التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

تفسير المنار

للتناسب والاتصال بين هاتين الآيتين (وما بعدهما إلى الآية 22) وما قبلهما وجه وجيه واضح وإن غفل عنه الرازي وأبو السعود وأمثالهما ممن يعنون بالغوص على التناسب بين الآيات، وهاك بيانه: قال الله تعالى: { { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } [آل عمران: 69] وقال: { { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } [البقرة: 125] وقص علينا تعالى في سورة البقرة خبر بناء إبراهيم وإسماعيل لهذا البيت، وما كانا يدعوان به عند رفع قواعده من جعلهما مسلمين له، ومن ذريتهما أمة مسلمة له، وبعث رسول منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وقد استجاب الله تعالى دعاءهما كله فكان من ذريتهما أمة مسلمة موحدة له تعالى تقيم دينه في بيته وفي غيره كما أمر، ثم طال عليهم الأمد فطرأت عليهم الوثنية، وترك جماهيرهم ملة إبراهيم الحنيفية، حتى بعث فيهم منهم محمدا رسول الله وخاتم النبيين، تكملة لدعوة جده إبراهيم، فقاوم المشركون دعوته، وصدوه ومن آمن به عن المسجد الحرام، وأخرجوهم من ديارهم بجواره، ثم ما زالوا يقاتلونهم في دار هجرتهم إلى أن صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، ومكنهم من فتح مكة، وأدال للتوحيد من الشرك، وللحق من الباطل.
فلما زالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام، وطهره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما كان فيه من الأصنام، بقي أن يطهره من العبادة الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه، وأن يبين لهم الوجه في كون المسلمين أحق بهم، فلما آذنهم بنبذ عهودهم، وأمر عليا كرم الله وجهه أن يتلو أوائل سورة (براءة) على مسامع وفودهم في يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، كان من مقاصد هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام بالتبع لزوال ولايتهم العارضة عليه، فكان علي وأعوانه ينادون في يوم النحر بمنى: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وإنما أمهلهم إلى موسم السنة التالية لفتح مكة لسببين فيما يظهر: (أحدهما) أنه كان فيهم أصحاب عهد مع المسلمين من قبل الفتح، كان من شروطه ألا يمنع من المسجد الحرام أحد من الفريقين، والوفاء بالعهد من أهم أحكام الإسلام فأمهلهم إلى انقضاء عهودهم بنبذ ما جاز نبذه، وإتمام ما وجب إتمامه، ولم يكن إعلامهم بذلك إلا في موسم السنة التاسعة كما أمر الله تعالى: (وثانيهما) أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم في موسمي العامين الثامن والتاسع بدون قتال في أرض الحرم؛ لأنهم كانوا بمقتضى التقاليد يأتون للحج من كل فج وهم كثيرون، ولا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم، ولا المعاهد وغير المعاهد إلا بعد وصولهم إلى البيت، وشروعهم في الطواف فيه، فكيف السبيل إلى منع المشرك منهم بعد ذلك بغير قتال فيه فضلا عن سائر الحرم - والقتال محرم فيه؟
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم فتح مكة: إنها أحلت له ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده؟ فعلم من هذا أن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام، وإبطال ما كان المشركون يدعونه ويفخرون به من حق عمارته الحسية وإيئاسهم من الاشتراك فيها، كان يتوقف على ما ذكر من نبذ عهودهم، ومن العدل الواجب في الإسلام إعلامهم بذلك قبل تنفيذه بزمن طويل يكفي لعلم الجماهير منهم به، وهذا المنع هو ما تضمنته هاتان الآيتان على أكمل وجه، وفسره علي كرم الله وجهه بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجهة الخاصة، فحسن أن يوضع هو وما يتلوه بعد آيات ذلك النبذ والأذان، وما تلاه من التهديد بالقتال بعد عود حالته إلى ما كانت عليه قبل العهود. وهو المقصود بالذات بقسميه السلبي والإيجابي وسيأتي النهي عن تمكينهم من القرب من المسجد الحرام أيضا في الآية [28] قال تعالى:
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [التوبة: 17] النفي في مثل هذا التعبير يسمى نفي الشأن، كما سبق بيانه في نظائره مع بيان أنه أبلغ من نفي الفعل طبعا أو شرعا؛ لأنه نفي له بالدليل، والمساجد: جمع مسجد، وهو في اللغة مكان السجود، وقد صار اسما للبيوت التي يعبد فيها الله تعالى وحده كما قال تعالى:
{ { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } [الجن: 18].
قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير (مسجد الله) بالإفراد وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وهم أكبر مفسري السلف.
وقرأ باقي السبعة وآخرون { مساجد الله } بالجمع. والمتبادر من الإفراد إرادة المسجد الحرام؛ لأنه المفرد العلم الأكمل الأفضل من المساجد وكلها لله، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل، والمراد من المساجد جنسها الذي يصدق بأي فرد من أفرادها، كما يقولون: فلان يخدم الملوك وإن لم يخدم إلا واحدا منهم، وفلان يركب البراذين أو الحمير وإن لم يركب إلا واحدا منها، ومنه
{ { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } [النحل: 8] على أن بعضهم زعم أن المراد بالجمع المسجد الحرام أيضا وعللوه بقول الحسن: إنما قال: (مساجد)؛ لأنه قبلة المساجد كلها، وهو ضعيف وركيك، ويقتضي أن النفي وما يتضمنه من المنع خاص به وهو باطل إجماعا. وتفسيره المفرد بالجمع لإفادته العموم بالإضافة أصح لفظا ومعنى لولا أنهما تكرار لا تظهر له فائدة: فالحق أن كلا من القراءتين مقصود، وفائدة ذكر المفرد مع الجمع التنويه بمكانته، وكونه محل النزاع، وسبب القتال بين المؤمنين والمشركين.
وعمارة المسجد في اللغة لزومه، والإقامة فيه للعبادة، أو لخدمته بالترميم والتنظيف ونحوهما، وعبادة الله فيه، وزيارته للعبادة، ومنها الحج والعمرة، قال في اللسان: عمر الرجل ماله وبيته يعمره (بالضم) عمارة وعمورا وعمرانا لزمه.... يقال لساكن الدار: عامر والجمع عمار (وهنا ذكر البيت المعمور وما روي في تفسيره وقال: والمعمور المخدوم) ثم ذكر: عمر الرجل الله بمعنى عبده، قال: والعمارة (بالكسر) ما يعمر به المكان، والعمارة (بالضم) أجرة العمارة. (قال) والعمرة (بالضم) طاعة الله عز وجل، والعمرة في الحج معروفة مأخوذة من الاعتمار وهو الزيارة والقصد... وهو في الشرع زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة. قال الزمخشري: ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر، ولكن عمر الله إذا عبده، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما، وهو يعمر ربه يصلي ويصوم اهـ. ملخصا.
وقال الراغب: العمارة نقيض الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها. قوله { إنما يعمر مساجد الله } إما من العمارة التي هي حفظ البناء أو من العمرة التي هي الزيارة أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به؛ لأنه يقال: عمرت المكان وعمرت بالمكان انتهى. وظاهره أنه يقال عمر بمعنى اعتمر فليتحر.
فعلم من هذه النصوص أن عمارة المسجد تطلق على عبادة الله فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة، وهي خاصة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكل ذلك مراد هنا؛ لأن اللفظ يدل عليه والمقام يقتضيه، والمختار عندنا استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.
روي عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علي له القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ: ألكم محاسن؟ فقال: نعم، إننا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } إلخ والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا، لا أنها نزلت عندما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم.
ومعنى الجملة: ما كان ينبغي، ولا يصح للمشركين، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه أو يرضاه الله منهم أو يقرهم عليه أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة له، والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين، ولا شيئا من سائر مساجده كذلك { شاهدين على أنفسهم بالكفر } أي: ما كان لهم ذلك في حال كونهم كافرين شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا؛ لأن هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحد له، وذلك ضد الكفر به.
وأي كفر بالله أظهر وأشد من الشرك به ومساواته ببعض خلقه في العبادة؟ وهو ما كانوا يفعلونه من عبادة الأصنام بالاستشفاع بها، والسجود لما وضعوه في البيت منها عقب كل شوط من طوافهم فيه، وأي اعتراف به أصرح من نص تلبيتها له تعالى وهي قولهم بأفواههم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وكانوا يكفرون بالبعث والجزاء أيضا، ولما بعث فيهم محمد رسول الله وخاتم النبيين كفروا به وبما جاء به من البينات والهدى، كفر سادتهم وكبراؤهم جحودا وعنادا وتبعهم دهماؤهم خضوعا لهم وتقليدا.
ومن النصوص الدالة على جحودهم آية:
{ { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام: 33] ومن الأدلة على عنادهم آية: { { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [الأنفال: 32].
فقوله تعالى: { شاهدين } إلخ. قيد للنفي قبله مبين لعلته، والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به لا يمكن المكابرة فيه. وقد قيل إنه لا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في بناء المساجد؛ لأنه من العمارة الحسية الممنوعة، وفيه نظر؛ لأن الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا، وأما استخدام المسلمين للكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن، فإن نفي الشأن المذكور دليل على التشريع في هذه المسألة، وكونه حقا مبنيا على أساس ثابت في فطرة البشر، وليس تشريعا لها، والدلالة فيه عقلية علمية كما علم من تفسيرنا له.
فإن قيل قد وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن بنى مسجدا للمسلمين، ومنهم من أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك. (قلت): إن هذا لا يعارض ما فسرنا به نفي الشأن، ولا ما بني عليه من الحكم، وللمسلمين أن يقبلوا مثل هذا المسجد وهذه الوصية بشرط ألا يكون فيهما ضرر آخر ديني ولا سياسي؛ لأنه حينئذ يكون كمسجد الضرار الذي يأتي ذكره في هذه السورة، فلو عرض اليهود على المسلمين في هذا العصر أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان تداعى أو ضعف من بنائه أو بذلوا لهم مالا لذلك لما جاز لهم أن يقبلوا هذا ولا ذاك، وإن لم يتول اليهود العمل لما علم من طمعهم في الاستيلاء على هذا المسجد، والتوسل له بما يجعلونه ذريعة لادعاء حق ما لهم فيه، على كفرهم بعيسى ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكتابيهما، وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
{ أولئك حبطت أعمالهم } أي: أولئك المشركون الكافرون بالله، وبما جاء به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حبطت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج وغيرهما من أعمال البر كقرى الضيف، وصلة الرحم، أي: بطلت وفسدت حتى لم يبق لها أدنى تأثير في صلاح أنفسهم مع الشرك والكفر ومفاسدهما، وأصله من الحبط وهو - بالتحريك - أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ ويفسد جوفها. قال تعالى:
{ { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } [الزمر: 65] { { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88] { { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } [الكهف: 105].
{ وفي النار هم خالدون } أي: وهم مقيمون في دار العذاب التي تسمى النار دون غيرها إقامة خلود وبقاء، لكفرهم المحبط لأعمالهم الحسنة حتى لا أثر لها في تزكية أنفسهم، وإحاطة خطيئاتهم بها وتدسيتها لهم، فلم يبق فيها أدنى استعداد لجوار الله تعالى في دار الكرامة - وما ثمة إلا الجنة أو النار
{ { فريق في الجنة وفريق في السعير } [الشورى: 7].
{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل لا بمجرد الشأن والاستحقاق وهو الذي يقتضيه مقام الإيجاب، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق الذي بينه في كتابه من توحيده وتنزيهه واختصاصه بالعبادة والاستعانة والتوكل، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد، ويجزي كل نفس ما كسبت، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها وتدبر تلاوتها وأذكارها التي تكسب مقيمها مراقبة الله تعالى وحبه، والخشوع له، والإنابة إليه - وإعطاء زكاة الأموال من نقد وزرع وتجارة لمستحقيها من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم ممن يأتي ذكرهم في هذه السورة - وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره أو رجاء في نفعه فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإن هذا لا ينافي خشية الله، ولا يقتضي خشية الطاغوت. والدليل عليها طاعة الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه رضي الناس أم سخطوا.
{ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } أي: فأولئك الجامعون لهذه الخمس من أركان الإيمان والإسلام التي يلزمها سائر أركانها هم الذين يرجون بحق، أو يرجى لهم بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم، أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى، واستحقاق الجزاء عليها بالجنة خالدين فيها، دون غيرهم من المشركين الجامعين لأضدادها من الإيمان بالطاغوت، والشرك بالله، والكفر بما جاء به رسوله، الذين دنسوا مسجده الحرام بالأصنام والاستقسام بالأزلام، وصدوا المسلمين عن الحج والاعتمار والصلاة فيه. ولم تكن صلاة هؤلاء المشركين عنده إلا مكاء وتصدية كعبث الأطفال، وكانوا ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإسلام، وتقدم في هذا المعنى من سورة الأنفال [الأنفال: 34 - 36] فشرور هؤلاء وضلالهم وطغيانهم التي هي لوازم الشرك تحبط كل عمل حسن عملوه كما تقدم.
كلمة " عسى " تفيد الرجاء دون القطع، وقال الواحدي وغيره: إنها للتقريب والإطماع ثم استعملت بمعنى " لعل " أي للرجاء، وقال سيبويه: لعل كلمة ترجية وتطميع أي للمخاطب بها، فالرجاء هنا ما يكون للمتصفين بما ذكر من الأمور الخمسة من الأمل والطمع بالفعل أو الشأن في الوصول إلى مقام المتقين الكاملين بالثبات عليها، وما يترتب عليه من الثواب كما قررناه، ولا يصح هنا كون الرجاء من الله عز وجل فإنه هو الذي يرجى ولا يرجو، وحقيقة الرجاء ظن بحصول أمر وقعت أسبابه واتخذت وسائله من مبتغيه، ولم يبق لحصوله إلا أن تكون وقعت على وجهها المؤدي إلى الغاية، وألا تعارضها الموانع التي تكون راجحة على المقتضى، كالزارع يحرث الأرض، ويبذر الحب في الوقت المناسب، ويتعاهد زرعه بما يحتاج إليه من عزق وسقي وسماد، فيكون من المظنون الراجح أن يأتي بثمرة طيبة، ولكن لا يمكن القطع بذلك لما يخشى من وقوع الجوائح المهلكة له مثلا.
وكذلك من يطيع الله تعالى بفعل المستطاع مما أمر به، وترك ما نهى عنه، فإنه حقيق بأن يرجو بذلك تزكية نفسه، ورفعها إلى مقام المتقين أولياء الله تعالى وما يترتب على ذلك من مثوبته ورضوانه في دار كرامته، ولكن لا يمكن أن يجزم بذلك لما يخشى على نفسه من التقصير وشوائب الرياء والسمعة، أو عدم الثبات على الطاعة حتى يموت عليها، وغير ذلك مما يحبط الأعمال أو يمنع من قبولها، والخير للمؤمن أن يكون بين الخوف الذي يصده عن التقصير، والرجاء الذي يبعثه على التشمير، وأن يرجح الخوف في حال الصحة والرجاء في حال المرض، ولا سيما مرض الموت، ومن أراد نعيم الآخرة، ولم يسع لها سعيها الذي جعله الله سببا لها فهو من الحمقى أصحاب الأماني لا من أصحاب الرجاء، فهو كمن أحب أن تنبت له أرضه غلة حسنة كثيرة ولم يزرعها... إلخ. فسنة الله في الدنيا والآخرة واحدة كما قال أبو حامد الغزاليرحمه الله تعالى.
ومن قال: إن " عسى " هنا وعد من الله تعالى: قالوا: إنها منه تعالى للإيجاب والقطع، وهو منزه عن التوقع والظن وعن الإطماع في الشيء، وإخلافه بعد تقريبه، ورووا هذا المعنى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في الآيات الصريحة في وعد الله تعالى وخبره.
كقوله تعالى:
{ { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } [المائدة: 52] وقوله: { { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } [المتتحنة: 7] فكل من هذين وعد قطعي عنده تعالى فعلى هذا تكون نكتة التعبير عنه بعسى: إبهامه وعدم إعلام المخاطبين بالوقت الذي يقع فيه، ومن أمعن النظر رأى أن هذا قد يرجع إلى ما فسر به " عسى " هنا، وهو أن كلا من الإتيان بالفتح أو أمر آخر يترتب عليه ندم المشركين، ومن وقوع المودة بين المؤمنين ومن عادوهم من المشركين - قريب الوقوع، فهو مرجو ومتوقع في نفسه بوقوع أسبابه ومقدماته، فينبغي أن يعدوا له عدته، ويحسبوا له حسابا في معاملتهم، وفي معنى هذا ما اختاره شيخنا من أن معنى " لعل " في كلام الله تعالى: الإعداد لمتعلقها. وتقدم تفصيله راجع (ص155 وما بعدها ج 1 ط الهيئة).
وقد استشكل بعضهم وصف عمار المساجد بإيتاء الزكاة؛ لأنه ليس من الأعمال التي تشرع في المساجد، وأجاب عنه الفخر الرازي بقوله: واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن عمارة المسجد الحضور فيه، وذلك؛ لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل به عمارة المسجد، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به، وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء، فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضا؛ لأن إيتاء الزكاة واجب، وبناء المسجد نافلة، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشغل بالنافلة، والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤديا للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد، انتهى بنصه.
والذي نراه: أن المراد بهذه الصفات بيان الإسلام الكامل الذي يقوم أهله بعمارة المساجد الحسية والمعنوية بالفعل، كما أنهم هم أصحاب الحق فيها، وهذه أسسه التي دعا إليها جميع رسل الله تعالى، وعليها مدار النجاة، كما قال تعالى:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 62] وقد ذكر هنا من العمل الصالح أعظم أركانه التي كان المشركون مجردين منها، واشترط في صحة إسلامهم قبولها كلها، أو ما عدا الباطن منها، وهو الخشية كما تقدم، وهي الصلاة أعظم العبادات البدنية الروحية الاجتماعية والزكاة أعظم العبادات المالية الاجتماعية - وخشية الله وحده أعظم ثمرات الإيمان والعبادات النفسية. ولم يذكر الإيمان بالرسل؛ لأن رسالتهم وسيلة إلى هذه المقاصد، ولا تحصل على الوجه الصحيح بدونها فهي تستلزمها، وإقامة الصلاة تتوقف عليها؛ لأن الشهادتين من فرائضها، ومن كلمات الأذان لها.
وقول الرازي: إن مانع الزكاة لا يبني المساجد حق كقول بعض الناس: إن الذي يزكي لا يسرق. وإنما يصح هذا وذاك فيمن يعمل عمله خالصا لوجه الله، ولكن من الناس من يبني مسجدا بالمال الحرام، وهو لا يصلي، وإنما يبنيه رياء وسمعة، أو ليجعل فيه أو في قبة بجانبه قبرا له يذكر به اسمه من بعده، ومنهم من يتصدق على الفقراء، ويساعد الجمعيات الخيرية والعلمية بالمال الحرام ويأكل الحرام، ولا يؤدي جميع ما يجب عليه من الزكاة؛ لأنه مراء يبتغي بإنفاقه السمعة والصيت الحسن لا مثوبة الله ومرضاته.
وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة، منها في المعنى الأول ما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه من حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بنى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولامه الناس قال: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة وهو يدل على أن توسيع المسجد كابتدائه.
وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا: من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة وسنده صحيح، وروي مثله بدون وصف للمسجد، وروي بلفظ بنى الله له بيتا أوسع منه وبألفاظ أخرى. وروى أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها، وفي معناه من حديث عائشة - وأن تطيب. وفي الصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه أن امرأة كانت تقم المسجد أي تكنسه فماتت، فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها فقيل له ماتت فقال:
" أفلا كنتم آذنتموني بها؟ " أي أعلمتموني بموتها لأصلي عليها دلوني على قبرها " فأتى قبرها فصلى عليها. وفي الصحيحين وبعض السنن أيضا أن البزاق في المسجد خطيئة، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى نخامة في المسجد فحكها، ورئي الغضب في وجهه، ونهى عن ذلك، فإزالة القذر من المساجد وتطهيره واجب، واتباع أثر القذر بالطيب مستحب.
ومنها في المعنى الثاني ما رواه الشيخان وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا صلاة الجميع - وفي رواية - الجماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ وأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يؤذ بحدث أي بحدث له رائحة كريهة، ومنه رائحة الثوم والبصل ونحوهما كالدخان المعروف في هذا الزمان.
فقد روى أحمد والشيخان من حديث جابر مرفوعا من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم واستدل العلماء به على منع من أكل الثوم ونحوه من دخول المسجد وإن لم يكن فيه أحد، إلا أن يزيل الرائحة قبل ذلك، والظاهرية يحرمون أكل ما ذكر؛ لأنه يمنع من صلاة الجماعة، وهي عندهم فرض عين كالحنابلة.
والصواب أن فرضيتها لا تقتضي تحريم ما ذكر مطلقا؛ لأنه يمكن أكلها في الأوقات التي لا جماعة فيها كأول النهار وبعد العشاء، إذ تزول الرائحة في الغالب قبل الظهر في الحالة الأولى وقبل الفجر في الثانية، ويمكن إزالتها قبل ذلك بتنظيف الفم بالسواك ونحوه، وأكل بعض الأشياء المعطرة كأقراص النعنع المعروفة في هذا الزمن، وغيرها من الحبوب العطرية التي تمتص لتطييب الفم.
وجماهير أئمة السلف والخلف على إباحة أكل الثوم والبصل، ومن أدلتهم ما رواه الشيخان، وأبو داود والنسائي
"أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتي بقدر فيها خضروات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال: قربوها (وأشار) إلى بعض أصحابه كان معه فلما رآه كره أكلها قال: كل فإني أناجي من لا تناجي " .
وفي بعض الروايات عند مسلم وغيره "أن هذا الطعام صنع له ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند مقدمه المدينة، وأن المراد بالصاحب الذي أمره بأكله هو ضائفه أبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ وفيه أن الطعام كان فيه ثوم (لم تذهب رائحته) وأنه قال: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن أكرهه ومنها حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم أيضا قال: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تلك البقلة الثوم والناس جياع فأكلنا منها أكلا شديدا ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الريح فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد فقال الناس: حرمت، حرمت، فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها" .
وروى أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" وتلا: { إنما يعمر مساجد الله } الآية. وهو نص في العمارة المعنوية، ولكن الحافظ الذهبي أنكر على الحاكم تصحيحه. وهنالك أحاديث أخرى ضعيفة ومنكرة في الرواية، وإن كان معناها صحيحا. وسيأتي حكم دخول المشركين وغيرهم من الكفار المساجد في تفسير: { { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [التوبة: 28].