التفاسير

< >
عرض

لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
١٤
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
١٥
قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
١٦
-الرعد

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الضمير في { له } عائد على اسم الله عز وجل، وقال ابن عباس: { دعوة الحق }: لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: وما كان من الشريعة في معناها.
وقال علي بن أبي طالب: { دعوة الحق }: التوحيد. ويصح أن يكون معناها له دعوة العباد بالحق، ودعاء غيره من الأوثان باطل.
وقوله: { والذين } يراد به ما عبد من دون الله، والضمير في { يدعون } لكفار قريش وغيرهم من العرب..
وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء: "تدعون من دونه" بالتاء من فوق، و { يستجيبون } بمعنى يجيبون، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

وداع دعا: يا من يجيب إلى النِّدا فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ومعنى الكلام: والذين يدعوهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء. ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط { كفيه } نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه، فلا يبلغ فمه أبداً، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع. وقوله: { هو } يراد به الماء، وهو البالغ، والضمير في "بالغه" للفم، ويصح أن يكون { هو } يريد به الفم وهو البالغ أيضاً، والضمير في "بالغه" للماء، لأن الفم لا يبلغ الماء أبداً على تلك الحال.
ثم أخبر تعالى عن { دعاء الكافرين } أنه في انتلاف و { ضلال } لا يفيد فيه شيئاً ولا يغنيه.
وقول تعالى: { ولله يسجد } الآية، يحتمل ظاهر هذه الألفاظ: أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله، وتسخر الأشياء له فقط، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد عليه السلام، أي إن كنتم لا توقنون ولا تسجدون، فإن جميع { من في السماوات والأرض } لهم سجود لله تعالى: وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري.
قال القاضي أبو محمد: و { من } تقع على الملائكة عموماً، وسجودهم طوع بلا خلاف، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في { من } وسجودهم طوع، وأما سجود الكفرة فهو الكره، وذلك على نحوين من هذا المعنى:
فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام -كما قال قتادة - فيسجد كرهاً، إما نفاقاً، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة، وإن صح إيمانه بعد.
وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل - على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر:

ترى الأكم فيه سجداً للحوافر

فيدخل الكفار أجمعون في { من } لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع اكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته.
وقال النحاس والزجاج: إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية.
وقوله: { وظلالهم بالغدو والآصال }، إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات. قال الطبري: وهذا كقوله تعالى:
{ { أولم يروا إلى ما خلق من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله } [النحل: 48] قال: وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد: ظل الكافر يسجد طوعاً وهو كاره. وقال ابن عباس: يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال: "الظلال" هنا يراد به الأشخاص - وضعفه أبو إسحاق.
و { الآصال } جمع أصيل. وقرأ أبو مجلز: "والإيصال" قال أبو الفتح: هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل، كأصبحنا وأمسينا.
وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله تعالى حينئذ.
وقوله: { قل: من رب السماوات } الآية، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه، وقال مكي: جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، فلما تقيد من هذا كله أن الله تعالى هو { رب السماوات والأرض } وقع التوبيخ على اتخاذهم { من دونه أولياء } متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، وهذه غاية العجز، وفي ضمن هذا الكلام: وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولفظة: { من دونه } تقتضي ذلك.
ثم مثل الكفار والمؤمنين بعد هذا بقوله: { قل هل يستوي الأعمى والبصير }.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: "تستوي الظلمات" بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: "يستوي" بالياء، فالتأنيث حسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله شيء. والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي، والفعل مقدم.
وشبهت هذه الآية الكافر بـ { الأعمى }. والكفر بـ { الظلمات } وشبهت المؤمن بـ { البصير } والإيمان بـ { النور }: ثم وقفهم بعد: هل رأوا خلقاً لغير الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلهاً غير الله؟ ثم أمر محمداً عليه السلام بالإفصاح بصفات الله تعالى في أنه { خالق كل شيء } وهذا عموم في اللفظ يراد به الخصوص في كل ما هو خلق الله تعالى. قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما من الأصوليين: ويخرج عن ذلك صفات ذاته - لا رب غيره - والقرآن، ووصف نفسه بـ { الواحد القهار } من حيث لا موجود إلا به، وهو في وجوده مستغن عن الموجودات لا إله إلا هو العلي العظيم.