التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٢٤٣
وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٤٤
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٤٥
-البقرة

معالم التنزيل

قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ } قال أكثر أهل التفسير: كانت قرية يقال لها: داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا جميعاً.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمٰن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" فرجع عمر من سرغ، قال الكلبي ومقاتل والضحاك: إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم: إن الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإلٰه موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم الله تعالىٰ: موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعاً وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.

واختلفوا في مبلغ عددهم، قال عطاء الخراساني: كانوا ثلاثة آلاف، وقال وهب: أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي: ثمانية آلاف، وقال أبو روق: عشرة آلاف، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفاً، وقال ابن جريج: أربعون ألفاً، وقال عطاء بن أبي رباح: سبعون ألفاً، وأولى الأقاويل: قولُ من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن الله تعالىٰ قال «وهم ألوف» والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف، قالوا: فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له: حزقيل بن بودى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالىٰ لها، قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبياً وأنجاهم من القتل، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجباً فأوحى الله تعالىٰ إليه تريد أن أريك آية؟ قال نعم: فأحياهم الله وقيل: دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم.

وقال مقاتل والكلبي: هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيداً لا قوم لي، فأوحى الله تعالىٰ إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: إحيوا بإذن الله فعاشوا.

قال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إلٰه إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلا عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، قال قتادة: مقتهم اللَّه على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا فذلك قوله تعالىٰ: { أَلَمْ تَرَ } أي ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب.

وقال أهل المعاني: هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن أم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجهه { إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ } جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود، والصحيح أن المراد منه العدد { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أي خوف الموت { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } أمر تحويل كقوله تعالىٰ: { كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } [البقرة: 65] { ثُمَّ أَحْيَـٰهُمْ } بعد موتهم { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أما الكفار فلا يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر.

{ وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي في طاعة الله أعداء الله { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال أكثر أهل التفسير: هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا، وقيل: الخطاب لهذه الأمة، أمرهم بالجهاد.

قوله تعالىٰ: { مَّن ذَا الَّذِي يَقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَنًا } القرض اسم لكل ما يعطيه الإِنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالىٰ عمل المؤمنين له على رجاء ما وعدهم من الثواب قرضاً، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه، قال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيىء، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي به القرض لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله، وقيل في الآية اختصار مجازه: من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه، كقوله تعالىٰ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب: 57] أي: يؤذون عباد الله، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّهَ تعالىٰ يقول يوم القيامة يابنَ آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي"

وقوله تعالى: { يُقْرِضُ ٱللَّهَ } أي ينفق في طاعة الله { قَرْضاً حَسَناً } قال الحسين بن علي الواقدي: يعني محتسباً، طيبة بها نفسه، وقال ابن المبارك: من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب { فيضعفه } وبابه بالتشديد، ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون { فيضاعفه } بالألف مخففاً وهما لغتان، ودليل التشديد قوله { أَضْعَافًا كَثِيرَةً } لأن التشديد للتكثير، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام، وقيل: بإضمار أن، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقاً على قوله: يقرض { أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال السدي وهذا التضعيف لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقيل سبعمائة ضعف { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } قرأ أهل البصرة وحمزة يبسط، هاهنا وفي الأعراف، بسطة، بالسين كنظائرهما، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإِحياء والإِماتة فمن أماتة فقد قبضه ومن مدَّ له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالىٰ بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيراً كما جاء في الحديث "القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله كيف يشاء" الحديث.

{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم، وقال قتادة: الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون.