التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٢
وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
٣٣
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٤
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٥
-الأنفال

تفسير المنار

بعد أن بين تعالى مكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم بين ما يدل على أن سببه الجحود والعناد فقال: { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } في صحيح البخاري أن قائل هذا أبو جهل. قال الحافظ في شرحه في الفتح: الظاهر أنه أبو جهل، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة، فلعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم، وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث، قال: فأنزل الله { { سأل سائل بعذاب واقع } [المعارج: 1] وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح; لاحتمال أن يكونا قالاه، ولكن نسبته إلى أبي جهل أولى، وعن قتادة قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها. اهـ. وقال القسطلاني في شرحه له: و "روي أنه النضر بن الحارث لعنه الله لما قال: { إن هذا إلا أساطير الأولين } قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك، إنه كلام الله" " فقال هو وأبو جهل: { اللهم إن كان هذا } إلخ، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم اهـ.
والمعنى: اللهم إن كان هذا القرآن، وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك; ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا - أي أنهم لا يتبعونه، وإن كان هو الحق المنزل من عند الله؛ لأنه نزل على محمد بن عبد الله الذي يلقبونه بابن أبي كبشة، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم آخر يأخذهم على اتباعه، ومن هذا الدعاء علم أن كفرهم عناد وكبرياء، وعتو وعلو في الأرض، لا لأن ما يدعوهم إليه باطل أو قبيح أو ضار، وروي أن معاوية قال لرجل من سبأ " ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة؟
فقال: أجهل من قومي قومك حين قالوا: { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } ولم يقولوا فاهدنا له " اهـ. وما يحكيه القرآن من أقوال المشركين وغيرهم قد يكون بالمعنى دون نص اللفظ، كما هو المعتاد بين الناس، وقد يكون نظمه مع أدائه للمعنى بدون إخلال مما يعجز المحكي عنهم عن مثله، وقد يتعين هذا في الكلام الطويل الذي يتحقق بمثل الإعجاز.
قال تعالى ردا عليهم: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } أي: وما كان من شأن الله تعالى وسنته، ولا من مقتضى رحمته ولا حكمته، أن يعذبهم وأنت أيها الرسول فيهم، وهو إنما أرسلك رحمة للعالمين، ونعمة لا عذابا ونقمة، بل لم يكن من سنته أيضا أن يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم فيهم، بل كان يخرجهم منهم أولا كما قال ابن عباس { وما كان الله معذبهم } هذا النوع من العذاب السماوي الذي عذب بمثله الأمم فاستأصلهم أو مطلقا { وهم يستغفرون } أي: في حال هم يتلبسون فيها باستغفاره تعالى بالاستمرار، روى الشيخان من حديث أنس قال أبو جهل { اللهم إن كان هذا هو الحق } - الآية - فنزلت: { وما كان الله ليعذبهم } إلى قوله: { وما لهم ألا يعذبهم الله } الآية. قال الحافظ في شرح الحديث من الفتح: روى ابن جرير من طريق زيد بن رومان أنهم قالوا ذلك، ثم لما أمسوا ندموا فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله: { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }
وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى قوله: { وهم يستغفرون } أي من سبق له من الله أن يؤمن. وقيل: المراد من كان بين أظهرهم حينئذ من المؤمنين، قاله الضحاك وأبو مالك، ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق ابن أبزى قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله: { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله: { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } الآية. فأذن الله في فتح مكة، فهو العذاب الذي توعدهم الله تعالى " وروى الترمذي من حديث أبي موسى في رفعه قال:
"أنزل الله على أمتي أمانين" فذكر هذه الآية قال: " فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار" " وهو يقوي القول الأول، والحمل عليه أولى، وأن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم، وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم، وصدهم عن المسجد الحرام والله أعلم اهـ ما أورده الحافظ، ويرد عليه أن الله عذبهم بالقحط لما دعا به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحاح، حتى أكلوا الميتة والعظام، ولم يرتفع إلا بدعائه صلى الله عليه وسلم، ولا يندفع إلا بتفسير العذاب الممتنع مع وجود الرسول والاستغفار بعذاب الاستئصال. ويؤيده أن ما عذب الله به قوم فرعون كان مع وجود موسى عليه السلام فيهم كما تقدم في سورة الأعراف والآيات نزلت مع السورة بالمدينة.
أما قوله تعالى: { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } أي: وماذا وثبت لهم مما يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانعين منه بعد، والحال أنهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو للنسك، قيل: المراد به صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية سنة ست، والآية نزلت عقب غزوة بدر سنة اثنتين. والمنع كان واقعا منذ الهجرة، ما كان يقدر مسلم أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره، والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورءوس الكفر فيهم، ومنهم أبو جهل، وأسر سراتهم، لا فتح مكة كما قال الحافظ - بل لم تكن الهجرة نفسها إلا بصد المؤمنين عنه، فقد كانوا يؤذون من طاف أو صلى فيه منهم إذا لم يكن له منهم أو من غيرهم من الأقوياء من يمنعه ويحميه، وقد وضعوا على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم فرث الجزور وهو ساجد فلم يتجرأ أحد على رميه عنه إلا بنته فاطمة - عليها السلام - ومنعوا أبا بكر من الصلاة وقراءة القرآن فيه فبنى لنفسه مسجدا كان يصلي فيه، ويجهر بالقرآن، فصدوه عن الصلاة فيه أيضا; لأن النساء والأولاد كانوا يجتمعون لسماع قراءته المؤثرة فخافوا عليهم أن يهتدوا إلى الإسلام.
وقد تقدم خبره في ذلك، وإجارة ابن الدغنة له ثم اضطراره إلى رد جواره، وهو من حديث الهجرة في البخاري.
{ وما كانوا أولياءه } أي مستحقين الولاية عليه لشركهم ومفاسدهم فيه، كطوافهم فيه عراة الأجسام رجالا ونساء، ولما أجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم بأن يجعل للناس أئمة من ذريته كما جعله إماما لهم، أجابه الله تعالى بأن عهده بالإمامة لا ينال الظالمين، وأي ظلم أعظم شناعة وفسادا من الشرك؟
{ إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] وكانوا يقولون نحن ولاة البيت الحرام فنصد من نشاء، وندخل من نشاء فقال تعالى: { إن أولياؤه إلا المتقون } للشرك وسائر الفساد والظلم وهم المسلمون الصادقون، وقد وجدوا. وهذا غاية التأكيد، فإنه بعد أن نفى ولاية المشركين عن بيت الله تعالى نفى كل ولاية على الإطلاق، واستثنى منها ولاية المتقين من المسلمين، وهم عدو لهم وخيارهم لا من لا فضل لهم في أنفسهم، وإنما يدعون حق الولاية بأنسابهم. وقيل: إن الضمير في الموضعين لله تعالى، أي ولم لا يعذب الله هؤلاء المشركين بعد انتفاء سببي منع العذاب، والحال أنهم ليسوا أولياءه وأنصار دينه الذين لا يعذبهم؟ وكأن سائلا يسأل: من أولياؤه تعالى إذا؟ فأجيب بصيغة الحصر بالإثبات بعد النفي: ما أولياؤه إلا المتقون، أي الذين صارت التقوى العامة صفة راسخة فيهم، وتقدم ما يدل عليه هذا الإطلاق فيها من التفصيل في تفسير آية { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } وما هي ببعيد. والقول الأول أقرب في هذا السياق، والثاني أخص ويؤيده في حد ذاته قوله تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 62 - 63] ويجوز الجمع بينهما.
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه لا حق لهم في الولاية على هذا البيت ولا سيما بعد ظهور الإسلام، ووجود أولياء الله الموحدين الصالحين، وكانوا يدعون هذا الحق بنسبهم الإبراهيمي، وقد أبطله الظلم، وبقوتهم في قومهم، وإن كانت إلى ضعف أو لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله - عز وجل -، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين، فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله في خلقه، والحقيقون بالولاية على بيته، على ما أعد لهم من الثواب والنعيم بفضله، كما صرحت به آياته في كتابه، وقد أسند هذا الجهل إلى أكثرهم إذ كان فيهم من لا يجهل سوء حالهم في جاهليتهم وضلالهم في شركهم، وكونه لا يرضي الله تعالى، فإن امتنع رؤساؤهم من الإسلام كبرا وعنادا، فقد كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة، ويتربص الفرصة لإظهاره بالاستعداد للهجرة، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وللتفاوت في الاستعداد كان يظهر المرة بعد المرة. والناس يطلقون الحكم في مثل الحال التي كانوا عليها على الجميع، ويقولون: إن القليل لا حكم له إن وجد فكيف ونحن لا نعلم بوجوده؟ ولكن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يقول إلا الحق، ومثل هذا الحكم على أكثر الأمم والشعوب أو استثناء القليل منهم بعد إطلاق الحكم عليهم، هو من دقائق القرآن في تحرير الحق، وهو مكرر في مواضع من عدة سور، وسبق تنبيهنا لهذا في تفسير ما تقدم منها.
هذا وإن جماهير المسلمين في أكثر بلادهم صاروا في هذا العصر أجهل من مشركي قريش في ذلك العصر بمعنى ولاية الله وأوليائه - سواء في ذلك ولاية الحكم والسلطان، وهي الإمامة العامة، وولاية التقوى والصلاح، وهي الإمامة الشخصية الخاصة، وجهلهم بهذه أعم وأعمق، فالولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين ترتع الحشرات في أجسادهم النجسة، وثيابهم القذرة، ويسيل اللعاب من أشداقهم الشرهة، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات، والدعاوى الباطلة للكرامات، والشرك بالله بدعاء الأموات، ومن أدلتهم عليها ما يتخيلون من رؤى الأنبياء والأقطاب في المنام، وما يزعمون من تلقيهم عنهم ما تنبذه شريعة المصطفى - عليه السلام -، حتى صار ما هم عليه دين شرك منافيا لدين الإسلام، فعليك بمطالعة كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أولى منه بمثل هذا الفرقان؟.
ثم عطف على الحكم عليهم ما هو حجة على صحته، وهو بيان حالهم في أفضل ما بني البيت لأجله وهو الصلاة، إذ كان سوء حالهم في الطواف عراة معروفا لا يجهله أحد، أو في العبادة الجامعة للطواف والصلاة فقال: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } من المعلوم أن البيت إذا أطلق معرفا انصرف عندهم إلى بيت الله المعروف بالكعبة والبيت الحرام، على القاعدة اللغوية في انصراف مثله إلى الأكمل في جنسه كالنجم للثريا، وهي أعظم النجوم هداية.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق. وقال: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وقال: كان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر. وروي عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون.
وروى الطستي فيما روى من أسئلة نافع بن الأزرق له أنه قال له: أخبرني عن قوله - عز وجل -: { إلا مكاء وتصدية } قال: المكاء: صوت القنبرة، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلي بين الحجر (الأسود) والركن اليماني - يعني أنه يتوجه إلى الشمال; ليجمع بين الكعبة وبيت المقدس في الاستقبال - فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير; ليفسدا عليه صلاته. قال (نافع): وهل تعرف العرب ذلك؟: قال: نعم أما سمعت حسان بن ثابت يقول:

تقوم إلى الصلاة إذا دعينا وهمتك التصدي والمكاء

وفي بعض كتب اللغة أن المكاء طائر أبيض، وعن سعيد بن جبير: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } وقال الراغب: مكا الطير يمكو مكاء: صفر. وذكر أن المكاء في الآية جار مجرى مكاء الطير في قلة الغناء. قال: والمكاء (بالضم والتشديد) طائر، ومكت استه صوتت اهـ. ويحتمل أن هذه الفعلة القبيحة كانت تقع منهم عمدا أيضا، فذكر اللفظ المشترك; ليدل عليها، ولم يذكر اللفظ الذي وضع لها وحدها نزاهة، وقال في التصدية: كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه اهـ. وجملة القول: أن صلاتهم وطوافهم كان من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا.
قال تعالى: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } فسر الضحاك العذاب هنا بما كان من قتل المؤمنين لبعض كبرائهم وأسرهم لآخرين منهم يوم بدر أي وانهزام الباقين مكسورين مدحورين. وفيه إشارة إلى قولهم: أو ائتنا بعذاب أليم كأنه يقول: فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه.