التفاسير

< >
عرض

قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
-التوبة

تفسير المنار

كان كل ما تقدم من أول السورة في أحكام قتال المشركين وما يتعلق بهم، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهي إليها، وهي تمهيد للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب بالشام، والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين، وهتك الأستار عن إسرارهم للكفر، ومن تمحيص المؤمنين، ولم يقاتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها الروم الذين خرج لقتالهم بسببه الذي سيذكر بعد، وإنما حكمة وقوع ذلك ببيان هذه الأحكام والتنزيل بين المؤمنين والمنافقين ممن كانت تقع عليهم أحكام الإسلام قبل وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام.
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن زيد ـ رضي الله عنه ـ في هذه الآية، قال لما فرغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قتال من يليه من العرب أمره (تعالى) بجهاد أهل الكتاب.
وروى ابن المنذر عن ابن شهاب قال: أنزلت في كفار قريش والعرب
{ { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [الأنفال: 39] وأنزلت في أهل الكتاب: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله: { حتى يعطوا الجزية } فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران، قبل وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام.
وروى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ بن حبان والبيهقي في سننه عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية حين أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغزوة تبوك وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن مجاهد أيضا قال: " يقاتل أهل الأوثان على الإسلام. ويقاتل أهل الكتاب على الجزية ".
وروى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال: قاتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الآية في شأنه أهل الكتاب: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية (أقول) وهذا أصح وأدق مما قبله من رأي مجاهد ومن وافقه من الفقهاء في قتال الوثنيين، وأنه لا فرق بينهم وبين مشركي العرب في الحجاز والجزيرة، فقد بينا مرارا أن سياسة الإسلام في عرب الجزيرة خاصة بهم وبها.
واعلم أن هذه الآية في قتال أهل الكتاب وما قبلها في قتال مشركي العرب ليس أول ما نزل في التشريع الحربي، وإنما هو في غايته، وأما أول ما نزل في ذلك فقد بينا مرارا أنه آيات سورة الحج:
{ { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [الحج: 39] إلخ. ثم قوله تعالى من سورة البقرة { { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } [البقرة: 190] الآيات، وفي تفسيرها ما اختاره شيخنا من أن القتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، ولذلك اشترط فيه أن يقدم عليه الدعوة إلى الإسلام، وقال: إن غزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت كلها دفاعا، وكذلك حروب الصحابة في الصدر الأول، ثم كان القتال بعد ذلك من ضرورة الملك، وكان في الإسلام مثال الرحمة والعدل [راجع ص 168 - 170 ج 2 ط الهيئة] وسنفصل ذلك بعد تفسير هذه الآية.
قال تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } فوصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم أربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه في داره ; لأن إقرارهم على الاستقلال، وحمل السلاح فيه يفضي إلى قتال المسلمين في دارهم أو مساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم وجعلهم حلفاء له، وسمح لهم بالحكم فيما بينهم بشرعهم فوق السماح لهم بأمور العبادة كما تقدم في سورة الأنفال [ص41 - 52 ج 10 ط الهيئة] وكما فعل نصارى الروم في حدود البلاد العربية كما يأتي عند الكلام على غزوة تبوك. وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هي أصول الدين الإلهي عند كل أمة كما بينه تعالى في آية [2: 62] وقد أمر هنا بقتال الذين لا يقيمونها عندما يقوم السبب الشرعي لقتالهم حتى يعطوا الجزية بشرطها فذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، ووضع تركهم لتحريم ما حرم الله ورسوله، وترك الخضوع لدين الحق في موضع العمل الصالح من تلك الآية وسيأتي الكلام فيه.
وإنك ترى في بعض كتب التفسير المتداولة أن هذه الآية تدل على عدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر إلخ. وزعم بعضهم أنها نص في ذلك، وغرضهم من هذا أن هذه الصفات ليست قيودا في شرعية قتالهم بل هي بيان للواقع لا مفهوم لها، فلا يقال: إنه إذا وجد من أهل الكتاب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويحرم ما حرم الله ورسوله إليهم - على المختار من أن المراد بالرسول عند كل منهم رسولهم، ويدين دين الحق باعتقادهم - فإنهم لا يدخلون في هذا الحكم، وقالوا: إن أولئك الذين دلت آية سورة البقرة على إقامتهم لأركان الدين الإلهي هم الذين كانوا متبعين لأنبيائهم في زمانهم، أو قبل تحريفهم لكتابهم، والابتداع في دينهم حتى الشرك، أو الذين اتبعوا خاتم الرسل الذي نسخ كتابه الكتب التي قبله، والشرائع المخالفة لشرعه بعد بعثته وبلوغ دعوته، وقد بينا هذه الأقوال في تفسير تلك الآية، وصرح الفخر الرازي بأن هذه الصفات السلبية قيود تشترط في قتالهم، ولكنهم فاقدون لها، فإن وجد منهم قوم متصفون بها حرم علينا بدؤهم بالقتال.
فأما الإيمان بالله تعالى، فقد شهد القرآن بأن الفريقين فقدوه بهدم ركنه الأعظم وهو التوحيد، فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم العبادات والحلال والحرام فيتبعونهم، وذلك حق الرب وحده، فقد أشركوهم به في الربوبية، ومنهم من أشرك في الألوهية، كالذين قالوا: عزير ابن الله، والذين قالوا: المسيح ابن الله أو هو الله، وسيأتي هذا وذاك في هذا السياق من السورة.
وقد توسع الرازي في المسألة بأساليبه الكلامية فقال: " التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله، فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله.
" فإن قيل: فاليهود قسمان منهم مشبهة ومنهم موحدة، كما أن المسلمين كذلك، فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود؟ قلنا: أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال: لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم، وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق " انتهى بنصه.
وهذا الكلام الذي سماه تحقيقا ليس فيه شيء من التحقيق، ولا من العلم الصحيح، وإنما هو نظريات كلامية مبنية على اصطلاحات جماعة الأشاعرة حتى في الألفاظ المفردة، فالجسم في اللغة هو الشيء الجسيم الضخم، وقال ابن دريد: هو كل شخص مدرك وقال أبو زيد: الجسم الجسد، وفي التهذيب ما يوافقه، قال: الجسم مجتمع البدن وأعضاؤه من الناس والإبل والدواب ونحو ذلك، مما عظم من الخلق الجسيم انتهى من المصباح. واليهود لا يقولون بأن الإله جسم بشيء من هذه المعاني، وتعريفه للجسم بما ذكره غير صحيح لغة ولا اصطلاحا، والإله في اللغة المعبود، واليهود لا تنكر وجود المعبود، والله هو الرب الخالق لكل شيء، واليهود يثبتون هذا، وأنه واحد لا شريك له، ولكن لهم أفهاما، في نصوص التوراة يختلفون فيها كالمسلمين، ومنها ما ظاهره التشبيه، والذين يسميهم المجسمة من المسلمين ليسوا مجسمة بالمعنى الذي ذكره، وإنما يسميهم هو وأمثاله مجسمة; لمخالفتهم لأمثاله المتكلمين في إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تأويل، ولا تشبيه ولا تعطيل، وهو من متكلمي التأويل الذي يكفرون من يخالفهم في بعض تأويلاتهم لها بدعوى أن عدم تأويلها يسلتزم كونه تعالى جسما، وهي دعوى باطلة ولازم المذهب ليس بمذهب عند الجمهور، ولو لم يصرح صاحبه بنفي اللزوم، فكيف إذا صرح به كالسلف ومن تبعهم من الحنابلة الذين ينبزهم أمثاله بلفظ المجسمة بغير علم ولا هدى، وتأويلات أمثاله للكثير من تلك الآيات قد تسلتزم التعطيل أو تخطئة التنزيل أو قصوره عن بيان عقائد الدين وأصوله بدون كلامهم المبتدع، حتى إن بعضهم حرم قراءتها على العوام كما أنزلها الله تعالى غير مقرونة بتأويل يخرجها عن مدلول لغة القرآن، فإن كان لازم المذهب مطلقا فهم الكافرون.
وهو قد انتقل من بحثه في اليهود، واختلافهم في فهم صفات الإله إلى اختلاف المسلمين، مبتدئا بالاعتراف بأن حاصل كلامه " أن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكرا لوجود الله تعالى. (قال) وحينئذ يلزم أن تقولوا: إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله ; لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى " وضرب الأمثال أولا في اختلاف أصحابه الأشعرية ثم في اختلاف غيرهم، وتحكم في التكفير لبعض المختلفين دون بعض بالنظريات الكلامية الباطلة. وإنما أوردنا كلامه لتنفير المسلمين عن إضاعة الوقت في مثله، وفيما رتبه عليه من الحكم الشرعي المتعارض، وهو زعمه أن غير المجسمة من اليهود لا يدخلون تحت حكم هذه الآية في القتال، ولكن يدخلون تحتها في إيجاب الجزية عليهم، واستدلاله على هذا بأنه لما وجبت الجزية على بعضهم " وجب القول به في حق الكل، إذ لا قائل بالفرق "!.
ويرد عليه (أولا) أنه لا قائل أيضا بالفرق بين حكم القتال وحكم الجزية الذي هو غاية له، فليت شعري ماذا يفعل بهم إذا امتنعوا عن أداء الجزية؟ و (ثانيا) أنه لم يقل أحد بما قاله من تقسيم اليهود إلى مجسمة وغير مجسمة، وأن غير المجسمة لا يدخلون في حكم الآية. و (ثالثا) أنه إذا قام الدليل من القرآن على ثبوت حكم، فلا يجوز أن يتوقف قبوله على قول بعض الفقهاء أو المتكلمين به، وجعل عدم نقل ذلك عن أحد منهم سببا لتركه!! و (رابعا) أن الشرك بالله تعالى في العبادة كالدعاء مع الإيمان بأنه موجود ليس بجسم، ولا حالا في جسم ينافي إيمان الأنبياء الذي دعوا إليه، ولكن النظريات الكلامية صرفته عن ذلك.
وما يقال في الموحدين من اليهود يقال في الموحدين من النصارى كأتباع آريوس من المتقدمين والعقليين المعاصرين من أهل أوربة وغيرهم، ويبقى النظر في سائر ما اشترط في قتالهم.
وأما مخالفة جماهير النصارى للمسلمين ولجميع كتب الله ورسله في الإيمان بالله تعالى، وما يجب من توحيده فهو ظاهر لا يحتاج إلى نظريات كلامية، فأصحاب المذاهب الرسمية منهم كلهم يقولون بألوهية المسيح وربوبيته ويعبدونه جهرا بغير تأويل، ويقولون بالتثليث، ومنهم من يعبد أمه مريم وغيرها من الرسل والصالحين وتماثيلهم، ولا يعدون الموحدين منهم، وهؤلاء الموحدون لم يبلغوا أن يكونوا أمة، وأولي دولة، بل هم متفرقون في جميع أممهم، مع أن المسيح عليه السلام جاء مصدقا للتوراة في جميع العقائد، وإنما نسخ بعض الأحكام العملية، كما نقل عنه رواة الأناجيل في قوله: " ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأتمم " وأول ركن من أركان التوراة في الإيمان التوحيد المطلق، والوصية الأولى من وصاياها العشر التي هي أساس الدين التوحيد، والنهي الصريح عن اتخاذ الصور والتماثيل.
ونقلوا عنه أيضا أنه قال: " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته " وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير المائدة، وكذا تفسير سورتي آل عمران والنساء بالشواهد من كتبهم.
وأما اليوم الآخر فالفريقان يخالفان فيه المسلمين، وكذا الموحدون من النصارى، فإنهم إنما يقولون بأن حياة الآخرة روحانية محضة يكون فيها أهلها من الناس كالملائكة، ونحن نؤمن بأن الإنسان يكون فيها إنسانا لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح، ويتمتع الكاملون الناجون بجميع نعيم الأرواح والأجساد، وتكون أرواحهم أقوى.
وليس في التوراة التي في أيدي اليهود والنصارى بيان صريح للبعث والجزاء بعد الموت، وإنما فيها وفي مزامير داود إشارات غير صريحة.
وأما كونهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ففيه قولان للمفسرين. أحدهما: أن المراد به ما حرم في شرعنا، ويرد عليه أنه لا يعقل أن يحرموا على أنفسهم ما حرم الله ورسوله علينا إلا إذا أسلموا، وإنما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين. والثاني: أنه ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى، ونسخ بعضه عيسى عليهما السلام، وحينئذ يكون المراد به في اليهود أنهم لا يلتزمونه كله بالعمل، كاتباعهم عادات المشركين في القتال والنفي ومفاداة الأسرى، الذي قال تعالى فيه لهم؛
{ { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [البقرة: 85] واستحلالهم لأكل أموال الناس بالباطل كالربا وغير ذلك، والمراد به في النصارى أنهم استباحوا ما حرم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع محرمات الطعام والشراب فيها، إلا ما ذبح للأصنام إذا قيل للمسيحي: إنه مذبوح لوثن فيراعي ضمير القائل أمامه، وعلله بأن كل شيء طاهر للطاهرين، وأن ما يدخل الفم لا ينجس الفم، وإنما ينجسه ما يخرج منه.
وهذا بعض ما يقال في النصارى في عصر التنزيل، وأما نصارى هذا الزمان، ولا سيما أهل أوربة، فإنهم أبعد خلق الله عن كل ما في أناجيلهم من الزهد والسلم والتقشف كما بينا ذلك مرارا. ولكنهم بعد الإسراف في الشهوات، والطغيان في العدوان، والإلحاد في الديان، طفقوا يبحثون في حقيقة الأديان، فتظهر لهم أنوار الإسلام، والمرجو أن يهتدوا به في يوم من الأيام.
اختار السيد الآلوسي القول الأول وضعف الثاني، فقال في تفسير الجملة: المراد به أي: ما ثبت تحريمه بالوحي متلوا وغير متلو، فالمراد بالرسول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقيل: رسولهم الذين يدعون اتباعه فإنهم بدلوا شريعته، وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم، فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم، وإن كان التحريف بعد النسخ ليس له علة مستقلة اهـ.
واختار السيد محمد صديق حسن الثاني فقال في فتح البيان: { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } مما ثبت في كتبهم، فإن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وحرم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها. قال سعيد بن جبير في الآية: يعني لا يصدقون بتوحيد الله، وما حرم الله من الخمر والخنزير. وقيل: معناه لا يحرمون ما حرم الله في القرآن، ولا ما حرم رسوله في السنة، والأول أولى. وقيل: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم، وقلدوا أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أربابا من دون الله اهـ.
وأما كونهم لا يدينون دين الحق، فمعناه على القول الأول فيما قبله أنهم لا يدينون الله بدينه الحق الكامل الأخير، المكمل والمبين لما اختلفوا فيه من قبل، والناسخ لما لا يصلح للبشر منه فيما بعد، وهو الإسلام. يقال: دان دين الإسلام أو غيره ودان به. وهو الأصل، ومعناه على القول الثاني: أن الدين الذي يتقلده كل منهم إنما هو دين تقليدي وضعه لهم أحبارهم وأساقفتهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية، لا دين الله الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى عليهما السلام. ذلك بأن اليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى، وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده، ويخالفهم الفاسقون الناقضون لعهده الذي أخذه عليهم قبل موته، إلى أن عاقبهم الله تعالى بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار، وأحرقوا الهيكل وما فيه من تلك الأسفار، وسبقوا بقية السيف منهم، وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض مستعبديهم، فدانوا لشريعة غير شريعتهم، ولما أعتقوهم من الرق وأعادوهم إلى تلك الأرض، وكانوا قد فقدوا نص التوراة، وإنما حفظوا بعضها دون بعض، كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب، ممزوجا بما دانوا من شريعة ملك بابل كما أمر كاهنهم عزرا (عزيرا) ثم إنهم حرفوا وبدلوا، ولم يقيموها كما أمروا.
وكذلك النصارى لم يحفظوا كل ما بلغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض تشديدات التوراة، وهو دين الله الحق، بل كتب كثيرون منهم تواريخ له، وأودعها كل كاتب منهم ما عرفه من ذلك ومن غيره، فجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون، فاعتمدت أربعة أناجيل من زهاء سبعين إنجيلا رفضتها وسمتها [أبو كريف] أي غير قانونية، وقد وصل إلينا إنجيل القديس برنابا منها، وهو من أصحاب المسيح ورسله لهداية الناس، فإذا فيه من أصول التوحيد والصفات الإلهية والحكم والمواعظ العالية ما يفوق ما في الأربعة القانونية.
ثم إنهم نقضوا شريعة التوراة من بعده، وأخذوا بتعاليم بولس كما تقدم، وهو فيلسوف يهودي تنصر بعد المسيح، وقبل تنصره الحواريون الذين يسمونهم (الرسل) بشفاعة برنابا ; لأنه كان عدوا لهم، مع أنهم ينقلون عن المسيح أنه قال: ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأتمم " والناموس: هو شريعة موسى، وهذا موافق لما حكاه الله تعالى عنه بقوله في سورة آل عمران:
{ { ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } [آل عمران: 50، 51] وإنما قال: لما بين يدي من التوراة أي: الشريعة ; لأن بعضها كان فقد بإحراق البابليين لنسخة موسى التي كتبها بيده، كما ذكرنا آنفا وتقدم من قبل مفصلا. ولم يكتف النصارى بهذا بل وضع لهم أحبار رومية وغيرهم من أساقفتهم ورهبانهم شرائع كثيرة في العبادات والحلال والحرام يخالف فيها كل فريق منهم مذهب الآخر.
يقول الله تعالى فيما ذكرناه آنفا عن أهل الملتين بعد ذكر ما أخذه على أمة موسى من الميثاق من سورة المائدة:
{ { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } [المائدة: 13 و14] وفي الآيتين من الحقائق التي كانت مجهولة، ومن أخبار الغيب عن الماضي والمستقبل، ما يعد من حجج القرآن على أنه وحي من الله ليس للنبي الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه إلا تبليغه والعمل به.
فعلم من هذا أن كلا منهم نسي حظا عظيما مما ذكرهم به نبيهم، ولم يعملوا بالبعض الآخر كله، بل أكثرهم عباداتهم وما يسمى الطقوس والناموس الأدبي هو من وضع أحبارهم ورهبانهم كما سيأتي قريبا في تفسير:
{ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } [التوبة: 31] وإنما كان دين الحق عندهم ما جاءهم به موسى وعيسى عليهما السلام، ولو أنهم حفظوه وأقاموه كما أنزل أو دانوا بما حفظوا منه دون غيره لهداهم إلى اتباع المصلح الأعظم الذي بعثه الله تعالى مكملا لدينه، ولا تزال بشارات أنبيائهم به محفوظة فيما بقي لهم من كتبهم، وهو محمد خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
فقوله تعالى: { من الذين أوتوا الكتاب } بعد ما تقدم من الصفات السلبية بيان للمراد من المتصفين بها، والمراد بالكتاب جنس الكتاب الإلهي الذي يشمل التوراة والإنجيل وزبور داود وغيرها، ولكن لقب " أهل الكتاب " و " الذين أوتوا الكتاب " وإن كان لفظه عاما خص به اليهود والنصارى ; لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين عندها، كما قال تعالى مخاطبا لمشركي العرب:
{ { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } [الأنعام: 156] وفي نصوص القرآن الصريحة أن الله تعالى: أرسل رسلا في جميع الأمم يأمرونهم بعبادته تعالى وحده، وباجتناب الطاغوت، وينذرونهم يوم الجزاء، وأن منهم من قصه على خاتم الأنبياء والمرسلين في كتابه، ومنهم من لم يقصص عليه، ومن المعقول أن يكون أولو الحضارة منهم كالصينيين والهنود والفرس والمصريين واليونان قد كتبوا كلهم أو بعضهم ما أوحي إلى رسلهم فضاع بطول الأمد أو خلط بغيره ولم يعد أصله معروفا، وإذا كان اليهود والنصارى قد كان من أم كتبهم ما علمنا من ضياع بعضها وانقطاع سند ما بقي منها، والعهد قريب، فلا غرو أن يكون ما سبقها من الكتب أضيع - والعهد بعيد أي بعيد.
وقد ذكر الله تعالى الصابئين والمجوس منهم في كتابه لاتصال بلادهم ببلاد العرب، فلم يدخلهم في عموم المشركين ولا نظمهم في سلك أهل الكتاب ; لأنه جعل لقب " المشركين " خاصا بوثني العرب، ولقب " أهل الكتاب " خاصا باليهود والنصارى، وإن كان قد دخل عليهم الشرك، والتاريخ يدل على أن الفريقين كانا أهل كتاب، أما الصابئون فقد ذكروا مع المؤمنين واليهود والنصارى في آية سورة البقرة [62] وآية سورة المائدة [69] وأما المجوس فقد ذكروا مع أولئك كلهم في قوله تعالى في سورة الحج:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد } [الحج: 17] فقد جعل المجوس قسما مستقلا، وجاءت السنة بمعاملتهم كأهل الكتاب في انتهاء قتالهم بالجزية، فدل ذلك على أنهم كانوا أهل كتاب، وإن لم يحفظ منه ما يصحح إطلاق اللقب عليهم، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه، وجزم به الشافعي في الأم، والصابئون أولى بذلك منهم، كما يؤخذ من آيتي البقرة والمائدة المشار إليهما آنفا.
{ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم. كما فعل الروم، فكان سببا لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما. فالقيد الأول لهم، وهو أن تكون صادرة " عن يد " أي قدرة وسعة، فلا يظلمون ويرهقون. والثاني لكم، وهو الصغار المراد به خضد شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم ; وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم التي يرونكم أقرب بها إلى هداية أنبيائهم منهم.
فإن أسلموا عم الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل، ولم يكونوا حائلا دونهما في دار الإسلام. والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينيا أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم، والدفاع عنهم وحريتهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمون أهل الذمة ; لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأما الذين يعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق يعترف به كل منا ومنهم باستقلال الآخر فيسمون بأهل العهد والمعاهدين، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة الأنفال، ولا بأس بأن نبسط القول من مسألة الجزية لتقصير المفسرين في بيانها فنقول:
فصل في حقيقة الجزية والمراد منها
الجزية ضرب من الخروج يضرب على الأشخاص لا على الأرض، جمعها جزى كسدرة وسدر، واليد السعة والملك أو القدرة والتمكن، والصغار (بالفتح) والصغر (كعنب) وهو ضد الكبر، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، والمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته الذي تصغر به أنفسهم لديهم بفقدهم الملك، وعجزهم عن مقاومة الحكم. قال الراغب: الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية، وقال الإمام الشافعيرحمه الله في الأم: وسمعت عددا من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام اهـ. ومن المفسرين من قال في الآية أقوالا يأباها عدل الإسلام ورحمته.
وظاهر كلام اللغويين المفسرين أن لفظ الجزية عربي محض من مادة الجزاء. وهل هي جزاء حقن الدم، أو جزاء الحماية لهم والدفاع عنهم من غير تكليفهم التجند للقتال معنا، أو جزاء إعطاء الذمي حقوق المسلمين ومساواتهم بأنفسهم في حرية النفس والمال والعرض والدين؟ وجوه أضعفها أولها وسيأتي بسط القول في ثانيها.
قال صاحب اللسان: والجزية خراج الأرض وجزية الذمي منه. الجوهري والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة والجمع الجزى مثل لحية ولحى، وقد تكرر في الحديث ذكر الجزية في غير موضع، وهي عبارة عن المال الذي يعقد الكتابي عليه الذمة، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله. ومنه الحديث ليس على مسلم جزية أراد أن الذمي إذا أسلم وقد مر بعض الحول لم يطالب من الجزية بحصة ما مضى من السنة. وقيل: أراد أن الذمي إذا أسلم وكان في يده أرض صولح عليها خراج توضع عن رقبته الجزية، وعن أرضه الخراج إلخ.
وقد حقق شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني الهندي (رحمه الله) في رسالة له نشرت في المجلد الأول من المنار، أن لفظ الجزية معرب وأصله فارسي (كزيت) وأن معناها الخراج الذي يستعان به على الحرب، وأورد على الأول بعض الشواهد من الشعر الفارسي، ثم ذكر أن في المسألة احتمالين. (أحدهما) أن هذا اللفظ وجد في اللغتين، فالأولى أن يقال إنه مما اتفقتا فيه، وتوافق اللغات في الأمور التي توجد معانيها عند الأمم الناطقة بها شائع معروف (والثاني) أن الكلمة أصيلة في الفارسية دخيلة في العربية كأمثالها مما أخذه العرب من مجاوريهم من الفرس وهضمتها لغتهم، واستدل على ذلك بأمور، منها ما لا يدل على الدعوى دلالة صحيحة كثبوت أخذ العرب عن العجم بعض الألفاظ كالكوز والإبريق والطست، وكزعمه أن العرب لم يتفق لهم وضع ألفاظ للمعاني الخاصة بالمدنية والعمران كالوزير والصاحب والعامل والتوقيع، لما كانوا عليه من البؤس وعدم الاستيلاء والاستعباد لغيرهم من الأمم، والأول: حق غير دال، والثاني: باطل في نفسه فعدم دلالته على ذكر أولى.
والحق أن كل أمة تجاور أمة وتخالطها تأخذ شيئا من لغتها فتعتاده فيدخل في لغتها وإن كان عندها مرادف له، وهكذا ما وقع بين العرب والعجم، ومعرفة السابق لبعض الألفاظ المشتبهة من الأمتين فيه عسر شديد، وقد سبق للعرب مدنيات قديمة في جزيرتهم أيضا من خصائص الملكية، كفوا مؤنة وضع لفظ بإزائها " محتمل غير حقيق. وأقوى منه ما بعده، وهو مفيد سواء كان اللفظ أصيلا في العربية أو معبرا دخيلا، لأنه بيان للمعنى المراد من اللفظ بدلالة الاستعمال فننقله بنصه وهو:
ومنها: أن الحيرة - وكانت منازل آل نعمان - كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم الإتاوة والخراج، ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولا كما نبينه فيما سيأتي، يغلب على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية في ذلك العهد وتعاوروا اللغة العجمية بعينها، ومن مساعدة الجد أن اللفظ كانت زنته زنة العربي فلم يحتاجوا في تعريبه إلى كبير مؤنة بعد ما أبدل كافها جيما صارت كأنها عربي الأصل والنجار. ومع هذه كلها فإن هذا البحث لا يهمنا ولا يتعلق به كبير غرض، فإن إثبات ما نحن بصدده لا يتوقف على الكشف عن حقيقة اللفظ، فنحن في غنى عن إطالة الكلام وإسهابه في أمثال هذه الأبحاث.
الثاني: أول من سن الجزية فيما علمنا كسرى أنوشروان، وهو الذي رتب أصولها وجعلها طبقات. قال الإمام العلامة المحدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري يذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجزية: وألزموا الناس ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والمرازبة والكتاب ومن كان في خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثني عشر درهما، وثمانية، وستة، وأربعة، بقدر إكثار الرجل أو إقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين وفوق الخمسين.
ثم قال. " وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس " وقال المؤرخ الشهير أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري - وهو أقدم زمانا من الطبري - في كتابه الأخبار الطوال في ذكر كسرى أنوشروان: " ووظف الجزية على أربع طبقات، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان في خدمة الملك، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين ".
ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى، وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها، وأن كسرى رفع الجزية عن الجند والمقاتلة وأن عمر بن الخطاب اقتدى بهذه الوضائع.
أما المعنى الذي توخاه كسرى في هذا الاستثناء فبينه العلامة ابن الأثير في كتابه الكامل ناقلا عن كلام كسرى فقال: " ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان ; لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم عمن وراءهم، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم، وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم، ولم أجحف بواحد من الجانبين ".
وحاصله أنه يجب على كل فرد من أفراد الملة المدافعة عن نفسه وماله، فمن كان يقوم بهذه العبء بنفسه فليس عليه شيء - وهؤلاء أهل الجند والمقاتلة، وأما من كان يشغله أمر العمارة وتدبير الحرث عن المخاطرة بالنفس، فيحق عليه أن يؤدي شيئا معلوما في كل سنة يصرف في وجوه حمايته والدفاع عنه. وهذا هو المعني بالجزية، فإنها تؤخذ من أهل العمارة وتعطى للمقاتلة والجند الذين نصبوا أنفسهم لحماية البلاد واستتباب وسائل الأمن والسلامة لكافة العباد.
الثالث: أن الشريعة الإسلامية، وإن لم يكن شأنها شأن الملكية والسلطنة بل الغاية التي توخاها الشرع ليست إلا تكميل النفس وتطهير الأخلاق، والحث على الخير، والردع عن الإثم، ولكن لما كانت هذه الأمور يتوقف حصولها على نوع من السياسة الملكية لم تكن الشريعة لتنقل عنها كليا، فاختارت جملة من الوضائع تكون مع سذاجتها كافلة لانتظام أمر الناس وإصلاح ارتفاقاتهم.
ومن ذلك الجهاد والقتال، المقصود بهما الذب عن حمى الإسلام والدفع عن بيضة الملك، وإزاحة الشر وبسط الأمن، واستتباب الراحة، فجعل الجهاد فرضا محتوما على كل أحد ممن دخل في الإسلام، إما كفاية وهذه إذا لم يكن النفير عاما، وإما عينا إذا هاجم العدو البلد وعم النفير، قال في الهداية: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه، إلا أن يكون النفير عاما فحينئذ يصير من فروض الأعيان.
فالمسلم لا يخلو من إحدى الخطتين. إما مرتزق، وهو من دخل في العسكر ونصب للقتال نفسه، أو متطوع، وهو من لم يأخذ نصيبه من الجهاد، ولكن إذا جاءت الطامة ووقع النفير لا يمكنه الاعتزال عن القتال والتنحي عنه، بل عليه أن يدخل فيما دخل المسلمون طوعا أو كرهاً.
وإذا كان من المسلم الثابت أن المرتزق والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التي تمنح للعسكر، كان من الحق الواضح أن يعفى المسلمون كلهم من ضريبة الجزية، أما أهل الذمة فما كان يحق للإسلام أن يجبرهم على مباشرتهم القتال في حال من الأحوال، بل الأمر بيدهم، رضوا بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عفوا عن الجزية، وإن أبوا أن يخاطروا بالنفس فلا أقل من أن يسامحوا بشيء من المال وهي الجزية، ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان، أي إثبات أن الجزية ما كان تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين لو دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية، فإن صدق ظني فاصغ إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب وتحسم مادة القيل والقال.
فمنها: ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها وهذا نصه: " هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية وإلا فلا؟ كتب سنة اثنتي عشرة في صفر ".
ومنها: ما كتب نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه: " براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها خالد والمسلمون، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم. أمانكم أمان، وصلحكم صلح، ونحن لكم على الوفاء ".
ومنها: ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه: " إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالدا على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم ".
ومنها: المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام، وكان هذا في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب، وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد: " وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم ".
ومنها: المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس، وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدا على رستم في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب، وكان في جملة كلامه: " أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك " فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها، كيف قارنوا بها بين الجزية والمنعة وكيف صرح خالد في كتابه بأنا لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم، وإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها.
وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجل الصحابة، فكان سبيلها سبيل المسائل المجمع عليها. قال الإمام الشعبي، وهو أحد الأئمة الكبار: أخذ " أي سواد العراق " عنوة وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها فدعوا إلى الصلح والذمة فأجابوا وتراجعوا فصاروا ذمة وعليهم الجزاء ولهم المنعة، وذلك هو السنة كذلك منع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدومة.
ولا تظنن أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به مجرد تطيب نفوس أهل الذمة، وإسكان غيظهم ولم يقع به العمل قط، فإن من أمعن النظر في سير الصحابة، واطلع على مجاري أحوالهم، عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدا، ولا ذكروا شرطا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها، وكذلك فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها - فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن مكحول أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم، وحسن السيرة فيهم، صاروا أشداء على عدو المسلمين وعيونا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك، فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبي عبيدة يخبره بذلك.
وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبى منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم ; لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا: " ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئا ".
وقال العلامة البلاذري في كتابه فتوح البلدان: حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج قالوا: " قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم " فقال أهل حمص: " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد ".
وقال العلامة الأزدي في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي عبيدة من حمص: " فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم - أن نأخذ منهم شيئا، وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم ; لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم " فلما أصبح أمر الناس أن يرتحلوا إلى دمشق.
ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال، فأخذ يرده عليهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: " ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا " وقال أيضا يذكر دخول أبي عبيدة دمشق: " فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا، فرد عليهم ما كان أخذ منهم، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم ونحن معيدون لكم أمانا ".
أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب عن حريم الملك لا يطالبون بالجزية أصلا، فعمدتنا في ذلك أيضا صنيع الصحابة، وطريق عملهم، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع وأحقهم بإدراك سر الشريعة. والروايات في ذلك وإن كانت جمة نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن كثير.
فمنها: كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان وهاك نصه بعينه " هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيئا من ذلك، شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس. وكتب في سنة 108 هـ (طبري ص2658].
ومنها: الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه:
هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك " اهـ (طبري صحيفة 2262].
ومنها العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب، وبين شهر براز كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهاك نصه:
هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم والتناء ومن حولهم، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك عنهم. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسليمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله. وكتب مرضي بن مقرن وشهد اهـ. (طبري 2665 و2666].
ومنها: ما كان من أمر الجراجمة، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من تفاصيل أحوالهم فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام، عند معدن الزاج، فيما بين بيامن وبوقا، يقال لها: الجرجومة، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام، وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم، إذ خافوا على أنفسهم، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم الفهري، فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل اللكام، وألا يؤخذوا بالجزية.
ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة لم يؤخذوا بالجزية قط، حتى إن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم اهـ.
وقد اختصر النعمانيرحمه الله خبر الجراجمة بقوله: ثم إن الجراجمة إلخ، وفي سائر خبرهم في البلاذري من غدرهم ونقضهم للعهد، ومظاهرتهم للعدو وحسن معاملة الأمويين والعباسيين لهم ولغيرهم، ما يفتخر به التاريخ الإسلامي العربي بالعدل والفضل. والشاهد هنا وضع الجزية عنهم بعد تكرار غدرهم.
فصل
فيمن تؤخذ منهم الجزية
ومقدار ما يؤخذ
نص الآية الكريمة أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، وقد تقدم في تفسيرها آنفا أن المراد بأهل الكتاب الذي كان يتبادر إلى الأذهان بدلالة القرآن اليهود والنصارى، ونقل الحافظ في الفتح الاتفاق على هذا، أي: وإن كان اللفظ عاما، وكان القرآن نفسه يدل في آيات أخرى على بعثة رسل كثيرين في الأمم منهم من كانوا أصحاب كتب. ولا فرق في أهل الكتاب بين العرب والعجم خلافا للحنفية، وقد ثبت بالسنة القولية والعملية أخذ الجزية من المجوس، واختلف في كونهم أهل كتاب أو شبهة كتاب، وقد تقدم ذلك مجملا، وسيعاد مفصلا.
وجمهور الفقهاء على أن حكم جميع الوثنيين حكم مشركي العرب في أنهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وقال بعضهم: تقبل منهم الجزية، فالأصناف أربعة:
الأول: مشركو العرب، وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية بالإجماع.
الثاني: اليهود والنصارى على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، وهؤلاء تقبل منهم الجزية بنص القرآن.. وقيل: إلا العرب منهم.
الثالث: المجوس والصابئون، وقد قبل الصحابة ومن بعدهم من أمراء المسلمين الجزية منهم، وسنذكر ما قال الفقهاء في ذلك.
الرابع: ما عدا هذه الأصناف الثلاثة من الوثنيين وغيرهم، ولا نص عليهم في الكتاب، ولا في السنة، وعندنا أن أمرهم اجتهادي يحكم فيهم أولو الأمر من المسلمين بما يرون فيه المصلحة ككل مسكوت عنه. وجمهور الفقهاء يدخلونهم في عموم المشركين ولا سيما الآية التي يسمونها آية السيف.
والحق ما قررناه في تفسيرها من أن المراد بالمشركين فيها مشركو العرب، فهو عام مراد به الخصوص من أول وهلة كأهل الكتاب، ويؤيد هذا ما تقدم من الآيات في تعليل قتالهم وأدلته، وكذا الأحاديث الناطقة بوجوب جعل جزيرة العرب خاصة بالمسلمين، وما ذكرناه من حكمة ذلك، وقد لاحظ هذه الحكمة الإمام أبو حنيفة وصاحبه الإمام أبو يوسف رحمهما الله، ولكنهما جعلا غرض الشارع أن يكون جنس العرب كله مسلما سواء كان في جزيرته أو غيرها، فلا تقبل من أحد منهم الجزية عندهما، وفي هذا من مخالفة السنة ما يأتي. وإنما أصابا في قولهما: إن الجزية تقبل من جميع العجم مهما تكن مللهم وأديانهم، وعلى هذا المذهب جرى عمل الدول الإسلامية في كل فتوحاتهم لبلاد الملل الوثنية كالهند وغيرها، فلم يحاولوا استئصال أهل ملة منهم. وأما كونهم مشركين بالفعل فمثلهم فيه أهل الكتاب، كما شهد عليهم القرآن، ولكن الشرط طرأ عليهم، وليس من كتابهم، ولوثني الهند والصين وغيرهم كتب قديمة مشتملة على التوحيد كما بيناه في موضع آخر.
وإننا نفصل أحكام الجزية بإيراد جملة ما أورده صاحب منتقى الأخبار من الأحاديث المرفوعة والموقوفة، ونقفي عليه ببيان مذاهب أئمة علماء الأمصار في ذلك، وإن كان فيه تكرار. فهذا آخر إسهاب في تفسيرنا لأحكام القتال.
الأخبار والآثار في الجزية:
عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر. رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي، وفي رواية أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " رواه الشافعي وهو دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب. وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى. " أمرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية " رواه أحمد والبخاري.
وعن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكوه إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: " أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية " قال: كلمة واحدة؟ قال: " كلمة واحدة، قولوا لا إله إلا الله " قالوا: إلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن:
{ { ص والقرآن ذي الذكر } [ص: 1] إلى قوله: { { إن هذا إلا اختلاق } [ص: 7] رواه أحمد والترمذي، وقال حديث حسن.
وعن عمر بن عبد العزيز أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إلى أهل اليمن: " إن على كل إنسان منكم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر " يعني أهل الذمة منهم، رواه الشافعي في مسنده، وقد سبق هذا المعنى في كتاب الزكاة في حديث لمعاذ.
وعن عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي - متفق عليه - وعن الزهري قال: قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا، رواه أبو عبيد في الأموال. وعن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية، رواه أبو داود، وهو دليل على أنها لا تختص بالعجم ; لأن أكيدر دومة عربي من غسان.
وعن ابن عباس قال: صالح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل نجران على ألف حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر، على ألا يهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا، أخرجه أبو داود اهـ.
ملخص أقوال أئمة الفقه في الجزية:
نورد من مذاهب الفقهاء ما لخصه الشيخ موفق الدين بن قدامة في المغني لاختصاره وحسن جمعه وبيانه قال:
مسألة: قال: (ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه) وجملته أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان: من له كتاب، ومن له شبهة كتاب، فأهل الكتاب اليهود والنصارى، ومن دان بدينهم، كالسامرة يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى عليه السلام، وإنما خالفوهم في فروع دينهم، وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرنجة والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى عليه السلام، والعمل بشريعته فكلهم من أهل الإنجيل، ومن عدا هؤلاء من الكفار فليس من أهل الكتاب بدليل قول الله تعالى:
{ { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [الأنعام: 156] واختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى، وقال في موضع آخر: بلغني أنهم يسبتون، فهؤلاء إذا سبتوا فهم من اليهود. وروي عن عمر أنه قال: هم يسبتون وقال مجاهد: هم بين اليهود والنصارى، وقال السدي، والربيع: هم من أهل الكتاب. وتوقف الشافعي في أمرهم، والصحيح أنه ينظر فيهم، فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم، وإن خالفوهم في ذلك فليس هم من أهل الكتاب.
ويروى عنهم أنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الكواكب السبعة آلهة، فإن كانوا كذلك فهم كعبدة الأوثان، وأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم الجزية ; لأنهم من غير الطائفتين، ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما هي مواعظ وأمثال، كذلك وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحف إبراهيم وزبور داود في حديث أبي ذر.
وأما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس ; فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم وأخذ الجزية منهم، ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم دليل. هذا قول أكثر أهل العلم. ونقل عن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب، وتحل نساؤهم وذبائحهم، لما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على بنته وأخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال: أتعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته؟ فأنا على دين آدم، قال، فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونهم حتى قتلوهم، فأصبحنا وقد أسري بكتابهم، ورفع العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر - وأراه قال: وعمر - منهم الجزية رواه الشافعي وسعيد وغيرهما، ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" .
ولنا قول الله تعالى: { { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [الأنعام: 156] والمجوس من غير الطائفتين، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: سنوا بهم سنة أهل الكتاب يدل على أنهم غيرهم، وروى البخاري بإسناده عن بجالة أنه قال: ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذها من مجوس هجر، ولو كانوا أهل كتاب لما وقف عمر في أخذ الجزية منهم مع أمر الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب، وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة الكتاب. وقد قال أبو عبيد: لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظا ولو كان له أصل لما حرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك، ويجوز أن يصح هذا من تحريم نسائهم وذبائحهم ; لأن الكتاب المبيح لذلك هو الكتاب المنزل على إحدى الطائفتين، وليس هؤلاء منهم، ولأن كتابهم رفع فلم ينتهض للإباحة، ويثبت به حقن دمائهم.
فأما قول أبي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الإجماع فلا يلتفت إليه، وقوله عليه السلام: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " في أخذ الجزية منهم، إذا ثبت هذا، فإن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس ثابت بالإجماع لا نعلم في هذا خلافا، فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى زمننا هذا من غير نكير ولا مخالف، وبه يقول أهل العلم من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم، مع دلالة الكتاب على أخذ الجزية من أهل الكتاب، ودلالة السنة على أخذ الجزية من المجوس بما روينا من قول المغيرة لأهل فارس: أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية.
وحديث بريدة وعبد الرحمن بن عوف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ولا فرق بين كونهم عجما أو عربا، وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر. وقال أبو يوسف: لا تؤخذ الجزية من العرب ; لأنهم شرفوا بكونهم من رهط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ولنا عموم الآية، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فأخذ أكيدر دومة فصالحه على الجزية وهو من العرب، رواه أبو داود، وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب، وبعث معاذا إلى اليمن فقال: " إنك تأتي قوما أهل كتاب " متفق عليه. وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وكانوا عربا، قال ابن المنذر: ولم يبلغنا أن قوما من العجم كانوا سكانا باليمن حين وجه معاذا، ولو كان لكان في أمره أن يأخذ من جميعهم من كل حالم دينارا دليل على أن العرب تؤخذ منهم الجزية، وحديث بريدة فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأمر من بعثه على سرية أن يدعو عدوه إلى أداء الجزية، ولم يخص بها عجميا دون غيره، وأكثر ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو العرب، ولأن ذلك إجماع فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد الجزية من نصارى بني تغلب فأبوا ذلك، وسألوه أن يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم، ثم صالحهم على ما يأخذه منهم عوضا عن الجزية، فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم، وما أنكر أخذ الجزية منهم أحد فكان ذلك إجماعا، وقد ثبت بالقطع واليقين أن كثيرا من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر الصحابة في بلاد الإسلام، ولا يجوز إقرارهم فيها بغير جزية، فثبت يقينا أنهم أخذوا الجزية منهم، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده، ولا بين أن يكون ابن كتابيين أو ابن وثنيين أو ابن كتابي ووثني.
وقال أبو الخطاب: من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لم يقبل منه الجزية، ومن ولد بين أبوين أحدهما تقبل منه الجزية، والآخر لا تقبل منه فهل تقبل منه؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي.
ولنا عموم النص فيهن، ولأنهم من أهل دين تقبل من أهله الجزية فيقرون بها كغيرهم، وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة ; لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية أي: يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم.
فصل: ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين:
الأول: أن يلتزموا الجزية في كل حول.
الثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول الله تعالى: { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بريدة:
" فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " ولا تعتبر حقيقة الإعضاء ولا جريان الأحكام ; لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل، والمراد بقوله: حتى يعطوا أي: يلتزموا الإعطاء، ويجيبوا إلى بذله، كقول الله تعالى: { { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [التوبة: 5] والمراد به التزام ذلك دون حقيقته، فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول لقوله عليه السلام: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".
مسألة: قال: (ومن سواهم فالإسلام أو القتل).
يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية، ولا يقرون بها، ولا يقبل منهم إلا الإسلام فإن لم يسلموا قتلوا، هذا ظاهر مذهب أحمد، وروى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب ; لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب ; لتغلظ كفرهم من وجهين: (أحدهما) دينهم (والثاني) كونهم من رهط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وقال الشافعي: لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وإدريس وجهان (أحدهما) يقرون بالجزية ; لأنهم من أهل الكتاب فأشبهوا اليهود والنصارى وقال أبو حنيفة: تقبل من جميع الكفار إلا العرب ; لأنهم رهط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية ; لأنه يقر بالاسترقاق فأقروا بالجزية كالمجوس، وعن مالك أنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش ; لأنهم ارتدوا، وعن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن جابر لحديث بريدة، ولأنه كافر فيقر بالجزية كأهل الكتاب.
ولنا قول الله تعالى:
{ { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وهذا عام خص منه أهل الكتاب بالآية والمجوس بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم، وقد بينا أن أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية فيما تقدم. اهـ.
استدلاله بعموم المشركين ممنوع ; لأنه من العام الذي أريد به الخاص كما تقدم، فالحق المختار أن قبول الجزية من أهل الكتاب والمجوس حتم وعدم قبولها من مشركي العرب حتم، وما عداهما فموكول إلى اجتهاد أولي الأمر، كسائر المصالح التي ليس فيها نص. ومقدار الجزية اجتهادي أيضا بشرطه.
استطراد في حقيقة معنى الجهاد أو الحرب والغزو
وإصلاح الإسلام فيها
الجهاد كلمة إسلامية تستعمل بمعنى الحرب عند بقية الأمم بمعنى كون كل منهما مصلحة من مصالح الدولة العامة لها أحكام خاصة، وتستعمل بمعناها اللغوي الأعم، وهي مصدر جاهد يجاهد مجاهدة وجهادا كقاتل يقاتل مقاتلة وقتالا، فهي صيغة مشاركة من الجهد وهو الطاقة والمشقة، كما أن القتال مشاركة من القتل، قال الراغب في مفردات القرآن: والجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو. والجهاد ثلاثة أضرب، مجاهدة العدو الظاهر. ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس. وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى:
{ { وجاهدوا في الله حق جهاده } [الحج: 78] { { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [التوبة: 41] { { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } [الأنفال: 72] وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم والمجاهدة تكون باليد واللسان. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم اهـ والجهاد بالألسنة إقامة البرهان والحجة.
لا أذكر من خرج الحديثين اللذين استشهد بهما الراغب في الجهاد المعنوي، وفي معناهما أحاديث أخرى كحديث فضالة بن عبيد عند الترمذي المجاهد من جاهد نفسه وحديث أبي ذر عند ابن النجار أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه ورواه الديلمي بلفظ " أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله تعالى " وحديث جابر عند الخطيب قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، مجاهدة العبد هواه وحديث علي عند أبي نعيم في الحلية الجهاد أربع: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في مواطن الصبر، وشنآن الفاسق وغيرها.
وإنما أكثرنا من هذه الشواهد ; لأن الإفرنج ومقلديهم وتلاميذهم من نصارى المشرق يزعمون أن الجهاد هو قتال المسلمين لكل من ليس بمسلم، لإكراههم على الإسلام، وإن لم يعتدوا عليهم ولم يعادوهم، وقد علمت مما تقدم آنفا وما سنفصله به تذكيرا بما فصلناه من قبل، أن هذا كذب وافتراء على الإسلام، ومنه ما تقدم في سورتي الأنفال والبقرة أن من غايات القتال فيه منع الفتنة في الدين، أي اضطهاد الناس لأجل إيمانهم وإكراههم على تركه، وقوله تعالى:
{ { لا إكراه في الدين } [البقرة: 256] ونص الأمر بقتال من يقاتلنا ويعادينا في ديننا، والنهي عن الاعتداء المحض، ونص تفضيل السلم على الحرب، ووجوب الجنوح إليها إذا جنح العدو، ونص جعل الغرض الأول من الاستعداد للقتال إرهاب الأعداء رجاء أن يكفوا عن الاعتداء، ونصوص أحكام المعاهدين للمسلمين، وتحريم قتالهم ما داموا محافظين على العهد، ومن أعجبها قوله تعالى في المسلمين غير الخاضعين لإمام المسلمين في دار الإسلام، كالذين أسلموا ولم يهاجروا إلى المدينة في عهده عليه الصلاة والسلام: { { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } [الأنفال: 72] وقد بينا مرارا أنه كان من سياسة الإسلام إبطال الوثنية وعبادة الأصنام من جزيرة العرب وجعلها موئله ومأرزه، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قاتل مشركيها إلا دفاعا كما تقدم في هذه السورة.
أما الحرب والقتال لمحض البغي والعدوان، والضراوة بسفك الدماء كحروب بعض الملوك المستبدين والغابرين - أو لغرض الانتقام والبغض الديني كالحروب الصليبية، أو لأجل الطمع في المال وسعة الملك، وتسخير البشر وإرهاقهم ; لتمتع القوي بثمرات كسب الضعيف كحروب أوربة الاستعمارية في هذا العصر - فكل هذه الحروب محرمة في الإسلام لا يبيح شيئا منها، لأنها لحظوظ الدنيا وشهواتها، ومن إهانة الدين المغضبة لشارع الدين أن يتخذ الدين وسيلة لها. وقد علم مما بسطناه من أحكام الجزية وعمل الصحابة بها أنها ليست مما ذكر في شيء، وأنها مال حقير قليل لا يفقر معطيه، ولا يغني آخذيه، وأن من شروطها أن تكون عن قدرة وسعة، وألا يكلف أحد منها ما لا يطيق.
وأما كونها عنوان الدخول في حكم الإسلام، وقبول سيادة أهله فهو صحيح، ولكن هذا الحكم لا يبيح للمسلمين شيئا من الظلم والإرهاق واستنزاف ثروة الذين يقبلونه من أهل الملل الأخرى على الوجه المعروف المشاهد في جميع المستعمرات الأوربية، وإنما تجب المساواة بينهم وبين المسلمين في العدل والحقوق والضرائب، مع أن المفروض على المسلمين في أموالهم أكثر، كأنواع الزكاة المفروضة، والصدقات المندوبة، حتى قال الفقهاء: إنه يجب على المسلم نفقة المضطر من ذمي ومعاهد، إذا لم يوجد من يقوم له بها من قريب وغيره. وإنما زاد بعضهم ما يؤخذ من المكس من الذميين على ما يؤخذ من المسلمين بربع العشر في مقابلة الزكاة. ومع هذا يقول بعض العلماء: إنه لا يجب بدء الحربيين بالقتال لأجل الجزية والدخول في حكمنا، إذا لم يوجد سبب آخر، خلافا لمن يظن أن هذا واجب في الإسلام بالإجماع لما يراه في بعض كتب الفقه.
وقد لخص الحافظ ابن حجر أقوال علماء الإسلام في حكم الجهاد - التي يحتج ببعضها هؤلاء القليلو الاطلاع - في شرح البخاري عند قوله: (باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية) فذكر أولا أن الكلام في حالين: زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما بعده، فأما زمنه فالتحقيق من عدة أقوال: أن وجوبه فيه كان عينا على من عينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حقه. وأما بعده " فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام (أي الأعظم) ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن وهو قوي، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه والله أعلم " اهـ.
فعلم من هذا التفصيل أنه ليس في مسألة جهاد العدو بالسيف إجماع من المسلمين إلا في حال اعتداء الأعداء على المسلمين، وحينئذ إذا أعلن الإمام النفير العام وجبت طاعته، وإذا استنفر بعضهم كالجند المرابط والمتعلم وغيرهم وجبت طاعته، فإنه يطاع في الواجب الكفائي كالواجب العيني، وقال الشيخ الموفق في المغني: ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع: (الأول) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان إلخ. (الثاني) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم. (الثالث) إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه اهـ. بدون ذكر الأدلة. وتقدم بيان الأول في تفسير
{ { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } [الأنفال: 15] وأنه كان في غزوة بدر إذ كان المشركون هم المعتدين. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: { { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [الأنفال: 60] أن الاستعداد للحرب واجب على الحكومة الإسلامية، كما هو المعلوم الذي عليه العمل عند جميع دول الأرض، وأن الغرض الأول من هذا الاستعداد إرهاب عدو الله، وهم كل من يقاوم دينه ويمنع نشره ويضطهد أهله، وعدو المسلمين الذي يعاديهم ولو لغير دينهم كالطمع في بلادهم، والضراوة باستعبادهم ; ليخشوا بأسهم فلا يعتدوا عليهم، فإن اعتدوا لم يجدوهم ضعفاء ولا عاجزين.
والمعلوم من تاريخ البشر أن الحرب سنة من سنن الاجتماع البشري، أو أكبر مظهر وأثر لسنة تنازع البقاء، وتعارض المصالح والمنافع والأهواء، ولا سيما أهواء الملوك والرؤساء، رؤساء الدين ورؤساء الدنيا، بل هي سنة من سنن بعض الحشرات التي تعيش عيشة التعاون والاجتماع كالنمل، فهو يغزو ويبيد ويسترق ويستخدم رفيقه في خدمته وترفيه معيشته وغزو أعدائه، وعلم من التاريخ أيضا أن شعوب أوربة أشد البشر ضراوة وقسوة في الحرب في أطوار حياتها كلها من همجية، ووثنية، ونصرانية مذهبية، وصليبية، ومدنية مادية. ومن علمائهم وفلاسفتهم الغابرين والمعاصرين من يرى منافع الحرب العامة في البشر أكبر من مضارها، وإن كان الخسار فيها عاما شاملا للغالبين والمغلوبين، ولا تزال جميع دولهم تنفق على الاستعداد لها فوق ما تنفق على غيرها من مصالح الدولة والأمة، وترهق شعوبها بالضرائب لأجلها، فوق ما تستنزفه من ثروة مستعمراتها وما تقترضه بعد هذا وذاك من الديون الفاحشة، هذا مع علم كل أحد من ساستهم، وعلمائهم بسوء نية كل دولة، وعدم انتمائها للأخرى.
وعلم كل منهم بأنه لولا سوء النية، وفساد الطوية، لأمكن الاتفاق سرا وجهرا على ما يقترحه فضلاء العقلاء من تقليل الاستعداد للحرب الذي كثرت أسبابه، واتسعت بالاختراعات أبوابه، حتى صار خطرا على البشر وحضارتهم وعمرانهم يخشى أن يدمر أكبر مملكة من أوربة، ويبيد أهلها في أيام معدودات، وهم على هذا كله لا يزدادون إلا غلوا فيها. ولو أنهم اهتدوا بالإسلام - الذي صار واأسفاه مجهولا حتى عند أهله - لاهتدوا الطريق، ووجدوا المخرج من هذا المضيق.
وقد كان من إصلاح الإسلام الحربي منع جعل الحرب للإكراه على الدين، أو للإبادة، أو للاستعباد الشخصي أو القومي. أو لسلب ثروة الأمم، أو للذة القهر والتمتع بالشهوات. ومنها منع القسوة كالتمثيل، ومنع قتل من لا يقاتل كالنساء والأطفال والعباد، ومنع التخريب والتدمير الذي لا ضرورة تقتضيه. ولا تزال هذه الفظائع كلها على أشدها عند دول أوربة إلا استبعاد الأفراد باسم الملك الشخصي، فهذا هو الذي يجتنبونه مع بقاء استعبادهم للأقوام والشعوب على ما كان، في نظام ودسائس يقصد بها إفساد الآداب والأديان. وقد بين شيخنا الأستاذ الإمام صفة الحرب الإسلامية مع الإشارة إلى حروبهم بقوله في رسالة التوحيد.
"ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة، ولم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها نظير في ماضيهم، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بلغ رسالته بأمر ربه إلى من جاور البلاد العربية في ملوك الفرس والرومان، فهزئوا وامتنعوا، وناصبوه وقومه الشر، وأخافوا السابلة، وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه، وبعث إليهم البعوث في حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبا للأمن وإبلاغا للدعوة ".
ثم ذكر سيرتهم العادلة الرحيمة في حربهم ثم في سلمهم، وما أثمرته من سرعة انتشار وقفى عليها بقوله.
" قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يطف على قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف بينه وبين حياته".
" سبحانك هذا بهتان عظيم. ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من دخلوا تحت سلطانهم، هو ما تواترت به الأخبار تواترا صحيحا لا يقبل الريبة في جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما شهر المسلمون سيوفهم دفاعا عن أنفسهم، وكفا للعدوان عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك، ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكان الجوار طريق العلم بالإسلام، أو كانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه ".
ثم كتب كلمة بليغة في بيان ما كان من فتوحات النصارى الأوربيين، ونشرهم لدينهم بالقهر والتقتيل، وإبادة المخالفين مدة عشرة قرون كاملة، لم يبلغ السيف من كسب عقائد البشر فيها ما بلغه انتشار الإسلام في أقل من قرن. ونقول نحن أيضا: إن من المعلوم من التاريخ بالضرورة لكل مطلع عليه أن العرب المسلمين لم يكن لهم في ذلك القرن من القوة العددية والآلية، ولا من سهولة المواصلات ما يمكنهم من قهر الشعوب التي فتحوا بلادها على ترك دينها، ولا على قبول سيادة شعب كالشعب العربي كان دونها في حضارتها وقوتها، فهم لم يخضعوا للمسلمين ويدينوا بدينهم، ويتعلموا لغتهم إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الموصل لسعادة الدنيا والآخرة - أو من أنهم أفضل الحكام وأعدلهم.
ثم أشار الأستاذ إلى ما كان من شأن الإسلام فيما سماه الفتح الذي تقتضيه ضرورة الملك، أو الحرب التي يقول علماء أوربة: إنها سنة من سنن الاجتماع البشري، تقتضيها الضرورة وتترتب عليها فوائد كثيرة في مقابلة غوائلها الكثيرة، فقال ما نصه.
" جلت حكمة الله في أمر هذا الدين، سلسبيل حياة نبع في القفار العربية، أبعد بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فجمع شملها فأحياها حياة شعبية ملية، علا مده حتى استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها، زلزل هديره على لينه ما كان استحجر من الأرواح فانشقت عن مكنون سر الحياة فيها.
" قالوا: كان لا يخلو من غلب (بالتحريك). قلنا: تلك سنة الله في الخلق، لا تزال المصارعة بين الحق والباطل، والرشد والغي قائمة في هذا العالم إلى أن يقضي الله قضاءه فيه".
" إذ ساق الله ربيعا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها، وينقع غلتها، وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره إن أتى في طريقه على عقبة فعلاها، أو بيت رفيع العماد فهوى به؟ اهـ ".
هذا بعض ما بينه الأستاذ الإمامرحمه الله تعالى في الحرب والقتال من الوجهة الدينية الإسلامية، ثم من الوجهة الاجتماعية، ومذهب جماهير الفقهاء كلها أن هذا الجهاد والقتال لدفع الاعتداء الذي يقع على الدين أو الوطن فرض عين، وتوافقهم عليه جميع شرائع أمم الإفرنج كلها، ويعذرون كل أمة فقد من وطنها شيء، إذا هي ظنت تستعد لاستعادته إلى أن تظهر بذلك كما فعلت فرنسة باستعادة ولايتي الألزاس واللورين من ألمانيا في الحرب الأخيرة، وكانت انتزعتهما منها منذ نصف قرن ونيف وربت أهلهما تربية ألمانية، وفي أهلهما كثيرون من العرق الألماني، ويقال: إن السواد الأعظم من سكانها الآن يفضل أن يكون تابعا للدولة الألمانية ولكنه مقهور مغلوب على أمره.
ولما كان تفسيرنا هذا تفسيرا علميا عمليا أثريا عصريا وجب علينا في هذا المقام أن نبين حال مسلمي عصرنا فيه مع مغتصبي بلادهم، والجانين على دينهم ودنياهم ; ليكون أهل البصيرة والعلم من الفريقين على بينة من التنازع والتخاصم الواقع بينهما فيجدوا له صلحا معتدلا إن أمكن الصلح بالاختيار، فإن لم يفعلوا فلينتظروا حكم الأقدار، فيما لسنن الاجتماع من الأطوار،
{ { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران: 140].
فصل
في دار الإسلام والعدل، ودار الحرب والبغي
وحقوق الأديان والأقوام في هذا العصر
جرى اصطلاح فقهاء المسلمين على تسمية البلاد التي تنتظم في سلك دولتهم، وتنفذ فيها شريعتهم " دار الإسلام ودار العدل "، لأن العدل واجب فيها في جميع أهلها بالمساواة، ويسمون ما يقابلها " دار الحرب " ولكل منها أحكام مبسوطة في كتبهم، ويسمى أهل دار الحرب " الحربيين " إن كانوا معادين مقاتلين للمسلمين، " والمعاهدين " إن كان بين الفريقين عهد وميثاق على السلم وحرية المعاملة في التجارة وغيرها، وإن خرج على إمام المسلمين طائفة منهم سموا البغاة، فإن أسسوا حكومة تغلبوا بها على بعض البلاد سموا المتغلبين أو المتغلبة، وتسمى دار الإسلام في مقابلة ذلك بـ " دار العدل " ولكل دار أحكام، فأين دار الإسلام؟.
تقدم آنفا أن " الحربيين " إذا هاجموا دار الإسلام واستولوا على شيء منها صار القتال فرضا عينيا على المسلمين، فإذا أعلن الإمام النفير العام وجب على كل فرد منهم أن يطيعه بما يقدر عليه من الجهاد بنفسه وبماله، وتجب طاعته فيما دون ذلك بالأولى كأن يستنفر بعضهم دون بعض، ويفرض المال الناطق والصامت على بعض الناس دون بعض، على ما يجب عليه في هذا وغيره من مراعاة العدل. وهذا الحكم هو الذي تجري عليه الدول الأوروبية وغيرها في هذا العصر، وإنما أعدنا ذكره لنذكر المسلمين وغير المسلمين من العارفين بأحكام الإسلام بأن السكوت عن هذه المسألة لا يمكن أن يطول بعد أن استيقظ العالم الإسلامي كغيره من شعوب الشرق من رقاده الطويل، وطفق يبحث في ماضيه وحاضره.
وما ينبغي أن يكون عليه الأمر في مستقبله، وهاتف الإيمان يهتف في أعمال سريرته مذكرا إياه بما أوجبه الله عليه من إعادة تلك الدار الواسعة، أو الممالك الشاسعة، وإقامة تلك الشريعة العادلة، وإحياء تلك الهداية الشاملة لتضيء للبشر الطريق للخروج من ظلمات هذا الاضطراب النفسي، والفوضى الاجتماعية، والسرف الشهواني، التي أحدثتها الأفكار المادية ونزعات الإلحاد والحكم البلشفي الذي هو شر نتائجها، فقد عجزت بقايا هداية النصرانية عن صد غشيان هذه الظلمات لأعظم ممالكها، بعد أن ثارت سحبها من أفق مدارسها، فكيف تقوى على تقشيع هذه السحب بعد تكاثفها، وقد كانت هي نفسها من أسباب حدوثها؟.
هذا ما يفكر فيه خواص المسلمين في هذا العهد ويشاركهم الدهماء فيما هو من ضروريات الإسلام، وهو أنه دين سيادة وسلطان وتشريع، وحكومة شورية يحميها نظام حربي جامع بين القوة والرحمة والعدل، وأنه قد اعتدى عليه الفاتحون المستعمرون فسلبوا ممالكه العامرة الخصبة أولا، ثم هاجموه في مهد ولادته، وبيت تربيته، ومعقل قوته (وهو جزيرة العرب) حتى وصل عداونهم إلى مشرق نوره، وقبلة صلاته، ومشاعر نسكه، وروضة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وهو الحجاز) حيث حرم الله وحرم رسوله، باستيلائهم على السكة الحديدية الحجازية في سورية وفلسطين، وبما ألحقوه بشرق الأردن من أرض الحجاز نفسها.
كان المعتدون على دار الإسلام يحسبون كل حساب لقيام المسلمين بنهضة عامة باسم (الجامعة الإسلامية) لاستعادة ما سلب منهم، وكانوا يحسبون كل حساب لتعلقهم بالدولة العثمانية، وقد اعترفوا لها بمنصب (الخلافة الإسلامية) فما زالوا يجاهدون هذه الخلافة وتلك الجامعة بأنواع الجهاد المقرر في الشريعة الإسلامية، وهي: السيف، والمال، واللسان، والقلم (أي العلم) حتى صرفوا وجوه الشعوب الإسلامية عن الجامعة الإسلامية إلى الجامعتين الجنسية والوطنية، وهدموا هيكل الخلافة العثمانية بأيدي حماتها من الترك أنفسهم، ودفعوا حكومة هذا الشعب الإسلامي الباسل من حيث لا تدري إلى محاربة الدين الإسلامي نفسه بأشد من محاربتهم هم له بمدارسهم التبشيرية، واللادينية، وبكتبهم وصحفهم ونفوذهم، فاعتقدوا أنه قد تم لهم بهذا فتح العالم الإسلامي، وأنه لم يبق عليهم لإتمام هذا الفتح إلا القضاء الأخير على مهده الديني، وعلى شعبه وأنصاره من قوم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا ما جرأهم على ما أشرنا إليه آنفا وكانوا فيه مخطئين، وفي محاولته مسيئين، وكنا من إساءتهم مستفيدين.
أما الخلافة العثمانية المتغلبة فكانت هيكلا وهميا خادعا للمسلمين باتكالهم عليه، فلم تتوجه هممهم إلى الرجوع إلى قواهم الذاتية، ولاسيما قوة الولاية والتعاون، وما تقتضيه من علم وعمل، وإنما كانت الدولة العثمانية سياجا لمن يعمل للإسلام ولها باعتراف الدول لها بالحقوق الدولية، وبما كانت تحافظ عليه من القوة العسكرية، وكان أفراد العلماء والسياسيين كالأستاذ الإمام يعلمون أن هذا السياج ضعيف، وعرضة للزوال القريب، وأنه يجب العمل من ورائه مع عدم الاتكال عليه بحال من الأحوال، بعد ما ثبت أنه لا سبيل إلى تقويته بضرب من ضروب الإصلاح، ولكن الجهل العام حال دون الاهتداء بآراء هؤلاء العقلاء التي جرينا عليها في مجلتنا (المنار) بأصرح مما كانوا يصرحون أو يبيحون، ومن ثم كان زوال الخلافة العثمانية نافعا لا ضارا.
وأما الجامعة الإسلامية فلم تكن أمرا واقعا بالفعل، كما حققنا ذلك في المنار من قبل، وإنما كانت أمرا تقتضيه العقيدة والمصلحة، ويحول دونه الجهل العام، ولاسيما جهل الرؤساء والزعماء من الحكام وغيرهم، ويقظة المقاومين لهم، وستدخل في هذا العصر في طور من النظام تبلج نور فجره في المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة.
وأما التفرقة الجنسية والوطنية بين الشعوب الإسلامية، فقد كان له أصل ووجود بما كان من عصبية الأعاجم لأجناسهم، ولاسيما الترك الذين كان من قواعد سياستهم احتقار العرب، وهضم حقوقهم حتى في مصر التي كان الأعاجم الحاكمون فيها فئة قليلة، وكان احتقارهم للمصريين، والتعبير عنهم بلقب فلاح وفلاحين أكبر أسباب الثورة العرابية، واحتلال الإنكليز لمصر - ولكن التعاليم الأوربية قد أفادت هذه الشعوب المستيقظة قوة جديدة عصرية تجاهد بها المستعبدين بسلاحهم المعنوي الذي لا يفل حده، ولا يجزر مده، وهو قوة وحدة الشعب، ومطالبته بحقه الطبيعي في حكم نفسه بنفسه، مع عطف أهل كل دين ومذهب فيه على إخوانهم الوطنيين في كل ما يرونه من حقوقهم الملية العامة حتى في خارج وطنهم. كما نرى في عطف وثني الهند ومساعدتهم للمسلمين فيما يطالبون به من حقوق الإسلام في فلسطين.
وأهم المسائل الإسلامية التي تدور في هذا العهد بين كبار عقلاء المسلمين من جميع الأقطار ويتهامسون بها سرا - مسألة (دار الإسلام) التي يفترض على العالم الإسلامي كله الجهاد بالنفس والمال والعلم والعمل لإعادتها. وأرى أنه يجوز لي أن أفشي الآن من سرها ما يعين على تمحيصها، فأقول: إن لهم فيها أربعة آراء:
1- الرأي الأول: وهو أقرب الآراء إلى نصوص جمهور الفقهاء - أن كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيها أحكامه وأقيمت شعائره قد صار من (دار الإسلام) ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوبا عينيا كانوا كلهم آثمين بتركه، وأن استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده، وإن طال الزمان. فعلى هذا الرأي يجب على مسلمي الأرض إزالة سلطان جميع الدول المستعمرة لشيء من الممالك الإسلامية، وإرجاع حكم الإسلام إليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وعجزهم الآن عن ذلك لا يسقط عنهم وجوب توطين أنفسهم عليه، وإعداد ما يمكن من النظام والعدة له، وانتظار الفرص للوثوب والعمل.
وهذا الرأي يوافق القاعدة التي وضعها أحد وزراء الإنكليز للتنازع بين المسلمين والنصارى في الغلب والسلطان وهي (ما أخذ الصليب من الهلال لا يجوز أن يعود إلى الهلال، وما أخذ الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب) وعلى هذا الرأي يجري اليهود الذين يطالبون بإعادة ملك إسرائيل إلى بلاد فلسطين، بل هم لا يكتفون بإعادة الملك (بضم الملك) بل يطلبون جعل الملك (بالكسر) وسيلة له فهم يحاولون سلب رقبة الأرض من أهلها العرب بمساعدة الإنكليز.
ونحن معاشر المسلمين ننكر على الإنكليز واليهود ما ذكر، ونعده غلوا وبغيا وأثرة منهم، ومن قلة الإنصاف أن نرضى لأنفسنا ما ننكره على غيرنا. دع ما في الدعوة إلى هذا المطلب الكبير، من الغرور والتغرير.
2- الرأي الثاني: أن (دار الإسلام) ما كان داخلا في حكم الخلافة الإسلامية الصحيحة، وهي خلافة الراشدين والأمويين والعباسيين جميعا دون غيره مما فتحته دول الأعاجم، ولم ينفذ فيه حكم خليفة قرشي. وهذا الرأي قريب مما قبله في بعده عن المعقول. على نزاع في دليله من المنقول.
3- الرأي الثالث: أن (دار الإسلام) الحق هي ما فتح فتحا إسلاميا روعي في حربه وسلمه دعوة الإسلام وجزيته وصلحه وتنفيذ حكم الله فيه، وإعلاء كلمته، وإقامة الحق والعدل في الناس كلهم، ولا يمكن الجزم بذلك إلا فيما فتحه أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان الغالب على من بعدهم طلب الملك والتمتع بالسلطان والنعيم، فالواجب على جميع المسلمين أن يسعوا لإعادة هذه البلاد إلى حكم الإسلام الحق بأن يضع عقلاؤهم لذلك نظاما يدعون إليه دعوة عامة، ويجمعون المال الذي يمكنهم من السعي إليه.
4- الرأي الرابع: أن (دار الإسلام) قسمان: (الأول) مهده ومشرق نوره ومصدر قوته، وموطن قوم الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وهو جزيرة العرب. (والثاني) بيئة حضارته العربية ومظهر عدالته التشريعية، وينبوع حياته الاقتصادية، وهو سورية الشاملة لفلسطين، والعراق العربي، ومصر وإفريقية، وهذه الأقطار هي التي عمت فيها لغة الإسلام العربية، ورسخت فنسخت ما كان فيها من لغات أخرى ; لأن أكثر سكانها الأصليين من السلائل العربية الذين تغلغلوا فيها من عصور التاريخ الأولى، فلم يبق عند علماء الأجناس البشرية ولغاتها شك في أن الفينيقيين سكان سواحل سورية الأولين المعمرين - من عرب سواحل البحرين ونجد - وأن امتزاج اللغة العربية بالهيروغليفية القديمة دليل على أن قدماء المصريين والعرب من عرق واحد إن لم يكونا من عرقين امتزجا واتحدا منذ ألوف السنين.
ولكن المصريين قد رسخت في زعمائهم المدنيين عصبية الوطنية فلا مجال الآن لمطالبتهم بعمل سياسي لإعادة دار الإسلام بعد ما كان من مقاومتهم لمؤتمر الخلافة الذي عقده علماء الأزهر، وبعض أهل الرأي من غيرهم، وحسب الإسلام منهم إعلاء شأنه بإحياء لغته وعلومه وهدايته. فانحصر الرجاء في جزيرة العرب وما يتصل بها من سورية والعراق اللذين يعدهما بعض الناس منها.
دار الإسلام الدينية في جزيرة العرب:
أوجب الإسلام أن تكون جزيرة العرب داره الدينية المحضة، فقضى على ما كان فيها من الشرك على الوجه الذي بيناه في تفسير هذه السورة، كما بينا في تفسير سورة الأنفال ما ورد من الأحاديث النبوية في ذلك وأهمها وصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرض موته بإخراج اليهود والنصارى منها، وبأن لا يبقى فيها دينان، وقد صرح الإمام الشافعي في الأم بأن ثغور الحجاز البحرية، وما يوجد في بحره من الجزائر لهما حكم أرضه وبلاده، فلا يجوز لإمام المسلمين وسلطانهم أن يمكن أحدا من غير المسلمين بالإقامة فيها لتجارة ولا لغيرها. وقد ظهر لمسلمي هذا العصر من حكمة الإسلام في هذا ما لم يكن يخطر ببال دولهم القوية من قبله التي تساهلت وقصرت في تنفيذ الوصية المحمدية فسمحت ببقاء بعض أهل الكتاب في بعض بقاع جزيرة العرب (كاليمن) ثم بوجود بعضهم في (جدة) وهي من الحجاز.
ظهر لهم أن أساس السياسة المتفق عليه بين جميع الدول العزيزة هو أن لكل أمة الحق في حماية وطنها بحدوده الطبيعية والعرفية، وما يعد سياجا وحريما له من سواحله البحرية، ومن طرق الملاحة والتجارة المؤدية إليه من كل جهة، وأن الحرب التي توقد نارها لأجل هذه الحماية، ومنع العدوان هي حق وعدل يقره القانون الدولي العام إذا لم يكن منه بد، ولا يعد منافيا للفضيلة والحقوق الإنسانية بل مؤيدا لهما.
ودول الاستعمار الفاتحة تعد ما تتغلب عليه من أوطان سائر الأمم كوطن أمتها في أن لها الحق في حمايته، ومنع الاعتداء عليه وعلى طرقه البرية والبحرية، فهي تبيح لنفسها الاعتداء بحجة منع غيرها من الاعتداء، كما فعلت انكلتره في الاعتداء على مصر فالسودان، ومن قبلهما على عدن بحجة حماية طريق الهند التي اعتدت عليها من قبل، وبعد هذا وذاك اعتدت على العراق وفلسطين وشرق الأردن من الوطن العربي.
ثم امتد طمعها إلى الحجاز نفسه، وهو قلب جزيرة العرب المادي، وقلب الإسلام المعنوي، بجعل أهم ثغوره الحربية والجغرافية (العقبة) وأهم مواقع سكة الحديد الحجازية فيه (معان) وما بينهما تابعا لشرقي الأردن الذي وضعته تحت سيطرتها باسم الانتداب، دع ذكر الخط الحديدي الممتد من حدود الحجاز إلى حيفا، فبهذا انتهكت هذه الدولة حرمة الحجاز المقدسة، وبهذا صار الحرمان الشريفان تحت رحمة هذه الدولة الباغية من البر والبحر. وصارت هذه البقية الصغيرة من دار الإسلام الدينية والسياسية على خطر، فإن تم لهذه الدولة الباغية هذا فستمد سكة حديدية تجارية في الظاهر عسكرية في الباطن من العقبة إلى العراق، ثم تقول عند سنوح الفرصة للاستيلاء على الحرمين: إن وجود قوة إسلامية فيهما يهدد سكة الحديد البريطانية، ولا سبيل إلى الأمن عليها إلا بإزالة كل قوة إسلامية عربية من سائر الحجاز أو جعل القوة المحافظة على الأمن من تحت إشرافها ونفوذها.
ولو كان في الحجاز سكان من غير المسلمين لفتحت لنفسها باب التدخل في أمر حكومته بحجة حماية هؤلاء السكان، ولا سيما إذا كانوا من النصارى كما انتحلت لنفسها حق حماية الأقليات غير الإسلامية بمصر، وكما فعلت في إعطاء اليهود حق تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، وفي حمايتهم فيها بل إعانتهم ومساعدتهم على أهلها من العرب وأكثرهم مسلمون، وكما خلقت في العراق أقلية من بقايا الأشوريين، وإن تم لها الاستيلاء على منطقة العقبة ومعان من أرض الحجاز فستجعل جل مالكي رقبة الأرض فيها من الإنكليز وغيرهم من اليهود والنصارى ; ليكون لها من حق الحكم فيها والحماية لها حماية هؤلاء السكان فوق حماية الأرض وسكة الحديد، وما يتعلق بذلك من المنافع الاقتصادية، والمصالح السياسية - أعني أن هذه البقعة العظيمة من وطن الحجاز الإسلامي العربي يخشى أن يخرج بها الحجاز كله عن كونه عربيا أو إسلاميا، كما يدعون الآن في فلسطين.
أقول: إن تم لهذه الدولة ما ذكر ; لأنه لما يتم لها ذلك (ولن يتم إن شاء الله) فإن ملك الحجاز ونجد عارضها في دعوى إلحاق هذه المنطقة بحكومة شرقي الأردن، ولكنهما اتفقا على إرجاء البت النهائي في أمرها بضع سنين، وقد أجمعت كلمة المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1344 على إنكار إلحاق هذه المنطقة بشرقي الأردن ووجوب جعلها تابعة للحجاز، وتكليف الملك عبد العزيز بمطالبة هذه الدولة بإعادتها إلى الحجاز، واتخاذ كل الوسائل الممكنة لذلك، ويجب على كل العالم الإسلامي أن يطالبه بذلك ويؤيده فيه.
هذا مجمل ما يدور فيه البحث بين بعض أهل العلم والرأي من المسلمين في الأحكام الشرعية والآراء السياسية في دار الإسلام، والحكومة الإسلامية وما يتعلق بها في منصب الإمامة (الخلافة) وما يجب على العالم الإسلامي من السعي لذلك، وإلا كان جميع المسلمين عصاة لله تعالى مستحقين لعقابه في الآخرة، كما وقع عليهم عقابه في الدنيا بالذل والنكال، بفقد السيادة والاستقلال، الذي عم جميع الشعوب والأجيال، إلا هذه البقية القليلة الفقيرة من العرب والعجم، وهي مهددة في كل آن بالخطر، وهذا السعي الواجب لا يرجى نجاحه إلا بنظام سري محكم يراعى فيه حال الزمان، واختلاف استعداد الشعوب الإسلامية المختلفة الحكومات والمذاهب والمشارب، تقوم به جمعيات دينية وسياسية وخيرية، توجه جهودها كلها إلى غرض واحد لا يعرف حقيقته إلا أفراد قليلون من القائمين بها.
وأما الأمر الجهري الذي يجب على العالم الإسلامي في جملته ومختلف شعوبه السعي له قبل كل شيء فهو صيانة الحجاز من النفوذ الأجنبي الذي يهدده باستيلاء دولتي انكلتره وفرنسة على سكة الحديد الحجازية، وبإلحاق منطقة العقبة ومعان شرقي الأردن الواقع تحت السيطرة الإنكليزية، بل يجب على كل مسلم أن يفعل كل ما يقدر عليه في هذه السبيل من عمل إيجابي أو سلبي بالانفراد أو الاشتراك مع غيره، ومنه المقاطعة التجارية وغيرها وبث الدعاية لذلك. أعني أنه يجب على كل مسلم البدء بالجهاد الديني بأنواعه الثلاثة التي تقدمت. من قول، ومال، ونفس بقدر الإمكان وبث الدعوة لذلك في كل مكان.
يقول بعض علماء الإحصاء البشري العام: إن عدد المسلمين قد بلغ أربعمائة مليون نسمة أو يزيدون، فهل يرضون لأنفسهم وهم يملكون من بقاع الأرض ما يزيد على مساحة أوربة كلها أضعافا أن يكونوا أذل وأحقر وأجبن من اليهود الصهيونيين الذين لا يبلغون عشر عشرهم، وهم يرونهم يقدمون على انتزاع فلسطين منهم؟ ويرون مع هذا أن حرم الله تعالى وحرم الرسول صلوات الله وسلامه عليه مهددان بالخطر بعد ثالثهما وهو المسجد الأقصى، قد انتقصا من أطرافهما، واغتصبت السكة الحديدية الوحيدة الموصلة إليهما، وهم ساكنون ساكتون، ودينهم يوجب عليهم إعادة دار الإسلام وحكم الإسلام، إلى ما كان عليه في سالف الأيام على اختلاف الدرجات التي بيناها في صدر هذا الفصل. فمم يخافون؟ وعلى أي شيء يحرصون؟ ولم يعيشون؟.
لقد دلت أفعال المسلمين في الحرب العامة الأخيرة إذ كانوا يقاتلون دفاعا عن مستذليهم ومستعبديهم ودلت الثورة العربية الحجازية أثناء الحرب، والثورات المصرية فالعراقية فالسورية فالمغربية الريفية بعد الحرب العامة على أنهم لا يزالون أشجع الأمم وأشدها احتقارا لهذه الحياة الدنيا، ولا سيما العرب منهم وإنما كان سبب كل ما أصابهم من البلاء والشقاء وفقد الاستقلال أولا وآخرا - فساد رؤسائهم وخيانة أمرائهم، وجهل عامة دهمائهم، وقد آن للجاهل أن يعلم، وللفاسد أن يصلح وللخائن أن يتوب أو يقتل.
فيا أيها المسلمون تدبروا قول ربكم العزيز القدير، الولي النصير، العلي الكبير:
{ { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [الروم: 47] { { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } [محمد: 7] { { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } [غافر: 51] { { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } [النساء: 141] { { ولن يخلف الله وعده } [الحج: 47] { { ولكنكم نقضتم عهده وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } [النور: 31] { { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139].