التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٠٧
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ
١٠٨
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٩
لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١١٠
-التوبة

تفسير المنار

نزلت هذه الآيات الأربع في واقعة حال من مكايد المنافقين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، لم أر أحدا بين حكمة خاصة لتأخيرها عن أمثالها مما نزل في أعمال المنافقين ووضعها هنا في سياق توبة المذنبين من المؤمنين: ما تقدم منها فقبل، وما تأخر فأرجئ.
وقد بينا الحكمة العامة في تفريق الآيات في الموضوع الواحد - وهو تجديد الذكرى والعظة، وما تقتضيه من التأثير والعبرة - في مواضع متعددة من الكلام على التناسب ووجوه الاتصال بين الآيات.
ولعل بعض ضعفاء المؤمنين كانوا قد شايعوا أولئك المنافقين الاثني عشر الذين بنوا مسجد الضرار في عملهم جاهلين مقاصدهم منه، فأريد بوضع القصة هنا وإبهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم، أن يتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه، ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم، ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.
روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته بأن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون من القرآن شيئا. فعذره وصدقه وأمره بالصلاة بقومه قال تعالى: { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } يحتمل أن تكون هذه الجملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من السياق في جملته، حذف خبرها للعلم به، ويبعد أن تكون معطوفة على قوله: { وآخرون مرجون } إلا على قول ضعيف روي عن الحسن وهو أنه في المنافقين، والأفصح أن يكون لفظ "الذين" منصوبا على الاختصاص بالذم، وجعله محتملا لما ذكر ولغيره نراه من الإبهام.
الذي تقتضيه البلاغة في هذا المقام لما أشرنا إليه آنفا من الإيهام، وقد قرر علماء البيان أن البلاغة تقتضي أحيانا إيراد عبارة تذهب النفس في فهمها عدة مذاهب محتملة فيها.
وقرأ نافع وابن عامر الذين بغير واو. وهي أقرب إلى قول الحسن منها إلى قول الجمهور، وما أشرنا إليه من حكمة وضع الآيات هنا أظهر في هذه القراءة منه في قراءة جمهور القراء - فتأمل.
ذكر المفسرون أن هؤلاء الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج وسموهم بأسمائهم، وقد بين الله تعالى أن الأغراض التي بنوه لأجلها أربعة ذكرت منصوبة على المفعول لأجله وهي:
(1) أنهم اتخذوه لمضارة المؤمنين أي محاولة إيقاع الضرر بهم، وهم أهل مسجد قباء الذي بناه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه من مكة مهاجرا وقبل وصوله إلى المدينة إذ بنوه بجواره مضادة لهم في الاجتماع للصلاة فيه.
(2) الكفر أو تقوية الكفر، وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هنالك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور بينهم في الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، قيل لا بد هنا من تقدير مضاف لأن بناء المسجد نفسه ليس كفرا، ولكن التعليلات الأربعة في الآية هي القصد من البناء المعبر عنه بالاتخاذ، والكفر يطلق على الاعتقاد، وعلى العمل المنافيين للإيمان.
(3) التفريق بين المؤمنين الذين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، وفي ذلك من مقاصد الإسلام الاجتماعية ما فيه، وهو التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، ولذلك كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لمقاصد الإسلام، ومن الواجب على المسلمين في كل بلد أن يصلوا في مسجد واحد إذا تيسر، فإن تفرقوا عمدا وصلوا في عدة مساجد - والحالة هذه - كانوا خاطئين، وذهب بعض الأئمة إلى أن الجمعة الصحيحة تكون حينئذ لأهل المسجد الذين سبقوا بالتجميع.
وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كان بقدر حاجة المؤمنين المصلين، وغير سبب لتفريق جماعتهم، ومنه يعلم أن كثيرا من مساجد مصر القريب بعضها من بعض - وكذا أمثالها في الأمصار الأخرى - لم تبن لوجه الله تعالى، بل كان الباعث على بنائها الرياء، واتباع الأهواء، من جهلة الأمراء والأغنياء.
(4) الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل اتخاذ هذا المسجد، أي الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محاربا، فيجد مكانا مرصدا له، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه، وهم هؤلاء المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك.
يقال: رصدته أي قعدت له على طريقه أترقبه، وراصدته راقبته، وأرصدت هذا الجيش للقتال وهذا الفرس للطراد. انتهى ملخصا من الأساس.
واتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد لهذا الغرض رجل من الخزرج يعرف بأبي عامر الراهب وعدهم بأن سيأتيهم بجيش من الروم لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
{ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } إخبار مؤكد بالقسم أنهم سيحلفون: إنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة أو الخطة التي تفوق غيرها في الحسن ; وهي الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولي العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويصلي لهم فيه: (والله يشهد إنهم لكاذبون) في قولهم، حانثون بيمينهم. قال العماد ابن كثير:
سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش، فألبهم لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عز وجل، وكانت العاقبة للمتقين.
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصيب ذلك اليوم، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة.
وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومناه، وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.
فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: ((إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله)) فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك من هدمه قبل مقدمه المدينة كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية - وذكر روايته بمعنى ما ذكر مختصرة ا هـ.
وذكر البغوي في خبر أبي عامر الفاسق هذا أنه ما زال يقاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه المشركين إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم إلى آخر ما تقدم آنفا.
{ لا تقم فيه أبدا } هذا نهي للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بالتبع له عن الصلاة فيه مؤكد بلفظ الأبد الذي يستغرق الزمن المستقبل، وتفسير القيام بالصلاة هنا مروي عن ابن عباس وهو معهود في التنزيل كقوله:
{ { وقوموا لله قانتين } [البقرة: 238] وقوله: { { قم الليل إلا قليلا } [المزمل: 2] والنهي عن القيام المطلق يتضمن النهي عن القيام للصلاة، ولكنها هي المقصودة بالنهي لطلبهم لها منه - صلى الله عليه وسلم -:
{ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } اللام الداخلة على المسجد للقسم أو للابتداء. والتأسيس: وضع الأساس الأول للبناء الذي يقوم عليه ويرفع، والمراد منه هنا القصد والغرض من البناء، والتقوى: الاسم الجامع لما يرضي الله ويقي من سخطه.
أي: إن مسجدا قصد ببنائه - منذ وضع أساسه في أول يوم - تقوى الله تعالى بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى - هو أحق أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين، عن غيره، ولا سيما ذلك المسجد الذي وضع أساسه على المقاصد الأربعة الخبيثة.
والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم - مسجد قباء، وقد صح في أحاديث رواها الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة، ففي رواية مسلم عن أبي سعيد أنه لما سأله أخذ - صلى الله عليه وسلم - كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال:
"هو مسجدكم هذا" وفي رواية لأحمد عنه وعن سهل بن سعد: "هو مسجدي هذا" . ولفظ الآية لا يمنع من إرادة كل من المسجدين، لأن كلا منهما قد بناه - صلى الله عليه وسلم - ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه أو من أول يوم وجد في موضعه، والتحقيق أن: (من) تدخل على الزمان والمكان.
{ فيه رجال يحبون أن يتطهروا } هذه جملة وصف بها المسجد الذي أسس على التقوى تؤكد ترجيح القيام مع أهله المطهرين في مقابل أهل مسجد الضرار وهم رجس.
والمعنى: فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف وإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، يحبون أن يتطهروا بذلك من كل ما يعلق بأنفسهم من درن الآثام، أو التقصير في إقامة دعائم الإسلام، كما تطهر المتخلفون منهم عن غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ومن لوازم عمارته المعنوية والعكوف فيه: طهارة الثوب والبدن الحسية، وطهارة الوضوء والغسل الحكمية، فالتطهر: صيغة مبالغة تشمل الطهارتين النفسية والبدنية، ووردت الروايات بكل منهما، ولكل منهما، ولكل من الاستعمالين موضع من التنزيل، والجمع بينهما هو الأولى.
{ والله يحب المطهرين } أي المبالغين في الطهارة الروحية والجسدية، وإنما يبالغون فيها إذا أحبوها، وحينئذ تكمل إنسانيتهم المؤلفة من الروح والجسد. ولا يطيق نجاسة البدن وقذارته إلا ناقص الفطرة والأدب، وأنقص منه من يطيق خبث النفس بالإصرار على المعاصي والعادات القبيحة، والتخلق بالأخلاق الذميمة.
دع رجس المنافقين المرائين في الأعمال، الأشحة الباخلين بالأموال. وأما حب الله المستحقين لحبه فهو من صفات كماله ; لأن العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من أفضل صفاته حب الجمال والكمال والحق والخير، وبغض أضدادها وكراهتها، وحبه اللائق بربوبيته منزه عن مشابهة حبنا، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ولكن يظهر أثره في المحبوبين من عباده في أخلاقهم وأعمالهم، ومعارفهم وآدابهم، وأعلاه ما أشار إليه حديث البخاري القدسي
"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" إلخ.
وقد قال الله تعالى معللا ما وعظ به نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أمره ونهيه لهن بما يليق بمكانتهن من رسوله:
{ { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } [الأحزاب: 33].
وقد فسر بعض المفسرين محبته تعالى للمطهرين برضاه عنهم وإحسانه إليهم، وهو تأويل فسر به اللفظ ببعض لوازمه، فإن كان هربا من نظرية من قال من المتكلمين: إن اتصاف الله تعالى بالحب محال، لأنه انفعال نفسي يستحيل على ذي الجلال، فيجب تفسيره بلازمه المذكور كما قال بعضهم في الرحمة وغيرها من الصفات - فهو هروب من مذهب السلف الحق، ووقوع فيما فروا منه بالتأويل، وهو تشبيه الله بخلقه.
إذ يقال لهم: إن الرضا عاطفة نفسية كالحب، والإحسان عمل بدني كبسط اليد بالبذل وهما يسندان إلى الناس فلا يصح أن يوصف بهما الخالق عز وجل، لأنه تشبيه له بالخلق، وكذا العلم والقدرة والمشيئة والكلام وغيرهما من صفات الذات، فإن كلا منها وضعت في اللغات لمعانيها المعروفة في المخلوقات ككون العلم صور المعلومات المنتزعة منها في الذهن، وهو بهذا المعنى محال على الله عز وجل.
وإذا كان الأمر كذلك فالحق أن يوصف تعالى بما وصف به نفسه على ظاهره بقيوده الثلاثة التي قررها السلف الصالح. أي بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل. فعلمه تعالى انكشاف يليق به، وحبه معنى نفسي يليق به إلخ.
ذكر السيوطي في الدر المنثور عدة روايات حاصلها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء عن سبب ثناء الله تعالى عليهم بهذه الآية، فأجابوه بأنهم يستنجون بالماء وفي بعضها أنهم يتبعون الحجارة بالماء. وذكر أن ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وغيرهم رووا عن طلحة بن نافع قال حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - أن هذه الآية نزلت { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا: إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال: هو ذاك فعليكموه" .
أقول: طلحة بن نافع هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم، ولكن رواية البخاري عنه مقرونة بغيره، وهي أربعة أحاديث رواها عن جابر، ولعله اقتصر عليها، لقول شيخه علي بن المديني: إنه لم يرو عن جابر غيرها، أي لم يصح عنه غيرها.
وقال أبو حاتم: إنه لم يسمع من أبي أيوب، ولكنه هنا صرح بالسماع منه فيما رواه من ذكر وغيرهم. وحديثه هذا على كل حال أقوى من أحاديث سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مسجد قباء وجعله الثناء عليهم، وهو في سؤال الأنصار، والمسئولون منهم كلهم من سكان المدينة، ويؤيده الأحاديث الصحيحة الناطقة بأن المسجد الذي أثنى الله عليه وعلى أهله هو مسجده فيها، وقد قلنا: إنه لا مانع من إرادة كل منهما، وهو أولى من القول بتعارضهما، كما أن الروايات فيهما لا تنافي إرادة نوعي الطهارة كليهما، ويؤيد إرادة الطهارة المعنوية قوله تعالى:
{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم } هذا بيان مستأنف للفرق بين أهل المسجدين في مقاصدهما منهما: أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم، وأهل مسجد التقوى وهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنصاره الذين يحبون أكمل الطهارة لظاهرهم وباطنهم، فاستفادوا بذلك محبة الله لهم، وورد بصيغة استفهام التقرير، لما فيه من تنبيه الشعور وقوة التأثير.
والبنيان: مصدر كالعمران والغفران ويراد به المبني، من دار أو مسجد وهو المتعين هنا. وتقدم آنفا معنى التأسيس، والشفا: (بالفتح والقصر) الحرف والشفير للجرف والنهر وغيره. والجرف (بضمتين): جانب الوادي ونحوه الذي ينحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط، والهار: الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط وهذا التعبير يضرب مثلا لما كان في منتهى الضعف والإشراف على الزوال، وهو من أبلغ الأمثال، لمنتهى الوهي والانحلال.
المراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ودوامه، وسعادة أهله به، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله، وجماعها التقوى، وبجزائهم عليه وأعلاه رضوان الله تعالى، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله، ووهيه وقرب زواله، وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله، وشر أهله المنافقين. وشر أعمالهم ما اتخذوه من مسجد الضرار للمفاسد الأربعة المبينة في الآية الأولى من هذا السياق.
وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول وهم المؤمنون المشبه دون المشبه به لأنه المقصود بالذات ولم يذكر فيما قبله من عملهم إلا المبالغة في الطهارة. وذكر من وصف بنيان الفريق الثاني الهيئة المشبه بها دون المشبه. لأنه ذكر فيما قبل مقاصدهم منها كلها، وهذا من دقائق إيجاز القرآن.
تقول في المعنى الجامع بين المشبه به في الفريقين: أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه مأوى وموئلا له، يقيه من فواعل الجو وعدوان كل حي، وموطنا لراحته، وهناء معيشته، على أمتن أساس وأثبته، وأقواه على مصابرة العواصف والسيول، وصد الهوام والوحوش - هو خير بنيانا، وراحة وأمانا؟ أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فهي عرضة للانهيار في كل لحظة من ليل أو نهار؟
وأما معنى المشبه المقصود بالذات في كل منهما فيصور هكذا: أفمن كان مؤمنا صادقا يتقي الله في جميع أحواله، ويبتغي رضوانه في أعماله بتزكية نفسه بها ونفع عياله: (والخلق كلهم عيال الله) كما ورد في الخبر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أفمن كان كذلك خيرا عملا، وأفضل عاقبة وأملا، وممن نزل فيهم:
{ { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } [الكهف: 107] أم من هو منافق مرتاب، مراء كذاب، يبتغي بأفضل مظاهر أعماله الضرر والضرار، وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار، وتفريق جماعة المؤمنين الأخيار، والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله من الأشرار، وما يكون من عاقبة ذلك في الدنيا من الفضيحة والعار، والخزي والبوار، وفي الآخرة من الانهيار في نار جهنم وبئس القرار؟
وفي معنى هذا المثل:
{ { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } [الرعد: 17] الآية.
وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق، وما يلزمه من العمل الصالح هو المثمر الثابت، وأن النفاق وما يستلزمه من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق، وهذا المعنى يوافق قول علماء الكون: إنه لا يتنازع شيئان في الوجود إلا ويكون الغالب هو الأصلح منهما. ويسمون هذه السنة (ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل) وسبق بيانه في هذا التفسير.
صدق الله العظيم، فقد ثبت الله المؤمنين بالقول الثابت، وهداهم بإيمانهم إلى العمل الصالح، ففتحوا البلاد، وأقاموا الحق والعدل في العباد، وأهلك الله المنافقين فلم يكن لهم من أثر صالح في العالمين وهكذا كان وهكذا يكون ولكن المنافقين لا يفقهون ولا يعتبرون وشر النفاق وأضره نفاق العلماء للملوك والأمراء.
{ والله لا يهدي القوم الظالمين } أي مضت سنته في ارتباط العقائد والأخلاق بالأعمال بأن الظالم لا يكون مهتديا في أعماله إلى الحق والعدل، فضلا عن الرحمة والفضل، ولا أظلم في الناس من المنافق:
{ { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين } [آل عمران: 86].
{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } الريبة: اسم من الريب، وهو: ما تضطرب فيه النفس، ويتردد الوهم ويسوء الظن، فيكون صاحبه منه في شك وحيرة إن لم يكن مثاره الشك. قال قوم صالح عليه السلام له، منكرين دعوته إياهم إلى عبادة الله وحده
{ { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } [هود: 11] ولهذا الاستعمال أمثال في التنزيل، وهو صريح في أن الشك مثار للريب، وموقع فيه لا أنه عينه وقد يفسر به باعتبار لزومه وإيقاعه فيه. قال الشاعر:

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت وقد رابني منها الغداة سفورها

والظاهر أن ارتيابهم فيه كان منذ بنوه إلى أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدمه فهدم، ذلك أنهم لسوء نيتهم في بنائه كانوا يخافون أن يطلع الله ورسوله على مقاصدهم السوأى فيه، وكان ذلك شأن سائر إخوانهم كما تقدم في قوله تعالى: { { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم } [التوبة: 64] وذكرنا في تفسيرها قوله تعالى: { { يحسبون كل صيحة عليهم } [المنافقون: 4] (راجع ج 10) وأجدر بهم أن يكونوا بعد هدمه أشد ارتيابا، وأكثر اضطرابا، بما يحذرون من عقابهم في الدنيا كما أنذرتهم هذه السورة مرارا، وأن يستمر ذلك ملازما لهم
{ إلا أن تقطع قلوبهم } قرأ ابن عامر وحفص عن نافع وحمزة (تقطع) بفتح وتشديد الطاء من التقطع، وقرأ الباقون بضم التاء من التقطيع، أي إلا أن تقطع الريبة قلوبهم أفلاذا فتقطع بها وتكون جذاذا، وقرأ يعقوب (إلى) بدل (إلا) وفسر ذلك بالموت والهلاك والحسرة والندم المقتضي للتوبة.
وقال الزمخشري وتبعه معتادو الأخذ عنه: لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم، ولا يضمحل أثره { إلا أن تقطع قلوبهم } قطعا وتفرق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة فيجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرا لحال زوال الريبة عنهم، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار.
وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم، انتهى. (والله عليم حكيم) فحكم في أمرهم وبين من حالهم ما اقتضته الحكمة والعلم المحيط بكل شيء.