التفاسير

< >
عرض

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
٥٧
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٨
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قرأ الجمهور: "تولَّوا" بفتح اللام والتاء على معنى تتولوا، وقرأ عيسى الثقفي والأعرج: "تُولُوا" بضم التاء واللام، و { إن } شرط، والجواب في الفاء وما بعدها من قوله { فقد أبلغتكم }، والمعنى أنه ما علي كبير همّ منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان. ويحتمل أن يكون { تولوا } فعلاً ماضياً، ويجيء في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب، أي فقل: قد أبلغكم.
وقرأ جمهور "ويستخلفُ" بضم الفاء على معنى الخبر بذلك، وقرأ عاصم - فيما روى هبيرة عن حفص عنه - "ويستخلفْ" بالجزم عطفاً على موضع الفاء من قوله { فقد }.
وقوله: { ولا تضرونه شيئاً } يحتمل من المعنى وجهين:
أحدهما ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئاً أي لا ينتقص ملكه، ولا يختل أمره، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود: "ولا تنقصونه شيئاً".
والمعنى الآخر: { ولا تضرونه } أي ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بكم بشيء يضره. ثم أخبرهم أن ربه { حفيظ } على كل شيء عالم به، وفي ترديد هذه الصفات ونحوها تنبيه وتذكير، و"الأمر" واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر، أي أمرنا للريح أو لخزنتها ونحو ذلك، وقوله { برحمة }، إما أن يكون إخباراً مجرداً عن رحمة من الله لحقتهم، وإما أن يكون قصداً إلى الإعلام أن النجاة إنما كملت بمجرد رحمة الله لا بأعماله؛ فتكون الآية - على هذا - في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يدخل أحد الجنة بعمله" . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمته" .
وقوله { ونجيناهم من عذاب غليظ } يحتمل أن يريد: عذاب الآخرة، ويحتمل أن يريد: وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح، فيكون المقصود على هذا، تعديد النعمة ومشهور عذابهم بالريح هو أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها وتحمل الظعينة كما هي ونحو هذا. وحكى الزجاج أنها كانت تدخل في أبدانهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضواً عضواً. وتعدى { جحدوا } بحرف جر لما نزل منزلة كفروا، وانعكس ذلك في الآية بعد هذا، وقوله: { وعصوا رسله }، شنعة عليهم وذلك أن في تكذيب رسول واحد تكذيب سائر الرسل وعصيانهم، إذ النبوات كلها مجمعة على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته: ويحتمل أن يراد هود. وآدم، ونوح و"العنيد": فعيل من "عَنِدَ" إذا عتا. ومنه قول الشاعر: [الرجز].

إني كبير لا أطيق العندا

أي الصعاب من الإبل، وكان التجبر والعناد من خلق عاد لقوتهم، وقوله { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } الآية، حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذاب بهم، و"اللعنة": الإبعاد والخزي، وقد تيقن أن هؤلاء وافوا على الكفر فيلعن الكافر الموافي على كفره ولا يلعن معين حي، لا من كافر، ولا من فاسق، ولا من بهيمة، كل ذلك مكروه بالأحاديث. و { يوم } ظرف معناه أن اللعنة عليهم في الدنيا وفي يوم القيامة. ثم ذكرت العلة الموجبة لذلك وهي كفرهم بربهم؛ وتعدى "كفر" بغير الحرف إذ هو بمعنى { جحدوا } كما تقول شكرت لك وشكرتك، وكفر نعمته وكفر بنعمته، و { بعداً } منصوب بفعل مقدر وهو مقام ذلك الفعل.