التفاسير

< >
عرض

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ
٧٦
وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٧٧
قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ
٧٨
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٧٩
وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ
٨٠
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ
٨١
وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٢
-القصص

بحر العلوم

قوله عز وجل: { إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } يعني من بني إسرائيل ويقال كان ابن عم موسى { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } يعني: تطاول وتكبر على بني إسرائيل وكان فرعون قد ملكه على بني إسرائيل حين كانوا بمصر فلما قطع موسى البحر ببني إسرائيل ومعه قارون فأغرق الله تعالى فرعون وجنوده يرجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى أرض مصر وسكنوا ديارهم كما قال في رواية أخرى { { وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ } [الشعراء: 59] وجعلت (جنوده لهارون) وهو الرأس والذي بقرب القربان، فقال قارون لموسى لك النبوة ولهارون الحبورة والمذبح وأنا لست في ذلك من شيء فقال له موسى أنا لم أفعل ذلك ولكن الله تعالى فعل ذلك فقال له قارون لا أصدقك على ذلك واعتزل قارون ومن تبعه من بني إسرائيل وكان كثير المال والتبع وروى عن الحسن أنه قال أول من شرف الشرف قارون لما بنى داره وفرغ منها وشرفها صنع للناس طعاماً سبعة أيام يجمعهم كل يوم ويطعمهم وروي عن ابن عباس أنه قال لما أمر الله تعالى موسى بالزكاة قال لقارون إن الله أمرني أن آخذ من مالك الزكاة فأعط من كل مائتي درهم خمسة دراهم فلم يرض بذلك فقال له اعط من كل ألف درهم درهماً فلم يرض بذلك وقال لبني إسرائيل إن موسى لم يرض حتى تناول أموالكم فما ترون قالوا رأينا لرأيك تبع قال: فإني أرى أن ترموه فتهلكوه فبعثوا إلى امرأة زانية فأعطوه حكمها على أن ترميه بنفسها ثم أتوه في جماعة بني إسرائيل فقالوا يا موسى ما على من يسرق من الحد، قال: تقطع يده قالوا وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا، قالوا وما على الزاني إذا زنا، قال: يرجم قالوا وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قالوا فأنت قد ازنيت قال أنا، وجزع من ذلك فأرسلوا إلى المرأة فلما جاءت وعظها وعظم عليها موسى الحلف بالله وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت قالت أما إذا حلفتني فإني أشهد أنك بريء وإنك رسول الله وقالت أرسلوا إليَّ فأعطوني حكمي على أن أرميك بنفسي قال: فخر موسى عليه السلام لله ساجداً يبكي فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك قد أمرت الأرض أن تطيعك فأمرها بما شئت فقال موسى خذيهم فأخذتهم وقال في رواية الحسن خرج موسى عليه السلام مغضباً فدعى الله عز وجل: وقال: عبدك قارون الذي عبد (غيرك) دونك وجحدك فأوحى الله تعالى إلى موسى أني قد أمرت الأرض بأن تطيعك فجاء موسى حتى دخل إلى قارون حين اجتمع الناس في داره فقال يا عدو الله كذبتني بكلام له غيظ حتى غضب قارون وأقبل عليه بكلام شديد وهم به فلما رأى موسى ذلك قال يا أرض خذيهم قالوا: وكان قارون على فرش على سرير مرتفع في السماء فأخذت الأرض أقدامهم وغاب سريره ومجلسه وقد دخل من الدار في الأرض مثل ما أخذت منهم على قدرها فأقبل موسى يوبخهم ويغلظ لهم المقالة فلما رأى القوم ما نزل بهم عرفوا أن هذا الأمر ليس لهم به قوة فنادوا يا موسى كف عنا وارحمنا وجعلوا يتضرعون إليه ويطلبون رضاه وهو لا يزداد إلا غضباً وتوبيخاً لهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يتضرعون إليه ويسألونه وهو يبوبخهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أوساطهم وكانت الأرض تأخذ من الدار كل مرة مثل ما تأخذ منهم وهم يتضرعون في ذلك إلى موسى ويسألونه ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى آباطهم فمدوا أيديهم إلى وجه الأرض رجاء أن يمتنعوا بها ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فلم يبق على وجه الأرض منهم شيء إلا رؤوسهم ولم يبق من الدار إلا شرفها وقال قارون يا موسى أنشدك بالله وبالرحم فقال يا أرض خذيهم فاستوت الأرض عليهم وعلى الدار فانطلق موسى وهو فرح بذلك فأوحى الله تعالى إلى موسى يا موسى يتضرع إليك عبادي ودعوك وسألوك فلم ترحمهم أما وعزتي وجلالي لو أنهم سألوني واستغاثوا بي لرحمتهم ولكن تركوا أن يجعلوا رغبتهم ورجاءهم إلي وجعلوها إليك فتركتهم فذلك قوله تعالى: إن قَارون كان من قوم موسى (فَبَغَى عَلَيْهِمُ) يعني تطاول على بني إسرائيل وعلى موسى { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ } يعني: من المال { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ } يعني خزائنه { لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ } قال مقاتل العصبة من العشرة إلى أربعين فإذا كانوا أربعين فهم أولو قوة يقول لتعجز العصبة أولو القوة عن حمل مفاتيح الخزائن وقال أهل اللغة ناء به الحمل إذا أثقله وقال القتبي تنوء بالعصبة أي تميل بها العصبة أي تميل بهم العصبة إذا حملتها من ثقلها وقال ابن عباس في رواية أبي صالح العصبة في هذا الموضوع أربعون رجلاً وخزائنه كانت أربع ماية ألف ما يحمل كل رجل منهم عشرة إلا أن ويقال مفاتحه يعني: مفاتيح خزاينه يحملها أربعون رجلاً ويقال أربعون بغلاً وروى وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال كان مفاتيح كنوز من جلد كل مفتاح مثل الإصبع كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حمل المفاتيح على ستين بغلاً كل بغل أغر محجل { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } يعني بني إسرائيل { لاَ تَفْرَحْ } يعني لا تفخر بما أديت من الأموال ويقال لا تفرح بكثرة المال { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } يعني المرحين المفاخرين، ويقال: البطرين، ويقال: لا تفرح أي لا تأشر والأشر أشد الفرح الذي يخالطه حرص شديد حتى يبطر يعني يطغى وقالوا له { وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ } يعني اطلب مما أعطاك الله من الأموال والخير { ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } يعني لا تترك حظك من الدنيا أن تعمل لآخرتك { وَأَحْسِنْ } العطية من الصدقة والخير { كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } يعني أعط الناس كما أعطاك الله ويقال أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأَرْضِ } يعني أنفقه في طاعة الله ولا تنفقه في معصية الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي المنفقين في المعصية (وقوله "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك في الدنيا" أي لا تضيع عمرك فإنه نصيبك من الدنيا { قَالَ } قارون { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى } قال مقاتل أي على خير علمه الله عندي) وقال في رواية الكلبي يعني: علم التوراة وكان قارون اقرأ رجل في بني إسرائيل في التوراة فأعطيت ذلك لفضل علمي وكنت بذلك العلم ومستحقاً بفضل المال ويقال على علم عندي يعني علم الكيميا وكان يعمل كيميا الذهب وقال الزجاج الطريق الأول أشبه لأن الكيميا لا حقيقة لها يقول الله تعالى { أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ } تعالى { قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } من الأموال منهم نمرود وغيره { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } يعني: لا يسأل الكافرون عن ذنوبهم لأن كل كافر يعرف بسيماه وهذا قول الكلبي وقال مقاتل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية وقيل لا يسأل الكافرون يوم القيامة عن ذنوبهم سؤال النجاة بل يسألون سؤال العذاب والمناقشة قوله عز وجل: { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ } يعني خرج قارون على بني إسرائيل (قال مقاتل: وهو على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليها أرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهن من الحلل والثياب الحمر على البغال الشهب وقال قتادة خرج معه أربعة آلاف دابة عليها ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء عليها قطائف أرجوان وقال في رواية الكلبي خرج على ثلثمائة دابة بيضاء عليها نوع من الكساء وعليها ثلثمائة قطيفة حمراء عليها جواري وغلمان { قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } وكانوا من أهل التوحيد { يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـٰرُونُ } يعني مثل ما أعطي من الأموال قارون { إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } يقول ذو نصيب وافر في الدنيا قوله عز وجل: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } يعني أكرموا بالعلم بما وعد الله في الآخرة للذين تمنوا ذلك { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ } يعني: ويحكم ثواب الله في الآخرة خير يعني أفضل { لِمَنْ ءامَنَ } يعني: صدق بتوجيه الله تعالى { وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً } فيما بينه وبين الله تعالى مما أعطى قارون في الدنيا { وَلاَ يُلَقَّاهَا } يعني ولا يلقن ولا يوقف ويرزق في الجنة { إِلاَّ ٱلصَّـٰبِرُونَ } في الدنيا على أمر الله تعالى ويقال ولا يلقاها أي لا يعطى الأعمال الصالحة إلاَّ الصابرون على الطاعات وعن زينة الدنيا ويقال ولا يلقاها يعني ولا يلقن) بهذه الكلمة إلاَّ الصابرون عن زينة الدنيا يقول الله تعالى.
{ فَخَسَفْنَا بِهِ } يعني قارون { وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } يعني: بقارون وبداره وأمواله فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } يعني: لم يكن له جنة وأعوان يمنعونه من عذاب الله عز وجل: { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ } يعني: وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من عذاب الله.
قوله عز وجل: { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ } حين رأوه في زينته وقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ } قال القتبي قد اختلف في هذه اللفظة فقال الكسائي معناها ألم تر أن الله يبسط ويكأنه يعني ألم تر أنه لا يفلح الكافرون روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال ويكأن الله يعني أو لا يعلم أن الله { يَبْسُطُ } وهذا شاهد بقول الكسائي وذكر الخليل بن أحمد أنها مفصولة وي ثم يبتدىء فيقول كأن الله وقال ابن عباس في رواية أبي صالح كان الله يبسط { ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء } كأنه لا يفلح الكافرون وقال وي صلة في الكلام وهذا شاهد لقول الخليل وقال الزجاج الذي قاله الخليل أجود وهو أن قوله وي مفصولة من كان لأن من يدم على شيء يقول وي يعاتب الرجل على ما سلف يقول: وي كأنك قصدت مكروهاً وقال مقاتل معناه ولكن الله يبسط الرزق لمن يشاء { مِنْ عِبَادِهِ } يعني: يوسعه على من يشاء من عباده { وَيَقْدِرُ } يعني: يقتر ويقال ويضيق على من يشاء يعني: لولا أن الله من علينا لكنا مثل قارون في العذاب { لَوْلا أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } معهم ويقال لولا منَّ الله علينا بالإيمان لكنا مثل قارون في العذاب ويقال لولا أن من الله علينا يعني: عصمنا مثل ما كان عليه من البطر والبغي لخسف بنا كما خسف به قال قرأ عاصم في رواية حفص بنصب الخاء وكسر السين لخسف الله بنا وقرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله { وَيْكَأَنَّهُ } يعني: ولكنه { لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي الجاحدون للنعم.