التفاسير

< >
عرض

وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
٦٦
وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
٦٧
قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ
٦٨
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ
٦٩
قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٧٠
قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
٧١
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
٧٣
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
٧٤
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
٧٥
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ
٧٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
٧٧
-الحجر

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى { وقضينا ذلك الأمر } أي أمضيناه وختمنا به، ثم أدخل في الكلام { إليه } من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به فجلب هذا المعنى بإيجاز وحذف ما يدل الظاهر عليه و { أن } في موضع نصب، قال الأخفش: هي بدل من { ذلك }، وقال الفراء: بل التقدير "بأن دابر" فحذف حرف الجر، والأول أصوب، و"الدابر" الذي يأتي آخر القوم أي في أدبارهم، وإذا قطع ذلك وأتى عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام، يقال قطع الله دابره واستأصل شأفته وأسكت نأمته بمعنى. و { مصبحين } معناه إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح، وقوله { وجاء أهل المدينة }، يحتمل أن رجع الوصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم، وأن الأضياف ملائكة، ويحتمل قوله { وجاء أهل المدينة } أن يكون بعد علمه بهلاكهم، وكان قوله ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم.
قال القاضي أبو محمد: والاحتمال الأول عندي أرجح، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة، وقوله { يستبشرون } أي بالأضياف طمعاً منهم في الفاحشة، و"الضيف" مصدر وصف به، فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، وقولهم { أو لم ننهك عن العالمين } روي أنهم قد تقدموا إليه في أن لا يضيف أحداً ولا يجيره، لأنهم لا يراعونه ولا يكتفون عن طلب الفاحشة فيه، وقرأ الأعمش "إن دابر" بكسر الهمزة وروي أن في قراءة عبد الله "وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع"، وذكر السدي أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق، وقول لوط عليه السلام { هؤلاء بناتي } اختلف في تأويله، فقيل أراد نساء أمته لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم فالنساء بناته في الحرمة والمراد بالتزويج، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جداً، وقيل إنما أراد بنات صلبه ودعا إلى التزويج أيضاً قاله قتادة ويلزم هذا التأويل أيضاً ما لزم المتقدم في ترتيبنا.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بقوله عليه السلام { هؤلاء بناتي } بنات صلبه، ويكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر اقتلني ولا تقتله فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب بل الغرض منه مفهوم، وعليه قول النبي عليه السلام
"ولو كمفحص قطاة" ، إلى غير هذا من الأمثلة و"العَمر" و"العُمر" بفتح العين وضمها واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: والقسم بـ { لعمرك } في القرآن، وبـ "لعمري" ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع.
كقوله: [الطويل]

لعمري وما عمري عليَّ بهين

وقول الآخر: [الوافر]

لعمر أبيك ما نسب المعالي

وكقول الآخر: [طرفة بن العبد] [الطويل]

لعمرك إن الموت ما أخطأَ الفتى لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد

والعرب تقول لعمر الله، ومنه قول الشاعر:

إذا رضيت عليَّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى: [الكامل]

ولعمر من جعل الشهور علامة فيها فبين نصفها وكمالها

ويروى وهلالها، وقال بعض أصحاب المعاني، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال، ونحو هذا، قول مالك في "لعمري" و"لعمرك" أنها ليست بيمين، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف { لعمرك } في الكلام اقتداء بهذه الآية، و { يعمهون } يرتبكون ويتحيرون، والضمائر في { سكرتهم } يراد بها قوم لوط المذكورون، وذكر الطبري أن المراد قريش، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده، وقوله { لفي سكرتهم } مجاز وتشبيه، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم، و { يعمهون } معناه يتردون في حيرتهم، و { مشرقين } معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذه "الصيحة" هي صيحة الوجبة وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين، وخبر قوله { لعمرك } محذوف تقديره لعمرك قسمي أو يميني، وفي هذا نظر، وقرأ ابن عباس و"عمرك"، وقرأ الأشهب العقيلي "لفي سُكرتهم" بضم السين، وقرأ ابن أبي عبلة "لفي سكراتهم"، وقرأ الأعمش "لفي سكرهم" بغير تاء، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي "أنهم في سكرتهم" بفتح الألف، وروي في معنى قوله { جعلنا عاليها سافلها } أن جبريل عليه السلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وأرسل الكل، فمن سقط عليه شيء من جرم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته { حجارة من سجيل }، و { سجيل } اسم من الدنيا، وقيل لفظة فارسية، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه، وقد تقدم القول في هذا و"المتوسمون" قال مجاهد المتفرسون، وقال الضحاك الناظرون، وقال قتادة المعتبرون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسماً، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: [الطويل]

توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم

وقال آخر:

فظللت فيها واقفاً أتوسم

وقال آخر:

إني توسمت فيك الخير نافلة

والضمير في قوله { وإنها } يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة؛ أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وقتادة وابن زيد، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي عليه السلام قال: "إن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي" ، وقوله { الآية } أي أمارة وعلامة كما تقول آية ما بيني وبينك كذا وكذا.