التفاسير

< >
عرض

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٣٤
إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٥
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٣٦
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
-آل عمران

بحر العلوم

ثم قال تعالى: { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي بعضهم على إثر بعض، ويقال: بعضهم على دين بعض. { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لقولهم "عليم"، بهم وبدينهم، ويقال قوله: { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } انصرف إلى ما بعده، أي سميع بقول امرأة عمران. { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرٰنَ } وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان وذلك أنها لما حبلت، قالت: لئن نجاحي الله، ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرراً، والمحرر من لا يعمل للدنيا، ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة ويلزم المحراب، فيعبد الله تعالى فيه، وهذا قول مقاتل. وقال الكلبي: محرراً أي خادماً لبيت المقدس، ولم يكن محرراً إلا الغلمان، فقال لها زوجها: إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة، فكيف تصنعين؟ فاهتمت بذلك وقالت: يا { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ } وأنت تعلم { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [السميع لدعائي العليم] بنيتي وما في بطني. { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } أي ولدت فإذا هي أنثى { قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ } [يعني ولدتها] جارية { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر "والله أعلم بما وَضَعْتُ" بجزم العين وضم التاء، يعني أن المرأة قالت: والله أعلم بما وَضَعْتُ، والباقون بنصب العين وسكون التاء، فيكون هذا قول الله: إنه [يعلم] بما وضعت تلك المرأة. ثم قال تعالى: { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنثَىٰ } [في الخدمة] قال بعضهم هذا قول الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وليس الذكر كالأنثى يا محمد. وقال بعضهم: هي كلمة المرأة: أنها قالت: وليس الذكر كالأنثى [في الخدمة، وقال مقاتل: فيها تقديم، فكأنه يقول: قالت رب إني وَضعَتُهَا أُنْثى وليس الذكر كالأنثى] والله أعلم بما وضعت. ثم قالت: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } يعني خادم الرب بلغتهم { وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ } يعني أعصمها وأمنعها بك: { وَذُرِّيَّتَهَا } إن كان لها ذرية { مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } يعني الملعون. ويقال: المطرود من رحمة الله، ويقال: الرجيم بمعنى المرجوم كما قال: { وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَـٰطِينِ } [الملك: 5]. حدثنا أبو الليث قال: حدثنا الخليل بن أحمد القاضي، قال: حدثنا أبو العباس، قال حدثنا إسحق بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان ينخسه حين يولد فيستهل صارخاً من الشيطان، إلا مريم وابنها عيسى - عليهما السلام -" ، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }. وقال الزجاج: معنى قوله: "إِذ" يعني، إن الله اختار آل عمران، إذ قالت امرأة عمران: واصطفاهم إذ قالت الملائكة وقال أبو عبيدة: معناه قالت امرأة عمران، وقالت الملائكة و"إذ" زيادة وقال الأخفش: معناه، واذكر إذ قالت [امرأة عمران واذكر إذ قالت] الملائكة. [وقال أهل اللغة: المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد]. ثم إن حنة لفتها في خرق، [ثم] وضعتها في بيت المقدس عند المحراب فاجتمعت القراء أي الزهاد فقال زكريا: أنا أحق بها، لأن خالتها عندي فقال القُرّاء: إن هذه محررة، فلو تركت لخالتها، فكانت أمها أحق بها، ولكن نتساهم، فخرجوا إلى عين سلوان، فأَلْقَوْا أقلامهم في النهر قال بعضهم: كانت أقلامهم من الشَّبَّة فغابت أقلامهم في الماء، وبقي قلم زكريا على وجه الماء. وقال بعضهم: كانت أقلامهم من قَصَب، فبقيت أقلامهم على وجه الماء وغاب قلم زكريا في الماء. وقال بعضهم: أَلْقَوْا أَقلامهم في النهر، فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا، فإنه جرى من الجانب الأعلى، فعلموا أن الحق له، فضمّها إلى نفسه، فذلك قوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي تقبل منها نَذْرها { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } وقال مجاهد: غذاها غذاء حسناً، ورباها تربية حسنة. { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتشديد أي كفلها الله إلى زكريا، وقرأ الباقون بالتخفيف أي ضمها زكريا إلى نفسه، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية حفص: "زكريا" بغير إعراب وجزم الألف. وقرأ الباقون بالإعراب والمد، وهما لغتان معروفتان عند العرب فمن قرأ "كفلها" بالتشديد قرأ زكريا بنصب الألف لأنه يصير مفعولاً ومن قرأ "كفلها" بالتخفيف، قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل. وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محراباً في غرفة، وجعل باب الغرفة في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم واستأجر ظئراً، فكان يغلق عليها الباب، وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا، وكانت إذا طهرت من حيضها واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم: كانت لا تحيض، وكانت مطهرة من الحيض. وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء، رأى عندها فاكهة الصيف، وإذا دخل عليها في أيام الصيف وجد عندها فاكهة الشتاء. وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة إذا رأى الفاكهة في غير أوانها وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين فذلك قوله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } ويقال: المحراب في اللغة أشرف المجالس، وهو المكان العالي. وقد قيل: إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب، [فـ { قَالَ } لها] زكريا { يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } يعني من أين لك هذا؟ فإنه لا يدخل عليك أحد غيري، { فَقَالَتْ } مريم { هُوَ } أي هذا الرزق { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي من فضل الله { إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } في غير حينه ويقال: من حيث لا يحتسب.