التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٣١
-الأنفال

تفسير المنار

هاتان الآيتان وما بعدهما تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان من حاله وحال قومه معه في مكة كما سبق الإشارة إلى ذلك، وقد حسن هذا التذكير بذلك في أول العهد بنصره تعالى له على أولئك الجاحدين المعاندين، الفاتنين المفتونين، الصادين عن سبيل الله تعالى وعن اتباع رسوله بالقوة القاهرة.
قال عز وجل: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } أي: واذكر أيها الرسول في نفسك، ما نقصه في الكتاب على المؤمنين والكافرين في عهدك ومن بعدك؛ لأنه حجة لك على صدق دعوتك، ووعد ربك بنصرك. اذكر ذلك الزمن الغريب الذي يمكر بك فيه الذين كفروا من قومك في وطنك. بما يدبرون فيما بينهم بالسر من وسائل الإيقاع بك ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك فأما الإثبات فالمراد به الشد بالوثاق والإرهاق بالقيد، والحبس المانع من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وأما القتل فالمكر فيه طريقته وصفته الممكنة التي لا يكون ضررها فيهم عظيما، وهو ما بينته الرواية الآتية عنهم، وأما الإخراج فهو النفي من الوطن، وقد روى كبار مصنفي التفسير المأثور
" "أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني. قال: من حدثك بهذا؟
قال ربي. قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرا. قال: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي "
فنزلت: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ولهذا قال ابن جريج: إن الآية مكية، وهو قول ضعيف كما تقدم في الكلام على نزول السورة في أول تفسيرها، والصحيح أن التشاور في الأمور الثلاثة بدار الندوة كان عقب موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، وكان الخروج للهجرة في الليلة التي أجمعوا فيها أمرهم على قتله صلى الله عليه وسلم كما يأتي بيانه، ويجوز أن يكونوا قد تحدثوا به قبل إجماعه، وإرادة الشروع فيه الذي وقع بعد موت أبي طالب فبلغه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
وأما قوله تعالى: { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } فهو بيان لحالتهم العامة الدائمة في معاملته صلى الله عليه وسلم هو ومن اتبعه من المؤمنين بعد التذكير بشر ما كان منها في مكة، ولذلك لم يقل " ويمكرون بك " أي: وهكذا دأبهم معك، ومع من اتبعك من المؤمنين، يمكرون بكم ويمكر الله لكم بهم كما فعل من قبل إذ أحبط مكرهم، وأخرج رسوله من بينهم إلى حيث مهد له في دار الهجرة ووطن السلطان والقوة، والله خير الماكرين؛ لأن مكره نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذل للباطل، وإذلال لأهله، وإقامة للسنن، وإتمام للحكم، وقد بينا حقيقة المكر في اللغة في تفسير قوله تعالى:
{ { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [آل عمران: 54] وفي تفسير: { أفأمنوا مكر الله } [الأعراف: 99] الآية وخلاصته: أن المكر هو التدبير الخفي; لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، ووقاية الممكور له من المكروه كذلك. والغالب في عادات البشر أن يكون المكر فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل، ولذلك تأول المفسرون ما أسند إلى الله تعالى منه، فقالوا في مثل هاتين الآيتين - آية الأنفال وآية آل عمران - إنه أسند إلى الله تعالى من باب المشاكلة بتسمية تخييب سعيهم في مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه، والحق أن المكر منه الخير والشر، والحسن والسيئ - كما قال تعالى: { استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } [فاطر: 43] ومن الدعاء المرفوع " "وامكر لي ولا تمكر علي" " رواه أبو داود، ويراجع تفسير آية آل عمران من الجزء الثالث، وتفسير آية الأعراف من الجزء التاسع.
وأما قصة مكرهم الذي ترتب عليه هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وظهور الإسلام، وخذلان الشرك، ففيها روايات أوفاها رواية ابن إسحاق في سيرته، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم، وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنه بألفاظ متقاربة، ننقل ما أورد السيوطي في الدر المنثور منها عنه قال:
" وإن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا; ليدخلوا دار الندوة واعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟
قال: شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي ونصح، قالوا: أجل فادخل فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل فوالله ليوشكن أن يؤاتيكم في أمركم بأمره، فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم فانظرا في غير هذا الرأي، فقال قائل: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجتمعن إليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله فانظروا رأيا غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي لا أرى غيره، قالوا: وما هذا؟
قال: نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا، وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره. وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل - عليه السلام - النبي صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله عند ذلك في الخروج، وأمرهم بالهجرة، وافترض عليهم القتال فأنزل الله:
{ أذن للذين يقاتلون } [الحج: 39] الآية: فكانت هاتان الآيتان أول ما أنزل في الحرب، وأنزل بعد قدومه المدينة، يذكره نعمته عليه { وإذ يمكر بك الذين كفروا } الآية اهـ. وسائر خبر الهجرة معروف.
ثم ذكر تعالى مكابرة من مكابرات هؤلاء المشركين المعاندين الماكرين، قالها بعضهم فأعجبت أمثاله منهم فرددوها فعزيت إليهم على الإطلاق وهي: { وإذا تتلى عليهم آياتنا } المنزلة في القرآن، الذي يعجز عن مثله الثقلان، فيما أودع من علم وحكمة وتشريع وقصص وبيان، وماله من التأثير في نفس كل إنسان، بقدر ما أوتي من بلاغة وعقل وقلب ووجدان { قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } نقل هذا القول جمهور رواة التفسير المأثور عن النضر بن الحارث من بني عبد الدار، وعلل هذه الدعوى الكاذبة بما هو أكذب منها وهو قوله: { إن هذا إلا أساطير الأولين } أي: قصصهم وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتها، وما هو بوحي من عند الله تعالى. قال المبرد في أساطير: هي جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث. وفي القاموس: الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع أسطار وأسطير وأسطور وبالهاء في الكل. وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر اهـ.
قال المفسرون: وكان النضر هذا يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار وكبار العجم، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، كأنهم يعنون أن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم اشتبهت عليه بقصص أولئك الأمم فقال: إنه يستطيع أن يأتي بمثلها، فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله.
ولعله أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي افتراها، فإنهم لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما نقل عن كبار طواغيتهم، ومنهم النضر بن الحارث، وقد قال تعالى في ذلك:
{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام: 33] بل كانوا يوهمون عامة العرب أنه اكتتبها وجمعها كما في آية الفرقان: { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } [الفرقان: 5] أي ليحفظها، ولم يكن كبراء مجرمي قريش، ولا أهل مكة يعتقدون هذا أيضا، فإنهم كلهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يتعلم شيئا، بل تشاوروا في شيء يقولونه; ليصدوا به العرب عن القرآن فكان هذا القول منه، وقد كذبهم الله تعالى فيه فما استطاعوا له إثباتا، وكان النضر بن الحارث من أشدهم كفرا وعنادا، وحرصا على صد الناس عن القرآن، وقد روي عنه أنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى: { { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا } [لقمان: 6] إذ اشترى قينة جميلة كانت تغني الناس بأخبار الأمم وغير الأمم وغير ذلك لصرفهم عن سماع القرآن إليها، وهو الذي نزلت فيه الآية التي بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وهي الدالة على منتهى الجحود والعناد على قول بعض الرواة.
وهذا القول الذي قاله النضر لا يدل على أنه كان يرى من نفسه القدرة على معارضة القرآن في أسلوبه أو بلاغته وتأثيره، وهو من بلغاء قريش، إذ لو قدر لفعل; لأنه كان من أحرصهم على تكذيبه، بل هو طعن في أخبار القرآن عن الرسل; لتشكيك العرب فيه وصرفها عنه، وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا " افتراه " وقد يكون بعضهم اعتقد ذلك إذا كان نفي لتكذيبهم إياه خاصا ببعضهم كالوليد بن المغيرة الذي قال لأبي جهل والأخنس وغيرهما حين دعوه لتكذيبه: إن محمدا لم يكن يكذب على أحد من الناس، أفيكذب على الله؟ وقد شمل التحدي بالقرآن هؤلاء المفترين عن اعتقاد أو غير اعتقاد إذ قال في سورة يونس:
{ { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } [يونس: 38] أي بسورة مثله مفتراة كما صرح بالوصف في سورة هود فقال: { { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } [هود: 13] إلخ. وبينا الفرق بين هاتين الآيتين وآية سورة البقرة في التحدي عند تفسير هذه الأخيرة (راجع 159 - 164 من الجزء الأول تفسير ط الهيئة). ولقد كان زعماء طواغيت قريش كالنضر بن الحارث هذا وأبي جهل، والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن، كما يمنعون الناس منه ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إليه، ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على العقول والقلوب، وكان يلتقي بعضهم ببعض أحيانا فيتلاومون، ويؤكد بعضهم لبعض القول بعدم العود إلى ذلك، ومما كان من تأثير استماعهم أن قال الوليد بن المغيرة فيه كلمته المشهورة في وصفه ومنها " أنه يعلو ولا يعلى عليه، وأنه يحطم ما تحته " فخافوا أن تسمعها العرب، فما زالوا يلحون عليه في قول كلمة منفرة تؤثر عنه حتى إذا ما أقنعوه بوجوب ذلك أطال التفكير والتقدير والنظر والتأمل والعبوس والتقطيب حتى اهتدى إلى الكلمة المأثورة عن جميع مكذبي الأنبياء في تسمية آياتهم سحرا فقال: سحر يؤثر - وقد تقدم بيان هذا في بحث الإعجاز من تفسير آية البقرة في التحدي.