التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
٤٥
يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
٤٦
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ
٤٧
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ
٤٨
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
٤٩
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
-يوسف

بحر العلوم

قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا } وهو الساقي { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } يعني تذكر بعد حين. يعني بعد سبع سنين. وقال الزجاج أصل ادكر اذكر. ولكن التاء أبدلت بالدال وأدغم الذال في الدال. وقال القتبي: الأمة الصنف من الناس والجماعة كقوله تعالى { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } [الأنعام: 38] ثم تستعمل الأمة في الأشياء المختلفة. يقال للإمام أمة كقوله { { إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] لأنه سبب للاجتماع ويسمى الدين أمة كقوله { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [الزخرف: 22] أي على دين. لأن القوم يجتمعون على دين واحد فيقام ذلك اللفظ مقامه. ويسمى الحين أمة كقوله { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }. وكقوله { إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [هود: 8] وإنما سمى الحين أمة أيضاً لأن الأمة من الناس ينقرضون في حين. فيقام الأمة مقام الحين. وقرأ بعضهم: (وادّكَرَ بعد أَمَةٍ) يعني بَعْدَ بعُدِ نسيانٍ يقال (أمَهْتُ أي نسيت) وقال الفراء: يقال رجل مأموه كأنه ليس معه عقل. فلما تذكر الساقي حال يوسف جاء وجثا بين يدي الملك وقال { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } يعني بتأويل ما رأيت من الرؤيا. وروى عن الحسن أنه كان يقرأ أنا آتيكم بتأويله. وقراءة العامة أُنَبِّؤُكُمْ بتأويله فقال وما يدريك يا غلام ولست بمعبر ولا كاهن؟ فقصَّ عليه أمره الذي كان وقت كونه في السجن برؤيته الرؤيا وتعبير يوسف لها وصدق تعبيره على نحو ما وصفه له وأخبره بحال "يوسف" وحكمته وعلمه وفهمه { فَأَرْسِلُونِ } يعني أرسلوني أيها الملك إلى يوسف. خاطبه بلفظ الجماعة كما يخاطب الملوك. فأرسله الملك. فلما جاء إلى يوسف في السجن ودخل عليه واعتذر إليه بما أنساه الشيطان ذكر ربه وقال: { يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصّدِيقُ } والصديق كثير الصدق. يعني أيها الصادق فيما عبرت لنا { أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرٰتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } هزلى { وَسَبْعِ سُنبُلَـٰتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَـٰبِسَـٰتٍ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ } يعني إلى أهل مصر { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } قَدْرك ومنزلتك، ويقال إلى الناس. يعني إلى الملك لكي يعلم مكانك فيكون ذلك سبباً لخلاصك إذا علم تعبير رؤياه. فعبر يوسف رؤياه وهو في السجن فقال: أما السبع البقرات السمان فهي سبع سنين خصب. أما السبع العجاف فهي سبع سنين شدة وقحط ولا يكون في أرض مصر البر وأما السبع السنبلات الخضر فهي الخصب واليابسات هي القحط. { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأْبًا } يعني ازرعوا لسبع سنين دأباً يعني دائماً { فَمَا حَصَدتُّمْ } من الزرع { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } يعني في كعبره فهو أبقى لكم لكي لا يأكله السوس إذا كانت في الكعبرة { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ } يعني: تدرسون بقدر ما تحتاجون إليه فتأكلون { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } الخصب { سَبْعٌ شِدَادٌ } يعني مجدبات { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } يعني للسنين. ويقال: ما قدمتم: يعني ما جمعتم { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ } يعني تدخرون وتحرزون { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } القحط { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ } يعني يمطر الناس. والغيث المطر. ويقال هو من الإغاثة يعني يغاثون بسعة الرزق { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يعني ينجون من الشدة. ويقال يعصرون العنب والزيتون. قرأ حمزة والكسائي "تَعْصِرُونَ" بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة يعني الناس وقرأ بعضهم "يُعْصَرُونَ" بضم الياء ونصب الصاد يعني يمطرون من قوله تعالى { { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } [النبأ: 14] فرجع الساقي إلى الملك وأخبره بذلك { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ } قال بعضهم كان الملك رأى الرؤيا ونسيها فأتاه يوسف فأخبره بما رأى وأخبره بتفسيره. ولكن في ظاهر الآية أن الملك كان ذاكراً لرؤياه وأن يوسف عبر رؤياه وهو في السجن قبل أن ينتهي إلى الملك. وقال الملك ائتوني به يعني: بيوسف { فَلَمَّا جَاءهُ ٱلرَّسُولُ } برسالة الملك: إنَّ الملك يدعوك { قَالَ } يوسف للرسول { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ } يعني إلى سيدك وهو الملك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنّسْوَةِ ٱلَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } يعني سله حتى يتبين أني مظلوم في حبسي أو ظالم { إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } يعني إن سيدي وخالقي عالم بما كان منهن. قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إبراهيم الدبيلي (قال حدثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن عمر بن دينار عن عكرمة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) "لولا الكلمة التي قال يوسف { لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ } ما لبث في السجن طول ما لبث، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له. لو كنت أنا لم أخبرهم حتى يخرجوني. ولقد عجبت من يوسف كرمه وصبره والله لو كنت أنا الذي دعيت إلى الخروج لبادرتهم إلى الباب ولكن احب أن يكون له العذر بقوله فَلَمَّا جَاء الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ التي قطعن أيْدِيَهُنَّ" . قال ابن عباس: لو خرج يوسف حين دعي لم يزل في قلب الملك منه شيء فلذلك قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة.