التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٦٢
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
٢٦٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
-البقرة

معالم التنزيل

قوله تعالىٰ: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال الكلبي: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الرحمٰن بن عوف رضي الله تعالىٰ عنهما، "جاء عبد الرحمٰن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أمسكت لك وفيما أعطيت" وأما عثمان فجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنزلت فيهما هذه الآية.

وقال عبد الرحمٰن بن سمرة: "جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول: ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم" فأنزل الله تعالىٰ: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } في طاعة الله { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنًّا } وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول أعطيتك كذا، ويعدُّ نعمه عليه فيكدرها { وَلاَ أَذًى } وهو أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟ وقيل من الأذى هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.

وقال سفيان: { مَنًّا وَلاَ أَذًى } هو أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت، قال عبد الرحمٰن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكفَّ سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه، لأنه من العباد تعيير وتكدير، ومن الله إفضال وتذكير { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } أي ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي كلام حسن وردٌّ على السائل جميل، وقيل عِدَةٌ حسنة. وقال الكلبي: دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب، وقال الضحاك: نزلت في إصلاح ذات البين { وَمَغْفِرَةٌ } أي تستر عليه خلته ولا تهتك عليه ستره، وقال الكلبي والضحاك: يتجاوز عن ظالمه، وقيل: يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه عند رده { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ } يدفعها إليه { يَتْبَعُهَآ أَذًى } أي منّ وتعيير للسائل أو قول يؤذيه { وَٱللَّهُ غَنِىٌّ } أي مستغن عن صدقة العباد { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة.

قوله تعالىٰ: { يَاأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } أي أجور صدقاتكم { بِٱلْمَنِّ } على السائل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بالمن على الله تعالىٰ { وَٱلأَذَىٰ } لصاحبها ثم ضرب لذلك مثلاً فقال { كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ } أي كإبطال الذي ينفق ماله { رِئَآءَ ٱلنَّاسِ } أي مراءاة وسمعة ليروا نفقته وليقولوا إنه كريم سخي { وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } يريد أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء { فَمَثَلُهُ } أي مثل هذا المرائي { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو الحجر الأملس، وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعاً فواحده صفوانة ومن جعله واحداً فجمعه صفي { عَلَيْهِ } أي على الصفوان { تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } وهو المطر الشديد العظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أي أملس، والصلد الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه فهذا مثل ضربه الله تعالىٰ لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي ويري الناس في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يري التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة بطل كله واضمحل لأنه لم يكن لله عز وجل كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب فتركه صلداً { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي على ثواب شيء مما كسبوا وعملوا في الدنيا { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ }.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا اسماعيل بن جعفر، أخبرنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارثي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح، أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني أن عقبة بن مسلم حدثه أن شُفَيَّا الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له: أنشدك الله بحق، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارىء: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فقال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما علمت:؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله تعالىٰ: بل أردت أن يقال فلان قاريء فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت ويقول الله تعالىٰ: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فبماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قُتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالىٰ: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" .