التفاسير

< >
عرض

يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
٤٦
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ
٤٧
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ
٤٨
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
٤٩
-يوسف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى: فجاء الرسول - وهو الساقي - إلى يوسف فقال له: يا يوسف { أيها الصديق } - وسماه صديقاً من حيث كان جرب صدقه في غير شيء - وهو بناء مبالغة من صدق، وسمي أبو بكر صديقاً من صدق غيره، إذ مع كل تصديق صدق، فالمصدق بالحقائق صادق أيضاً، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى: { { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } [الحديد: 19].
ثم قال: { أفتنا في سبع بقرات } أي فيمن رأى في المنام سبع بقرات، وحكى النقاش حديثاً روى فيه: أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه، وأخرجه من السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سبباً لفرج يوسف. ويروى أن الملك كان يرى { سبع بقرات سمان } يخرجن من نهر، وتخرج وراءها { سبع عجاف }، فتأكل العجاف السمان، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف، وكان يرى { سبع سنبلات خضر } وقد التفت بها سبع يابسات، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضاً لذلك.
وقوله: { لعلهم يعلمون } أي تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس. وقيل: { لعلهم يعلمون } مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سبباً لتخلصك.
وقوله تعالى: { قال تزرعون } الآية، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول:
أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ.
والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: { فذروه في سنبله }.
والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل هذا ألا يكون غيباً، بل علم العبارة، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف، كما أعطى أن النهر مثال للزمان. إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالاً للسنين.
و { دأبا } معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة، ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]

كدأبك من أم الحويرث قبلها ............................ البيت

وقرأ جمهور السبعة "دأْباً" بإسكان الهمزة، وقرأ عاصم وحده "دأَباً" بفتح الهمزة، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة، وهما مثل: نهر ونهر. والناصب لقوله: { دأباً } { تزرعون }، عند أبي العباس المبرد، إذ في قوله { تزرعون } تدأبون، وهي عنده مثل قولهم: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء؛ وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر، كأنه قال: تزرعون تدأبون دأباً.
وقوله { فما حصدتم فذروه } هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب، ويؤكل الأقدم فالأقدم؛ فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر، وادخروا أيضاً الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه السلام في دعائه على قريش:
"اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، فابتدأ ذلك بهم ونزلت سنة حصت كل شيء حتى دعا لهم النبي عليه السلام فارتفع ذلك عنهم ولم يتماد سبع سنين، وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره، قال له الملك: قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما ولي يوسف.
وأسند الأكل في قوله: { يأكلن } إلى السنين اتساعاً من حيث يؤكل فيها كما قال تعالى:
{ { والنهار مبصراً } [النمل: 86، يونس: 67، غافر: 61] وكما قال: نهارك بطال وليلك قائم؛ وهذا كثير في كلام العرب. ويحتمل أن يسمى فعل الجدب وإيباس البلالات أكلاً، وفي الحديث: "فأصابتهم سنة حصت كل شيء" ؛ وقال الأعرابي في السنة جمشت النجم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم.
و { تحصنون } معناه تحرزون وتخزنون، قاله ابن عباس، وهو مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ، ومنه تحصن النساء لأنه بمعنى التحرز.
وقوله: { يغاث } جائز أن يكون من الغيث، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين، أي يمطرون، وجائز أن يكون من أغاثهم الله، إذا فرج عنهم، ومنه الغوث وهو الفرج.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم "يَعصِرون" بفتح الياء وكسر الصاد، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة، وقال جمهور المفسرين: هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب، والحلب منه لأنه عصر للضروع. وقال أبو عبيدة وغيره: ذلك مأخوذ من العصرة والعصر وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه: [الخفيف]

صادياً يستغيث غيـــر مغـــاث ولقـــد كـــان عصــرة المنجــود

ومنه قول عدي بن زيد: [الرمل]

لو بغير الماء حلقـــــي شــــرق كنت كالغصّان بالماء اعتصاري

ومنه قول ابن مقبل" [البسيط]

وصاحبي وهوه مستوهل زعل يحول بين حمار الوحش والعصر

ومنه قول لبيد: [الطويل]

فبات وأسرى القوم آخر ليلهـم ومـا كـان وقافــاً بغيــر معصـــر

أي بغير ملتجأ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة.
وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد "يُعصَرون" بضم الياء وفتح الصاد، وهذا مأخوذ من العصرة، أي يؤتون بعصرة؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم، قال ابن المستنير: معناها يمطرون، وحكى النقاش أنه قرىء "يعصرون" وجعلها من عصر البلل ونحوه. ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة رداً كثيراً بغير حجة.