التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ
٣٨
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٩
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

تفسير المنار

هذا السياق من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك، وما كانت وسيلة له من هتك أستار النفاق، وتطهير المؤمنين من عوامل الشقاق. إلا الآيتين في آخرها، وما يتخللها من بعض الحكم والأحكام، على السنة المعروفة في أسلوب القرآن. ومناسبته لما قبله أن المراد قتالهم في تبوك: هم الروم وأتباعهم المستعبدون من عرب الشام، وكلهم من النصارى الذين نزلت الآيات الأخيرة في حكم قتال اليهود وقتالهم، وبيان حقيقة أحوالهم، وأهمها خروجهم عن هداية دين المسيح عليه السلام، في كل من العقائد والفضائل والأعمال. وكان ذكر النسيء في آخره لما ذكرنا. وإننا نقدم على تفسير الآيات بيان سبب غزوة تبوك وفاء بما وعدنا به فنقول:
غزوة تبوك وسببها:
تبوك مكان معروف في منتصف الطريق بين المدينة المنورة ودمشق تقريبا. وقالوا: إن بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، واللفظ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على الأشهر.
قال الحافظ في فتح الباري: وكان السبب فيها - أي الغزوة - ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذي يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء. فندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك.
وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباد وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية - أي من الفضة - قال: فسمعته يقول: " لا يضر عثمان ما عمل بعدها " وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حباب نحوه.
وذكر أبو سعيد في (شرف المصطفى) والبيهقي في الدلائل من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء. فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى من سورة بني إسرائيل:
{ { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } [الإسراء: 76] الآية. انتهى. وإسناده حسن مع كونه مرسلا. انتهى ما ذكره الحافظ، والصحيح المعتمد في السبب هو الأول، وما ندري من هؤلاء اليهود الذين قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قالوا؟ وكان هذا بعد الفراغ من يهود المدينة وإجلائهم. والعجيب من الحافظ كيف قال: إن هذا الحديث حسن مع قوله في شهر بن حوشب في التقريب إنه كثير الإرسال والأوهام، وعلمه ونقله لما فيه من المطاعن في تهذيب التهذيب؟ وقد صرح السيوطي بضعف الحديث في أسباب النزول. وفي كتب السير أن ما بذله عثمان ـ رضي الله عنه ـ في تجهيز جيش العسرة أكثر مما ذكر في حديث عمران.
وقد كانت غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تسع باتفاق الرواة، وهو موافق لما رواه ابن عائذ من حديث ابن عباس أنه كانت بعد الطائف بستة أشهر يجعل الستة الأشهر بعد عودته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف إلى المدينة فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد دخل المدينة في شهر ذي الحجة من تلك السنة. قاله الحافظ.
والغرض من هذا التمهيد لتفسير الآيات أن سبب هذه الغزوة استعداد الروم لقتال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين، وإعداد جيش كثيف للزحف به على المدينة، فهي كسائر غزواته ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفاع لا اعتداء، ولما لم يجد من يقاتله عاد، ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان الأمر بها لما سيذكر من الحكم والأحكام.
قال عز وجل: { ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الاستفهام في الآية للإنكار والتوبيخ، والخطاب للمؤمنين في جملتهم تربية لهم بما لعله وقع من مجموعهم لا من جميعهم، ومنهم الضعفاء والمنافقون. والنفر والنفير عبارة عن فرار من الشيء أو إقدام عليه بخفة ونشاط وانزعاج، فهو كما قال الراغب بمعنى الفزع إليه أو منه. يقال: نفرت الدابة والغزال نفورا، ونفر الحجيج من عرفات نفرا، واستنفر الإمام العسكر إلى القتال أو أعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا، والتثاقل التباطؤ فهو ضد النفر؛ لأنه من الثقل المقتضي للبطء، وهو يصدق على من لم يستجب لدعوة النفير، وعلى من حاول أو استجاب متباطئا. وأصل (اثاقلتم) تثاقلتم، أدغمت المثناة في المثلثة فجيء بهمزة الوصل لأجل النطق بالساكن، والعرب لا تبدأ بالساكن، ولا تقف على المتحرك، وقد عدي بـ (إلى) لتضمنه معنى التسفل والإخلاد إلى الأرض والميل إلى راحتها ونعيمها.
ولما دعا الله المؤمنين لغزوة تبوك كان الزمن زمن الحر، وكانوا قريبي عهد بالرجوع من غزوتي الطائف وحنين، وكانت العسرة شديدة، وكان موسم الرطب في المدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر والراحة؛ لأن شهر رجب وافق في تلك السنة برج الميزان وإن عبر عنه بعضهم بالصيف.
روى ابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف، بأمرهم النفير في الصيف حين اخترقت النخل وطابت الثمار، واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج. (قال) فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله.
وكان من عادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج إلى غزوة أن يوري بغيرها لما تقتضيه مصلحة الحرب من الكتمان، إلا أنه في هذه الغزوة قد صرح بها؛ ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر. فلهذه الأسباب كلها شق على المسلمين الخروج في ذلك الوقت إلى بلاد الشام، وكانت حكمة الله تعالى في إخراجهم - وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالا - ما سنبينه في تفسير آياتها من تمحيص المؤمنين، وخزي المنافقين، وفضيحتهم فيما كانوا يسرون من كفرهم وتربصهم الدوائر بالمؤمنين.
والمعنى: يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ماذا عرض لكم مما ينافي صحة الإيمان أو كماله المقتضي للإذعان والطاعة، حين قال لكم الرسول: انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم، والقضاء على دينكم الحق، الذي هو السبيل الموصل إلى معرفة الله وعبادته وإقامة شرعه وسننه، فتثاقلتم عن النهوض بالنشاط وعلو الهمة، مخلدين إلى أرض الراحة واللذة، وآية الإيمان بذلك الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله:
{ { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } [الحجرات: 15].
{ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } أي: أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذتها الناقصة الفانية بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية؟ إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنأ وأدنى بالذي هو خير وأبقى: فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل أي: فما هذا الذي يتمتع به في الحياة الدنيا منغصا بالشوائب والمتاعب في جنب ما في الآخرة من النعيم المقيم، والرضوان الإلهي العظيم، إلا شيء قليل لا يرضاه عاقل بدلا منه، وإنما يؤثره عليه من لا يؤمن به، وقد شبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعيم الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة وفي قلته في نفسه وزمنه بمن وضع أصبعه في اليم ثم أخرجها منه قال: " فانظر بم ترجع "؟ رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
{ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم } (إلا) مركبة من " إن " الشرطية و " لا " النافية للحال والاستقبال كإن لم للماضي أي: إلا تنفروا كما أمركم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعذبكم الله عذابا أليما في الدنيا يهلككم به بعصيانكم بعد قيام الحجة عليكم، ويستبدل بكم قوما غيركم، قيل: كأهل اليمن وأبناء فارس، وليس في محله، فإن الكلام للتهديد والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه، وإنما المراد قوم يطيعونه ويطيعون رسوله؛ لأنه قد وعد بنصره، وإظهار دينه على الدين كله، فإن لم يكن ذلك بأيديكم، فلا بد أن يكون بأيدي غيركم
{ { ولن يخلف الله وعده } [الحج: 47] قال تعالى: { { ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله } [المائدة: 54] الآية، وقد مضت سنته تعالى بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها، وحفظ حقيقتها وسيادتها، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام والقائد العام، فكيف إذا كان الإمام والقائد هو النبي الموعود من ربه العزيز القدير بنصر من نصره، وهلاك من عصاه وخذله؟.
{ ولا تضروه شيئا } أي: ولا تضروه تعالى شيئا ما من الضرر في تثاقلكم عن طاعته ونصرة رسوله؛ لأنه غني عنكم ولن يبلغ أحد ضره ولا نفعه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل من في السماوات والأرض مسخر بأمره، وإن كان قد جعل للبشر شيئا من الاختيار هو حجة عليهم فيما يلقون من الجزاء على الأعمال.
وقيل: إن المراد: ولا تضروا رسوله بتثاقلكم فإنه عصمه من الناس، وكفل له النصر بقرينة الآية الآتية: { والله على كل شيء قدير } ومنه إهلاككم إن أصررتم على العصيان، وتوليتم عن إقامة دينه، وإتمام نوره، ونصر رسوله بقوم آخرين
{ { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } [المائدة: 54] كما قال في آخر سورة القتال { { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد: 38] وهذا حجة على من زعم من الروافض أنه لولا ثبات علي كرم الله وجهه والنفر الذين كانوا حول بغلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم حنين لقتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذهب دينه فلم تقم له قائمة، والله أكبر من جهلهم، ورسوله أعظم عنده ممن ثبت، وممن لم يثبت حول بغلته، ووعده أصدق من غلوهم في رفضهم، وهاك من حجج كتابه ما يزيد شبهة بدعتهم افتضاحا، وحجة السنة وأهلها اتضاحا.
قال عز وجل: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا } أي: إلا تنصروا الرسول الذي استنفركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أولياء الشيطان فسينصره الله بقدرته وتأييده، كما نصره إذ أجمع المشركون على الفتك به، وأخرجوه من داره وبلده. أي: اضطروه إلى الخروج والهجرة، ولولا ذلك لم يخرج - وقد تكرر في التنزيل ذكر إخراج المشركين للرسول وللمؤمنين المهاجرين من ديارهم بغير حق، وليس المراد منه أنهم تولوا طردهم وإخراجهم مجتمعين ولا متفرقين، فإن أكثرهم خرج مستخفيا كما خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صاحبه ـ رضي الله عنه ـ أو تقدير الكلام: إلا تنصروه فقد أوجب الله له النصر في كل حال وكل وقت، حتى نصره في ذلك الوقت الذي لم يكن معه جيش ولا أنصار منكم، بل حال كونه.
{ ثاني اثنين } أي: أحدهما، فإن مثل هذا التعبير لا يعتبر فيه الأولية ولا الأولوية؛ لأن كل واحد منها ثان للآخر، ومثله: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة لا معنى له إلا أنه واحد من ثلاثة أو أربعة به تم هذا العدد. على أن الترتيب فيه إنما يكون بالزمان أو المكان، وهو لا يدل على تفضيل الأول على الثاني، ولا الثالث أو الرابع على من قبله، وسيأتي في حديث الشيخين: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما "؟ { إذ هما في الغار } أي: في ذلك الوقت الذي كان فيه الاثنان في الغار المعروف عندكم وهو غار جبل ثور.
{ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } أي: إذ كان يقول لصاحبه الذي هو ثانيه وهو أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حين رأى منه أمارة الحزن والجزع، أو كلما سمع منه كلمة تدل على الخوف والفزع: لا تحزن، الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته، وعدم توطين النفس عليه، والنهي عن الحزن وهو تألم النفس مما وقع، يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع، وقد عبر عن الماضي بصيغة الاستقبال (يقول) للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات، ولاستحضار صورة ما كان في ذلك الزمان والمكان ليتمثل المخاطبون ما كان لها من عظمة الشأن، وعلل هذا النهي بقوله: { إن الله معنا } أي: لا تحزن؛ لأن الله معنا بالنصر والمعونة والحفظ والعصمة، والتأييد والرحمة، ومن كان الله تعالى معه بعزته التي لا تغلب وقدرته التي لا تقهر، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء، فهو حقيق بألا يستسلم لحزن ولا خوف، وهذا النوع من المعية الربانية أعلى من معيته سبحانه للمتقين والمحسنين في قوله:
{ { واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [النحل: 127، 128].
والفرق بينهما أن المعية في آية سورة النحل لجماعة المتقين المجتنبين لما يجب تركه والمحسنين لما يجب فعله، فهي معللة بوصف مشتق هو مقتضى سنة الله في عالم الأسباب لكل من كان كذلك، وإن كان الخطاب في النهي عن الحزن قبلها للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما المعية هنا فهي لذات الرسول وذات صاحبه غير مقيدة بوصف هو عمل لها بل هي خاصة برسوله وصاحبه من حيث هو صاحبه، مكفولة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات، وكبر العنايات، إذ ليس المقام بمقام سنن الله في الأسباب والمسببات، التي يوفق لها المتقين والمحسنين المتقنين للأعمال.
يعلم هذا التفاوت بين النوعين من الحق الواقع إن لم يعلم من اللفظ وحده، وهي من قبيل قوله تعالى لموسى وهارون إذ أرسلهما إلى فرعون فأظهرا الخوف من بطشه بهما:
{ { قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } [طه: 45، 46] وقد كان خاتم النبيين أكمل منهما إذ لم يخف من قومه الخارجين في طلبه للفتك به كما سنذكره، وكان للصديق الأكبر أسوة حسنة بهما إذ خاف على خليله وصفيه الذي شرفه الله في ذلك اليوم الفذ بصحبته، وإنما نهاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الحزن لا عن الخوف، ونهى الله موسى وهارون عن الخوف لا عن الحزن؛ لأن الحزن تألم النفس من أمر واقع، وقد كان نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياه عنه في الوقت الذي أدرك المشركون فيه الغار بالفعل. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس قال: حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما "؟ وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع، وقد نهى الله رسوليه عنه قبل وقوع سببه وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به، والنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف، كما تقدم، وقد كان الصديق خائفا وحزنا كما تدل عليه الروايات، وهو مقتضى طبع الإنسان.
حاصل المعنى: إلا تنصروه بالنفر لما استنفركم له فإن الله تعالى قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في ذلك الوقت الذي اضطره المشركون فيه بتألبهم عليه، واجتماع كلمتهم على الفتك به - في ذلك الوقت الذي كان فيه ثاني اثنين في الغار، أعزلين غير مستعدين للدفاع، وكان صاحبه فيه قد ساوره الحزن والجزع - في ذلك الوقت الذي كان يقول له فيه وهو آمن مطمئن بوعد الله وتأييده ومعيته الخاصة: { لا تحزن إن الله معنا } فنحن غير مكلفين بشيء من الأسباب أكثر مما فعلنا من استخفائنا هنا. وقد بينا في الكلام على غزوة بدر من تفسير سورة الأنفال المقارنة بين حالي الرسول الأعظم والصديق الأكبر هنالك إذ كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستغيث ربه، ويستنجزه وعده، وكان الصديق ـ رضي الله عنه ـ يسليه ويهون الأمر عليه، على خلاف حالهما في الغار، وأثبتنا أن حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الموضعين كان الأكمل الأفضل، إذ أعطى حال الأخذ بسنن الله في الأسباب والمسببات في بدر حقه، وأعطى حال التوكل المحض في الغار حقه. فتكرار الظرف " إذ " في المواضع الثلاثة مبدلا بعضها من بعض في غاية البلاغة، به يتجلى تأييده تعالى لرسوله أكمل التجلي، فهو يذكرهم بوقت خروجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهاجرا مع صاحبه بما كان من قريش من شدة الضغط والاضطهاد، وقد تقدم تفصيله في تفسير:
{ { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [الأنفال: 30] من سورة الأنفال، وسيعاد مختصرا في هذا السياق، ويتلوه تذكيرهم بإيوائه مع صاحبه إلى الغار لا يملكان من أسباب الدفاع عن أنفسهما شيئا، ثم يخص بالذكر وقت قوله لصاحبه: { لا تحزن إن الله معنا } أي: أنه كان هو الذي يسلي صاحبه ويثبته لا أنه كان يتثبت به (وهكذا. كان شأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحابه في كل وقت يشتد فيه القتال أيضا) وكون سبب ذلك وعلته إيمانه الأكمل بمعية الله عز وجل الخاصة. فالعبرة لهم في هذه الذكريات الثلاث أن الله تعالى غني عن نفرهم مع رسوله بقدرته وعزته، وأن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غني عن نصرهم له بنصره عز وجل وتأييده، وبقدرته على تسخير غيرهم له من جنوده وعباده، وقد بين تعالى أثر ذلك وعاقبته بقوله:
{ فأنزل الله سكينته عليه } أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله: { فأنزل الله سكينته عليه } قال: على أبي بكر؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تزل السكينة معه. وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت { فأنزل الله سكينته } قال: على أبي بكر. فأما النبي فقد كانت عليه السكينة. وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول، ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن، وقواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور وهو الصاحب، وليس هذا بشيء. وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا، وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها بالفاء الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه، وأن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن ولكنهم قووه بأن ما عطف عليه من قوله:
{ وأيده بجنود لم تروها } لا يصح إلا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمراد بهؤلاء الجنود الملائكة؛ لأن الأصل في المعطوفات التعانق وعدم التفكك. وأجاب عنه الآخذون بقول ابن عباس ومجاهد - أولا - بأن التأييد بالجنود معطوف على قوله: { فقد نصره الله } لا على: { فأنزل الله سكينته } - ثانيا - بأن تفكك الضمائر لا يضر إذا كان المراد من كل منها ظاهرا لا اشتباه فيه - ثالثا - بأنه لا مانع من جعل التأييد لأبي بكر، نقله الآلوسي وقال كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأبي بكر: " إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك " إلخ. وقال بعض المفسرين: إن المراد بهذه الجنود ما أيده الله تعالى به يوم بدر والأحزاب وحنين، وقال بعضهم: بل المراد أنه أيده بملائكة في حالة الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما، فقد خرج من داره والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه. وإننا نرجع إلى سائر ما في التنزيل من ذكر إنزال السكينة والتأييد بالملائكة لنستمد منها فهم ما في هذه الآية.
أما إنزال السكينة فذكر في ثلاث آيات فقط: (أولاها) الآية الرابعة من سورة الفتح. (والثانية) الآية السادسة والعشرون منها، وكان نزول السورة بعد صلح الحديبية الذي فتن فيه المؤمنون، واضطربت قلوبهم بما ساءهم من شروطه التي عدوها إهانة لهم وفوزا للمشركين وأمرها مشهور، فكان من عناية الله تعالى بهم أن ثبت قلوبهم ومكنهم من فتح خيبر وأنزل سورة الفتح مبينا فيها حكم ذلك الصلح وفوائده، وامتن بذلك على رسوله وعليهم بقوله:
{ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } [الفتح: 1] إلى قوله: { { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما } [الفتح: 4] فهذه سكينة خاصة بالمؤمنين، بين حكمتها العليم الحكيم، وفيها إشارة إلى جنود الملائكة لا تصريح.
ثم قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه من حكم ذلك الصلح، وما أعقبه من الفتح،
{ { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما } [الفتح: 26] الأشهر في تفسير هذه الحمية أنها ما أباه المشركون في كتاب الصلح من بدئه بكلمة بسم الله الرحمن الرحيم، ومن وصف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه برسول الله وتعصبهم لما كان من عادة الجاهلية وهو: باسمك اللهم.
وهذا مما ساء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلا شك، كما ساءه كراهة جمهور المسلمين الأعظم لهذا الصلح، ولكنه لم يكن ليضيع بذلك صلحا عظيما كان أول فتح لباب حرية دعوة الإسلام في المشركين، بوضع الحرب عشر سنين، فأنزل الله سكينته عليه وألهمه قبول شروطهم، وأنزل لها على المؤمنين بعد أن هموا بمعارضته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأمرهم بالتحلل من عمرتهم فتلبثوا حتى خشي عليهم الهلاك، استشار في ذلك زوجه أم سلمة فأشارت عليه بأن يخرج إليهم، ويأمر حلاقه بحلق شعره، ففعل فاقتدوا به، بما أنزل الله عليهم من سكينته.
والآية (الثالثة) هي ما تقدم في هذه السورة في سياق غزوة حنين، إذ راع المسلمين رشق المشركين إياهم بالنبل، فانهزم المنافقون والمؤلفة قلوبهم، واضطرب جمهور المسلمين بهزيمتهم فولوا مدبرين، وثبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجوه الكفار مع عدد قليل صار يكثر بعلمهم بموقفه، وقد حزن قلبه لتوليهم
{ { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها } [التوبة: 26] وما العهد بتفسيرها ببعيد، فهذه سكينة مشتركة بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين سكن بها ما عرض له ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تأثير هزيمتهم، وسكن ما عرض لهم من الاضطراب لهزيمة المنافقين والمؤلفة قلوبهم كما تقدم.
وأما ذكر الجنود التي وصفها تعالى بقوله: لم تروها فقد جاء في هاتين الآيتين من سورة براءة، أي آية غزوة حنين وآية الغار من سياق الهجرة. وجاء في الكلام على غزوة الأحزاب من السورة التي سميت باسمها وهو:
{ { ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } [الأحزاب: 9] وقد كانت هذه الجنود والجنود التي أرسلت في يوم حنين لتخذيل المشركين وتأييد المؤمنين، وفي معناها قوله تعالى في الكلام على غزوة بدر: { { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } [الأنفال: 9] فهذه الملائكة نزلت لإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتأييد المؤمنين، وتثبيت قلوبهم، كما بينه تعالى بقوله: { { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم } [الأنفال: 10] إلى قوله: { { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [الأنفال: 12].
وراجع تفسير السياق [في ص505 - 511 ج 9 ط الهيئة] وفيه ذكر آيات سورة آل عمران التي نزلت في الكلام على غزوة أحد - فإذا كانت الملائكة في هذه المواقع كلها نزلت لتأييد المؤمنين على المشركين وتخذيل هؤلاء، وكان النائب عن جميع المؤمنين والحال محلهم في خدمة رسوله يوم الهجرة هو صاحبه الأول، الذي اختاره عليهم كلهم في ذلك اليوم العظيم، فأي بعد في أن يكون التأييد المرافق لإنزال السكينة له لحلوله محلهم كلهم، ومن المعلوم أنه لم يكن له هذا إلا بالتبليغ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كما أن جميع ما أيد به تعالى سائر أصحاب رسوله في جميع المواطن كان تأييدا له، وتحقيقا لما وعده الله تعالى من النصر على جميع أعدائه، وإظهار دينه على الدين كله؛ ولذلك قال:
{ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } في الآية احتمالان: أحدهما: أن يكون المراد بـ كلمة الذين كفروا كلمة الشرك والكفر، وبـ كلمة الله كلمة التوحيد، وهو مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وعليه أهل التفسير المأثور، ووجهه أن عداوة المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كانت لأجل دعوته إلى التوحيد الخالص من جميع شوائب الشرك وخرافات الوثنية؛ ولذلك قام أبو سفيان عند ظهور المشركين في أحد فقال رافعا صوته ليسمع المسلمون: اعل هبل، اعل هبل. وهبل صنمهم الأكبر، فأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجاب: " الله أعلى وأجل ".
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن الرجل يقاتل غضبا وحمية ويقاتل رياء، وفي رواية للمغنم وللذكر، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
والاحتمال الثاني: أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا ما أجمعوه بعد التشاور في دار الندوة من الفتك به ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقضاء على دعوته، وهو ما تقدم في سورة الأنفال من قوله تعالى:
{ { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [الأنفال: 30] إلخ. ويكون المراد بـ كلمة الله ما قضت به إرادته ومضت به سنته من نصر رسله وبينه في مثل قوله: { { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 171 - 173] وقوله: { { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21] فهذه كلمة الله الإرادية القدرية التي كان من مقتضاها وعده لرسوله الأعظم بالنصر.
وفسر بعضهم كلمته هنا بما وعده من إحباط كيدهم ورد مكرهم في نحورهم، وهو قوله في تتمة الآية:
{ { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: 30] وما قلناه هو الأصل والقول الفصل، وهذا مبني عليه.
وقد قرأ الجمهور: { وكلمة الله } بالرفع لإفادة أنها العليا المرفوعة بذاتها لا بجعل وتصيير، ولا كسب وتدبير، وقرأها يعقوب بالنصب، والمراد من القراءتين معا أنها هي العليا بالذات، ثم بما يكون من تأييد الله لأهلها القائمين بحقوقها بجعلهم بها أعلى من غيرهم كما قال:
{ { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139] وبجعلها بهم ظاهرة بالعلم والعمل تعلو كل ما يخالفها عند غيرهم. فإن كان المراد بها ما تعلقت به إرادته تعالى ومضت به سنته من نصر رسله، وإظهار دينه (وهي كلمة التكوين) فالأمر ظاهر؛ لأن ما تتعلق مشيئته تعالى به كائن لا محالة، لا يوجد ما يعارضه فيعلو عليه أو يساويه، وكذلك إن أريد بها الخبر الإلهي، بهذا النصر والوعد به، الذي هو بيان لهذه السنة، التي هي من متعلقات صفة الإرادة، بناء على أنه مما أوحاه إليهم. ومنه قوله تعالى: { { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } [غافر: 51] إلى آخر قوله الحق: { { ولن يخلف الله وعده } [الحج: 47] والخبر والوعد من متعلقات صفة الكلام. فكلمة التكوين الإرادية، وكلمة التكليف الخبرية متحدتان في هذا الموضوع.
وأما على القول بأن المراد بها كلمة التوحيد أو دينه تعالى المبني على أساس توحيده فالنظر فيها من وجهين: (أحدهما) مضمون الكلمة في الواقع، وهو وحدانيته تعالى، وهذه حقيقة قطعية قامت عليها البراهين، وكذا إن أريد بها هذا الدين عقائده وأحكامه وآدابه إذ يقال: إنه كلمة التكليف أو كلماته - فهذه من حيث كونها من متعلقات صفة الكلام الإلهية لها صفة العليا بيانا وبرهانا وحكمة ورحمة وفضلا، ولا بد من تمامها صدقا في الأخبار. وعدلا في الأحكام، كما قال تعالى في سورة الأنعام:
{ { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } [الأنعام: 115].
والوجه الثاني: إقامة المكلفين لها بمعنييها، وهي تختلف باختلاف أحوالهم في العلم والإيمان والأخلاق، وما يترتب عليها من الأعمال، فمن هذا الوجه قد تخفى علويتها على الناس في بعض الأحيان، إذ ينظرون إليها في صفات المدعين لها، وأعمالهم لا في ذاتها، وقد يكون هؤلاء غير قائمين بها، ولا مقيمين لها، ومن عجائب ما روي لنا من إدراك بعض الإفرنج لعلوية كتاب الله تعالى بسعة علمه وعقله أن عاهل الألمان الأخير قال لشيخ الإسلام في الحكومة العثمانية لما زار الآستانة في أثناء الحرب الكبرى: يجب عليكم - وأنتم دولة الخلافة الإسلامية - أن تفسروا هذا القرآن تفسيرا تظهر به علويته كما أدرك هذه العلوية الوليد بن المغيرة من كبراء مشركي قريش بذكائه ودقة فهمه وبلاغته، إذ كان مما قاله فيه: وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وراجع ما قلناه في تفسير:
{ { ليظهره على الدين كله } [الأحزاب: 33] من هذه السورة وما هو ببعيد.
وأما كلمة الذين كفروا فقد كانت لا مقابل ولا معارض لها قبل الإسلام، من حيث القيام بها لتوصف بالوصف اللائق بها وهو السفلية، سواء أريد بها كلمة الشرك أو كلمة الحكم، فقد كان لأهلها السيادة في بلاد العرب حتى مكة المكرمة، ودنسوا بيت الله بأوثانهم فأذل الله أهلها، وأزال سيادتهم بظهور الإسلام بعد كفاح معروف، وإن أريد بها تقريرهم لقتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالأمر ظاهر أيضا. وكل من الأمرين حصل بجعل الله وتدبيره، ثم بكسب المؤمنين وجهادهم.
وأما كلمة الكفر في نفسها، وبصرف النظر عن تلبس بعض الشعوب أو القبائل بها، فلا حقيقة لها. أعني أن الشرك لا حقيقة لمضمونه في الوجود وإنما هو دعاوى لفظية، صادرة عن وساوس شيطانية خيالية، كما قال تعالى:
{ { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [يوسف: 40] وقد ضرب الله المثل للكلمتين وأثرهما في الوجود قوله في سورة إبراهيم عليه السلام: { { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } [إبراهيم: 24 - 27].
وقد ختم الله هذه الآية بقوله: { والله عزيز حكيم } العزيز الممتنع الغالب، والله هو الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء، والحكيم: الذي يضع الأشياء في مواضعها، وقد نصر رسوله بعزته، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل كل من ناوأه وناوأ المتقين من أمته.
وإننا نقفي على تفسير هذه الآيات بكلمات تزيدها بيانا، وتزيد الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا. وتزيد المبتدعين المحرفين لكلام الله تعالى خزيا وخذلانا، ثلاث كلمات: كلمة في خلاصة ما صح من خبر الهجرة وصفة الغار، وكلمة فيما تضمنته الآية وأخبار الهجرة من مناقب الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكلمة في دحض شبهات الروافض، بل مفترياتهم في تشويه هذه المناقب، وتحريف كلمات الله وأخبار الرسول عن مواضعها:
{ { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [النمل: 14].
الكلمة الأولى في الهجرة المحمدية:
كان من حكمة الله تعالى في رسالة محمد خاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين، ومصلحا للناس أجمعين، أن أعدلها في المرتبة الأولى الأمة العربية الأمية باستقلال الفكر، وقوة الإرادة، وذكاء القريحة، وارتقاء اللغة والسلامة، مما منيت به أمم الحضارة من الاستذلال والاستعباد للملوك والأمراء ورؤساء الدين.
ثم كان من حكمته تعالى أن عادى هذه الدعوة والقائم بها كبراء قومه قريش، كبرا وبغيا وعلوا واستكبارا عن الاعتراف بضلالهم وضلال آبائهم وأجدادهم في شركهم، لئلا يكون في ظهورها بالحق شبهة يظن بها أنها إنما قامت بعصبية قريش، وكان له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بضعة أعمام لم يؤمن به منهم من السابقين إلا حمزة ـ رضي الله عنه ـ أخوه في الرضاع وقريبه من جهة الأم، فإن أمه ابنة عم آمنة أم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد آمن في السنة الثانية من بعثته.
وكان أبو لهب عمه الكبير الغني أول من صارحه العداوة، فقال لقريش: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه. وحسبك ما أنزل الله فيه وفي امرأته حمالة الحطب، وكان عمه أبو طالب هو الذي كفله بعد وفاة جده شيبة الحمد عبد المطلب، وإنما كان يحميه ويدافع عنه لعصبية القرابة والتربية، وكان لزوجه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ مقام كبير في قريش، كان له تأثير سلبي في تقليل إيذائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد توفيت هي وأبو طالب في أسبوع واحد، فاشتد إيذاء قريش له بعدهما، حتى أجمعوا على قتله قتلة تشترك فيها جميع قبائل قريش، بأن يأخذوا من كل قبيلة منها شابا نهدا قويا يعطونه سيفا فيحمل عليه هؤلاء الشبان حملة رجل واحد فيقطعونه بسيوفهم؛ ليضيع دمه بين القبائل، ويتعذر على بني هاشم الأخذ بثأره على حسب عادة العرب فيرضون بالدية. عند هذا أمره الله تعالى بالهجرة إلى يثرب التي صار اسمها المدينة المنورة بهجرته إليها، وكان قد آمن به وبايعه من أهلها الأنصار في الموسم من جعلهم الله تعالى مقدمة لإيمان غيرهم من الأنصار الكرام.
لم يكاشف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهجرته أحدا غير صاحبه الأول أبي بكر الصديق: الذي كان أول من آمن به ممن دعاهم إلى الإسلام بعد أهل بيته (وهم زوجه خديجة وعتيقه زيد بن حارثة وربيبه علي، وكان دون البلوغ، وهؤلاء قد علموا بنبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدقوه قبل أن يأمره الله بالجهر بالدعوة فكان أبو بكر صاحبه الملازم، ومستشاره الدائم، ووزيره الأكبر وموضع سره، وإنما كان رضي الله تعالى عنه أول من أسلم؛ لأنه كان أشد هذه الأمة استعدادا لنور الإسلام بسلامة فطرته، وطهارة نفسه، وقوة عقله، وعرفانه بفضائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل النبوة، وقد كان صديقه من سن الشباب، وروى ابن إسحاق أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعرض الإسلام على أحد إلا وكان له فيه كبوة إلا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ، وإننا نذكر أصح ما أورده نقاد المحدثين من خبر الهجرة. وأوضحه وأبسطه ما رواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري وغيرهم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ فنبدأ به، ونقفي عليه بأحاديث أخرى من الجامع الصحيح غير ناظرين إلى روايتها في غيره، ثم نشير إلى غيرها.
قال البخاري في كتاب الهجرة من صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟
فلم تكذب قريش جوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر. فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ بمكة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسلمين: " إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين " وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: " نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر.
قال ابن شهاب: قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوسا في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستأذن له، فدخل فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: " إني قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " نعم ". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " بالثمن ".
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز. وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.
[قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت لم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: " أخف عنا " فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
[قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أو في رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذلك، فلبث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة.
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين بركت به راحلته، هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:

"هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر"

ويقول:

"اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة"

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت:
حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام عن أبيه وفاطمة عن أسماء ـ رضي الله عنها ـ، صنعت سفرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر حين أراد المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه ففعلت، فسميت ذات النطاقين. حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء ـ رضي الله عنه ـ قال: لما أقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة تبعه سراقة بن مالك بن جعشم فدعا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فساخت به فرسه، قال: ادع الله لي ولا أضرك، فدعا له قال: فعطش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمر براع، قال أبو بكر: فأخذت قدحا فحلبت فيه كثبة من لبن فأتيته فشرب حتى رضيت اهـ.
أقول: هذا ما اخترت نقله من صحيح البخاري من خبر الهجرة، وفي أحاديث أخرى تراجع في صحيح البخاري وغيره من الصحاح والسنن والسير وفيها عبر كثيرة، وإنني أقفي عليه بوصف الغار الذي شرفه الله بإيوائه إليه إتماما للفائدة.
غار ثور وطريقه من مكة:
الغار والمغار والمغارة من مادة الغور، وغور كل شيء قعره وعمقه، فالغار في الجبل تجويف فيه يشبه البيت، وثور جبل من جبال مكة وعر المرتقى، وقد وصفه وحدد مسافة الطريق إليه من مكة المكرمة إبراهيم رفعت باشا أمير الحج المصري إذ زاره في 18 ذي الحجة سنة 1318 هـ وكان يحرسه ثلة من الجيش المصري خوفا من فتك الأعراب به، فذكر أن المسافة بينه وبين معسكر المحمل المصري في المحل المسمى بالشيخ محمود من ضواحي مكة قريبة من خمسة أميال ونصف، وأنهم قطعوها على ظهور الخيل في ساعة وثلث ساعة، ثم قال في وصف الطريق والغار ما نذكره بنصه ليعلم القراء أن إيواء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه ـ رضي الله عنه ـ إليه لم يكن بالسهل الذي لا مشقة فيه، وأنه ليس بالكبير الذي يعز العثور على من يستخفي فيه، قال:
والطريق من مكة إلى الجبل تحفه الجبال من الجانبين، وبه عقبة صغيرة يرتفع إليها الإنسان وينحدر منها، ولم يستغرق قطعها إلا ثلاث دقائق، وبالطريق سبعة أعلام مبنية بالحجر ومجصصة فوق نشوز من الأرض يبلغ ارتفاع الواحد منها ثلاثة أمتار، وقاعدته متر مربع، وتنتهي بشكل هرمي، وهذه الأعلام على يسار القاصد للجبل وبين كل اثنين منها بعد يتراوح بين 200 متر وألف متر، وكل واحد منها وضع عند تعريجة؛ حتى لا يضل السالك عن الجبل، وساعة بلغنا الجبل قسمنا قوتنا (يعني عسكرهم) قسمين: قسم صعد معنا إلى الجبل، والآخر وقف بسفحه يرد عنا عادية العربان إن هموا بالأذى.
وقد تسلقنا الجبل في ساعة ونصفها بما في ذلك استراحة دقيقة أو اثنتين كل خمس دقائق، بل في بعض الأحيان كنا نستريح خمس دقائق؛ لأن الطريق وعر حلزوني، وقد عددت 54 تعريجة إلى نصف الجبل، وكنا آونة نصعد وأخرى ننحدر حتى وصلنا الغار بسلام، ولولا الإصلاح الذي أحدثه المشير عثمان باشا نوري الذي ولي الحجاز سنة 1299 هـ والمشير السيد إسماعيل حقي باشا الذي كان واليا على الحجاز، وشيخا للحرم سنة 1307 هـ لازدادت الصعوبة، وضل السائر عن الطريق ولم يهتد إلى الغار لعظم الجبل واتساعه وتشعب مسالكه، وكان من أثر إصلاحهما جعل الطريق بهيئة سلالم تارة تتصعد وأخرى تنحدر، على أنه مع ذلك لا يزال العروج صعبا، فقد رأيت بعض الصاعدين امتقع لونه وخارت قواه فوقع على الأرض مغشيا عليه، ولولا أننا تداركناه بجرعة من الماء شربها وصبابة منه سكبناها على رأسه حتى أفاق لباغتته المنية، ولهذا ننصح للزائرين بأن يتزودوا من الماء ليقوا أنفسهم شر العطب.
ولما بلغنا الغار وجدناه صخرة محوفة في قنة الجبل أشبه بسفينة صغيرة ظهرها إلى أعلى، ولها فتحتان في مقدمها واحدة وفي مؤخرها أخرى، وقد دخلت من الغربية زاحفا على بطني مادا ذراعي إلى الأمام، وخرجت من الشرقية التي تتسع عن الأولى قليلا بعد أن دعوت في الغار وصليت، والفتحة الصغيرة عرضها ثلاثة أشبار في شبرين تقريبا وهي الفتحة الأصلية التي دخل منها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي في ناحية الغرب. أما الفتحة الأخرى فهي في الشرق ويقال: إنها محدثة؛ ليسهل على الناس الدخول إلى الغار والخروج منه، والغار من الجبل في الناحية الموالية لمكة، وقد وجدنا بجانبه رجلا عربيا يتناول الصدقات من الزائرين في مواسم الحج، ويرشدهم إلى الغار إذ توجد هناك صخور تشبه صخرته ولكنها لا تماثلها تماما. انتهى ما ذكره إبراهيم باشا رفعت في كتاب مرآة الحرمين.
وقد وضع في الكتاب صورة الغار وصورة الجبل برسم آلة الانعكاس الشمسي، فاستفدنا من ذلك كله أن الغار ضيق ووعر المرتقى وضيق المدخل. فعلمنا قدر المشقة التي أصابت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه ـ رضي الله عنه ـ فيه، وسبب إشفاق الصديق وخوفه أن يراهما المشركون بأدنى التفات ولكن الله تعالى صرف أبصارهم.
وقد ورد في كتب الحديث والسيرة أخبار وآثار كثيرة في قصة الهجرة ودخول الغار، فيها كرامات وخوارق يتساهلون بقبول مثلها في المناقب وإن لم تصح بطرق متصلة يحتج بمثلها في الأحكام العملية، ولا في المسائل الاعتقادية بالأولى.
قال الحافظ في شرح حديث عائشة من الفتح: إن الإمام أحمد روى بإسناد حسن من حديث ابن عباس في قوله تعالى:
{ { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [الأنفال: 30] الآية. قال تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك الليلة وخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعني: ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسخ العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال اهـ.
وذكر الحافظ روايات بهذا المعنى من مراسيل الزهري والحسن في بعض السير وغيرها ونقل عن دلائل النبوة للبيهقي من مرسل محمد بن سيرين: أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة، ومن خلفه ساعة، فسأله (أي عن سبب ذلك) فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك. وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال: " لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني "؟ قال: إي والذي بعثك بالحق. فلما انتهى إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه. وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة نحوه، وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه اهـ.
أقول: فهذه مراسيل عن كبار علماء التابعين يؤيد بعضها بعضا، وفي الموضوع روايات أخرى منها أن حمامتين عششتا على بابه، وفي بعض الروايات أن أبا بكر سد كل جحر كان في الغار بقطع من ثوبه، وهذا مراده من استبرائه.
وقال الحافظ قبل ذلك في شرح قول عائشة: ثم لحق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر بغار في جبل ثور: ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين. إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. (قلت): يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال فهي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين اهـ.
الكلمة الثانية، مناقب الصديق في قصة الهجرة:
قد دلت هذه الآية الكريمة وما يفسرها ويشرحها من الأحاديث الصحيحة وما في معناها من الأخبار والآثار مما دونها في الرواية على مناقب وفضائل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، امتاز بها على جميع أصحاب رسول الله نذكر منها ما يتبادر إلى الفهم بغير تكلف لبداهته، ومن غير مراعاة ترتيب.
الأولى: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمن على سره وعلى نفسه في هذه الحادثة التي كانت أهم حوادث رسالته، وأشدها خطرا وخيرها عاقبة غير صاحبه الأول أبي بكر الصديق. وإن شئت قلت: إنه لم يختر لصحبته وإيناسه فيها غيره. ويؤيده ما رواه ابن عدي وابن عساكر من طريق الزهري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لحسان: " هل قلت في أبي بكر شيئا "؟ قال: نعم. قال: " قل وأنا أسمع " فقال:

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا

فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال: " صدقت يا حسان هو كما قلت ".
الثانية: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رضي أن تكون نفقة هذه الراحلة من مال أبي بكر الذي أنفق جميع ماله في خدمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إلا أنه أحب أن تكون الراحلة التي ركبها بالثمن يدفعه بعد ذلك. وتقدم ما قاله بعض العلماء في تعليل ذلك، وفي صحيح البخاري
"أن عمر بن الخطاب غضب من أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في محاورة بينهما، فطلب منه أبو بكر أن يغفر له فأبى، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر ذلك له. فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا" - قال الراوي وهو أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ "ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا - فأتى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم - مرتين - فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ مرتين - فما أوذي أبو بكر بعدها. وقد صرح أيضا بأن أمن الناس عليه في ماله ونفسه أبو بكر" . رواه الشيخان وغيرهما.
الثالثة: أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختر في ذلك وأمثاله إلا ما اختاره الله تعالى له، فهذا تفصيل من الله عز وجل للصديق على غيره من أصحاب نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الرابعة: ذكره عز وجل في كتابه العزيز بهذا الثناء العظيم الذي لم يشاركه فيه أحد من المؤمنين في مقام إطلاق الإنكار عليهم والتوبيخ لهم على تثاقلهم عن إجابة استنفار رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم بأمره. أخرج خيثمة بن سليمان الأطرابلسي في فضائل الصحابة وابن عساكر من طريق الزهري عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: إن الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وأخرج ابن عساكر عن سفيان بن عيينة، قال: عاتب الله المسلمين جميعا في نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وحده فإنه خرج من المعاتبة. ثم قرأ: إلا تنصروه فقد نصره الله الآية. ذكرهما السيوطي في الدر المنثور - فهذا ما دل عليه أسلوب الآية، والسياق من تفضيله على جميع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بغير استثناء. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: والذي لا رب غيره لقد عوتب أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نصرته إلا أبا بكر، فقد قال تعالى: إلا تنصروه الآية. خرج أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من المعتبة.
الخامسة: أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليا كرم الله وجهه أن يبلغ الناس في موسم الحج هذه الآية في جملة ما بلغه من أول سورة براءة، كما تقدم في أول تفسير السورة، وفي ذلك حكم بالغة تقطع كل وتين من قلوب الرافضة، وإن لم تقطع ألسنتهم الكاذبة الخاطئة.
السادسة: قوله تعالى في رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيه: ثاني اثنين فهذا القول من رب العالمين في خطاب جمع المؤمنين في هذا المقام، والسياق فيه دلالة واضحة على فضل هذين الاثنين، وكون الصديق هو الثاني في المرتبة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل ما يقتضيه المقام للهجرة الشريفة من الفضائل والمزايا.
قال الفخر الرازي عند ذكر هذه المنقبة، وهي كون أبي بكر ثاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار ما نصه: والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أكثر المناصب الدينية، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أرسل إلى الخلق، وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والكل آمنوا على يديه، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أيام قلائل فكان هو ـ رضي الله عنه ـ ثاني اثنين في الدعوة إلى الله، وأيضا كلما وقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة كان أبو بكر يقف في خدمته ولا يفارقه فكان ثاني اثنين في مجلسه، ولما مرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين، ولما توفي دفن بجنبه فكان ثاني اثنين هناك أيضا اهـ. وأخص من هذا كله أنه كان ثانيه في الشروع في إقامة الشرع في دار الهجرة فلم ير الأنصار معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدا قبله.
السابعة: وهي تؤيد ما تضمنه معنى الاثنينية من رفعة المقام - قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وإنهما لمنقبة تتضاءل دونها المناقب، ومرتبة تنحدر عن عليا سمائها المراتب، أكبر أعلم رسل الله بالله أمرها، وهو أعلم بقدرها، فإن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ما ظنك يا أبا بكر " بكذا يراد به أنه لا يمكن أن تحوم الظنون أو تنتهي الآراء والأفكار إلى شأن أعلى من شأنها، ومنعة أعز من منعتها إلخ.
الثامنة: حكاية رب العزة والجلال لقول رسوله الذي ختم به النبيين، وأرسله رحمة للعالمين، لهذا الصاحب الصديق المكين: { لا تحزن إن الله معنا } فهي دليل على أنه قال له ذلك بإذنه تعالى ووحيه، لا من حسن ظنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بربه واجتهاد رأيه، على أنه لو كان اجتهادا أقره ربه عليه وحكاه عنه، وجعله مما يتعبد به المؤمنون ما دامت السماوات والأرض، لكانت قيمته في غايته، بمعنى ما كان عن الوحي منذ بدايته، وهذا يؤيد كون ما ذكرناه في تفسير المعية من كونها معية خاصة من نوع المعية التي أيد الله بها موسى وهارون عليهما السلام، إلا أنها أعلى في ذاتها وشخصها من كل أفراد هذا النوع، فالمعية الإلهية معنى إضافي، ويختلف باختلاف موضوعه ومتعلقه، فمعية العلم عامة كقوله تعالى
{ { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } [المجادلة: 7] وهي لا تشريف فيها لأهلها بل هي تهديد لهم، وإنذار بأن الله مطلع على كل ما يصدر عنهم، وأنه سيحاسبهم عليه ويجزيهم به،: وأعلى منها معيته تعالى للمتقين والمحسنين، وهي تتضمن معنى التوفيق واللطف كما تقدم، ففيها شرف عظيم، وأعلى منها معيته عز وجل للأنبياء والمرسلين، في مقام التأييد على الأعداء المناوئين، وهي أعلى الأنواع كما علمت، ولم يثبت لأحد من غيرهم حظ منها إلا ما ثبت للصديق هنا.
التاسعة: إنزال الله تعالى سكينته عليه على ما تقدم من التفسير المنقول المعقول، وهي منقبة لم يرد في التنزيل إثباتها لشخص معين قبله ولا بعده إلا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإنما ورد إثباتها لجماعة المؤمنين كما تقدم، وقد كان رضي الله تعالى عنه قائما مقام جميع المؤمنين في الغار وسائر رحلة الهجرة الشريفة في خدمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإنما نزل التنويه بذلك في أواخر مدة الهجرة أي: سنة تسع منها، وقد روينا لك ما قاله علي المرتضى كرم الله وجهه وغيره من تفضيله على جميع المؤمنين بهذه الآية من قبل الله عز وجل، وأنه كان المبلغ لها عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موسم الحج.
العاشرة: تأييده بجنود لم يرها المخاطبون من المؤمنين وهي الملائكة بناء على القول بعطف جملة التأييد على جملة إنزال السكينة كما تقدم شرحه، ويأتي في هذا ما ذكرناه فيما قبله من الخصوصية، وجعل أبي بكر في مقام المؤمنين كافة مع تفضيله عليهم.
الحادية عشرة: إثبات الله تعالى صحبته لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أعظم مواطن بعثته، وأطوار نبوته، فإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سمى أتباعه في عهده أصحابا تواضعا منه، وتربية لهم على احترام جميع أفراد الأمة ومعاملتهم بالعدل والمساواة، وإزالة لما كان في الجاهلية من احتقار بعض القبائل لبعض، واحتقار الأغنياء والرؤساء لمن دونهم - وإبطالا لما كان في شعوب أخرى كالهنود من جعل الناس طبقات بعضها فوق بعض بالتحكم والتوارث وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبعوث إلى الجميع ولإصلاح الجميع - فإن هذا لا ينافي ما جرت به سنة الله تعالى في خلقه، وأقرته شريعة الحق والعدل لخاتم رسله من تفاضل أفراد الناس بعضهم على بعض بالإيمان والعمل ومعالي الأخلاق:
{ { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13] { { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة } [النساء: 95 و96] { { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } [التوبة: 20] إلخ.
وقد أجمع المسلمون على أن المهاجرين السابقين الأولين أفضل من سائر المؤمنين، وورد في فضائل الهجرة آيات وأحاديث كثيرة معروفة، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أول المهاجرين، وأنه امتاز بهجرته مع الرسول نفسه بإذن ربه ورغبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل الإذن الإلهي له، إذ منع أبا بكر من الهجرة وحده انتظارا منه لإذن الله تعالى له بهجرته معه كما تقدم في الحديث الصحيح -.
فلا غرو أن يكون له كل ما علمنا من المزايا في الهجرة، وأن يكون بها أفضل المهاجرين بعد سيد المهاجرين ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن تكون صحبته أفضل وأكمل من صحبة غيره، وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث مغاضبة عمر له على مسمع من الصحابة: " فهل أنتم تاركو لي صاحبي " إشعار بأن الصاحب الأكمل له ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهو قد أضافه إلى نفسه كما أضافه الله تعالى إليه في كتابه، إذ الإضافة هنا كالإضافة في قوله تعالى:
{ { سبحان الذي أسرى بعبده } [الإسراء: 1] إضافة تشريف واختصاص، فإن جميع الخلق عبيد الله { { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } [مريم: 93] وقد قال بعض الفقهاء إن من أنكر صحبة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكم بردته عن الإسلام؛ لتكذيبه بنص القرآن. وهاتان منقبتان في الصحبة والهجرة جعلناهما واحدة، وقد يثلثهما أنه لم يكن معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين وصل إلى دار الهجرة والنصرة من أصحابه السابقين الأولين غير أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، فهو أول من رآه معه جماعة الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ، وأول من صلى معه من المهاجرين أول جماعة، وأول جمعة ظهرت بها شعائر الإسلام.
الثانية عشرة: حكاية الله عز وجل عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال له: لا تحزن فكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعنى بتسليته وطمأنته أمر عظيم، وإخبار الله بذلك فيما يتعبد به المؤمنون إلى يوم القيامة أمر أعظم، وناهيك بتعليله بما علله به من معية الله عز وجل لهما. وهذا النهي عن الحزن لم يرد في غير هذا الموضع من القرآن خطابا من قبله تعالى إلا للنبي الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وورد خطابا من الملائكة للوط عليه السلام - وقد علل في آخر سورة النحل بمعية الله تعالى للمتقين والمحسنين، وعلل هنا بالمعية التي هي أخص منها وأعلى كما تقدم شرحه.
الثالثة عشرة: أن القرآن العظيم كلام الله تعالى، وهو أكمل كتاب أنزله الله تعالى على خاتم رسله لهداية البشر كافة، فهو يمدح الإيمان والأعمال الصالحة والصفات الحميدة وأهلها، ويذم الكفر والشرك والأعمال السيئة، والصفات القبيحة وأهلها، ولا ترى فيه مدحا لشخص معين من هذه الأمة غير رسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لصاحبه الأكبر أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، ولا ذما لشخص معين من الكفار غير أبي لهب وامرأته.
فاختصاص أبي بكر بالمدح من رب العالمين في هذه الآية منقبة لا يشاركه فيها أحد من هذه الأمة، تدل على فضله على كل فرد من أفرادها. وهذا المعنى - أي الاختصاص - غير موضوع المدح المتقدم تفصيله فهو يجعل قيمته مضاعفة، إذ لو كان في التنزيل مدح لغيره كالأحاديث الشريفة الواردة في فضائله وفضائل آخرين من أهل بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه لما كانت هذه منقبة خاصة بالصديق، وإن كان المدح المفروض لغيره دون مدحه في موضوعه، كما هو شأن أحاديث المناقب، فكيف وقد جاء هذا المدح في سياق توبيخ المؤمنين على التثاقل في إجابة الرسول إلى ما استنفرهم له كما تقدم شرحه والآثار فيه؟.
ولا يرد على هذه الخصوصية أن قصة الأعمى تتضمن ثناء عليه بالخشية، وهو شخص معين معروف أنه عبد الله بن أم مكتوم المؤذن ـ رضي الله عنه ـ، فإن السياق فيها ليس سياق مدح. وقوله تعالى:
{ { وهو يخشى } [عبس: 9] لا يدل على أن هذه الخشية خاصة به، ولا أنه ممتاز فيها على غيره، على أن فيها من إثبات الفضل له ما لا يخفى، ولا يرد أيضا على ذم أبي لهب ما ورد في سورة المدثر في الوليد بن المغيرة وفي سورة العلق، في أبي جهل؛ فإن الذم فيها متعلق بالوصف لا بالشخص، مع كون الموصوف قد عرف من سبب النزول لا من النص. وهو غير متواتر كتواتر وصف الصاحب للصديق ودونه وصف الأعمى لابن أم مكتوم، على أن لا يضرنا عدم الحصر هنا، وهو غير مقصود في بحثنا.
الكلمة الثانية، تفنيد مراء الروافض، وتحريفهم وتبديلهم لهذه المناقب
قال الفخر الرازي بعد تفسير الآية، واستنباط ما فيها من المناقب بدون ما ألهمنا الله تعالى إياه ما نصه: واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين.
فالأول: قالوا: إنه قال لأبي بكر: " لا تحزن " فذلك الحزن إن كان حقا فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه؟ وإن كان خطأ لزم أن يكون أبو بكر مذنبا وعاصيا في ذلك الحزن.
والثاني: قالوا: يحتمل أن يقال إنه استخلصه لنفسه؛ لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه، فأخذه معه دفعا لهذا الشر.
والثالث: أنه وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر عليا بأن يضطجع على فراشه، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء، فهذا العمل من علي أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحبا للرسول - فهذه جملة ما ذكروه في هذا الباب اهـ.
هذا ما نقله الرازي بحروفه وقال: إنه أخس من شبهات السوفسطائية ورد عليه، وذكر في رده ردا آخر لأبي علي الجبائي إمام المعتزلة في عصره في القرن الثالث (توفي سنة 303) فدل هذا على قدم هذا الجهل والسخف في القوم.
وقد بسط ذلك الشهاب الآلوسي في تفسيره نقلا عنهم، وكان كثير الاحتكاك بعلمائهم في بغداد فقال ما نصه: وأنكر الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق الصديق ـ رضي الله عنه ـ. قالوا: إن الدال على الفضل إن كان: ثاني اثنين فليس فيه أكثر من كون أبي بكر متمما للعدد - وإن كان: إذ هما في الغار فلا يدل على أكثر من اجتماع شخصين في مكان، وكثيرا ما يجتمع فيه الصالح والطالح، وإن كان (لصاحبه) فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى:
{ { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك } [الكهف: 37] وقوله سبحانه: { { وما صاحبكم بمجنون } [التكوير: 22] { { وياصاحبي السجن } [يوسف: 39] بل قد تكون بين من يعقل وغيره كقوله:

إن الحمار مع الحمار مطية وإن خلوت به فبئس الصاحب

وإن كان { لا تحزن } فيقال: لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية، لا جائز أن يكون طاعة وإلا لما نهى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتعين أن يكون معصية لمكان النهي، وذلك مثبت خلاف مقصودكم، على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه - وإن كان { إن الله معنا } فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله الخاصة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، لكن أتى بـ " نا " سدا لباب الإيحاش، ونظير ذلك الإتيان بـ " أو " في قوله: { { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [سبأ: 24] وإن كان: { فأنزل الله سكينته عليه } فالضمير فيه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لئلا يلزم تفكيك الضمائر، وحينئذ يكون في تخصيصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه: { { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [الفتح: 26] إشارة إلى ضد ما ادعيتموه - وإن كان ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الوقت فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرجه معه إلا حذرا من كيده لو بقى مع المشركين بمكة، وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل عليا كرم الله وجهه إشارة لذلك. وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنتكلم عليه. انتهى كلامهم.
قال الشهاب الآلوسي إثر نقله: ولعمري إنه أشبه شيء بهذيان البمحموم أو عربدة السكران، ولولا أن الله سبحانه حكى في كتابه الجليل عن إخوانهم اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك، ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما، أو نجري في ميدان تزييفه قلما. ثم رد كل كلمة قالوها ردا علميا أدبيا مفحما، وما شرحناه في تفسير الآية، وما استنبطناه منها بمعونة أحاديث الهجرة من المناقب التي هي نصوص ظاهرة في تفضيل الصديق على جميع الصحابة ـ رضي الله عنه ـ وعنهم، ولعن مبغضيه ومبغضيهم، وما سنزيده على ذلك هنا من إفحامهم يغنينا عن نقل عبارته، فإنه أقوى منه في تفنيدها هذا التحريف لكلام الله وكلام رسوله والافتراء المفضوح المعلوم بطلانه بالبداهة، وإنما أختار من كلام السيد الآلوسي قوله في آخره:
"وأيضاً إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصبي أن يقول والعياذ بالله تعالى في علي كرم الله وجهه: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمره بالبيتوتة على فراشه ليلة هاجر إلا ليقتله المشركون ظنا منه أنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيستريح منه. وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي إن إخراج الصديق إنما كان حذرا من شره. فليتق الله من فتح هذا الباب، المستهجن عند أولي الألباب" اهـ.
أقول: ومن هذا الباب في سوء التأويل، الذي يقوله من لا يعتقد صحته لمحض التضليل، تأويل معاوية لحديث " ويح عمار تقتله الفئة الباغية " فإنه لما علم أن فئته قال: إنما قتله من أخرجه - يعني عليا كرم الله وجهه - بل هذا التأويل الباطل أقرب إلى اللغة من تأويل الروافض لخروج الصديق مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المذكور آنفا إن صح أن يسمى تأويلا، وإنما هو تضليل لا تأويل؛ فإن هذه الفرية التي افتجرها هؤلاء الفجرة ليس لها شبهة لغوية لا من ألفاظ الآية، ولا من ألفاظ أحاديث الهجرة، بل هي مصادمة للنصوص كلها ومناقضة لما تواتر وصار معلوما بالضرورة من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونشأة الإسلام من ملازمة الصديق له من أول الإسلام إلى آخر حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لا حاجة إلى شرحه، ولا سيما بعد ما بسطناه هنا من أمره.
وأما تأويل معاوية فله شبهة لغوية، وهو إسناد الشيء إلى سببه مجازا، ومنه إخراج المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين من مكة إنما أطلق على سببه وهو الاضطهاد والإيذاء الذي نالوهم به، ولكن لا يحمل اللفظ على المجاز إلا عند وجود المانع من حمله على الحقيقة. ولما بلغ أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه قوله رد عليه بأنه يقتضي أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي قتل عمه حمزة وابن عمه جعفر أو غيرهما من شهداء بدر وأحد وسائر الغزوات؛ لأنه هو الذي أخرجهم إلى القتال.
ثم إن من المعلوم بالبداهة أن من يخاف من وشاية آخر عليه لا يخبره بسره، فكيف أمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر على سره، ورضي أن يعلم بذلك جميع أهل بيته، وأن يتعاهدهما ولده وعتيقه في الغار بالغذاء وبالأنباء كل ليلة، وأن يكون هو الذي يتولى استئجار الدليل الذي يرحل بهما؟.
ثم أقول زيادة في فضيحة هؤلاء المخرفين المحرفين: (أولا) إنكم تزعمون أنه لا فضيلة في صحبة الصديق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار، ويلزم منه لا فضيلة في صحبته، ولا في صحبة سائر المؤمنين له في غير الغار من أزمنة رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأولى؛ إذ تستدلون على ذلك بأن الصحبة تكون بين المؤمن والكافر والبر والفاجر وبين الإنسان والحيوان أيضا. فإذا كنتم تلتزمون هذا الاستدلال فإنه يلزمكم خزيان لا مفر لكم منهما:
أحدهما: أن صحبة الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلى الله قدره، ورفع ذكره، وصحبة الكافر أو الحمار سواء (وأستغفر الله تعالى من حكاية هذا الجاهل وإن كان حاكي الكفر ليس بكافر)؛ لأن كلا منهما تسمى صحبة في اللغة والعبرة عندكم بالتسمية دون متعلقها، أي أن ما أسند إليه الفعل، وما وقع عليه، وما لا شأن له عندكم في كونه حقا أو باطلا أو فضيلة أو رذيلة. وما قلتموه في الصحبة يجري مثله في الهجرة، فإنه ثبت في الحديث الصحيح كما هو ثابت في الواقع أن الهجرة قد تكون إلى الله ورسوله، وقد تكون لأجل منفعة دنيوية أو امرأة يريد المهاجر أن يتزوجها. وإذ كان كل منهما يسمى هجرة، فالمهاجرون عندكم سواء في أنه لا فضيلة لهم، ولا أجر عند الله تعالى خلافا لنصوص القرآن.
ثانيهما: أن الإيمان بالله تعالى والعبادة الخالصة له لا يعدان عندكم من الفضائل؛ لأنهما مشتركان في الاسم مع الإيمان بالجبت والطاغوت وعبادة الشيطان والأوثان فقد قال الله تعالى:
{ { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51] الآية. وقال: { { بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [سبأ: 41] وقال: { { ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [يس: 60] وقال: { { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } [يونس: 18].
وإذا نحن انتقلنا إلى طبيعة الصحبة، وما فيها من العلم والحكمة، نقول: إن ما هذى به الروافض من صحبة المؤمن للكافر ونحوها إنما يصح في الصحبة الاتفاقية العارضة، كصحبة يوسف لمن كان معه في السجن، والرجلين اللذين ضرب المثل بهما في سورة الكهف، دون صحبة المودة ولا سيما الدائمة؛ وذلك أن صحبة المودة الاختيارية لا تكون إلا بين المتشاكلين في الصفات والأفكار، كما يدل عليه حديث الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. وقد تعارفت روحا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر من قبل الإسلام فائتلفتا، وزادهما الإسلام تعارفا وائتلافا، حتى إنهما لم يفترقا في وقت من الأوقات، ولا في طور من الأطوار، وقد مهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ السبيل لاجتماع قبريهما إذ أرشد الأمة إلى دفنه في بيت عائشة الصديقة ـ رضي الله عنهما ـ وهو يعلم أنها لا بد أن تدفن والدها بجانبه وعلماء التربية والأخلاق يعدون الصحبة والمعاشرة ركنا من أركان اقتباس كل من الصاحبين من الآخر، فيحثون على صحبة الأخيار، ويحذرون من صحبة الأشرار، قال الشاعر الحكيم:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقال آخر:

وقائل كيف تفارقتما فقلت قولا فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وآلاف

ثانياً: أنكم تزعمون أنه لا فضيلة للصديق الأكبر ـ رضي الله عنه ـ في كونه مع الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثاني اثنين بشهادة رب العزة، ولا في كون الله عز وجل ثالثهما؛ لأن العدد لا فضيلة فيه بزعمكم مهما تكن قيمة المعدود بذلك العدد، وأنتم تعلمون أن المؤمنين بكتاب الله تعالى وبرسوله لا يقولون إن لفظ " اثنين " أو لفظ " ثاني " أو " ثالثهما "، له فضيلة في حروفه أو تركيبها أو النطق به، وإنما يقولون إن الفضيلة للصديق الأكبر ـ رضي الله عنه ـ في المعدود والمراد بلفظ ثاني اثنين في الآية وبلفظ " ما قولك يا أبا بكر في اثنين الله ثالثهما " في الحديث، فثلاثة رب العالمين أحدهم وسيد ولد آدم وخاتم النبيين والمرسلين ثانيهم يكون لأبي بكر الصديق أعظم الشرف في أن يكون ثالثهم - أو كما قلتم متما للعدد - ويزيد هذا الشرف الذاتي قيمة أنه ليس يحصل مثله بالمصادفة، ولا بالكسب والسعي، وإنما الذي اختاره له هو رسول الله بإذن الله، والمخبر بذلك هو الله ورسوله.
ولو وردت هذه الآية وهذا الحديث في علي ـ رضي الله عنه ـ وكرم الله وجهه لقلتم في الثلاثة حينئذ نحوا مما قالت النصارى في ثالوثهم (الآب والابن وروح القدس) كما قلتم في كونه كرم الله وجهه أحد الذين ثبتوا معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حنين، فجعلتم هذا الثبات الذي لم ينفرد به، ولم يثبت بنص القرآن، ولا بحديث مرفوع، ولا مرسل متواتر، حجة على كونه وحده دون من اعترفتم بثباتهم معه سببا للنصر، وإنقاذ الرسول من القتل، وبقاء الإسلام والمسلمين في الوجود، وكما فعلتم في حديث مؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له، إذ فضلتموه به على الصديق وغيره على حين قد ثبتت تسمية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصديق أخا له بأحاديث أصح من ذلك الحديث كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"لو كنت متخذا من أمتي خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي" رواه البخاري من حديث ابن الزبير وابن عباس وغيره، وهو يدل على أن أبا بكر عنده أعلى منزلة من جميع أمته.
وقد قرأنا وسمعنا عنكم أنكم تفخرون بعدد آخر لم تثبت روايته بمثل ما ثبتت به رواية هذا العدد، ولا يبلغ درجته في عظمة المعدود. قال الفخر الرازي: واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم، وأرادوا به أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليا وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة فجاء جبريل وجعل نفسه سادسا لهم، فذكروا للشيخ الإمام الوالدرحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون، فقالرحمه الله : لكم ما هو خير منه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
" ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل اهـ.
وأقول: إن من أكبر جنايات الروافض على الإسلام والمسلمين أنهم جعلوا أبا بكر وعليا ـ رضي الله عنهما ـ خصمين، وما ورد في مناقبهما معارضا بعضه ببعض، وكل هذا باطل، فما كانا إلا أخوين في الله، وفي نصر رسوله، وإقامة الإسلام، ولكل منهما مقام معلوم، وما ورد في مناقب علي أعلى الله مقامه أكثر مما ورد في مناقب غيره، كما قال الإمام أحمدرحمه الله تعالى. وقد غلط الرازي في نقله أن مسألة العباءة أو الكساء وردت في قصة المباهلة، فإن المعروف أنها وردت في إثبات جعل علي وزوجه وولديهما من أهل البيت النبوي عليهم السلام داخلين في معنى قوله تعالى:
{ { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } [الأحزاب: 33] والآية واردة في الأزواج الطاهرات ـ رضي الله عنهن ـ إذ روي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمعهم معه في الكساء، ودعاء الله بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا، والمقام لا يسمح بالبحث في هذه المسألة هنا.
ثالثاً أنكم زعمتم أن نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصديق عن الحزن يدل على أنه ـ رضي الله عنه ـ كان عاصيا بذلك الحزن ومتصفا بالجبن، وهذا الزعم دليل على جهلكم بالقرآن، وبمقام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وباللغة، وبطباع البشر، وإنما أوقعكم في هذه الجهالات التعصب الذميم، وسوء النية فيه، وحسبي في إثبات جهلكم ما بينته في تفسير الجملة من معنى الحزن والنهي عنه، وأن جملة لا تحزن لم ترد في غير هذه الآية من القرآن إلا في خطاب الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفي خطاب الملائكة للوط عليه السلام، فإن كنتم تقولون إنها تدل على العصيان والجبن يلزمكم من الطعن في الرسول الأعظم، وفي نبي الله لوط ما هو صريح الكفر، بل أثبت الله تعالى عروض الحزن للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفعل في قوله:
{ { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } [الأنعام: 33] ومن المتواتر أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أشجع الناس، وحسب الصديق شرفا أن ينهاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما نهاه ربه عنه، وأي شرف أعلى من هذا؟.
رابعاً: أن ما زعمتموه من احتمال أن يكون المراد من جملة { إن الله معنا } إثبات المعية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، لا يصدر مثله إلا عنكم بالتبع لملاحدة سلفكم الباطنية الذين قالوا مثل هذا في الصلاة والصيام، وغيرهما من العقائد وشرائع الإسلام، فإنه مما يأباه اللفظ والأسلوب والسياق والمقام، وإنما يقصد بالكلام الإفهام، وما زعمتموه صريح في أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفهم صاحبه غير الحق وأراد أن يغشه ويوهمه بالباطل أن الله معهما؟ حاش لله وحاش لرسوله، ما هذا إلا من نوع تحريف اليهود والباطنية لكلام الله، بما لا يليق بالله ولا برسوله. وهذه الجملة بعيدة أشد البعد عن جملة:
{ { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [سبأ: 24] المراد بها استمالة الكفار المعاندين لاستماع حجج القرآن وكانوا { { ينهون عنه وينأون عنه } [الأنعام: 26] والترديد فيها حق؛ فإن أحد الفريقين على هدى أو في ضلال مبين لا مفر من ذلك في نظر العقل، وهو لا يمنع أن يكون الواقع بالفعل أن المخاطب لهم وهو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الهدى، وأن يكونوا هم في ضلال مبين.
ولما كان أبو جعفر محمد بن علي الطبرسي من علماء العربية ومعتدلي الشيعة أبت عليه كرامة العلم أن يسفه نفسه بنقل جهالتهم التي نقلها الرازي والآلوسي للرد عليها، فكان كل ما ضعف به مناقب الصديق ـ رضي الله عنه ـ في الآية ترجيح القول بأن الضمير في قوله تعالى: { فأنزل الله سكينته عليه } راجع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، واحتج عليه بما احتج غيره ممن رجحوا هذا القول من اتساق مرجع الضمائر - وقد علمت ما فيه - وأشار بعده إلى ما للشيعة من الكلام في ذلك، وقال: إنه أبى أن ينقله لئلا يتهم بما لا يجب أن يتهم به.
خامساً: زعمكم أن عليا كرم الله وجهه هو المجهز لهم بشراء الإبل لم يثبت برواية صحيحة، بل الثابت في الصحيح ما تقدم في حديث الهجرة الذي سردناه آنفا من شراء الصديق للراحلتين، وأخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإحداهما بالثمن. ولو ثبت قولكم لم يكن دالا على ما زعمتموه كما هو ظاهر.
هذا وإنني أعتقد أن قائلي ما ذكره المفسرون من تحريف الرافضة للآية الكريمة وللأحاديث الشريفة في مناقب الصديق ليسوا من الجهل باللغة العربية بحيث يعتقدون صحة ما قالوا وما كتبوا، وإنما هم قوم بهت يجحدون ما يعتدون، ويفترون الكذب وهم يعلمون، ويحرفون الكلم عن مواضعه كاليهود الأولين الذين حرفوا البشارات بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكدعاة النصرانية في هذا العصر، والذين وضعوا لهم قواعد الرفض وخطط التأويل والتحريف هم ملاحدة الشيعة الباطنية أعداء الإسلام، الذين كانوا يتوسلون بها إلى هدم هذا الدين، وإزالة ملك العرب؛ تمهيدا لإعادة الديانة المجوسية والسلطة الكسروية، وقد وضعوا لهم من الأحاديث والآثار عن أئمة آل البيت في تحريف القرآن والغلو فيهم، ومن قواعد البدع ما كانوا به شر فرق المبتدعة في هذه الأمة، وقد برعوا في تربية عوامهم على بدعهم بما فيها من الغلو في تعظيم علي وآله بما هو وراء محيط الدين والعقل واللغة، والغلو في بغض الصديق والفاروق وذي النورين وأكابر المهاجرين وجمهور الصحابة، والطعن فيهم بما هو وراء محيط الدين والعقل واللغة أيضا. وإنما خصو الخليفتين الأولين منهم بمزيد البغض والذم؛ لأنهما هما اللذان جهزا الجيوش وسيروها إلى بلاد فارس ففتحوها وأزالوا دينها وملكها من الوجود. وقد صارت هذه التقاليد راسخة بالتربية والوراثة حتى صار من يسمونهم العلماء المجتهدين يكتبون مثل ما نقلناه عن بعض المعاصرين منهم في الكلام على غزوة حنين، وهو أعرق في الغلو، وأرسخ في الجهل مما نقله الرازي والآلوسي هنا عن بعض متقدميهم. فإذا كان هذا حال من يسمونهم العلماء المجتهدين، فكيف يكون حال من وطنوا أنفسهم على التقليد في طلب العلم؟ ثم كيف حال عوامهم الذين يلقنونهم هذه الأضاليل ويربونهم على بغض من أقام الله بهم صرح هذا الدين، وصرح في كتابه العزيز بأنه رضي عنهم ورضوا عنه، وعلى لعن من فضله الله ورسوله عليهم كلهم؟ وناهيك بهذه الآية تفضيلا ومن أصدق من الله قيلا؟
ألا إن هؤلاء الروافض شر مبتدعة هذه الملة، وأشدهم بلاء عليها، وتفريقا لكلمتها، وقد سكنت رياح التفريق التي أثارها غيرهم من الفرق في الإسلام، وبقيت ريحهم عاصفة وحدها، فهؤلاء الإباضية لا يزال فيهم كثرة وإمارة، ولا نراهم يثيرون بها مثل هذه العداوة. ولو كانوا يقفون عند حد تفضيل علي على أبي بكر، والقول بأنه كان أحق بالخلافة منه لهان الأمر، وأمكن أن يتحدوا مع أهل السنة الذين يعذرونهم باعتقادهم هذا إذا لم يترتب عليه ضرر، ويعتصموا بحبل الله، ولا يتفرقوا هذا التفرق ولا يتعادوا هذا التعادي اللذين أضعفا الإسلام وأهله، ومزقا ملكه كل ممزق، حتى استذل الأجانب أكثر أهله، وهم لا يزالون يشغلون المسلمين بالتعادي على ما مضى من التنازع في مسألة الخلافة، ويؤلفون الكتب والرسائل في القدح في الصحابة.
وياليتهم يطلبون إعادة الخلافة لأهل البيت وتجديدها؛ لإقامة دين الله وإعادة مجد الإسلام وسيادته، فإن أهل السنة لا يختلفون في أن آل علي أصح بطون قريش أنسابا. وأكرمها أحسابا، وأن الخلافة في قريش، فإن وجد فيهم من تجتمع فيه سائر شروطها ويرضاه أهل الحل والعقد من الأمة فهو أولى من غيره. كلا إنهم ينتظرون تجديد الإسلام وإقامته بظهور المهدي، وعامة المسلمين ينتظرونه معهم، فليكتفوا بهذا ويكفوا عن تأليف الكتب في الطعن في الصحابة الكرام، وبحملة السنة وحفاظها الأعلام، وإثارة الأحقاد والأضغان، التي لا فائدة لهم منها في هذا الزمان، إلا التقرب إلى غلاتهم من العوام، طمعا في الجاه الباطل والحطام، وإنما فائدتها الحقيقية للأجانب من أعداء الإسلام، ومن العجائب أن شيعة الأعاجم في إيران قد شعروا بضرر الغلو، وبالحاجة إلى الوحدة دون شيعة العرب في العراق وسورية فقد بلغنا عنهم ما نرجو أن يكون به خير قدوة لهم والله الموفق.