التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ
٢٢٢
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢٢٣
وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٤
-البقرة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح، وقال قتادة وغيره: إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد: "كانوا يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في ذلك"، والمحيض مصدر كالحيض، ومثله المَقيل من قال يقيل، قال الراعي: [الكامل].

بُنِيَتْ مَرَافِقُهنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ لا يستطيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلا

قال الطبري: { المحيض } اسم الحيض، ومنه قول رؤبة في المعيش: [الرجز].

إليك أشكوا شِدَّةَ المَعِيشِ وَمَرَّ أَعْوامٍ نَتَفْنَ ريشي

و { أذى } لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن من سبيل البول، وهذه عبارة المفسرين للفظة، وقوله تعالى: { فاعتزلوا } يريد جماعهن بما فسر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها، وهذا أصح ما ذهب إليه في الأمر، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك وجماعة عظيمة من العلماء، وروي عن مجاهد أنه قال: "الذي يجب اعتزاله من الحائض الفرج وحده" وروي ذلك عن عائشة والشعبي وعكرمة، وروي أيضاً عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهذا قول شاذ، وقد وقفت ابن عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما، وقالت له: أرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
وقوله تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه "يطْهُرْنَ" بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل عنه "يطَّهَّرْنَ" بتشديد الطاء والهاء وفتحهما، وفي مصحف أبيّ وعبد الله { حتى يتطهرن }، وفي مصحف أنس بن مالك "ولا تقربوا النساء في محيضهن، واعتزلوهن حتى يتطهرن"، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال: هي بمعنى يغتسلن لإجماع الجميع على أن حراماً على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال: وإنما الاختلاف في الطهر ما هو؟ فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة. ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت، وهو ثلاثي.
قال القاضي أبو محمد: وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد به الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه، وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم: أمر غير لازم، وكذلك ادعاؤه الإجماع، أما إنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال بالماء، وقال ابن عباس والأوزاعي: من فعله تصدق بنصف دينار، ومن وطىء في الدم تصدق بدينار، وأسند أبو داود عن ابن عباس
"عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار أو بنصف دينار" ، وقال ابن عباس: "الدينار في الدم، والنصف عند انقضائه"، ووردت في الشدة في هذا الفعل آثار، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم يتاب منه ولا كفارة فيه بمال، وذهب مالكرحمه الله وجمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا غيره، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ. و { حتى } غاية لا غير، و { تقربوهن } يريد بجماع، وهذا من سد الذرائع، وقوله تعالى: { فإذا تطهرن } الآية، القراءة { تَطَهَّرْنَ } بتاء مفتوحة وهاء مشددة، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم. ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا: إنه أريد الغسل بالماء، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان قربهن قبل الغسل مباحاً، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل، و { فآتوهن } إباحة، والمعنى { من حيث أمركم الله } باعتزالهن وهو الفرج أو من السرة إلى الركبتين: أو جميع الجسد، حسبما تقدم. هذا كله قول واحد، وقال ابن عباس وأبو رزين: المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقاله الضحاك. وقال محمد بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا، وقيل: المعنى من قبل حال الإباحة، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك. والتوابون: الراجعون، وعرفه من الشر إلى الخير، والمتطهرون: قال عطاء وغيره: المعنى بالماء، وقال مجاهد وغيره: المعنى من الذنوب، وقال أيضاً مجاهد: المعنى من إتيان النساء في أدبارهن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط
{ { أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } [الأعراف: 82]، وقرأ طلحة بن مصرف "المطّهّرين" بشد الطاء والهاء.
وقوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم } الآية، قال جابر بن عبد الله والربيع: سببها أن اليهود قالت: إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، وعابت على العرب ذلك، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم، وقالت أم سلمة وغيرها: سببها أن قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر كلام الناس في ذلك، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، و { حرث } تشبيه، لأنهنّ مزدرع الذرية، فلفظة "الحرث" تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة، إذ هو المزدرع، وقوله { أنى شئتم } معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب، و { أنى } إنما تجيء سؤالاً أو إخباراً عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي، وقد فسر الناس { أنّى } في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبويه بــ"كيف" ومن أين باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها بــ"أين" إلى أن الوطء في الدبر جائز، روي ذلك عن عبد الله بن عمر، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به، ورويت الإباحة أيضاً عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر، وروي عن مالك شيء في نحوه، وهو الذي وقع في العتبية، وقد كذب ذلك على مالك، وروى بعضهم أن رجلاً فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس فيه، فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال:
"إتيان النساء في أدبارهن حرام" ، وورد عنه فيه أنه قال: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" ، وورد عنه أنه قال: "من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم" ، وهذا هو الحق المتبع، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، والله المرشد لا رب غيره.
وقال السدي: معنى قوله تعالى: { وقدموا لأنفسكم } أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به، وقال ابن عباس: "هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع"، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
"لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره" ، وقيل: معنى { قدموا لأنفسكم } طلب الولد، { واتقوا الله } تحذير، { واعلموا أنكم ملاقوه } خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم، { وبشر المؤمنين } تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى.
وقوله تعالى: { ولا تجعلوا لله عرضة لأيمانكم } الآية، { عرضة } فعلة بناء للمفعول، أي كثيراً ما يتعرض بما ذكر، تقول "جمل عرضة للركوب" و "فرس عرضة للجري"، ومنه قول كعب بن زهير: [البسيط].

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الاعلام مجهول

ومقصد الآية: ولا تعرضوا اسم الله تعالى للأيمان به، ولا تكثروا من الأيمان فإن الحنث مع الإكثار، وفيه قلة رعي لحق الله تعالى، ثم اختلف المتأولون: فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والربيع وغيرهم: المعنى فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم والبر والإصلاح. قال الطبري: "التقدير لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا"، وقدره المهدوي: كراهة أن تبروا، وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير "لا" بعد "أن"، ويحتمل أن يكون هذا التأويل في الذي يريد الإصلاح بين الناس، فيحلف حانثاً ليكمل غرضه، ويحتمل أن يكون على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "نزلت في تكثير اليمين بالله نهياً أن يحلف الرجل به براً فكيف فاجراً"، فالمعنى: إذا أردتم لأنفسكم البر وقالت الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله تعالى، فقال عليّ يمين، وهو لم يحلف، و { أن تبروا } مفعول من أجله، والبر جميع وجوه الخير. "بر الرجل" إذا تعلق به حكمها ونسبها كالحاج والمجاهد والعالم وغير ذلك. وهو مضاد للإثم، إذ هو الحكم اللاحق عن المعاصي. و { سميع } أي لأقوال العباد { عليم } بنياتهم، وهو مجاز على الجميع.
وأما سبب الآية فقال ابن جريج: "نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ حلف أن يقطع إنفاقه عن مسطح بن أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك"، وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق مع ابنه عبد الرحمن في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن لا يأكل الطعام، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن سعد حين حلف أن لا يكلمه، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاهدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يميناً.