التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
٧٢
-النحل

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك، ثم اعترض بمن ينكث من الناس لأنهم موضع عبرة، و { أرذل العمر } آخرُه الذي تفسد فيه الحواس ويخْتل النطق، وخص ذلك بالرذيلة وإن كانت حال الطفولية كذلك، من حيث كانت هذه لأرجاء معها، والطفولية إنما هي بدأة والرجاء معها متمكن، وقال بعض الناس: أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة روي ذلك عن علي رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الأغلب، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان، والمعْنى، منكم من يرد إلى أرذل عمره ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره، واللام في { لكي } يشبه أن يكون لام صيرورة، وليس ببين، والمعنى ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً، وهذه عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئاً البتة، ولم تحل { لا } بين "كي" ومعمولها لتصرفها، وأنها قد تكون زائدة ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير، وقوله { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } إخبار يراد به العبرة، وإنما هي قاعدة يبنى المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب، وهم خلقه وغيرها مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه، هذا تأويل الطبري، وحكاه عن ابن عباس وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، قال المفسرون: هذه الآية كقوله تعالى
{ { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء } [الروم: 28]، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدية إلى الإيمان، وقرأ الجمهور وحفص عن عاصم "يجحدون" بالياء من تحت، وقرأ أبو بكر عن عاصم "تجحدون" بالتاء، وهي قراءة أبي عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه، وهي على معنى قل لهم يا محمد. قال قتادة: لا يكون الجحد إلا بعد معرفة، وقوله { والله جعل لكم } الآية، آية تعديد نعم، و"الأزواج" الزوجات، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك، وقوله { من أنفسكم } يحتمل أن يريد خلقته حواء من نفس آدم وجسمه، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال، وهذا قول قتادة، والأظهر عندي أن يريد بقوله { من أنفسكم } ، أي من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال تعالى { { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [التوبة: 128] وقوله { وجعل لكم من أزواجكم بنين }، ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، واختلف الناس في قوله { وحفدة } فقال ابن عباس: "الحفدة" أولاد البنين، وقال الحسن: هم بنوك وبنو بنيك، وقال ابن مسعود وأبو الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير: "الحفدة" الأصهار وهم قرابة الزوجة، وقال مجاهد: "الحفدة" الأنصار والأعوان والخدم، وحكى الزجاج أن الحفدة البنات في قول بعضهم، قال الزهراوي لأنهن خدم الأبوين لأن لفظة البنين لا تدل عليهن، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تعالى: { { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } } [الكهف: 46] وإنما الزينة في الذكور، وقال ابن عباس أيضاً: "الحفدة" أولاد زوجة الرجل من غيره، ولا خلاف أن معنى الحفد الخدمة والبر والمشي مسرعاً في الطاعة ومنه في القنوت: وإليك نسعى ونحفد، والحفدان خبب فوق المشي، ومنه قول الشاعر وهو جميل بن معمر: [الكامل]

حفد الولائد بينهن وأسلمت بأكفهن أرمة الإجمال

ومنه قول الآخر: [البسيط]

كلفت مجهولها نوقاً ثمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا

قال القاضي أبو محمد: وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنيت على أن كل أحد جعل له من زوجه بنون وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس، ويحتمل عندي أن قوله: { من أزواجكم } إنما هو على العموم والاشتراك، أي من أزواج البشر جعل الله لهم البنين، ومنهم جعل الخدمة فمن لم تكن له قط زوجة فقد جعل الله له حفدة، وحصل تحت النعمة، وأولئك الحفدة هم من الأزواج، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم، وتستقيم لفظة "الحفدة" على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة، وقالت فرقة: "الحفدة" هم البنون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يستقيم على أن تكون الواو عاطفة صفة لهم، كما لو قال جعلنا لهم بنين وأعواناً أي وهم لهم أعوان، فكأنه قال: وهم حفدة وقوله { ورزقكم من الطيبات } يريد الله: من الأشياء التي تطيب لمن رزقها، ولا يقتصر هنا على الحلال لأنهم كفار لا يكتسبون بشرع، وفي هذه الآية رد على من قال من المعتزلة: إن الرزق إنما يكون الحلال فقط، و { لكم } تعلق في لفظة { من } إذ هي للتبعيض، فيقولون: ليس الرزق المعدد عليهم من جميع ما بأيديهم إلا ما كان حلالاً، وقرأ الجمهور "يؤمنون"، وتجيء الآية على هذه القراءة توقيفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم على إيمانهم بالباطل وكفرهم بنعمة الله، وقرأ أبو عبد الرحمن "تؤمنون" بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم على معنى قل لهم يا محمد، ويجيء قوله بعد ذلك { وبنعمت الله هم يكفرون } إخباراً مجرداً عنهم وحكماً عليهم لا توقيفاً، وقد يحتمل التوقيف أيضاً على قلة اطراد في القول.