التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٩٦
وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٩٧
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
٩٨
-يونس

معالم التنزيل

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ }، وجبتْ عليهم، { كَلِمَةُ رَبِّكَ }، قيل: لعنته. وقال قتادة سخط الله. وقيل: "الكلمة" هي قوله: هؤلاء في النار ولا أُبالي { لاَ يُؤْمِنُونَ }.

{ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ }، دلالة، { حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }، قال الأخفش: أنّث فِعلَ «كل» لأنه مضاف إلى المؤنث وهي قوله: «آية»، ولفظ «كل» للمذكر والمؤنث سواء.

قوله تعالى: { فَلَوْلاَ كَانَتْ } أي: فهلا كانت، { قَرْيَةٌ }، ومعناها: فلم تكن قرية لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد، أي: أهل قرية، { ءَامَنَتْ }، عند معاينة العذاب، { فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا }، في حالة البأس { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ }، فإنه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و«قوم» نصبٌ على الاستثناء المنقطع، تقديره: ولكن قوم يونس، { لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ }، وهو وقت انقضاء آجالهم.

واختلفوا في أنهم هل رأوا العذاب عياناً أم لا؟ فقال بعضهم: رأوا دليل العذاب؟ والأكثرون على أنهم رأوا العذاب عياناً بدليل قوله: «كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ»، والكشف يكون بعد الوقوع أو إذا قَرُب.

وقصة الآية ـ على ما ذكره عبدالله بن مسعود، وسعيد بن جبير، ووهب وغيرهم ـ أن قوم يونس كانوا بنينوى، من أرض الموصل، فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإِيمان فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذباً فانظرُوا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب: غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً، فهبط حتى تغشَّاهم في مدينتهم واسودت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس نبيهم فلم يجدوه، وقذف الله في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، ولبسوا المسوح وأظهروا الإِيمان والتوبة، وأخلصوا النية وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام فحنَّ بعضُها إلى بعض، وعلتِ أصواتها، واختلطتْ أصواتُها بأصواتهم، وعجُّوا وتضرعوا إلى الله عزّ وجلّ، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس، فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أضلهم، وذلك يوم عاشوراء، وكان يونس قد خرج فأقام ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم يرَ شيئاً، وكان مَنْ كذّب ولم تكن له بينة قتل، فقال يونس: كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتباً على ربِّه مغاضباً لقومه، فأتى البحر فإذا قوم يركبون سفينة، فعرفوه فحملوه بغير أجر، فلما دخلها وتوسطت بهم ولججت، وقفت السفينة لا ترجع ولا تتقدم، قال أهل السفينة: إن لسفينتنا لشأناً، قال يونس: قد عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة، قالوا: ومن هو؟ قال: أنا، اقذفوني في البحر، قالوا: ما كنا لنطرحك من بيننا حتى نعذر في شأنك، واسْتَهَمُوا فاقترعُوا ثلاثَ مرات فأدحض سهمه، والحوت عند رِجْل السفينة فاغراً فاه ينتظر أمر ربَّه فيه، فقال يونس: إنكم والله لتهلَكُنَّ جميعاً أو لَتَطْرَحُنَّنِي فيها، فقذفوه فيه وانطلقوا وأخذه الحوت.

ورُوي: أن الله تعالى أوحى إلى حوتٍ عظيم حتى قصد السفينة، فلما رآه أهل السفينة مثل الجبل العظيم وقد فغر فاه ينظر إلى مَنْ في السفينة كأنه يطلب شيئاً خافوا منه، ولما رآه يونس زجّ نفسه في الماء.

وعن ابن عباس: أنه خرج مغاضباً لقومه فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة، فركبها فلما لججت السفينة، تكفّأت حتى كادوا أن يغرقوا، فقال الملاَّحون: هاهنا رجل عاصٍ أو عبد آبق، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ولأَنْ يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاثَ مرات، فوقعت القرعة في كلها على يونس، فقال يونس: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، فألقى نفسه في الماء فابتلعه حوت، ثم جاء حوت آخر أكبر منه وابتلع هذا الحوت، وأوحى الله إلى الحوت لا تؤذي منه شعرة، فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعاماً لك.

ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نُودي الحوت: إنّا لم نجعل يونس لك قوتاً، إنما جعلنا بطنك له حرزاً ومسجداً.

ورُوي: أنه قام قبل القرعة فقال: أنا العبد العاصي والآبق، قالوا: من أنت؟ قال: أنا يونس بن متى، فعرفوه فقالوا: لا نلقيك يارسول الله، ولكن نُساهِمْ فخرجتِ القرعةُ عليه، فألقى نفسه في الماء.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: ابتلعه الحوت فأهوى به إلى قرار الأرض السابعة، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى، فنادى في الظلمات: أن لا إله إلاّ أنت سبحانَك إني كنتُ مِنَ الظالمين، فأجاب الله له فأمر الحوت، فنبذه على ساحل البحر، وهو كالفرخ الممعط، فأنبت الله عليه شجرةً من يقطين، وهو الدباء، فجعل يستظل تحتها ووكل به وعلة يشرب من لبنها، فيبست الشجرة، فبكى عليها فأوحى الله إليه: تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون وأردت أن أهلكهم، فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت ياغلام؟ قال: من قوم يونس، قال: إذا رجعتَ إليهم فأخبرهم أني لقيت يونس، فقال الغلام: قد تعلم أنه إن لم تكن لي بينة قُتِلتُ، قال يونس عليه السلام: تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، فقال له الغلام: فمُرْها، فقال يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم، فرجع الغلام، فقال للملك: إني لقيت يونس فأمر الملك بقتله، فقال: إنّ لي بينة، فأرسلوا معي، فأتى البقعة والشجرة، فقال: أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين، وقالوا للملك: شهد له الشجرة والأرض، فأخذ الملك بيد الغلام وأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، فأقام لهم أمرهم ذلك الغلامُ أربعين سنة.