التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

معالم التنزيل

"{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }، نزلت في الحُطَم واسمه شريح بن ضُبَيْعَة البكري، أتى المدينةَ وخلّف خيله [خارج] المدينة، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعُو الناسَ؟ فقال له: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، [وأنّ محمداً رسول الله]، وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، فقال: [حسن]، إلا أن لي أُمراء لا أقطع أمراً دونهم، ولَعلّي أُسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم [بلسان] شيطان، ثم خرج شريح من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر وخرجَ بقفا غادرٍ وما الرجل بمسلم، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق، فاتبعوه فلم يُدركوه، فلمّا كان العام القابل خرج حاجاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة، وقدْ قلّد الهَدْيَ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الحطم قد خرج حاجاً فخلِّ بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قلّد الهَدْيَ، فقالوا: يا رسول الله هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عزّ وجلّ: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }" .

قال ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجون ويهدون، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فنهاهم الله عن ذلك.

وقال أبو عبيدة: شعائر الله هي الهدايا المُشْعَرة، والإشْعار من الشعار، وهي العلامة، وإشعارها: إعلامها بما يُعرف أنها هَدْي، والإشعار هاهنا: أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدمُ، فيكون ذلك علامة أنها هَدْي، وهي سنّة في الهدايا إذا كانت من الإبلِ، لِما أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبدالله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فتلتُ قلائدَ بُدْنِ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلّدَها وأشعرَها وأهداها، فما حَرُمَ عليه شيء كان أُحِلّ له.

وقاس الشافعي البقرَ على الإبل في الإشعار، وأمّا الغنم فلا تشعر بالجرح، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها، وعند أبي حنيفة: لا يشعر الهدي.

وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تُحِلّوا شعائرَ الله هي أن تَصِيْدَ وأنتَ محرمٌ، بدليل قوله تعالى: "وإذا حَلَلْتُم فاصطـادوا"، وقال السدي: أراد حرم الله، وقيل: المراد منه النهي عن القتل في الحرم، وقال عطاء: شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته.

قوله: { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ }، أي: القتال فيه، وقال ابن زيد: هو النسيء، وذلك أنهم كانوا يُحِلّونه في الجاهلية عاماً ويُحرّمُونه عاماً، { وَلاَ ٱلْهَدْىَ }، وهو كل ما يُهدَى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة، { وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ }، أي: الهدايا المُقلّدة، يريد ذواتِ القلائد، وقال عطاء: أراد أصحاب القلائد، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلّدُوا أنفسهم وإبلهم بشيءٍ منْ لِحَاءِ شحرِ الحرم كيلا يُتعرّض لهم، فنهى الشرعُ عن استحلال شيء منها. وقال مطرف بن الشخير: هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لِحَاءِ شجر مكة ويتقلدونها فُنهوا عن نزع شجرها.

قوله تعالىٰ: { وَلاۤ ءَامِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }، أي: قاصدين البيت الحرام، يعني: الكعبة فلا تتعرضوا لهم، { يَبْتَغُونَ } يطلبون { فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ }، يعني: الرزق والتجارة، { وَرِضْوَٰناً }، أي: على زعمهم، لأن الكافرين لا نصيب له في الرضوان، وقال قتادة: هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها، وقيل: ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة، لأنّ المسلمين والمشركين كانوا يحجُّون، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله: { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] وبقوله: { { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة: 28] فلا يجوز أن يحجّ مشرك ولا أن يأمن كافر بالهدي والقلائد.

قوله عزّ وجلّ: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } من إحرامكم، { فَٱصْطَـٰدُواْ }، أمرُ إباحة، أباح للحلال أخذ الصيد، كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 10].

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ }، قال ابن عباس وقتادة: لا يحملنّكم، يقال: جرمني فلان على أن صنعتُ كذا، أي: حملني، وقال الفراء: لا يكسبنّكم، يقال: جرم أي: كَسَبَ، وفلانٌ جريمة أهله، أي: كاسبهم، وقيل: لا يدعونَّكم، { شَنَآنُ قَوْمٍ }، أي: بغضُهم وعداوتهم، وهو مصدر شنئت، قرأ ابن عامر وأبو بكر { شَنَآنُ قَوْمٍ } بسكون النون الأولى، وقرأ الآخرون بفتحها، وهما لغتان، والفتح أجود، لأنّ المصادر أكثرها فعلان، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها، { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }، قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون بفتح الألف، أي: لأن صدوكم، ومعنى الآية: لا يحملنّكم عداوةُ قومٍ على الاعتداء لأنهم صدّوكم. قال محمد بن جرير: لأن هذه السورة نزلت بعد قضية الحديبية، كان الصَّدُّ قد تقدم، { أَن تَعْتَدُواْ } عليهم بالقتل وأخذ الأموال، { وَتَعَاوَنُواْ }، أي: ليعِنْ بعضُكم بعضاً، { عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ }، قيل: البر متابعة الأمر، والتقوى مجانبة النهي، وقيل: البر: الإسلام، والتقوى: السنّة، { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ }، قيل: الإثم: الكفر، والعدوان: الظلم، وقيل: الإثم: المعصية، والعدوان: البدعة.

أخبرنا أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري أنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبدالرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإثْمِ، قال: "البِرُّ حُسْنُ الخُلقِ، والإثْمُ ما حَاكَ في نفسِكَ وكرهْتَ أنْ يطلعَ عليه النَاس" . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.