التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٧
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٨٨
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨٩
-يونس

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر، قال مجاهد: { مصر } في هذه الآية الإسكندرية، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر، و { تبوّآ } معناه كما قلنا تخيراً واتخذا، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل ]

لها أمرها حتى إذا ما تبوأت لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا

وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرىء القيس: [الكامل ]

يتبوأون مقاعداً لقتالكم كليوثِ غابٍ ليلهن زئير

وقرأ الناس " تبوّآ" بهمزة على تقدير تبوعا، وقرأ حفص في رواية هبيرة " تبويا " وهذا تسهيل ليس بقياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، قوله { قبلة } ومعناه مساجد، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم، قالوا: خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم، وقيل يقابل بعضها بعضاً، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة، قاله ابن عباس، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير بيوتكم ما استقبل به القبلة" ، وقوله { وأقيموا الصلاة } خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر، وقوله { وبشر المؤمنين } أمر لموسى عليه السلام، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متمكن وقوله تعالى { وقال موسى } الآية، غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم فقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها، و { آتيت } معناه أعطيت وملكت، وتكرر قوله { ربنا } استغاثة كما يقول الداعي بالله،وقوله { ليضلوا } يحتمل أن يكون لام كي على بابها على معنى آتيتهم الأموال إملاء لهم واستدراجاً فكان الإيتاء كي يضلوا ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، كما قال { { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } } [القصص: 8] والمعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا، وروي عن الحسن أنه قال: هو دعاء ويحتمل أن يكون المعنى على جهة الاستفهام أي ربنا ليضلوا فعلت ذلك، وفي هذا تقرير الشنعة عليهم.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وأبو رجاء وأهل مكة: " ليَضلوا " بفتح الياء على معنى ليضلوا في أنفسهم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وقتادة وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنه " ليُضلوا " بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم، وقرأ الشعبي "ليِضلوا" بكسر الياء، وقرأ الشعبي أيضاً وغير "اطمُس" بضم الميم، وقرأت فرقة " اطمِس " بكسر الميم وهما لغتان، وطمس يطمس ويطمُس، قال أبو حاتم: وقراءة الناس بكسر الميم والضم لغة مشهورة، معناه عف وغيره وهو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه ومنه قول كعب بن زهير: [البسيط ]

من كل نضاخه الذفرى إذا عرفت عرضتها طامس الأعلام مجهول

وروي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة وزادهم ودنانيرهم وحبوبهم من الأطعمة رجعت حجارة، قاله محمد بن كعب القرظي وقتادة وابن زيد، وقال مجاهد وغيره، معناه أهلكها ودمرها، وروي أن الطمسة من آيات موسى التسع، وقوله { اشدد على قلوبهم } بمعنى اطبع واختم عليهم بالكفر، قاله مجاهد والضحاك، ولما أشار عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أسرى بدر شبهه بموسى في دعائه على قومه الذين بعث إليهم في هذه الآية وبنوح في قوله { { لا تذر على الأرض من الكافريرن دياراً } [نوح: 26]. وقوله { فلا يؤمنوا } مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفاً على قوله { ليضلوا }، وقيل هو منصوب في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزوم على الدعاء ومنه قول الشاعر [الأعشى ]: [الطويل ]

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلاَّ وأنفُكَ راغمُ

وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية، وذلك لعلمه من قبل الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره، ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه، قال ابن عباس: { العذاب } هنا الغرق، وقرأ الناس " دعوتكما"، وقرأ السدي والضحاك " دعواتكما "، وروي عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحينئذ كان الغرق.
قال القاضي أبو محمد : وأعلما أن دعاءهما صادق مقدوراً، وهذا معنى إجابة الدعاء، وقيل لهما { لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } أي في أن تستعجلا قضائي فإن وعدي لا خلف له، وقوله { دعوتكما } ولم يتقدم الدعاء إلا لموسى، وروي أن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى، قاله محمد بن كعب القرظي، نسب الدعوة إليهما، وقيل كنّى عن الواحد بلفظ التثنية كما قال " قفا نبكي" و نحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن الآية تتضمن بعد مخاطبتهما من غير شيء، قال علي بن سليمان قول موسى: { ربنا } دال على أنهما دعوا معاً، وقوله { فاستقيما } أي على ما أمرتما به من الدعاء إلى الله، وأمر بالاستقامة وهما على الإدامة والتمادي، وقرأ نافع والناس" تتّبعانّ" بشد التاء والنون على النهي، وقرأ ابن عامر وابن ذكوان" تتبعانّ" بتخفيف التاء وشد النون، وقرأ ابن ذكوان أيضاً: "تتّبعانِ" بشد التاء وتخفيف النون وكسرها، وقرأت فرقة "تَتبعانْ" بتخفيفها وسكون النون رواه الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فهي النون الثقيلة حذفت معها نون التثنية للجزم كما تحذف معها الضمة في لتفعلنّ بعد ألف التثنية وأما تخفيفها فيصح أن تكون الثقيلة خففت ويصح أن تكون نون التثنية ويكون الكلام خبراً معناه الأمر، أي لا ينبغي أن تتبعا، قال أبو علي: إن شئت جعلته حالاً من استقيما كأنه قال غير متبعين.
قال القاضي أبو محمد: والعطف يمانع في هذا فتأمله.