التفاسير

< >
عرض

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
١٠١
وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
١٠٢
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
١٠٣
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ
١٠٤
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
١٠٥
-هود

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى: وما وضعنا عندهم من التعذيب ما لا يستحقونه، لكنهم ظلموا أنفسهم بوضعهم الكفر موضع الإيمان، والعبادة في جنبة الأصنام، فما نفعتهم تلك الأصنام ولا دفعت عنهم حين جاء عذاب الله.
والـ { تتبيب } الخسران، ومنه
{ { تبت يدا أبي لهب } [المسد: 1] ومنه قول جرير: [الوافر]

عرابية من بقية قوم لوط ألا تبأ لما فعلوا تبابا

وصورة زيادة الأصنام التتبيب، إنما يتصور: إما بأن تأهيلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم وصرفتها عن النظر في الشرع وعاقتها، فلحق عن ذلك عنت وخسران، وإما بأن عذابهم على الكفر يزاد إليه عذاب على مجرد عبادة الأوثان.
وقوله { وكذلك } الإشارة إلى ما ذكر من الأحداث في الأمم، وهذه آية وعيد تعم قرى المؤمنين، فإن { ظالمة } أعم من كافرة، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة، وأما الظلمة - في الغالب فمعاجلون أما أنه يملى لبعضهم، وفي الحديث -من رواية أبي موسى - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } الآية.
وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري "ربُّك إذا أخذ القرى" وهي قراءة متمكنة المعنى ولكن قراءة الجماعة تعطي بقاء الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي.
وقوله تعالى: { إن في ذلك لآية } المعنى: أن في هذه القرى وما حل بها لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة وتوقع أن يناله عذابها فنظر وتأمل، فإن نظره يؤديه إلى الإيمان بالله تعالى، ثم عظم الله أمر يوم القيامة بوصفه بما تلبس بأجنبي منه للسبب المتصل بينهما، ويعود الضمير عليه، و { الناس } - على هذا - مفعول لم يسم فاعله، ويصح أن يكون { الناس } رفعاً بالابتداء و { مجموع } خبر مقدم.
وهذه الآية خبر عن الحشر، و { مشهود } عام على الإطلاق يشهده الأولون والآخرون من الإنس والملائكة والجن والحيوان، في قول الجمهور، وفيه - أعني الحيوان الصامت - اختلاف، وقال ابن عباس: الشاهد: محمد عليه السلام، و "المشهود" يوم القيامة.
وقوله: { وما نؤخره } الآية، المعنى وما نؤخر يوم القيامة عجزاً عن ذلك، لكن القضاء السابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
وقرأ الجمهور "نؤخره" بالنون، وقرأ الأعمش "يؤخره" بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة "يوم يأت" بحذف الياء من { يأتي } في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير بإثباتها في الوصل والوقف، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثباتها في الوصل وحذفها في الوقف، ورويت أيضاً كذلك عن ابن كثير، والياء ثابتة في مصحف أبي بن كعب، وسقطت في إمام عثمان، وفي مصحف ابن مسعود "يوم يأتون"، وقرأ بها الأعمش، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، وإثباتها في الوجهين هو الأصل، ووجه حذفها في الوصل التخفيف كما قالوا في لا أبال ولا أدر، وأنشد الطبري:

كفاك كف ما تليق درهماً جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما

وقوله: { لا تكلم نفس } يصح أن تكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في { يأتي } وهو العائد على قوله: { ذلك يوم }، ولا يجوز أن يعود على قوله: { يوم يأتي } لأن اليوم المضاف إلى الفعل لا يكون فاعل ذلك الفعل، إذ المضاف متعرف بالمضاف إليه، والفعل متعرف بفاعله، وليس في نفسه شيئاً مقصوداً مستقلاً دون الفاعل، وقولهم: سيد قومه ومولى أخيه وواحد أمه - مفارق لما لا يستقل، فلذلك جازت الإضافة فيها، ويكون قوله - على هذا - { يوم يأتي } في موضع الرفع بالابتداء وخبره: { فمنهم شقي وسعيد } وفي الكلام - على هذا - عائد محذوف تقديره: لا تكلم نفس فيه إلا، ويصح أن يكون قوله: { لا تكلم نفس } صفة لقوله: { يوم يأتي }، والخبر قوله: { فمنهم }، ويصح أن يكون قوله: { لا تكلم نفس }، خبراً عن قوله: { يوم يأتي }.
وقوله { ذلك يوم } يراد به اليوم الذي قبله ليلته، وقوله { يوم يأتي } يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه، فهو كما قال عثمان: إني رأيت ألا أتزوج يومي هذا، وكما قال الصديق رضي الله عنه: فإن الأمانة اليوم في الناس قليل.
ومعنى قوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه } وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة، وقوله { فمنهم } عائد على جميع الذي تضمنه قوله: { نفس } إذ هو اسم جنس يراد به الجميع.