التفاسير

< >
عرض

يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ
٢٨
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٢٩
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ
٣٠
-إبراهيم

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ القول الثابت في الحياة الدنيا }، كلمة الإخلاص والنجاة من النار: لا إله إلا الله، والإقرار بالنبوة.
وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء: { الحياة الدنيا } هي مدة حياة الإنسان. { وفي الآخرة } هي وقت سؤاله في قبره. وقال البراء بن عازب وجماعة { في الحياة الدنيا } هي وقت سؤاله في قبره -ورواه البراء عن النبي عليه السلام في لفظ متأول.
قال القاضي أبو محمد: ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا.
وقوله { في الآخرة } هو يوم القيامة عند العرض.
قال القاضي أبو محمد: والأول أحسن، ورجحه الطبري.
و { الظالمين } في هذه الآية، الكافرين، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين، وعادل التثبيت بالإضلال، وقوله: { ويفعل الله ما يشاء } تقرير لهذا التقسيم المتقدم، كأن امرأً رأى التقسيم فطلب في نفسه علته، فقيل له: { ويفعل الله ما يشاء } بحق الملك.
وفي هذه الآية رد على القدرية.
وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث، منها ما وقع في الصحيح. وهي من عقائد الدين، وأنكرت ذلك المعتزلة. ولم تقل بأن العبد يسال في قبره، وجماعة السنة تقول: إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلاً، إما بحياة كالمتعارفة، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى، غير أن في الأحاديث:
"إنه يسمع خفق النعال" ، ومنها: "إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب" ، وفيها: "إنه ليراجع" ، وفيها: "فيعاد روحه إلى جسده" ، وهذا كله يتضمن الحياة - فسبحان رب هذه القدرة.
وقوله: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } الآية، هذا تنبيه على مثال من ظالمين أضلوا، والتقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفراً، وهذا كقوله:
{ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [الواقعة: 82].
و { نعمة الله } المشار إليها في هذه الآية هو محمد عليه السلام ودينه، أنعم الله به على قريش، فكفروا النعمة ولم يقبلوها، وتبدلوا بها الكفر.
والمراد بـ { الذين } كفرة قريش جملة - هذا بحسب ما اشتهر من حالهم - وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: أنها نزلت في الأفجرين من قريش: بني مخزوم وبني أمية. قال عمر: فأما بنو المغيرة فكفوا يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وقال ابن عباس: هذه الآية في جبلة بن الأيهم.
قال القاضي أبو محمد: ولم يرد ابن عباس أنها فيه نزلت لأن نزول الآية قبل قصته، وإنما أراد أنها تحصر من فعل جبلة إلى يوم القيامة.
وقوله: { وأحلوا قومهم } أي من أطاعهم، وكان معهم في التبديل، فكأن الإشارة والتعنيف إنما هي للرؤوس والأعلام، و { البوار } الهلاك، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

يا رسول المليك إن لساني فاتقٌ ما رتَقْتَ إذ أنا بُور

قاله الطبري: وقال هو وغيره: إنه يروى لابن الزبعرى، ويحتمل أن يريد بـ { البوار }: الهلاك في الآخرة ففسره حينئذ بقوله: { جهنم يصلونها }، يحترقون في حرها ويحتملونه، ويحتمل أن يريد بـ { البوار }: الهلاك في الدنيا بالقتل والخزي فتكون "الدار" قليب بدر ونحوه. وقال عطاء: نزلت هذه الآية في قتلى بدر.
قال القاضي أبو محمد: فيكون قوله: { جهنم } نصباً، على حد قولك: زيداً ضربته، بإضمار فعل يقتضيه الظاهر.
و { القرار }: موضع استقرار الإنسان، و { أنداداً } جمع ند وهو المثيل والمشبه المناوىء والمراد الأصنام.
واللام في قوله: { ليضلوا } - بضم الياء - لام كي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "ليَضلوا" بفتح الياء - أي هم أنفسهم - فاللام - على هذا - لام عاقبة وصيرورة وقرأ الباقون "ليُضلوا" - بضم الياء - أي غيرهم.
وأمرهم بالتمتع هو وعيد وتهديد على حد قوله:
{ { اعملوا ما شئتم } [فصلت: 40] وغيره.