التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٨
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٠
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
-المائدة

بحر العلوم

قوله تعالى: { يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلـٰوةِ } يعني إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة وأنتم محدثون، ويقال: إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } يعني مع المرافق { وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } يعني مع الكعبين. قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وحمزة، وعاصم، وفي رواية أبي بكر (وأرجلكم) بكسر اللام، وقرأ الباقون: بالنصب، فمن قرأ بالنصب فإنه جعله نصباً لوقوع الفعل عليه، وهو الغسل، يعني واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، ومن قرأ بالكسر، جعله كسراً لدخول [حرف الخفض] وهو الباء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، يعني، إذا كان عليه خفان وقد ثبت ذلك بالسنة، ويقال: صار كسراً بالمجاورة، كما قال في آية أخرى { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة: 22] قرأ بعضهم بالكسر بالمجاورة. فهذه الأربعة التي ذكرت في الآية من فرائض الوضوء، وما سوى ذلك آداب وسنن فإن قيل: الآية إذا قرئت بقرائتين، فالله تعالى قال بهما جميعاً، أو بإحداهما؟. قيل له: هذا على وجهين: إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر، فالله تعالى قال بهما جميعاً، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين، وإن كانت القراءتان معناهما واحد فالله تعالى قال لأحدهما، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعاً. ثم قال تعالى: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } قد يوصف الجمع بصفة الواحد، كقوله: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } وكقوله: { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ } قوله: { فَٱطَّهَّرُواْ } معناه، فتطهروا إلا أن التاء أدغمت في الطاء لأنهما من مكان واحد، فإذا أدغمت فيها، سكن أول الكلمة، وزيدت ألف الوصل للابتداء. ثم قال: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } يعني من الصعيد، ثم قال: { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } يقول: لا يكلفكم في دينكم من ضيق { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } يعني: يطهركم من الأحداث والجنابة { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما أنعم من الرخص { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا الله لما رخص لكم، ولم يضيق عليكم. قوله تعالى: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } يقول: احفظوا منن الله عليكم بإقراركم بوحدانية الله تعالى، { وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ } يعني يوم الميثاق، حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام، وقال: { .. أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ: بَلَىٰ } [الأعراف: 172] هكذا قال في رواية الكلبي، ومقاتل، والضحاك. وقال بعضهم: هو الميثاق الجبلة والإدراك، فكل من أدرك فقد أخذ عليه الميثاق، وشهدت له خلقته وجبلته، فصار ذلك كالإقرار منه ثم قال: { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } يوم الميثاق، قلتم سمعنا قولك يا ربنا وأطعنا أمرك، ثم قال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في نقض العهد والميثاق { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } يعني: عالم بسرائركم. ثم قال: { يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ } يعني قوالين بالحق، ثم قال: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لاَ تَعْدِلُواْ } وذلك أن الله تعالى لما فتح على المسلمين مكة، أمر الله المسلمين أن لا يكافئوهم بما سلف، وأن يعدلوا في القول والحكم والنصفة، وذلك قوله: { ٱعْدِلُواْ } يعني قولوا الحق والعدل { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } يعني فإنه أقرب للطاعة، ثم قال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } يقول واخشوا الله بما أمركم به، { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الطاعة وغيره. ثم بين ثواب من عمل بطاعته فقال: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } يعني الطاعات { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } يعني ثواب عظيم في الجنة، ويقال: إن أهل مكة قالوا، بعدما أسلموا ما لنا في الآخرة وقد أخرجناك وأصحابك، فقالوا: وعد الله الذين آمنوا بالله وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعملوا الصالحات بعد الإسلام، لهم مغفرة لما فعلوا في حال الشرك، وأجر عظيم في الآخرة. ثم قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا } يعني جحدوا وكذبوا، بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، وماتوا على ذلك، { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } يعني مقيمين فيها أبداً. وقوله تعالى: { يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة - وصالح بني قريظة، وبني النضير وهما قبيلتان بقرب المدينة، وأخذ منهم الميثاق بأن لا يكون بينهم القتال، وأن يتعاونوا فيما بينهم على الديات، فدخل مستأمنان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجا من عنده فقتلهما «عمرو بن أمية الضمري»، ولم يعلم بأنهما مستأمنان، فوداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية حُرَّين مسلمين فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر وعمر وعلي إلى بني النضير ليستعين بهم في ديتهما، فقالوا: مرحباً حتى نستأذن إخواننا من بني قريظة. وقال في رواية الكلبي خرج إلى بني قريظة، فقالوا: حتى نستأذن إخواننا من بني النضير، وأدخلوهم داراً وأجلسوهم في صفّة، وجعلوا يجمعون السلاح، وهموا بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وكانوا ينتظرون كعب بن الأشرف، وكان غائباً، فنزل جبريل وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصة وخرج، فلما أبطأ الرجوع قام أبو بكر فخرج، ثم خرج عمر ثم خرج علي رضي الله عنهم، فنزلت هذه الآية { يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }، { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } يقول: أرادوا وتمنوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل، { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } بالمنع. قال الفقيه أبو الليث: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا علي بن أحمد، قال: حدثنا نصير بن يحيى، قال: حدثنا أبو سليمان، عن محمد بن الحسن عن محمد بن عبد الله عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بني النضير ليستعين بهم في دية الكافرَيْن اللذيْن قتلهما «عمرو بن أمية الضمري»، فهم بنو النضير بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فسار إليهم فحاصرهم وأمر بقطع النخيل وحاصرهم حتى قالوا: أتؤمننا على دمائنا وذرارينا، وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة، يعني السلاح، قال: نعم، ففتحوا الحصون وأجلاهم إلى الشام، فهذا الخبر موافق رواية مقاتل، أنه خرج إلى بني النضير. وقال الضحاك: كان سبب نزول هذه الآية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة إلى البقيع، إلى قبور الشهداء وحده فأتاه رجل من اليهود شديد محارب، فقال: إن كنت نبياً كما تزعم فأعطني سيفك هذا، فإن الأنبياء لا يبخلون، فأعطاه سيفه، فشهر اليهودي السيف وهزه ليضربه به، فلم يجترىء للرعب الذي قذفه الله تعالى في قلبه ثم رد عليه السيف، فنزل: { يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } ثم قال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }. ففي الآية مضمر، فكأنه قال: فاتقوا الله، وتوكلوا على الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويثقوا بالنصر لهم.