التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٠٤
-البقرة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

وقوله تعالى: { فيتعلمون }: قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، وقيل هو معطوف على قوله { يعلمون الناس }، ومنعه الزجاج، وقيل: هو معطوف على موضع { وما يعلمان } لأن قوله { وما يعلمان } وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم، وقيل التقدير فيأتون فيتعلمون، واختاره الزجاج، والضمير في { يعلمان } هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم، والضمير في { منهما } قيل: هو عائد عليهما، وقيل: على { السحر } وعلى الذي أنزل على الملكين، و { يفرقون } معناه فرقة العصمة، وقيل معناه: يؤخِّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضاً فرقة.
وقرأ الحسن والزهري وقتادة: "المرِء" براء مكسورة خفيفة، وروي عن الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق " المُرء" بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي " المِرء" بكسر الميم وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس "المَرء" بفتح الميم وهمزة، والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر، ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق. [الطويل]

وإن الذي يسعى ليفسِدَ زوجتي كساعٍ إلى أُسْد الشرى يسْتبيلها

وقرأ الجمهور " بضارين به"، وقرأ الأعمش "بضاري به من أحد" فقيل: حذفت النون تخفيفاً، وقيل: حذفت للإضافة إلى { أحد } وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور، و { بإذن الله } معناه. بعلمه وتمكينه، و { يضرهم } معناه في الآخرة { ولا ينفعهم } فيها أيضاً، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة، والضمير في { علموا } عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة، وقيل: على { الشياطين }، وقيل على { الملكين } وهما جمع، وقال { اشتراه } لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى الجاه والقدر، واللام في قوله { لمن } المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في "بئسما"، و { شروا } معناه باعوا، وقد تقدم مثله، والضمير في { يعلمون } عائد على بني إسرائيل باتفاق، ومن قال إن الضمير في { علموا } عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون، ومن قال إن الضمير في { علموا } عائد على { الشياطين } أو على { الملكين } قال: إن أولئك علموا أن لا خلاق لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة، وقال مكي: الضمير في { علموا } لعلماء أهل الكتاب، وفي قوله { لو كانوا يعلمون } للمتعلمين منهم.
وقوله تعالى: { ولو أنهم آمنوا }: موضع "أن" رفع، المعنى لو وقع إيمانهم، ويعني الذين اشتروا السحر، { ولو } تقتضي جواباً، فقالت فرقة جوابها { لمثوبة }، لأنها مصدر للمضي والاستقبال، وجواب { لو } لا يكون إلا ماضياً أو بمعناه، وقال الأخفش: لا جواب لــ { لو } في هذه مظهراً ولكنه مقدر، أي لو آمنوا لأثيبوا.
وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة "لمثْوَبة" بسكون الثاء وفتح الواو، وهو مصدر أيضاً كمشورة ومشورة، ومثوبة رفع بالابتداء و { خير } خبره والجملة خبر أن، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح، وقال قوم: معناه لرجعة إلى الله من ثاب يثوب إذا رجع، واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها، وقوله تعالى: { لو كانوا يعلمون } يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد: لو كانوا يعلمون علماً ينفع.
وقرأ جمهور الناس "راعِنا" من المراعاة بمعنى فاعلنا أي أرعنا نرعك، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على التأويل، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم: وقالت طائفة: هي لغة كانت الأنصار تقولها، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّاً بلسانه وطعناً كما كان يقول: اسمع غير مسمع، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحاً؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة "راعناً" بالتنوين، وهذه من معنى الجهل، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون "راعنا" دون تنوين، وفي مصحف ابن مسعود "راعونا"، وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولاً من الرعونة.
و { انظُرنا } مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى { راعنا }، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود، وقرأ الأعمش وغيره "أنظِرنا" بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.
ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذاباً أليماً، وهو المؤلم، { واسمعوا } معطوف على { قولوا } لا على معمولها.