التفاسير

< >
عرض

وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
٦٠
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦١
وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ
٦٢
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٣
-الأنفال

تفسير المنار

علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم، فقد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم، ثم تبعوهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له، المشركون وأهل الكتاب سواء، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل، والقوة والضعف، وذلك قوله عز وجل:
{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الإعداد تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط في أصل اللغة الحبل الذي تربط به الدابة كالمربط (بالكسر) ورباط الخيل حبسها واقتناؤها - ورابط الجيش: أقام في الثغر، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيولهم، ثم سمى الإقامة في الثغر مرابطة ورباطا اهـ. من الأساس.
أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب (التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ الأنفس ورعايته الحق والعدل والفضيلة) بأمرين: (أحدهما) إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة. (وثانيهما) مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد.
والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرة، قاومه الفرسان، لسرعة حركتهم، وقدرتهم على الجمع بين القتال، وإيصال أخباره من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها، ولذلك عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول الحربية إلى هذا العهد التي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير، بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار.
ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه، وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثا، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث الحج عرفة بمعنى أن كلا منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك، وإن لم يكن كل هذا معروفا في عصره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه، ولو كان قيده بالسهام المعروفة في ذلك العصر فكيف وهو لم يقيده، وما يدرينا لعل الله تعالى أجراه على لسان رسوله مطلقا، ليدل على العموم لأمته في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه - وهناك أحاديث أخرى في الحث على الرمي بالسهام؛ لأنه كرمي الرصاص في هذه الأيام، على أن لفظ الآية أدل على العموم؛ لأنه أمر بالمستطاع موجه إلى الأمة في كل زمان ومكان كسائر خطابات التشريع حتى ما كان منها واردا في سبب معين.
ومن قواعد الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والبنادق والدبابات والطيارات والمناطيد وإنشاء السفن الحربية بأنواعها، ومنها الغواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب بدليل: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب " وقد ورد أن الصحابة استعملوا المنجنيق مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة خيبر وغيرها. وكل الصناعات التي عليها مدار المعيشة من فروض الكفاية كصناعات آلات القتال.
وقد أدرك بعض هذه الآلات الحربية السيد الآلوسي من المفسرين المتأخرين، فقال بعد إيراد بعض الأحاديث الواردة في الرمي ما نصه: وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو، ولأنهم استعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل، وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال، واشتد الوبال والنكال، وملك البسيطة أهل الكفر والضلال، فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين، وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام، ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }.
وأقول: قد جزم العلماء قبله بعموم نص الآية، قال الرازي بعد أن أورد ثلاثة أقوال في تفسيرها منها الرمي الوارد في الحديث: قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: إن هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة، ثم ذكر حديث الرمي وأنه كحديث الحج عرفة وأنا لا أدري سببا لالتجاء الآلوسي في المسألة إلى الرأي والاجتهاد، واكتفائه بدخول هذه الآلات في عموم نص الآية بعدم الاستبعاد، إلا أن يكون بعض المعممين في عصره حرموا استعمال هذه الآلات النارية بشبهة أنها من قبيل التعذيب بالنار الذي منعه الإسلام كما يشير إليه قوله: ولا أرى ما فيه من النار إلخ.
نعم: إن الإسلام دين الرحمة قد منع من التعذيب بالنار كما كان يفعل الظالمون والجبارون من الملوك بأعدائهم، كأصحاب الأخدود الملعونين في سورة البروج، ولكن من الجهل والغباوة أن يعد حرب الأسلحة النارية للأعداء الذين يحاربوننا بها من هذا القبيل بأن يقال: إن ديننا دين الرحمة يأمرنا أن نحتمل قتلهم إيانا بهذه المدافع، وألا نقاتلهم بها رحمة بهم، مع العلم بأن الله تعالى أباح لنا في التعامل فيما بيننا أن نجزي على السيئة بمثلها عملا بالعدل، وجعل العفو فضيلة لا فريضة فقال:
{ { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } [الشورى: 40-41] إلى أخر الآيات. وقال: { { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } [النحل: 126] أفلا يكون من العدل بل فوق العدل في الأعداء أن نعاملهم بمثل العدل الذي نعامل به إخواننا أو بما ورد بمعنى الآية في بعض الآثار، قاتلوهم بمثل ما يقاتلونكم به؟ وهم ليسوا أهلا للعدل في حال الحرب، نعم ورد في الحديث الصحيح النهي عن تحريق الكفار الحربيين بالنار، ولكن هذا ليس منه، على أن علماء السلف وفقهاء الأمصار اختلفوا في حكمه، فأباحه بعضهم مطلقا، وبعضهم عند الحاجة الحربية كإحراق سفن الحرب ولو لم يكن جزاء بالمثل، والجزاء أولى.
وأما قوله تعالى: { ترهبون به عدو الله وعدوكم } فمعناه: أعدوا لهم ما استطعتم من القوة الحربية الشاملة لجميع عتاد القتال وما يحتاج إليه الجند، ومن الفرسان المرابطين في ثغوركم وأطراف بلادكم حالة كونكم ترهبون بهذا الإعداد - أو المستطاع من القوة والرباط - عدو الله الكافرين به، وبما أنزله على رسوله، وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ويناجزونكم الحرب عند الإمكان.
والإرهاب: الإيقاع في الرهبة، ومثلها الرهب بالتحريك، وهو الخوف المقترن بالاضطراب، كما قال الراغب. وكان مشركو مكة ومن والاهم هم الجامعين لهاتين العداوتين في وقت نزول الآية عقب غزوة بدر، وفيهم نزل في المدينة:
{ { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [الممتحنة: 1] وقيل: يدخل فيهم أيضا من والاهم من اليهود كبني قريظة. وقيل: لا، وإيمان هؤلاء بالله وبالوحي لم يكن يومئذ على الوجه الحق الذي يرضي الله تعالى.
واليهود الذين والوهم على عداوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم المعنيون أو بعض المعنيين بقوله تعالى: { وآخرين من دونهم } أي: وترهبون به أناسا من غير هؤلاء الأعداء المعروفين أو من ورائهم { لا تعلمونهم الله يعلمهم } أي: لا تعلمون الآن عداوتهم، أو لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم بل الله يعلمهم وهو علام الغيوب. قال مجاهد: هم بنو قريظة، وعزاه البغوي إلى مقاتل وقتادة أيضا. وقال السدي: هم أهل فارس قال مقاتل وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المنافقون. وسيأتي توجيهه، وقال السهيلي: المراد كل من لا تعرف عداوته، والمعنى أنه عام فيهم وفي غيرهم من الأقوام الذين أظهرت الأيام بعد ذلك عداوتهم للمسلمين في عهد الرسول ومن بعده كالروم، وعجيب ممن ذكر الفرس في تفسيرها ولم يذكر الروم الذين كانوا أقرب إلى جزيرة العرب، بل قال بعضهم ما معناه: إنه يشمل من عادى جماعة المسلمين وأئمتهم من المسلمين أنفسهم وقاتلهم، كالمبتدعة الذين خرجوا على الجماعة وقاتلوهم أو أعانوا أعداءهم عليهم.
وقال الحسن: هم الشياطين والجن ورووا فيه حديثا عن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق " قال الآلوسي: وروي ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا واختاره الطبري، وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه. اهـ. وهو ظاهر في اختياره له بظنه أن الحديث صحيح.
وبمثل هذه الروايات المنكرة عن المجهولين يصرفون المسلمين عن المقاصد المهمة التي عليها مدار شوكتهم وحياتهم، إلى مثل هذا المعنى الخرافي الذي حاصله أن اقتناء الخيل العتاق يرهب الجن ويحفظ الناس من خبلهم، كأنها تعاويذ للوقاية من الجنون، لا عدة لإرهاب العدو، وهو خلاف المتبادر من الآية، ومن سائر السياق الذي هو في قتال المحاربين من أعداء المؤمنين، والحديث فيه لم يصح، قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورده: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه اهـ.
وأقول: إن من سقطات ابن جرير اختياره له، واستدلاله على بطلان سائر الأقوال التي رواها في معنى الآية وتقدم ذكرها بقوله تعالى: { لا تعلمونهم الله يعلمهم } وزعمه أنهم كانوا يعلمون عداوة بني قريظة وفارس والمنافقين لهم قبل نزول الآية وهو غير مسلم على إطلاقه، فأما نقض قريظة للعهد فقد اعتذروا عنه فقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عذرهم ولم يعاملهم معاملة الأعداء ولا سيما عند نزول هذه السورة عقب غزوة بدر، وأما الفرس فلم تكن عداوتهم تخطر ببال أحد من المسلمين في ذلك العهد، وكذلك المنافقون لم يكونوا يعدون من الأعداء الذين يرهبون بإعداد قوى الحرب ورباط الخيل، إذ لم يفضح الوحي كفر الكثيرين منهم إلا بعد ذلك في غزوة تبوك وبقي باقيهم على ظاهر إسلامه.
قال ابن كثير بعد نقل الأقوال السابقة وما تقدم عنه في حديث عبد الله بن غريب: وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المنافقون. وهذا أشبه الأقوال ويشهد له قوله تعالى:
{ { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } [التوبة: 101] اهـ. وقال بعضهم بالوقف عن تعيينهم، لقوله تعالى لنبيه: لا تعلمهم نحن نعلمهم ولكن عدم علمهم عند نزول الآية لا ينافي هذا العلم بعد ذلك. والمختار عندنا أن العبارة تشمل كل من ظهرت عداوته بعد ذلك لجماعة المسلمين من أعداء الله ورسوله، ومن المبتدعين في دينه الكارهين لجماعة المسلمين كما تقدم بعد نقل عبارة السهيلي.
وقال الرازي في التعليل: ثم إن الله تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال: { ترهبون به عدو الله وعدوكم } وذلك أن الكفار إذا علموا أن كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة: أولها أنهم لا يقصدون دار الإسلام. وثانيها أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية. وثالثها أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان ورابعها أنهم لا يعينون سائر الكفار. وخامسها أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام.
ثم قال في تفسير الآخرين من دونهم: والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء، كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، ثم فيه وجوه الأول وهو الأصح أنهم هم المنافقون - وبينه من وجهين:
الأول: أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع طمعهم من أن يصيروا مغلوبين، وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان.
الثاني: أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات، ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم، وترك هذه الأفعال المذمومة اهـ. وكل ما قاله حسن وصواب إلا قوله بترك المنافق للكفر الذي في قلبه إلخ. ففيه أن ذلك ليس باختياره. والأولى أن يقال: إنه يوطن نفسه على أعمال الإسلام حتى يرجى أن يصير مخلصا بظهور محاسن الإسلام له بعد خفائها عنه بتوقعه هلاك المسلمين.
وقالوا: العلم هنا بمعنى المعرفة؛ لأنه تعدى إلى مفعول واحد من البسائط، أي لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم. وما عليه الجمهور من عدم إسناد المعرفة إلى الله تعالى. أو وصفه بها خاص بلفظها، أو بما يشعر بما خصوا بها معناها من كونه إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، كما قال الراغب. وقيل: إن المراد لا تعلمونهم معادين لكم، ويعلله من قال: هم المنافقون بأنهم مردوا على النفاق وأتقنوه بحيث لا يظهر منهم ما يفضحهم فيه.
أقول: وهذا التقييد لإعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل بقصد إرهاب الأعداء المجاهرين والأعداء المستخفين وغير المعروفين - ومن سيظهر من الأعداء للمؤمنين كالفرس والروم - دليل على تفضيل جعله سببا لمنع الحرب على جعله سببا لإيقاذ نارها، فهو يقول: استعدوا لها ليرهبكم الأعداء عسى أن يمتنعوا عن الإقدام على قتالكم، وهذا عين ما يسمى في عرف دول هذه الأيام بالسلام المسلح، بناء على أن الضعف يغري الأقوياء بالتعدي على الضعفاء، ولكن الدول الاستعمارية تدعي هذا بألسنتها وهي كاذبة في دعواها أنها تقصد بالاستعداد للحرب حفظ السلم العام، وكان يظن أنهم يقصدون السلم الخاص بدول أوربة، وأن الحرب امتنعت منها، فأبطلت ذلك الظن الحرب العامة الأخيرة التي كانت أشد حروب التاريخ أهوالا وتقتيلا وتخريبا، والإسلام ليس كذلك؛ لأنه تعبد الناس بهذه النصوص تعبدا، ويؤيد هذا المعنى آية السلم التي تلي هذه الآية.
ثم إنه تعالى حض في هذا المقام على إنفاق المال وغيره مما يعين على القتال فقال: وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم أي: ومهما تنفقوا من شيء نقدا كان أو غيره، قليلا كان أو كثيرا في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة في سبيل الله يعطكم الله جزاءه وافيا تاما وأنتم لا تظلمون أي: والحال أنكم لا تنقصون من جزائه شيئا، أو لا يلحقكم في هذه الحالة ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم؛ لأن القوي المستعد لمقاومة المعتدين بالقوة قلما يعتدي عليه أحد، فإن اعتدى عليه فقلما يظفر به المعتدي وينال منه ما يعد به ظالما له، فأنتم ما ظلمتم بإخراجكم من دياركم وأموالكم إلا لضعفكم.
وسيأتي التذكير بذلك الظلم في بيان الإذن الأول للمسلمين بالقتال، فهذا مبني على أن إعداد المستطاع من القوة على الجهاد والمرابطة في سبيل الله لا يمكن القيام به إلا بإنفاق المال الكثير، فلهذا رغب سبحانه عباده المؤمنين بالإنفاق في سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقونه فيها يوفى إليهم، أي: يجزون عليه جزاء وافيا إما في الدنيا والآخرة كليهما، وإما في الآخرة فقط، كما أمر الله رسوله أن يقول للمنافقين:
{ { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [التوبة: 52] الآية. وستأتي قريبا في سورة التوبة، والحسنيان فيها هما: النصر والغنيمة في الدنيا، والشهادة المفضية إلى المثوبة في الآخرة. فيجب على الأمة بذل ما يكفي للإعداد المذكور في الآية، فإن لم يبذلوا طوعا وجب على الإمام الحق العادل إلزام الأغنياء ذلك بحسب استطاعتهم لوقاية الأمة والملة، كما قال في سياق أحكام القتال من سورة البقرة: { { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195] فسبيل الله هنا وهنالك هو الجهاد الواقي لأهل الحق من بغي أهل الباطل - وإن كان لفظه عاما يشمل كل ما يوصل إلى مرضاته ومثوبته من أعمال البر كما قال تعالى في أول ما نزل من الإذن للمسلمين بالقتال تعليلا له: { { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } [الحج: 39 - 41].
فهذا هو الجهاد الإسلامي، وهذه هي أحكامه وأصوله وعللها، وهي في جملتها وتفصيلها تفند تقولات أعداء الحق الذين يزعمون أن الإسلام دين قام بالسيف، وغلب بالقهر وسفك الدماء، وقد علم من هذه النصوص التي هي أساس أحكام هذا الدين القطعية في هذا الموضوع، وبما تواتر من تاريخه أنه دين قام بالدعوة والإقناع، كان أول من آمن بهذا الداعي أهل بيته الأدنون: زوجه التي كانت أعلم الناس بحاله، وربيبه ابن عمه علي المرتضى، وعتيقه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ وأول من بلغته دعوته خارج بيته فعقلها وفقه سرها، وأدرك حقيتها وفضلها من أول وهلة فقبلها بلا تلبث أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وما زال جمهور قوم الداعي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤذونه ويصدون عنه ويفتنون من آمن به وأكثرهم من الضعفاء بأنواع التعذيب، حتى اضطروهم إلى الهجرة وترك ديارهم ووطنهم، ثم هاجر هو بعد ظهور دعوة الإسلام بعشر سنين، ثم صار هؤلاء المشركون يتبعونهم إلى مهاجرهم يقاتلونهم فيه.
ولما أذن الله لهم بالدفاع بين حكمته، وأنهم مظلومون لا ظالمون، وأنه لولا هذا الدفاع لغلب أهل الشرك والباطل والخرافات والمنكرات على أهل الإيمان والحق والعدل والفضائل، وهدموا بيوت الله تعالى لإبقاء هياكل الأصنام وبيوت الأوثان.
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بما يعتبر شرطا لإباحة القتال لهم، وهو أنهم عند انتصارهم وتمكينهم في الأرض يقيمون الصلاة التي وصفها الله تعالى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويؤتون الزكاة التي تقوم بها المصالح المعاشية العامة، ويزول بؤس الفقراء والمساكين والغارمين بمشاركتهم للأغنياء في أموالهم بحكم الله المغني لهم، لا بمجرد أريحتهم وتفضلهم، وتعين على السياحة بكفاية أبناء السبيل، ويكلفون حفظ الفضيلة ومنع الرذائل بإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل هذه المقاصد الشريفة من إباحة الجهاد تخالفها الدول الحربية فتبيح المنكرات والفواحش، وتفسد الأخلاق.
هذا أول ما نزل من القرآن في شرعية هذا الجهاد الذي يعيبه المتعصبون المراءون من الكفار أعداء الإنسانية، ثم نزل من أحكامه ما نحن بصدد تفسيره، ومن أهمه أن يكون الفرض الأول من الاستعداد الحربي لأهل الحق إرهاب أعدائهم أهل الباطل لعلهم يكفون عن البغي والعدوان، فإن لم يفعلوا كان أهل الحق والفضيلة قادرين على حفظها بالدفاع عنهما، وإضعاف شوكة الباغين المبطلين أو القضاء عليها، ولما كان السلم هو المقصود الأول كما أفاد مفهوم الآية السابقة، أكده بمنطوق الآية اللاحقة، فقال جلت حكمته وسبقت رحمته:
{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } قرأ الجمهور " للسلم " بفتح السين، وأبو بكر بكسرها وهما لغتان. وهي كالسلام: الصلح، وضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام
{ { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } [البقرة: 208] ولفظ السلم مؤنث كمقابله (الحرب) وبعض العرب يذكرهما. وجنح للشيء وإليه مال، أو هو خاص بالميل إلى أحد الجناحين أي الجانبين المتقابلين كجناحي الطير والإنسان والسفينة والعسكر. وقالوا: جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه، وهو مقابل لجانب الشرق الذي تطلع منه، ولا يقال: جنحت للشرق، لأننا لا نراها قبل شروقها مائلة إلى جانب غير الذي انقلبت عنه، ولكن يقال: جنح الليل، بمعنى مال للذهاب وللمجيء.
والمعنى: وإن مالوا عن جانب الحرب إلى جانب السلم خلافا للمعهود منهم في حال قوتهم، فاجنح لها أيها الرسول، لأنك أولى بالسلم منهم. وعبر عن جنوحهم بـ " إن " التي يعبر بها عن المشكوك في وقوعه، أو ما من شأنه ألا يقع، للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختياره لذاته، وأنه لا يؤمن أن يكون جنوحهم إليه كيدا وخداعا، ولذلك قال:
{ وتوكل على الله إنه هو السميع العليم } أقبل منهم السلم، وفوض أمرك إلى الله تعالى، فلا تخف كيدهم ومكرهم وتوسلهم بالصلح إلى الغدر كما فعلوا بنقض العهد، إنه عز وجل هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يخفى عليك من ائتمارهم وتشاورهم، ولا من كيدهم وخداعهم.
قيل: إن الآية خاصة بأهل الكتاب؛ لأنها نزلت في بني قريظة الذين نقضوا العهد كما تقدم في أول هذا السياق، وإن نظر فيه ابن كثير محتجا بأن السورة كلها نزلت في وقعة بدر، وتقدم أنها من أنباء الغيب، ويرد التخصيص قبوله صلوات الله وسلامه عليه الصلح من المشركين في الحديبية، وترك الحرب إلى مدة عشر سنين، مع ما اشترطوا فيه من الشروط الثقيلة التي كرهها جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وكادت تكون فتنة.
وقيل: إنها عامة ولكنها نسخت بآية السيف في سورة المائدة؛ لأن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام. وروي القول بنسخها عن ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة. نقله ابن كثير وتعقبه بقوله: وفيه نظر أيضا؛ لأن آية (براءة) فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك. فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة. وكما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم اهـ.
وقد يقال في الجواب أيضا: إن المشركين لم يثبت أنهم جنحوا إلى السلم، وأباه عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل أجابهم إليه في الحديبية كما تقدم آنفا، ثم ظلوا يقاتلونه إلى ما بعد فتح مكة عاصمة دينهم ودنياهم، كما فعلوا في الطائف إلى أن ذهبت ريحهم، وخضدت شوكة زعمائهم، وصار سائر العرب يدخلون في دين الله أفواجا، وتم ما أراد الله من إسلام أهل جزيرة العرب إلا قليلا من أهل الكتاب، لأجل أن يكون مهد الإسلام حصنا ومئزرا للإسلام. ثم بين تعالى أمره بالتوكل في حال قبول السلم إن جنحوا إليه على خلاف المعهود منهم اختيارا فقال:
{ وإن يريدوا أن يخدعوك } بجنوحهم للسلم، ويفترضوه لأجل الاستعداد للحرب، أو انتظار غرة تمكنهم من أهل الحق { فإن حسبك الله } أي: كافيك أمرهم من كل وجه " حسب " تستعمل بمعنى الكفاية التامة، ومنها قولهم: أحسب زيد عمرا، أو أعطاه حتى أحسبه، أي أجزل له وكفاه، حتى قال: حسبي، أي لا حاجة لي في الزيادة.
وقال المدققون من النحاة: إنها صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل من أحسبه، ومنه قول البيضاوي وغيره في تفسيرها هنا، أي محسبك وكافيك قال جرير:

إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا

ثم بين تعالى أن هذه الكفاية بالتأييد الرباني، وأن منه تسخير المؤمنين للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصره فقال { هو الذي أيدك بنصره } بتسخير الأسباب، وما هو وراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب في يوم بدر { وبالمؤمنين } من المهاجرين والأنصار.
وروي أن المراد بهم الأنصار بدليل قوله: { وألف بين قلوبهم } أي: بعد التفرق والتعادي الذي رسخ بالحرب الطويلة والضغائن الموروثة، وجمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والنفيس في مناصرتك.
قال أصحاب القول الثاني: كان هذا بين الأوس والخزرج من الأنصار، ولم يكن منه شيء بين المهاجرين، أي وفيهم نزلت:
{ { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [آل عمران: 103] إلخ. ولكن هذا لا يمنع إرادة مجموع المهاجرين والأنصار، فقد كانوا بنعمته إخوانا لم يقع بينهم تحاسد ولا تعاد كما هو شأن البشر في مثل هذا الشأن، كما ألف بين الأوس والخزرج فكانوا بنعمته إخوانا بعد طول العداء والعدوان، وقد كاد يقع التغاير بين المهاجرين والأنصار عند قسمة الغنائم في حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كان عدد المهاجرين في غزوة بدر ثمانين رجلا أو زيادة كما ذكر الحافظ في فتح الباري، وكان الباقون من الأنصار وهم تتمة ثلاثمائة وبضعة عشر.
والعمدة في إرادة الفريقين أن التأييد بالفعل والنصر حصل بكل منهما في جميع الوقائع، وكان المهاجرون في المرتبة الأولى في كل شيء لسبقهم إلى الإيمان والعلم، ونصر الله ورسوله في زمن القلة والشدة والخوف، وقد أسند إليهم هذا النصر في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير عند ذكر مراتب المؤمنين، فقال في قسمة فيئهم:
{ { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } [الحشر: 8] ثم قال في الأنصار: { { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [الحشر: 9] إلى آخر الآية، وهي دليل على أن النصر ينال بالأسباب، وأن ذلك يتوقف على التآلف والاتحاد، وكل ذلك بفضل مقدر الأسباب ورحمته بالعباد، ولذلك قال:
{ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } يعني أنه لولا نعمة الله عليهم بالإيمان، وأخوته التي هي أقوى عاطفة ومودة من أخوة الأنساب والأوطان، لما أمكنك يا محمد أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، ولو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع في سبيل هذا التأليف.
أما الأنصار فلأن الأضغان الموروثة، وأوتار الدماء المسفوكة، وحمية الجاهلية الراسخة، لا تزول بالأعراض الدنيوية العارضة، وإنما تزول بالإيمان الصادق الذي هو مناط سعادة الدنيا والآخرة.
وأما المهاجرون فلأن التأليف بين غنيهم وفقيرهم، وسادتهم ومواليهم، وأشرافهم ودهمائهم، على ما كان فيهم من كبرياء الجاهلية، وجمع كلمتهم على احتمال عداوة بيوتهم وعشائرهم وحلفائهم في سبيل الله، لم يكن كله مما يمكن نيله بالمال وآمال الدنيا - ولم يكن في يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيء منهما في أول الإسلام، ولكن صار بيده في المدينة شيء عظيم منهما بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعا.
وأما مجموع المهاجرين والأنصار فقد كان اجتماعهما لولا فضل الله وعنايته مدعاة التحاسد والتنازع، لما سبق لهما من عصبية الجاهلية، وما كان لدى المهاجرين من مزية قرب الرسول والسبق إلى الإيمان به، وما لدى الأنصار من المال والقوة وإنقاذ الرسول والمهاجرين جميعا من ظلم قومهم، ومن المنة عليهم بإيوائهم ومشاركتهم في أموالهم، وفي هذا وذاك من دواعي التغاير والتحاسد ما لا يمكن أن يزول بالأسباب الدنيوية، فهو تعالى يقول للرسول: لست أنت المؤلف بينهم.
{ ولكن الله ألف بينهم } بهدايتهم إلى هذا الإيمان بالفعل، الذي دعوتهم إليه بالقول
{ { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [القصص: 56] وإنما عليك البلاغ، وهداية الدعوة والبيان { { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52] بالدعاية، وتدعو الله أنت ومن آمن معك بقوله: { { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] أي بالفعل والتوفيق والعناية. وهذا ثناء من الله عز وجل على صحابة رسوله تفند مطاعن الرافضة الضالة الخاسرة فيهم.
لا يوجد سبب للتوحيد والتعاون بين البشر كالتآلف والتحاب، ولا يوجد سبب للتحاب والتآلف كأخوة الإيمان. قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب، وقرأ الآية. رواه البيهقي، ورواه عبد الرزاق والحاكم عنه بلفظ: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم قرأ: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } الآية.
وقد ورد من الأحاديث في التحاب في الله ما ينبئ بشأن هذه الفضيلة، ويرغب فيها، واتفق حكماء البشر غابرهم وحاضرهم على أن المحبة أعظم الروابط بين البشر، وأقوى الأسباب لسعادة الاجتماع الإنساني وارتقائه. واتفقوا أيضا على أن المحبة إذا فقدت لا يحل محلها شيء في منع الشر، والوقوف عند حدود الحق، إلا فضيلة العدل. ولما كانت وهمية غير اختيارية، وكان العدل من الأعمال الكسبية، جعل الإسلام المحبة فضيلة والعدل فريضة، وأوجبه لجميع الناس في الدولة الإسلامية، وحكومتها الشرعية، لا يختص به مسلم دون كافر، ولا بر دون فاجر، ولا قريب من الحاكم دون بعيد، ولا غني دون فقير، وتقدم تفصيل هذا في تفسير الآيات المقررة له.
وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله: { إنه عزيز حكيم } لأنه تعليل لكفاية الله لرسوله شر خداع الأعداء، وتأييده بنصره وبالمؤمنين، لا للتأليف بين المؤمنين، فإن العمدة في الكلام هو الكفاية والتأييد، وهو المناسب لكونه تعالى هو العزيز أي الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين، ولا كيد الماكرين، الحكيم في أفعاله كنصره الحق على الباطل، وفي أحكامه كتفضيله الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب كما تقدم، ولو كان تعليلا للتأليف بين المؤمنين وحده لكان الأنسب أن يعلل بقوله:
{ { إنك رءوف رحيم } [الحشر: 10] على أن هذا التأليف في هذا المقام ما كان إلا بعزة الله وحكمته في إقامة هذا الدين.