيم المقيم، وهذا منه مقتضى الفضل، وذلك أثر العدل. ومما يؤيد ما فهمناه في هذا المقام، مقام حرمان الراسخين في الكفر من سماع الفقه والهدى، والحيلولة بين المرء وقلبه أن يعصي الهوى
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } [الجاثية: 23] فهي صريحة في أن من هذا حاله ليس مجبورا عليه، وأن الله لم يحرمه الهدى بإعجازه عنه، وهو يؤثره ويفضله، أو بإكراهه على اتباع الهوى، وهو كاره له، فإنه أسند إليه اتخاذه هواه إلهه، وقد قال تعالى لنبيه داود عليه السلام: { { ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } [ص: 26] الآية.
فهذا نص في أن اتباع الهوى سبب للضلال عن سبيل الله، فقوله في آية الجاثية وأضله الله على علم ليس معناه أنه تعالى خلق فيه الضلال استقلالا - كما يدعي بعض المتكلمين - بل هو داخل في سنته تعالى في الأسباب والمسببات ويؤيده إثبات كون ضلاله على علم، وهو أنه متعمد لاتباع الهوى، مؤثر له على الهدى، والله تعالى يسند الأمور إلى أسبابها تارة، وإليه تعالى تارة، من حيث إنه خالق كل شيء، وواضع سنن الأسباب والمسببات. ومن الأسباب ما جعله من أفعال المخلوقات الاختيارية على علم، وما جعله بأسباب لا يعلم للخلق اختيار فيها ولا علم، وكل من القسمين يسند إلى سببه تارة، وإلى رب الأسباب تارة، والجهة مختلفة معروفة، ويختار هذا أو ذاك في البيان بحسب سياق الكلام، كقوله تعالى في الحرث:
{ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } [الواقعة: 63 - 64] فهل يقول عاقل: إن الفلاح لا فعل له، ولا اختيار في زرعه، وأن الله يخلقه له بدون إرادته ولا فعله، أو أن فعله وتركه في أرضه سواء، وتلقيحه لنخله وعدمه سيان؟ !.
وجملة القول: أن من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله، ويستمر على ذلك ويدمنه الزمن الطويل، تضعف إرادته في هواه حتى تذوب وتفنى فيه، فلا تعود تؤثر فيه المواعظ القولية، ولا العبر المبصرة ولا المعقولة، وهذه الحالة يعبر عنها بالختم والرين والطبع على القلب، والصمم والعمى والبكم كما تقدم آنفا، وسبق مثله في تفسير سورة البقرة وغيرها.
وأمثال هذه الأمثال المضروبة لهذه الحالة قد ضل بها الجبرية غافلين عن كونها عاقبة طبيعية لإدمان تلك الأعمال الاختيارية، كالخمار الذي يعتري مدمن الخمر، فيشعر بفتور وألم عصبي لا يسكن إلا بالعودة إلى الشرب، على أن هذه الآية علمتنا عدم اليأس.
ومن تفسير القرآن بالقرآن في تقليب القلوب، والحيلولة بينها وبين إرادة الإنسان المتصرفة في قدرته ومشاعره قوله تعالى من سورة الأنعام:
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } [الأنعام: 110] فيراجع معناها في آخر تفسير الجزء السابع، وقال الراغب: تقليب الله القلوب صرفها من رأي إلى رأي. وذكر آية الأنعام هذه.
ومن تفسير الآية المأثور في السنة ما رواه ابن مردويه في تفسيرها عن ابن عباس مرفوعا " ويحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الهدى " وسنده ضعيف كما قال الحافظ في الفتح وله ولغيره آثار في هذا المعنى. وروى البخاري وأصحاب السنن إلا أبا داود من حديث عبد الله بن عمر قال:
"كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب " وفي رواية له عنه " أكبر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: لا ومقلب القلوب " وفي معناه أحاديث أخرى عند ابن ماجه وغيره، وللمفسرين وشراح الأحاديث أغلاط لفظية ومعنوية في تفسير لفظ القلب، وفي تقليب الله تعالى له. وقد تقدم تفسيره اللفظي من قبل، ومعنى تقليبه آنفا، وقولهم إن الله خالق القلوب ومقلبها حق، وكذا أفعال العباد كلها، وليس بحق ما عبر به بعضهم عن ذلك بأن الله تعالى يمنع الكافر بمحض قدرته عن الإيمان وغيره من أفعال الخير مباشرة، ويخلق في قلبه ولسانه الكفر اعتقادا ونطقا خلقا أنفا لا فعل له فيه، فالجمع بين الآيات التي أوردناها وما في معناها يبطله ويثبت الأسباب الاختيارية، والقائلون بما ذكر يثبتون قول القدرية، ويحتجون به على قول الجبرية، فهم يؤيدون الفاسد بالفاسد ولا يشعرون، ويمدهم إخوانهم الصوفية في الغي ثم لا يقصرون.
بعد هذه الأوامر والنواهي الخاصة بأعمال الناس الاختيارية الشخصية، وما يخشى أن تؤدي إليه مما يحرمهم من الهداية الخصوصية، بانتهاء الاختياري منها إلى ما يكاد يخرج عن الاختيار، بإضعاف الإرادة واستعبادها للأهواء، - أمرهم باتقاء نوع من أنواع الفتن الاجتماعية التي تكون تبعة عقوبتها مشتركة بين المصطلي بناره فعلا، وبين المؤاخذ به لتقصيره في درئه، وإقراره على فعله، فقال: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أي: واتقوا وقوع الفتن القومية والملية العامة التي من شأنها أن تقع بين الأمم في التنازع على مصالحها العامة من الملك والسيادة أو التفرق في الدين والشريعة، والانقسام إلى الأحزاب الدينية كالمذاهب، والسياسية كالحكم، فإن العقاب على ذنوب الأمم أثر لازم لها في الدنيا قبل الآخرة كما تقدم مرارا، ولهذا عبر هنا بالفتنة، دون الذنب والمعصية، والفتنة البلاء والاختبار كما تقدم بيانه مرارا.
روى أحمد والبزار وابن المنذر وابن مردويه عن مطرف قال: قلنا للزبير: " يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت، وروى عنه جمهور مخرجي التفسير المأثور: لقد قرأناها زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وأخرج ابن جرير من طريق الحسن عنه قال: لقد خوفنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أننا خصصنا بها.
قال الحافظ في الفتح وأخرجه النسائي من هذا الوجه ونحوه، وله طرق أخرى عن الزبير عند الطبري وغيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الآية قال: نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير - وعبد بن حميد عنه قال: أما والله لقد علم أقوام حين نزلت أن يستخص بها قوم. وهو وأبو الشيخ عن قتادة قال: علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن. وابن جرير وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر. وآخرون عنه قال: أخبرت أنهم أهل الجمل. وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: تصيب الظالم والصالح عامة. وأبو الشيخ عن مجاهد قال: هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وروى جمهورهم عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
قال الحافظ: ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة" ، أخرجه أحمد بسند حسن، وهو عند أبي داود من حديث العرس بن عميرة وهو أخو عدي، وله شواهد من حديث حذيفة وجرير وغيرهما عند أحمد وغيره.
وهذه الروايات متفقة صحيحة المعاني إلا قول من قال بالتخصيص، فهي عامة إلى يوم القيامة; لأنها بيان لسنة من سنن الله تعالى في الأمم والملل كما بينا. وأما فتنة عثمان فكانت أول هذه الفتن التي اختلفت فيها الآراء فاختلفت الأعمال من أهل الحل والعقد، فخلا الجو للمفسدين من السبئيين وأعوانهم من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم، وأعقب فتنة الجمل وصفين، ثم ابن الزبير مع بني أمية ثم قتلهم الحسين - عليه السلام - إلخ. ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي الله عنه فتنة الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة لا يزال المسلمون مصابين بها ومعذبين بعذابها، وأكبرها فتن الخلافة والملك وفتن افتراق المذاهب.
{ واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن خالف سننه في الأمم والأفراد التي لا تبديل لها ولا تحويل، ولمن خالف هداية دينه المزكية للأنفس، وقطعيات شرعه المبنية على درء المفاسد والمضار وحفظ المصالح والمنافع. وهذا العقاب منه ما يقع في الدنيا والآخرة، ومنه ما يقع في إحداهما فقط، سواء كان للأفراد أو للأمم، وعقاب الأمم المذكور في هذه الآية مطرد في الدنيا، وأول من أصابه من أمتنا الإسلامية أهل القرن الأول الذين كانوا خيرها بل خير الأمم كلها، ولكنهم لما قصروا في درء الفتنة الأولى عاقبهم الله عليها عقابا شديدا كما تقدم آنفا، وهكذا تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية الخاصة بالخلافة والسلطان، ولهذا كانت فتنة الخلاف بين أهل السنة والشيعة أشد مصائب هذه الأمة وأدومها، فزالت الخلافة التي تنازعوا عليها، وتنافسوا فيها، وتقاتلوا لأجلها، ولم تزل هي، بل تزداد قوة وشبابا، وقد شرحنا هذا الموضوع في مواضع من مجلة المنار.
{ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } قيل: إن الخطاب للمهاجرين يذكرهم بما كان من ضعفهم وقلتهم بمكة - وقيل: إنه للمؤمنين كافة في عهد نزول السورة، يذكرهم بما كان من ضعف أمتهم العربية في جزيرتهم بين الدول القوية من الروم والفرس، ولا مانع فيه من إرادة هذا وذاك معا. فقوله تعالى: تخافون أن يتخطفكم الناس أي: تخافون من أول الإسلام إلى وقت الهجرة أن يتخطفكم مشركو قومكم من قريش وغيرها من العرب، أي أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم - كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم، وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم. قال تعالى في أهل الحرم:
{ { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } [العنكبوت: 67].
{ فآواكم } يا معشر المهاجرين إلى الأنصار { وأيدكم } وإياهم { بنصره } في هذه الغزوة، وسيؤيدكم على الروم وفارس وغيرهم كما وعدكم في كتابه بالإجمال وبينه لكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتصريح { ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } هذه الثلاث وغيرها من نعمه، فيزيدكم من فضله كما وعدكم بقوله:
{ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } [إبراهيم: 7].
وقد جاء في الدر المنثور من تفسير هذه الآية بالمأثور باختصار قليل ما نصه:
أخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: { واذكروا إذ أنتم قليل } الآية: " كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا وأبينه ضلالة، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله - عز وجل - ".
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: { يتخطفكم الناس }: في الجاهلية بمكة { فآواكم } إلى الإسلام، وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس } قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: { فآواكم } قال: إلى الأنصار بالمدينة { وأيدكم بنصره } قال: يوم بدر اهـ.
ومن العبرة في الآيات أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة، ولكن أعداءه - الجاحدين لهذا على علم - قد شوهوا تاريخه، وصدوا الناس عنه بالباطل. وأن أهله قد هجروا كتابه، وتركوا هدايته، وجهلوا تاريخه، ثم صاروا يقلدون أولئك الأعداء في الحكم عليه، حتى زعموا أنه هو سبب جهلهم وضعفهم، وزوال ملكهم الذي كان عقوبة من الله تعالى لخلفهم الطالح على تركه، بعد تلك العقوبة لسلفهم الصالح على الفتنة بالتنازع على ملكه. فإلى متى أيها المسلمون؟ إنا لله وإنا إليه راجعون !.